موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

١
٢

٣
٤

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه اجمعين أما بعد :

فالتاريخ اليوم غيره بالأمس عليه ترتكز العلوم الاجتماعية والاقتصادية ، وهو معول الأمم في تأسيس إدارتها ونظامها ، وتسيير سياستها ... ومن هذه النواحي وغيرها لا يقل أهمية وفائدة عن العلوم المادية بل يفوقها بكثرة ... فإذا كانت هذه سهلت وسائل الراحة ، وغيرت في الأوضاع الحياتية فالتاريخ سير الجماعات نحو الإدارات الفاضلة ، وساقها إلى قبول خير المناهج الأممية ، ولا زالت الأقوام تتمشى على ضوء نوره نحو الغاية الفضلى والكمال اللائق ... وما قاله شاعرنا :

وما كتب التاريخ في كل ما روت

لقرائها إلا حديث ملفق

نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا

فكيف بأمر الغابرين نصدق

يحمل على اسباب طفيفة ، ومراسم وأشكال ظاهرية لا علاقة لها بالأساس ... فلا يعني نكران اساس التاريخ ، والتشكيك في كل رواياته أو الارتياب فيها .. وإنما هنا نواح لا يصح التغاضي عنها أو التردد في

٥

قبولها كوجود الأمم ، والاعتراف بتشكيلاتها ، وتعيين اداراتها والتعرف بثقافاتها وعلاقاتها بمجاوريها ، وحياتها الاجتماعية والفردية ... إلى آخر ما هنالك مما لا يصح أن يجابه بالإنكار إلا أنّ المبالغات في إظهار ذلك ، أو تصغير شأنه وعدم المبالاة به وما ماثل من الأمور ... مما لا يلتفت إليه ، والتدقيق العلمي يعيده إلى سيرته الأولى ، والمبالغة تفسر في إظهار تلك بمظهر العظمة ، أو التقليل من شأنها ... لمحب مفرط ، ومبغض مفرط والأمثلة على ذلك كثيرة ، والحقيقة إن مكانة الأقوام معروفة ووضعها يتجلى للرائي بوضوح ...

ولما كان التاريخ ذا علاقة بالمجتمع من ناحية تدوين وقائعه فخير التواريخ ما بصّر بأخبارنا ، وقرب ما هو الألصق بنا تسهيلا للقبول والتناول وهو الأولى بالأخذ والاستفادة ، والأحق بالاعتبار ... ومن هذا التاريخ صفحة تنبىء عن ارتباط الوقائع بنا في وقت ، أو تجربة لا مندوحة لنا من ذكراها دوما للاستقاء من معين فوائدها عظة وعبرة متصلة لا ننفك عنها ولا تنفصل عنا ... ولا تزال حوادثها ترن في الآذان وخبرها يقص بنفرة واستياء ، وآلامها تعدد بين آونة وأخرى ، وقد أحدثت دويّا لا في العراق وحده بل بلغ صداها أطراف المعمورة أعني بها (حكومة المغول) أو حكومة هلاكو في العراق ... وهذه دامت سيطرتها من صفر سنة ٦٥٦ ه‍ ١٢٥٨ م وامتدت إلى سنة ٧٣٨ ه‍. ١٣٣٨ م وهي أول حكومة أجنبية ، غير مسلمة احتلت العراق بعد الفتح الإسلامي بستة عصور ونصف تقريبا ، فرأى العراقيون غير مألوفهم ، وشاهدوا ما لم يخطر بخيالهم. وهكذا شأن الأمم فيما كتب عليها من المقدرات وما أصابها من نكبات ...

تواريخ العراق ومراجعه

إن تواريخ العراق ومراجعه فيما يخص هذا الدور كثيرة ، ولا نجد

٦

مغوليا كتب عن هذا العهد ليكون تاريخه مرجعا بعده ، وغالب من كتبوا من العرب وباللغة العربية قبل كل أحد ودوّنوا مشاهداتهم ومسموعاتهم ثم كتب العجم عنهم بالعربية والفارسية ، إلا أنها غير موصولة وفيها فترات لم يتيسر العثور عليها أو الاطلاع على تفصيلاتها بسهولة. أو أنها بقيت مجهولة ... وغالب الموجود مختلف المشارب والنزعات ، أو من صنائع نفس المغول ، أو مقصور على وصف الملوك وأعاظم رجال الإدارة ممن نال مكانة تاريخية باعتبار أنه الناهض بأمته ، والقائم بشؤونها ، والمسير لمقدراتها ...

ولكن لم تدقق هذه الوثائق الأمم باعتبار قوتها ومناعتها ، وأخلاقها وسيرها التاريخي والاجتماعي ، وتحفزها للوثوب والنهوض ، أو ذلها وخضوعها ...

ولهذه المراجع أوصاف خاصة ستوضح عند الكلام على كل منها ، وغالبها يعاب بأنه كتب في أزمنة محاطة بظروف وتمايلات أدت إلى كتمان الحقيقة أو توجيهها وعدم التصريح بها أو الإشارة الخفيفة ، أو المبالغة الزائدة والإشادة ... ذلك ما يدعو للارتياب وأن نستنطق وثائق كثيرة ، ونقابل بل نقارن بعضها ببعض ، ونلاحظ الدواعي والأسباب مما يفيد لتمحيص الوقائع ، وتمييز الصحيح من المدخول ...

قد بذلت الجهود في التحري والتنقيب ، واستنطقت مراجع كثيرة ... عرضتها على ميزان النقد التاريخي ... إلا أنني أقول بكل اطمئنان إن تاريخ العراق لهذا الزمن لم يكتب فيه إلا القليل ، وبصورة متفرقة ... وهذه أول تجربة جربها القلم فلم أعدل عن نقد من يستحق النقد ، ولا عوّلت إلا على ما اعتقدت صحته ، أو لم تكن له رواية أو نقل آخر غير ما هو محل النظر وموضع الاشتباه حذرا من أن يبقى فراغ لمدة قد تكون فترة في التاريخ والعهدة في ذلك على راويها بالشكل

٧

الذي رواها مقرونا بمصدرها ومرجع نقلها ... فلا نهمل فكرة ولا نقبل كل خبر ، ولا نترك كل رأي قدر الطاقة والمستطاع ...

المراجع العراقية والعربية

والمراجع العراقية أو العربية في هذا الدور لم تنقطع ، ولا تزال بقاياها موجودة فقد انجب العراق مؤرخين توالى ظهورهم ، وتكاثر عددهم فخدموا العراق بما نشروه من مؤلفات خالدة وكتب قيمة ... والكل سعيهم متواصل ، وهم في تكاتف وتساند لإحياء وقائع هذا المحيط ، وتدوين ماجرياته. وبيان سائر احواله وأوضاعه من نعيم وشقاء وسعادة وبؤس ، وأفراح وآلام ... ولا نزال نرى الأيام تميط اللثام عن آثار هم مما خفي ... فنظراتهم صادقة ، ومعولهم على وثائق صحيحة ؛ أو مشاهدات عيانية ؛ وأخبار معتمدة .. هذا في غالب أحوالهم ، وأكثر مدوناتهم مما وصلنا من دراسة مجاري التاريخ ... وعليهم ركن مؤرخو الأقطار ، وبالتعبير الأوضح نهج مؤرخو الأقطار على طريقتهم وساروا على سنتهم ...

وصف المؤلفات التاريخية

لا نراجع في الغالب عن وصف المؤلفات التاريخية الأقوال المنقولة والمتكررة ، وإنما حاولنا تدقيق نفس المؤلفات التاريخية التي عولنا عليها كمرجع أثري ، ولا نعدل عن هذا إلا إذا كان وصف الآخرين منطبقا ، أو لا بد أن يراجع كالسنين والتواريخ الضرورية ، أو الحياة الخاصة ...

وهذه منها ما هو من مدونات هذا العصر الذي نكتب تاريخه ، أو بعده بقليل من التواريخ العامة والخاصة ، ولم نراجع المتأخر إلا إذا كان جامعا لمصادر تتعلّق به ولها فائدة كبرى في بيان الوقائع وارتباطها ، أو التفصيل عنها ...

٨

وقد تكلمت عن المهم من هذه المؤلفات والباقي أشرت إليه في حينه من تاريخ العراق فلا أرى حاجة للكلام على كافة المراجع سواء قلّ النقل ، أو كثر ... وإلّا تألف منها كتاب ... وهذا بيان الكتب المشهورة :

الكامل

هو لا بن الأثير علي بن محمد الجزريّ الملقب بعز الدين المولود عام ٥٤٤ ه‍ ١١٥٠ م والمتوفى سنة ٦٣٠ ه‍ ١٢٣٣ م قد اجمل الأمر اجمالا يكاد يغني المطالع عن حالتهم الأولى. كتب الوقائع التترية متسلسلة ، واضحة تقريبا ، وذكر شعوره وتألمه من وقائع جنگيز فلم يتمكن من كتم الإحساس والتألم للمصاب فليس هو حجر ، لم يسعه أن يتخلى عن الوقائع المؤثرة ... ولكنه ـ مع هذا ـ لا نراه يحيد عن تدوين الواقع ...

كل المؤرخين يعولون عليه سواء كانوا أجانب ، أو تركا أو عربا ، أو فرسا ... فلم يجدوا في غيره ما يوضح خروج المغول.

ولا نلومه من ناحية الكناية دون الصراحة في بعض المطالب ، نظرا لما يحوطه من الظروف والأوضاع آنئذ إذ إن الحكومة العباسية لا تزال قائمة ، ولا يزال تأثيرها مكينا إلى أيام وقوف حوادثه وهي صاحبة الحول والطول نوعا ، ولذا قال عن حوادث التتر :

«وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر.

قد كان ما كان مما لست أذكره

فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر» اه.

ويريد أن يقول ان خروجهم كان بإيعاز من الخليفة العباسي وبهذا

٩

يتهمه .. وقد قيل (الكناية أبلغ من التصريح) وقد بسطنا القول عن ذلك في أصل التاريخ ...

تقف وقائعه عند عام ٦٢٩ ه‍ أي إلى نهاية سنة ٦٢٨ ه‍ ١٢٣١ م وما ذكره فهو ثقة فيه ، وقد اعتمد عليه الترك المتأخرون أنفسهم كغيرهم مما مر بيانه فقد بين حوادث التتر سنة ٦١٧ ه‍ ـ ١٢٢٠ م وعقب الوقائع إلى ان انتهى الكتاب ، وفيه حوادث بضع سنين فهو خير مصدر ، وحوادثه على السنين ، وقد اختصره أبو الفداء وزاد عليه الحوادث التالية إلى أيامه ...

طبع ببولاق سنة ١٢٩٠ ه‍ ، وقد تلتها طبعة أخرى عادية بتاريخ سنة ١٣٠٢ ه‍ ، وفي ليدن سنة ١٨٥١ : ١٨٧١ م ، وطبع له فهرس في ليدن أيضا سنة ١٨٧٤ ـ ١٨٧٦ م وهو مهم ونافع ...

تاريخ أبي الفداء

اختصر مؤلفه أبو الفداء به تاريخ الكامل ومضى به إلى سنة ٨٤٨ ه‍ ١٣٢٧ م وهو من المراجع المهمة لحكومة التتر ، ويعتمد في تاريخ ظهور التتر على المنشي النسوي وهو شاهد عيان لوقائع خوارزمشاه ، يذكر أسباب الخذلان ويعول على دواعي كثيرة ، وبواعث مهمة ، ومنها طفيفة ، ومنها ما لا يستهان به وفيه بيانات مفيدة عن (تاريخ التتر) ومنه أخذ أبو الفداء ... ،

وكان المصدر الوحيد في بيان أحوال التتر إلى أن عثر على كتاب المنشي المذكور ، لخص أبو الفداء مباحثه ومع هذا بقيت بعض الاعلام شاغرة لعدم المعرفة ، ولفقدان المراجع ، وبوجوده زال الخفاء ، وسد الفراغ فصلح هذا لتصحيح تاريخ أبي الفداء وليلتئم الخلل ، ومن ثم توضحت نوعا وقائع المغول ...

ولا يفوتنا أن تاريخ أبي الفداء يفصل الحالة عن تاريخ سورية

١٠

ويجمل القول عن الاقطار الأخرى فلم تكن الاستفادة مهمة خصوصا عن بغداد بعد سقوط حكومتها فلا يرى لها من الأهمية ...

المختصر في اخبار البشر

لعمر ابن الوردي المصري الشافعي ، اختصر به تاريخ أبي الفداء بنحو ثلثيه وزاد عليه في بعض المواطن ، وفيه تثبيت لبعض الأعلام المشتبه فيها مما ذكره أبو الفداء في تاريخه ومع هذا لا يخلو من اغلاط نساخ مما سيبين اثناء الحوادث ومقارنتها. وقد قال إنه فصل ما زاده بقوله (قلت) وأنهى كلامه بقوله (والله أعلم) وبين أنه ذيل تاريخ أبي الفداء من سنة ٧٠٩ ه‍ ١٣١٠ م إلى آخر الكتاب. هذا في حين أننا نرى حوادث أبي الفداء في تاريخه المطبوع تمتد إلى سنة ٧٤٨ ه‍ ١٣٤٨ م ، وتقف حوادث المختصر عند نهاية سنة ٧٤٩ ه‍ ١٣٤٩ م والكتاب مذيل ببعض الحوادث إلى تاريخ الطبع ... ويقال فيه ما قيل في تاريخ أبي الفداء ...

طبع سنة ١٢٨٥ ه‍ في مجلدين ، وتمتاز طبعته في اتقانها ومراجعة المصادر في تحقيق بعض المطالب ...

سيرة جلال الدين منكبرتي (١)

للعالم الفاضل شهاب الدين محمد بن علي بن محمد المعروف

__________________

(١) جاء بلفظ منكبرتي ، ومنكبرتي ، ومنكوبرتي. وفي تاريخ جهانكشاي جويني ذكر بالنون نقلا عن عالم آري غفاري وتشريحاته أو تحليله وضبطه للفظة مغولية ، ومثله جاء في (طبقات ناصري) ومرجع تحقيق لفظة كهذه اللغات الجغتائية وضبط اعلامها ، فلا يلتفت إلى اغلاط النساخ ، أو إلى قول الغفاري. راجع جهانكشاي جويني ٢ ، ص ٢٨٦. وتاريخ العراق ح ١ ص ١٢٩ وص ٣٧٥ نقلا عن لغة جغتاي ، وينطق به اغلبيا منوبرتي ، ومعناها (عطاء الدائم) أو (عطاء الأبدي) لأن منكو تعني الأبدي أو السرمدي ، وبرتي يراد بها أعطى.

١١

١٢

بالمنشي النسوي جاء في الدر المكنون : «وفيها ـ سنة ٦٤٧ ه‍ ـ توفي بمدينة حلب شهاب الدين محمد بن عبد الواحد (في اسم الأب اختلاف هنا) المنشي النسوي صاحب تاريخ (جلال الدين خوارزمشاه) (سيرة منكبرتي) وكاتب إنشائه اتصل بعد قتل مخدومه بالملك المظفر غازي بن العادل الأيوبي صاحب ميافارقين ، ثم اتصل بخدمة بركة خان مقدم الخوارزمية (كذا) ولما قتل بركة خان تقدم المترجم عند الناصر يوسف ابن العزيز الأيوبي صاحب حلب ، وبعثه رسولا إلى التتر ، وعاد فمات في حلب». ا ه نقلا عن مخطوط باريس رقم ٤٩٤٩ لياسين العمري (قاله الصديق الدكتور مصطفى جواد) وبهذا عرفنا ترجمته ووفاته.

وتاريخه هذا في سيرة السلطان جلال الدين المنكبرتي من الخوارزمشاهية وهو آخرهم ، وعليه اعتمد أبو الفداء ، ورد اسمه بلفظ المنشي النسوي حينما تكلم عن (ظهور التتر) ، وفيه تصحيح لوقائعه وسد لفراغ الكلمات وتصحيح لها. وقد راجعناه وعولنا على غالب نصوصه. وقد مر الكلام عليه اثناء مراجعة تاريخ أبي الفداء. طبع باعتناء المستشرق الفاضل هوداس بأصله العربي مع ترجمة فرنسية سنة ١٨٩١ م.

قال النسوي في مقدمته :

«إنني لما وقفت على ما ألف من تواريخ الأمم الماضية ، وسير القرون الخالية ، واتساق اخبارها من لدن انتشار ولد آدم أبي البشر عليه السّلام إلى زماننا هذا سوى ما صادف فترة ، رأيت قصارى كل مؤرخ تكرير ما ذكره المتقدم عليه ... بيسير من الزيادة والنقصان إلى أن يسوق الحديث إلى زمانه ، وحوادث أوانه ، فيوردها شافية كافية ، ومن وراء الاشباع والاقناع آتية ، وشتان ما بين الخبر والخبر وأين العيان من اقتفاء الأثر ، ورأيت الكامل من تأليف علي بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير ، يتضمن من أحاديث الأمم عموما ، وغرائب أخبار العجم

١٣

خصوصا ما شذ عن غيره ، وأنصف لعمري في تسميته كاملا ما ألف ولم استبعد ظفره بشيء من تواريخهم المؤلفة بلغتهم وإلا فما الأمر مما يؤخذ بالقياس ، والذي أودعه تأليفه منها أكثر من أن يتلقف من أفواه الناس ... الخ» ا ه.

جهانكشاي جويني

من التواريخ الفارسية التي كتبت أيام حكومة المغول تأليف علاء الدين عطا ملك صاحب الديوان ابن الصاحب بهاء الدين محمد الجويني المتوفى سنة ٦٨٣ ه‍ ١٢٨٥ م. قال في كشف الظنون : ذكر فيه سير جنگيز وهلاكو مشتملا على دولة المغول وسلاطينها وملوك الأطراف وزمانهم وقد أطراه صاحب تاريخ وصاف وأثنى عليه كثيرا على ما سيجيء.

وهذا التاريخ من أقدم ما كتب عن المغول بعد ابن الأثير والمنشي النسوي فقد تكلم عن أحوالهم وهو من المعاصرين وأولى بالاعتماد زيادة على غيره وذلك لأنه اتصل بالمغول وتجول في مملكتهم وشاهد العارفين بأحوالهم كما أنه كان قد شاهد بنفسه حوادث كثيرة وصاحب هلاكو مدة وقد حصل على كتب علمية مهمة حين القضاء على الاسماعيلية وحكى ذلك ... ثم أودع إليه منصب بغداد وكانت حكومته هناك نحو ٢١ سنة على ما فصل القول عنه في محله ، في خلالها حصلت عليه بعض الشكاوى فكتب إليه أخوه الوزير (شمس الدين محمد الجويني) يدعوه أن يتنبه للأمور ولا يغفل عما يجري وبين سطور هذه يقول :

كم لي أنبه مقلة من نائم

يبدي سباتا كلما نبهته

فكأنك الطفل الصغير بمهده

يزداد نوما كلما حركته

١٤

ذلك ما دعا أن يقضي على تاج الدين علي ابن الطقطقي بحيلة احتالها ... ولكنه لم يسلم من الغوائل ... ومهما يكن فقد كان مؤرخا عارفا بالأمور ، ولكتابه قيمته العلمية والأدبية ... إلا أن الألفاظ المغولية صعبة التلفظ فهي غير مأمونة الصحة من النساخ.

طبع هذا التاريخ في ليدن عام ١٣٢٩ ه‍ ١٩١١ م في مجلدين ؛ وفي ايران في مجلد واحد إلا أن طبعة أوروبا المذكورة متقنة جدا وستأتي ترجمته خلال وقائع الكتاب ، والمؤلف كان قد دام في حكومة بغداد مدة طويلة ، ولي العراق إحدى وعشرين سنة وشهورا ، وهو أخو الصاحب شمس الدين ، كان عادلا ، حسن السيرة ، أديبا ، فاضلا ، وله رسائل جيدة ؛ وأشعار حسنة.

ومن شعره :

أبادية الأعراب عني فإنّني

بحاضرة الاتراك نيطت علائقي

وأهلك يا نجل العيون فإنّني

بليت بهذا الناظر المتضايق

وفيه ما يدل على درجة علاقته بالعراق (١) ...

وله أيضا أيام نكبة أصابته :

لئن نظر الزمان إليّ شزرا

فلا تك ضيّقا ـ أفديك ـ صدرا

__________________

(١) ان هذين البيتين لا يستفاد منهما بالنتيجة وقد ذكر أحد المحدثين عن الحوادث الجامعة ما يعين الحقيقة ، قال : وكان علاء الدين في أول شبابه قد حول جارية مغلية تنزل أوان الشتاء بالطيب (نهر لا يزال معروفا في انحاء العمارة) ونواحي البيان (في حدود ايران قرب لواء العمارة مقاطعة بيان وإيران) وقال فيها أشعارا بالعربية والفارسية ، وأمر الشعراء فعملوا فيها ، فأكثروا ، فمن ذلك قول بهاء الدين علي الإربلي ..».

١٥

وكن بالله ذا ثقة فإنّي

أرى لله في ذا الأمر سرّا

زمان إن رماني لا أبالي

فقد مارسته عسرا ويسرا

تراني ثابتا جأشا إذا ما

جيوش الحادثات عزمن أمرا

إذا دكت جبال الصبر دكا

ترى مني فؤادا مستقرا

وإن شاهدت في صبري فتورا

جعلت عزيمتي للصبر أزرا

ومما رثاه به أخوه بالفارسية :

أي دو نور ديده جهان فروزم

رفتي وزهجر تو سياه شد روزم

بوديم دو شمع وهر دو سوزان بوديم

أيام ترا بكشت ومن ميسوزم

يقول : «أي نور عيني دنياي اللامعة قد صيرت أيام هجري سودا بفراقك ، كنا شمعتين موقدتين فاخترمتك (محقتك) الأيام ، ولا زلت أستعر وأشتعل ..!!

وقد ذكرنا ترجمته في التاريخ عند الكلام على وفاته. وعلى كل نرى المؤرخين يلهجون بحسن سياسته للعراق فهو من خيرة ولاته في ذلك العهد ...

تاريخ وصاف

وهو المسمى (تجربة الأمصار ، وتزجية الأعصار) وجاء في كشف الظنون عنه أنه (تجزية الأمصار ...) أوله : حمد وستايش كه أنوار

١٦

اخلاص آفاق وأنفس راجون فاتحه صبح صادق متلالي سازد الخ. وأثنى في مقدمته على علاء الدين صاحب جهانكشاي جويني ومدح كتابه ونعت مؤلفه بصاحب القلم ، وإدارة الملك ثم أبدى أن أيام محمود غازان قد مضت بالعدل الشامل ، وعادت المملكة أشبه بجنة الخلد. فرفع منار الإسلام وأزال الكفر والضلال وأقام شعائر الدين الإسلامي ؛ وأسس المدارس والمساجد. والمؤلف وهو عبد الله بن فضل الله ، سنح له أن يدون ما جال في خاطره ، وما بدر لفكره من فضائل هذا السلطان وما انقضى من أيامه إلى اليوم الذي هو فيه وهو آخر شعبان سنة ٦٩٩ ه‍ ١٣٠٠ م فشرع في تاريخه من هذا الوقت واستمر إلى انتهاء أيامه ؛ ووعد أنه سوف يفصل المنقول والمسموع وما شاهده عيانا ؛ وقد فعل ذلك وقص حوادث تدعو للعجب ، وهو بمثابة تكملة لتاريخ الجويني وختمه بمناقب السلطان أبي سعيد والدعاء له ، فرغ من تأليفه في شعبان سنة ٧١١ ه‍ ١٣١٢ م إلا أن المؤلف لم يقف عند حدود هذه السنة وإنما امتدت حوادثه إلى سنة ٧٢٨ ه‍ فزاد عليه. وفيه بحث مستفيض عن المغول في إيران وتركستان وما وراء النهر من الممالك الأخرى وقد تطرّق لغيرها أيضا ... واشتهر مؤلفه (بوصاف الحضرة) من جراء أنه مدح السلطان الجايتوخان بقصيدة فلقبه بهذا وصار يعرف به والتاريخ أضيف إليه. وكان هذا المؤلف قد احتمى بالخواجة رشيد الدين وركن إليه فنال منه كل رعاية ...

وموضوعه في الحقيقة يتضمن إظهار المقدرة الأدبية والترصيعات الشعرية والأوصاف السلطانية فأبرز فيه من البلاغة ما يناسب عصره من سجع وتضمينات وأمثال وأبيات فارسية وعربية ... ويحتوي على أهم حوادث العراق كحادثة بغداد ، وبعض المخابرات السياسية مما لا يخص العراق مباشرة إلا القليل ؛ وسترى النقول عنه ، وغالب ما فيه يوضح حكومة المغول ...

١٧

وقد نال هذا الأثر اعتناء من العلماء فمنهم من شرح ألفاظه ، ومنهم من علق عليه ، ومنهم من ترجمه ؛ وأجمل حوادثه ... ومن هؤلاء حسين افندي آل نظمي ، البغدادي وقد بينت عنه في (لغة العرب) عند الكلام على آل نظمي ، ثم شاهدت تأليفاته على (تاريخ وصاف) وهي من الأهمية بمكانة فالمؤلف كتب أثرين عن تاريخ وصاف :

أحدهما : أوله : الحمد لله الذي خلق الإنسان ، علمه البيان ... الخ ألفه سنة ١١١٨ ه‍ ١٧٥٧ م في مجلد ضخم أوضح فيه اللغات العربية المغلقة والفارسية والجغتائية والمغولية وترجمها إلى اللغة التركية. وفيه توضيح لبعض البلدان العراقية. وقد ذكر في كتب التاريخ من مكتبة أيا صوفيا باسم (ترجمة تاريخ وصاف) رقم ٢١٥١ وعلاقته باللغة أكثر ، فقد شرح لغات وصاف ، وكنت أشرت إليه في لغة (العرب) أن له نسخة أخرى في مكتبة ويانة. وهذه النسخة قيمة من جهة اللغة وعلاقة العراقيين بها ... ويعد من علماء عصره في اللغة ... ومن بيانه يعرف ما دخل العربية من الكلمات الأجنبية ...

وثانيهما : ترجمة تاريخ وصاف منه نسخة رأيتها في مكتبة ولي أفندي في الأستانة رقمها ٢٤٠٨ وأولها : الحمد لله الذي رفع سبع طباق الخضراء بغير عمد ترونها الخ. قال إنه كان قد كتب مجلدا على ترتيب حروف الهجاء وبطلب من بعض الإخوان الأعزاء ، شرح عبارات وصاف على ترتيبها. والنسخة مجذولة وفي مجلد ضخم يحتوي على ٤٥٦ ورقة بالقطع الكبير وعدد سطور كل صفحة ٢٥ تملكها ولي الدين افندي القاضي باستانبول. وهذه لحسين أفندي آل نظمي كسابقتها. وهذا الكتاب يصلح أن يسمى (ترجمة تاريخ وصاف) فقد أخذ كل جملة منه وترجمها وشرح مغلقاتها وبالغ في إيضاحها ويا ليته ترجم الكتاب رأسا وقلبه للتركية لتزيد الفائدة ويكثر الانتفاع به ولم يتكلم صاحب (عثمانلي مؤلفلري) إلا عن النسخة الأولى وذكر أن منها نسخة في مكتبة بشير

١٨

آغا ، إلا أنه غلط غلطا فاحشا في جعل مرتضى افندي آل نظمي وحسين افندي آل نظمي اسمين لمسمى واحد ومزج بينهما فقال : (نظمي زادة حسين مرتضى افندي) وعقد ترجمة واحدة للاثنين باعتبارهما شخصا واحدا ، وعدد مؤلفات الاثنين بهذه الصورة وبين هذه المؤلفات ما يستحق التدقيق ويدعو للنظر ...

وعلى كلّ الأثران مهمان يوضحان تاريخا نافعا من تواريخ المغول والفوائد اللغوية جاءت عرضا وبالواسطة ... والاعتناء فيه كبير سواء لحل مغلقاته ، أو لشرح كلماته وجمله ...

والتاريخ الأصلي وهو تاريخ وصاف طبع في بومبي سنة ١٢٦٩ ه‍ ١٨٥٣ م في خمسة اجزاء ، وطبع في ايران المجلد الأول منه ولكن المطبوع في الهند عليه حواش لتفسير ألفاظه وفي آخره (فرهنك لغات غريبة) وفيه شرح لبعض اللغات الغريبة مرتبة على حروف الهجاء وغالبها مغولية وعربية ولا تبلغ السعة التي بلغها حسين افندي آل نظمي ... وممن اعتمد عليه في تاريخ بغداد مرتضى افندي آل نظمي صاحب (گلشن خلفا).

ملحوظة :

قد يلتبس القارىء فيظن أن هذا الكتاب نفس الكتاب المنسوب إلى قاضي القضاة منهاج الدين بن سراج الدين الجوزجاني والحال أنه غيره وإن كان يتضمن أحوال دولة المغول من خروج جنگيز إلى فتح بغداد وسائر حوادثهم إلا أنه يسمى (كتاب سياسة الأمصار في تجربة الأعصار وتاريخ آل جنگيز) فأكتفى بالإشارة إليه ... وهو مطبوع في الهند.

١٩

جامع التواريخ

ويسمى بالتاريخ الغازاني. وهذا التاريخ لوزير من وزراء المغول ، ومدون تاريخهم وهو الخواجة رشيد الدين فضل الله الوزير المقتول في جمادى الأولى سنة ٧١٨ ه‍ ١٣١٨ م. وفيه نرى وجهة نظرهم في سياستهم طبعا ظاهرها والمعلن منها دون المكتوم ـ وعليه عوّل كتاب الترك العثمانيون ومؤرخوهم في ترويج سياسة الخلافة بدخولها فيهم وبيان ضعفها ، وما كانت عليه أيام هجوم المغول استفادة من أقوال هذا المؤلف. فإنه فتح نهجا مشى عليه من جاء بعده فاتخذه مثالا يحتذى فكانت طريقته وسلوكها مقدمة. أو ضرورة لازمة لخلافتهم ...

نعم علمتنا السياسات المختلفة ، وتداول الأيدي على العراق آمال كل قبيل من الأمم مهما تكتم أصحابها في إخفائها ، وبالغوا في الإيهام ... وعند مراجعة التواريخ يظهر لنا جليا أن المغول راعوا خطة في إدارة الممالك ثم مضى عليها العثمانيون في خطتهم التي اختطوها ، وإن كانوا بالغوا في تقريع المغول وذمهم ، فراعوها بتبديل الشكل قليلا ...

وهذا الكتاب أبان رموز تلك السياسة وضروبها ، وكشف عن نوايا المسيطرين وخطط حكوماتها معنا ... وهو يشتمل على أربع مجلدات ، والأول منه يتكلم على ظهور الترك وتعداد قبائلهم وتواريخ أجداد جنگيزخان وأولاده وأحفاده ... والثاني في حوادثهم وتفصيلات عنهم ... والثالث في الأنبياء والخلفاء وقبائل العرب والصحابة إلى آخر خلفاء العباسيين. والرابع في صور الأقاليم ...

وقبل أن يكتسب هذا الشكل الكامل ويدون بصورة مفصلة كان قد شرع المؤلف في تبييضه وحينئذ مات السلطان غازان في شوال سنة ٧٠٤ ه‍ ١٣٠٥ م وجلس مكانه ولده خدابنده محمد فأمر باتمامه وإدخال

٢٠