موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٢

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٢

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

١
٢

٣

مثل القوم نسوا تاريخهم

كلقيط عيّ في الناس انتسابا

أو كمغلوب على ذاكرة

يشتكي من صلة الماضي انقضابا

          أحمد شوقي

٤

كان المؤلف الاستاذ عباس العزاوي قد وضع تعليقات واستدراكات عن هذا الجزء الثالث وملحق الجزء الرابع. وقد وضعنا هذه التعليقات في مواضعها من هذا الجزء كما فعلنا في بقية الأجزاء الأُخرى وذلك لتيسير الرجوع إليها.

الدار العربية للموسوعات

٥
٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه أجمعين.

(وبعد) فللأمم سنن لا تحيد عنها ، وأنظمة ثابتة تجري عليها ، هي القدر المشترك والنفسيات العامة لأفرادها ، لا تتغير إلا بعوامل اجتماعية ، أو ظهورات وحوادث عظيمة تدعو للتنبيه ... وحالة الأمم هذه في أزمانها المختلفة ، وأوضاعها المتبدلة تحتاج إلى تدوين لنتبين نفسياتها الاجتماعية وما اعتراها من تطورات عارضة ، وحوادث أو نوازل خاصة ، ونتوضح منها إدارتها اللائقة بها ، ونواميسها السائرة عليها ، أو نهجها الذي مضت عليه ...

وشرح ذلك يطول ، وإنما نقتصر على صفحة من تاريخ هذه التقلبات والطوارىء عن قطرنا تتلو سابقتها ، وتسد بعض الحاجة ، فنراها الأولى في دراسة عواملنا الاجتماعية ، وحوادثنا النفسية لسهولة التفهم وإدراك العلاقة المباشرة من وقائعنا القومية ، وحكوماتنا المختلفة ...

ومن ثم تتوضح أوضاع السلطة الحاكمة أو المتحكمة وما ترمي

٧

إليه ، وما ينزع إليه الأهلون ، أو ما يرونه من معارضات شديدة ، أو بالتعبير الأولى الاطلاع على تاريخ علاقتها بنا ، وروابطها معنا ...

وموضوعنا هذه المرة (الحكومة الجلايرية) وهي بعيدة عنا ، وغريبة منا وأن كانت إسلامية .. تميل في إدارتها ، وروحيتها ، إلى ما اعتادته من الاعتبارات القومية ... فلم تتدرب على التربية الإسلامية كما يجب ولا تخلقت بأخلاقها الفاضلة في الدرجة اللائقة ، لتوافق المثل الأعلى ، أو على الأقل لم تأتلف مع ما في نفوسنا.

ومحط الفائدة أن يتطلع العراقي على حوادث هذه الأقوام ، وسياستها وتأثيرها علينا وعلى هذا القطر ، أو تأثره منها ... وهذه بمثابة ترجمة الشخص في أدوار حياته وما لاقاه في أيامه ... ويتعين لنا تاريخ القطر في زمان لنعلم ما جرى عليه خلال هذا العصر ، وما انتابه من مصائب وآلام ، وحوادث أخرى ... وهنا نرى القسوة والظلم قد بلغا منتهاها ، نعم صار العراق موطن الحكم ، ومقر السلطنة إلا أن العنصر التتري كاد يتغلب عليه كما تحكم فيه ، والسلطة قوية لم يستطع دفعها ، أو رفعها ... والثقافة الفارسية كادت تسوده وتسيطر عليه ...

وأراني في غنى عن إيضاح ما بذلته من جهود لتثبيت ما تمكنت من جمع شتاته ، والأخبار المختلفة فيه ، والنزعات المتضاربة للتأليف بينها ، والتقريب لما بعد منها. حتى حصل ما أقدمه الآن للقراء الأفاضل ولعلهم يجدون ما يطمئن بعض الرغبة بالوقوف على صفحات متقطعة ، غير موصولة من تاريخه في وقت معين ، وفيها ما يشير إلى ما وراءها ... فإن وافق الرغبة فهو ما آمله وإلا فكم سار غرّه قمر ،

فتاه في بيداء ...

٨

المراجع التاريخية

مراجعنا في هذا العهد غامضة ، وفي الوقت نفسه قليلة بالرغم من كثرتها وتعددها. من ناحية أن كلّا منها لا يخلو من نقل عن الآخر رأسا أو بالواسطة. وفي الحقيقة أمهات المراجع قليلة ، ونرى الفرق كبيرا جدا بين حكومة المغول السابقة ، وبين هذه الحكومة. فإن المراجع الرسمية وغير الرسمية هناك كانت كثيرة جدا ، وقد مر بنا منها ما يكاد يجعلنا نقول بأنه لم يبق خفاء خصوصا منها ما يعود إلى التاريخ العلمي والأدبي على خلاف هذه الحكومة فإن السلطان حسن الجلايري مثلا دام حكمه في بغداد نحو العشرين سنة وهو مؤسس السلطنة فيها ولم نذكر له من الحوادث ما يصلح أن يدون كوقعة أو وقائع مطردة ومتتابعة ...

وهكذا من جاء بعده. فنرى العلائق الخارجية عديدة في حين أن الحوادث الداخلية تكاد تكون مفقودة. والمعلوم أن هذا القطر لا يقف عند تلك الحوادث ساكنا هادئا لطول هذه المدة ، وبهذا الصبر الجميل مع أننا نجد أوضاعه متبدلة وأطواره متغيرة دائما كتغير هوائه وفصول سنيه.

وأساسا إن هذا العهد يعد من أنحس الأدوار وأسوئها وأيامه كلها أو غالبها ظلم وقسوة ، وسياسته متبدلة الأهواء والنزعات ، لم تدع مجالا لأحد أن يفكر في تدوين الحوادث عنها ، أو أن اضطرابها وتموجها مما دعا أن تهمل أو أن هناك وقائع قد سجلت بمختلف صفحاتها ولكنها لم

٩

تصل إلينا. ولم يردنا إلا بعض النتف منها. فانعدمت لما انتابته من ثورات وكوارث ، أو بقيت في زوايا النسيان والإهمال حتى هلكت. جاءتنا أكثر وقائعه من طريق المجاورين والأجانب عنا أو البعيدين فلم يذكروا سوى ما له ارتباط بحوادثهم ، أو مساس بأوضاعهم. ولم يردنا عن رجال هذا المحيط إلا النزر القليل. والمؤرخون العراقيون قليلون وربما صاروا مرجعا في بعض حوادثه ، وأكثرهم أيام تيمور ، وغالبهم عجم ، أو ترك ، والمصريون والسوريون بعيدون ولكنهم كتبوا كثيرا عن هذه الأيام ، ودونوا ما يهمهم ذكره دون خصوصيات العراق إلا عرضا أو ما وصلهم خبره وفي كل أحوالهم نجدهم يتألمون لمصاب العراق على طول المدى وشقة البعد ويستطلعون أبناءه دائما ويدونون ما وصلهم.

وعلى كل حال نذكر المراجع التالية ، ونشير إلى المآخذ الأخرى خلال الحوادث إذ لا نرى طائلا وراء بيان جميع ما عولنا عليه ، أو اعتمدنا من المآخذ.

بزم ورزم :

مؤلف في الفارسية لعزيز بن أردشير الاسترابادي طبع في استانبول سنة ١٩٢٨ في مطبعة الأوقاف وفيه مطالب قيمة عن العراق بهذا العصر الذي نكتب عنه ، والمؤلف كان نديم السلطان أحمد الجلايري. استطرد في بعض المواطن إلى ذكر العراق وإن كان موضوعه خاصا بالقاضي برهان الدين السيواسي. وأورد صاحب عجائب المقدور اسم المؤلف بلفظ (عبد العزيز) ومثله جاء في كشف الظنون. وفي الكتاب اسم المؤلف ووالده وبلده بالوجه المشروح وكان في صباء جاء إلى بغداد وقضى شبابه فيها ولما ورد تيمور بغداد في ٢٠ شوال سنة ٧٩٥ ه‍ وضبطها فر المؤلف والسلطان أحمد إلى أنحاء المشهد (النجف الأشرف) وقد وافى المشهد ثلة منهم فقبضوا على المؤلف وجاؤوا به

١٠

إلى الحلة وسلموه إلى ميران شاه (ابن الأمير تيمور) فعطف عليه ولطف بحياته فبقي مدة عنده ، ولم يقف الجيش عند بغداد فتوجه نحو ديار بكر فانتهز الفرصة ليلا من بين ماردين وآمد وفر إلى صور ومن هناك إلى سيواس فوصلها في ١١ شعبان لسنة ٧٩٦ ه‍ ـ ١٣٩٤ م فنال كل رعاية من السلطان برهان الدين وكان قد أمره السلطان بكتابة تاريخ هو «بزم ورزم». وأن ابن عربشاه لم يتعرض للصلة بينه وبين السلطان أحمد الجلايري في حين أنه يشير إلى أن السلطان أحمد بعد أن جلس على تخت السلطنة قتل في أمرائه المعروفين ومن هم تربية السلطنة وأعيان رجالها الواحد بعد الآخر واتصل بجمع من الأجلاف وأصحاب السفاهات والدنايا فكان نديمهم ، اتخذ أمراء من الأوباش ومن لا يعرف. فاضطربت الأحوال وتشوشت الأمور. وفي أول الأمر هاجم توختامش تبريز سنة ٧٨٧ ه‍ ـ ١٣٨٦ م في ذي الحجة فدمرها وقتل منها خلقا عظيما ثم هاجمها بعد تسعة أشهر فاتح آخر وقاهر أعظم فقضى على البقية وهو تيمور لنك فكان سيل تقدمهم جارفا فخربوا إيران ، وأضروا بالخلق إضرارا بالغا فاضطر السلطان أحمد أن يترك تبريز فالتجأ إلى بغداد. ولكنه وهو في هذه الحالة لم يتنبه ولم يؤدبه الزمان وإنما استمر فيما كان فيه من سوء الحالة ومصاحبة الأشرار والأنذال ولم يعتبر بما جرى فكان المؤلف يأسف لما وقع منه ولما هو دائب عليه ، وكان في نيته أن يأتي إلى السلطان برهان الدين ، ولم يرض من سوء إدارة السلطان أحمد وإنما كان من المتذمرين الناقدين.

قدم هذا الكتاب إلى السلطان برهان الدين بعد أن ورد إليه سنة ٧٩٦ وبقي عنده إلى سنة ٨٠٠ ه‍ ثم إنه بعد ذلك سار إلى مصر ، وعاش في القاهرة ، وكان متبحرا في الآداب العربية ومتأثرا بها وله شعر فائق في العربية والفارسية. فحط رحاله هناك بعد أن رأى من المصائب ضروبا ومن الأرزاء أنواعا.

١١

وإن صاحب عجائب المقدور قد أثنى عليه وعده من عجائب الدهر ، ورجح كتابه بزم ورزم على تاريخ العتبي وإن نظمي زاده مرتضى قد بين أن له ديوانا عربيا وآخر فارسيا إلا أنه لا يعرف طريق توصله إلى هذا ولعله استفاد ذلك من قول صاحب عجائب المقدور.

وهذا ما قاله عنه ابن عربشاه :

«ثم إن الشيخ عبد العزيز (عزيز) هذا بعد لهيب هذه الثائرة انتقل إلى القاهرة ولم يبرح على الأبراح ومعاقرة راح الأتراح حتى خامرته نشوة الوجد فصاح وتردى من سطح عال فطاح ومات منكسرا ميتة صاحب الصحاح» ا ه.

وأما مرتضى آل نظمي فإنه أشار إلى أنه كان مقبولا عند الأكابر ، ومرغوبا لدى الأفاضل ، فمضى أوقاته بهذه الصورة إلا أنه كان مبتلى بالشرب. ولما كان شاربا ثملا سقط من مكان عال فهلك وانتقل إلى الدار الآخرة.

والكتاب يبين عن خبرة واطلاع في الأدبين العربي والفارسي نثرا ونظما وأنه كان ذا قدرة على البيان وبين ما أورده من الشعر ما هو من قوله ونظمه سواء كان عربيا أو فارسيا وكان أول وروده إلى السلطان برهان الدين مدحه بقصيدة عربية وأن تحصيله كان عربيا ونشأته في العراق فكانت تغلب عليه العربية أكثر من الفارسية واهتمامه بها أزيد إلا أن القوم لا يعرفون العربية وكانوا أقرب للتأثر بالآداب الفارسية فاضطر أن يكتبه باللغة الفارسية وكانت معاملات القوم ومحرراتهم فارسية فاللغة المعروفة هناك الفارسية. ولم يشر المؤلف إلى أنه كان يعرف التركية ولكن التأليف يشعر بقدرة وإتقان علمي أدبي لهذا الرجل ، وهكذا يقال عن معرفته بالفلك وتعبير الرؤيا ، وأنه مختص بهما ، أما التصوف فنجده متأثرا بالقسم الغالي منه ويطري جلال الدين الرومي ، ويثني على الشيخ محيي الدين.

١٢

والملحوظ أن هذا الأثر لا تنكر علاقته بالعراق ، وأنه متأثر بآدابها في ذلك العصر ، وإننا نستطيع أن نعرف عقلية المتعلمين من أكمل رجل منهم ، وتاريخ السلطان أحمد ولو بنظرة عامة وبصورة إلمامة من رجل عراقي. يميط اللثام عن وجه الحقائق فتخرج ناصعة المحيا ، وقد طبع على نسخة أيا صوفية المرقمة ٣٤٦٥ مع مقابلته بنسخ أخرى خطية وهذه النسخة مكتوبة بخط خليل بن أحمد الخطاط المشهور الذي كتب بخطه ديوان القاضي برهان الدين ومنه نسخة في المتحفة البريطانية ومنه نسخة في الأندرون ، وأخرى في مكتبة أسعد أفندي ، ونسخة في مكتبة راغب باشا. وقد برز بوضعه الصحيح ونال تدقيقا زائدا ، وهو وإن كان يخص غير العراق فما ذكره عن العراق كان عمدة فيه ، وصاحب خبرة ومعرفة ، ومعولنا كان على المطبوع المذكور.

ولو كنا عثرنا على ديوان عربي أو فارسي للمؤلف لعلمنا شيئا كثيرا عن قطرنا المحبوب كما علمناه من ديوان سلمان الساوجي ، ولا طلعنا على وقائع تأثر بها الرجل تدعو لكشف المجهول. ولعل التنقيب والتتبع يؤديان إلى الغرض.

عجائب المقدور في نوائب تيمور :

وهذا من أقدم المراجع الخاصة ، لأحمد بن محمد بن عبد الله بن عربشاه المتوفى عام ٨٤٥ ه‍ ـ ١٤٤٢ م وكان قد ولد سنة ٧٩١ ه‍ ـ ١٣٨٩ م ويعرف بالعجمي أيضا ، وعليه الاعتماد في وقائع هذا الفاتح لدى كافة المؤرخين. أوضح حوادثه حتى خصوصياته وأحواله النفسية كأنه من مدوني وقائعه والملازمين له.

ولا نجد الفرق كبيرا بين ما ذكره ، وما كتبه مؤرخو دولته ، وإنما يصلح للمقارنة ، والمقايسة مع مباحث أولئك وما سجله فهو من الوثائق المعارضة. قال المؤلف في مقدمة كتابه :

١٣

«وكان من أعجب القضايا بل من أعظم البلايا الفتنة التي يحار فيها اللبيب ، ويدهش في دجى مندسها الفطن الأريب ، ويسفه فيها الحليم ، ويذل فيها العزيز ويهان الكريم ، قصة تيمور ، رأس الفساق ، الأعرج الدجال ، الذي أقام الفتنة شرقا وغربا على ساق. فتحققت نجاسته بهذا الغسل ، أردت أن أذكر منها ما رأيته وأقصّ في ذلك ما رويته ...» ا ه وأثبتت التدقيقات التاريخية أنه من أصدق المؤلفات ، وأحقها بالأخذ ، ومما يركن إليها إلا في بعض المواطن التي ظهر أنها كتبت بتحامل فلا يزال محتفظا بقيمته التاريخية إلى اليوم بالرغم مما يتبين أنه ساخط على تيمور.

والكتاب لم يقف عند تحرير وقائعه التاريخية والاكتفاء بها وإنما هو تاريخ الحكومات المعاصرة له ، والتي قارعها واستولى عليها وخاصة ما يتعلق بالعراق ، والحكومة العراقية (الجلايرية). فقد تعرض لها كثيرا. وأبان في موضوعها عن سعة علم واطلاع أتمه عام ٨٤٠ ه‍ (١٤٣٧ م).

ومما يستحق الذكر هنا أن المؤلف عول في بعض وقائعه فيما يخص تيمور والعراق على عالم عراقي هو تاج الدين أحمد النعماني القاضي الحنفي الحاكم ببغداد فقد قصها نقلا عنه ، وأن حادثة بغداد وقعت يوم الأضحى سنة ٨٠٣ ه‍ إلا أنها لا تخلو من مبالغة هي من لوازم عبارات الناقل والتزاماته في السجع والتهويل كما هو جاري عادته (١).

ولا يفوتنا أن نقول : إن المؤلف ثقة في هذه الحوادث لما كان له من الاتصال الكبير بعلماء الترك والعجم. فقد تجول في سمرقند وبلاد الخطا وما وراء النهر وبرع في فنون العلم ، وأتقن الفارسية ، والتركية ،

__________________

(١) عجائب المقدور ص ١١٩.

١٤

والعربية ، والخط المغولي. وكان يقال له ملك الكلام في اللغات الثلاث ، واستمر في تجواله إلى بلاد الدشت وسراي ، ثم جاء إلى قرم ، ثم قطع بحر الروم (البحر الأسود) إلى مملكة العثمانيين فأقام بها نحو عشر سنين ، وباشر عند سلطانها ديوان الإنشاء ، وكتب عنه إلى ملوك الأطراف. فبالعجمي لقرا يوسف ونحوه ، وبالتركي لأمراء الدشت وسلطانها ، وبالمغلي لشاه رخ وغيره ، وبالعربي للمؤيد شيخ. ثم رجع إلى وطنه القديم فدخل حلب ، ثم الشام وقد أطنب صاحب الضوء اللامع في ترجمته وبيان مؤلفاته ومن بينها (فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء) ، وكان ممن شاهده ونقل عنه (١).

غلب على المؤلف الأدب والسجع ، واستعمل ألفاظ الذم والتزم التنديد بتيمور وشتمه بما شاء. وكل هذا لم يقلل من شأن الكتاب فلم ينحرف عن تثبيت الواقع وتدوين الصحيح قدر وسعه واستطاعته. بالرغم من كرهه لتيمور والسخط عليه. وكم بينه وبين شرف الدين اليزدي من التخالف في الفكرة ؛ فيرى هذا أن وجود تيمور نعمة ، وذاك يعده نقمة.

طبع الكتاب في أوروبا ومصر مرارا إلا أن الطابعين لم يراعوا فيه الاعتناء في صحة إعلامه ومع كل هذا نال مكانة وحظا وافرا من الاهتمام لدى مؤرخين تالين له. لخصه المقريزي ، ونقل عنه مؤرخون لا يحصون حتى عصرنا وترجم إلى التركية. ولا يسع المقام بيان ترجمة المؤلف بإسهاب فلها موطن غير هذا.

تاريخ تيمور لنك :

لمرتضى البغدادي من آل نظمي والمؤلف هو صاحب كلشن خلفا ، وذيل سيرنابي. وقد أوضحت عنه في لغة العرب ووصفت مؤلفاته وهذا

__________________

(١) الضوء اللامع : ج ٢ ص ١٢٦.

١٥

الكتاب ترجمة «عجائب المقدور» إلى اللغة التركية كتبه أولا على الطريقة التي نهجها مؤلف الأصل من التزام السجع والبلاغة المنمقة في تركيباته وكان ذلك عام ١١٠٠ ه‍ ـ ١٦٨٩ م وقدمه لوالي بغداد آنئذ الوزير علي باشا إلا أن الوزير إسماعيل باشا والي بغداد طلب إليه تسهيل العبارات ومراعاة البساطة فيها بالترجمة ليكون مفهوما للكافة فأجاب الطلب عام ١١٣١ ه‍ ـ ١٧١٩ م أيام ولايته فذلل صعابه وأخرجه بشكله المعروف. وإن ترجمته ذكرها صاحب كشف الظنون عند الكلام على عجائب المقدور وسماها في موطن آخر ب (تيمور نامه).

طبعت الترجمة السهلة بعنوان (تاريخ تيمور لنك). وهذه أضاف إليها المترجم أولاد تيمور وأخلافه من بعده وبذلك أضاف فائدة جديدة تزيد على الأصل ولكنه من أخرى طوى بعض المباحث فكادت تعدم الغرض منه لو لا وجود الأصل وانتشاره.

التاريخ الغياثي :

تأليف عبد الله بن فتح الله البغدادي الملقب بالغياث المتوفى أواخر العصر التاسع ، كان حيا عام ٨٩١ ه‍ (١٤٨٦ م) وسمي هذا الأثر ب (التاريخ الغياثي) ، ويتعلق بالعراق في غالب مباحثه ، وتهمه حوادثه أكثر من غيره ، وفيه سعة نوعا وإن كان لم يراع السنين وترتيبها ، ولغته عراقية عامية ، وهو مغلوط في أكثر المواطن ، وفيه نقص كما نبهت على ذلك في حينه.

وكل هذا لم يقلل من قيمة الكتاب ، ومن السهل تعيينها بالمراجعة إلى الآثار الأخرى لتحقيق ما جاء فيه ، ولتوسيعه منه. فيستفاد من التفصيلات الواردة خلال سطوره ..

أوله : «الحمد لله الباقي بعد فناء خلقه الخ».

١٦

وجاء في مقدمته :

«إن من كثرة الفتن ، وتواتر الإحن التي جرت بأرض العراق لم يضبط أحد تواريخها من دور الشيخ حسن إلى يومنا هذا أولا من عدم أهل هذا العلم ومن ينظر فيه ؛ وثانيا أن أكثرها تواريخ ظلم وعدوان تركها خير من ذكرها ، لأن هذا الدور الذي نحن فيه يسمى (دور الإدبار) «إلى أن قال» :

فما كان من زمن آدم عليه السّلام إلى أيام السلطان أبي سعيد ملتقط من نظام التواريخ للقاضي ناصر الدين عمر البيضاوي (١) وغيره ، وما كان من زمان الشيخ حسن (أول سلاطين الجلايرية) إلى يومنا هذا لم أنقله من كتاب بل نقلته من أوراق وحواشي ، وأكثره من ألسن الراوين ؛ وبعض ما جرى في زماننا ، وكتابه عالمون ، فكتبت ذلك وحويته في هذه الأوراق ، والعهدة على الراوي ، لا على الحاوي» ا ه ، والنسخة الوحيدة من الكتاب وجدتها لدى الأستاذ الفاضل واللغوي المعروف انستاس ماري الكرملي ونقلت نسختي المخطوطة منها.

والملحوظ فيها أن المؤلف يكرر المباحث عند كل حكومة لها علاقة بأخرى في الاثنتين لأدنى علاقة ولما كانت النسخة ساقطة بعض الأوراق ، ومضطربة المباحث لتشوش في ترتيب أوراقها كما يظهر فمن السهل أن يتلافى النقص نوعا ، وهكذا فعلت أثناء تثبيت الحوادث مع تمحيص وعرض على النصوص التاريخية الأخرى ومقابلتها وتنبيه على

__________________

(١) مر وصف كتابه في المجلد الأول وهو صالح للتصحيح بالعودة إلى الأصل للبيضاوي المتوفى بتبريز سنة ٦٨٥ ه‍ ـ ١٢٨٧ م وهو المشهور والمنقول عن الوافي بالوفيات وغيره. وفي طبقات السبكي توفي سنة ٦٩١ ه‍ وفي مرآة الجنان سنة ٦٩٢ ه‍ انتهى مؤلفه منه سنة ٦٧٤ ه‍ وطبع في طهران وفي الهند ومنه نسخة في مكتبة نور عثمانية رقم ٣٤٥٠.

١٧

المشتبه. استنادا إلى إيضاحاته في هذا العهد وما يليه وغالبه في أيامه وهو القسم الأخير من كتابه ، وكله مما يهم موضوعنا ...

والنقول عنه من الكتب الأخرى مما يكمل مباحثنا ، ويسد النقص الذي في الكتاب خصوصا ما جاء عن المشعشعين. هذا ولا ننس أن المؤلف يتعصب للحكومات الأخيرة فيتألم لمصاب هذه ، أو يفرح كما يستدعي وضع تأثره ، وفيه بيان عن بعض الأشخاص ... وهكذا.

تحرينا مراجع تاريخية كثيرة فلم نعثر على ترجمة وافية ، ولا على نسخة ثانية لأثره هذا ، وإنما نرى بعض الكتب مثل مجالس المؤمنين تنقل عنه بعض المطالب ولكنها لا تصلح بحال لإكمال جميع نقصه. وعندي نسخة خطية تسمى ب (الأنوار) في رجال الشيعة وتراجمهم تذكر المؤلف في عداد هؤلاء ولم تتوسع في تاريخ حياته ، ولا ذكرت عام وفاته وإنما اكتفت بذكر اسمه وأن له تاريخا هو الموضوع البحث .. وهو عراقي سكن سورية مدة كما يفهم من خلال سطور كتابه ...

والنسخة الأصلية قديمة ولعلها المكتوبة في عصر المؤلف ، أو هي نسخة المؤلف. وقد وصفها صاحب لغة العرب ونقل عنها الكتاب عندنا الشيء الكثير ..

أنباء الغمر في أبناء العمر :

للشيخ شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد الشهير بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ ه‍ (١٤٤٩ م) وللمؤلف آثار مهمة ونافعة جدا مر منها في تاريخ المغول (١) كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) وهو أحد مراجعنا في هذا المجلد أيضا. أما كتابه هذا وهو الأنباء فإنه مرتب على حوادث السنين وترتيبها ، يبتدىء من حوادث سنة

__________________

(١) تاريخ العراق بين احتلالين ، المجلد الأول.

١٨

٧٧٣ ه‍ ، قد شاهدت منه نسخا عديدة في مختلف مكتبات الآستانة. والكتاب من أفضل المؤلفات للعصر الذي كتب عنه. ومنه الجلد الأول في مكتبة السيد نعمان خير الدين الآلوسي برقم ٣٧٤٤ من كتب الأوقاف العامة ببغداد والنسخة قديمة وغلافها مذهب وتجليدها نفيس. أولها : الحمد لله الباقي الخ. قال في مقدمتها :

هذا تعليق جمعت فيه حوادث الزمان الذي أدركته منذ مولدي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وهلم جرا مفصلا في كل سنة أحوال الدول من وفيات الأعيان مستوعبا لرواة الحديث خصوصا من لقيته أو أجاز لي وغالب ما أورد فيه ما شاهدته أو تلقفته ممن أرجع إليه أو وجدته بخط من أثق به من مشايخي ورفقتي كالتاريخ الكبير للشيخ ناصر الدين ابن الفرات ، ولحسام الدين ابن دقماق وقد اجتمعت به كثيرا وغالب ما أنقله من خطه ومن خط ابن الفرات عنه ، وللحافظ العلامة شهاب الدين أحمد ابن علاء الدين حجي الدمشقي وقد سمعت منه وسمع مني ، والفاضل البارع المفنن تقي الدين أحمد المقريزي ، والحافظ العالم شيخ الحرم تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي القاضي المالكي .. والحافظ المكثر صلاح الدين خليل بن محمد بن محمد الأقفهسي وغيرهم. وطالعت عليه تاريخ القاضي بدر الدين محمود العيني وذكر أن الحافظ عماد الدين ابن كثير عمدته في تاريخه وهو كما قال لكن منذ قطع ابن كثير صارت عمدته على تاريخ ابن دقماق حتى كاد يكتب منه الورقة الكاملة متوالية وربما قلده فيما يهم فيه حتى في اللحن الظاهر مثل اخلع على فلان وأعجب منه أن ابن دقماق ذكر في بعض الحادثات ما يدل أنه شاهدها فكتب البدر كلامه بعينه بما تضمنه وتكون تلك الحادثة وقعت بمصر وهو بعد في عينتاب ولم أتشاغل بتتبع عثراته بل كتبت منه ما ليس عندي مما أظن أنه اطلع عليه من الأمور التي كنا نغيب عنها ونحضرها. (إلى أن قال) : وهذا الكتاب يحسن من حيث الحوادث أن يكون ذيلا

١٩

على ذيل تاريخ الحافظ عماد الدين ابن كثير (١) فإنه انتهى في ذيل تاريخه إلى هذه السنة ومن حيث الوفيات التي جمعها الحافظ تقي الدين بن رافع فإنها انتهت أيضا إلى أوائل هذه السنة .. ثم قدر الله سبحانه لي الوصول إلى حلب في شهر رمضان سنة ٣٦ فطالعت تاريخها الذي جمعه الحاكم بها العلامة الأوحد الحافظ علاء الدين ذيلا على تاريخها لابن العديم. وسمعت منه أيضا وسمع مني ...» الخ.

هذا ما قاله وأعتقد فيه الكفاية لبيان قيمة هذا الأثر الجليل والتعريف بمزاياه.

وحوادث هذا المجلد تنتهي بسنة ٨١٢ ه‍ والمجلد الثاني تنتهي حوادثه في سنة ٨٥٠ ه‍ وبه يتم الكتاب. أما نسخة الآلوسي فلا شك أنها خير ما رأيت من النسخ صحة وإتقانا ، والأولى مراجعتها عند ما يراد طبع هذا السفر الجليل. وفي دار الكتب المصرية نسخة منه في مجلدين بخط عادي رقم ٢٤٧٦ منقولة من نسخة مكتبة الأزهر. وعليه عولنا كمرجع في حوادث هذه الأيام فيما وجدنا له فيه مباحث فهو ثقة ، ولا قول فيه والنسخة واضحة وخطها جميل ولم يكن فيها تاريخ وقد تداولتها الأيدي ووصلت العراق من الشام.

الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع :

لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة ٩٠٢ ه‍ (١٤٩٧ م) رتبه على الحروف ، وقد صنف السيوطي في رده مقالة سماها : (الكاوي في تاريخ السخاوي) وشنع عليه فيها ، وانتخبه الشيخ

__________________

(١) إن تاريخ ابن كثير الأصلي المسمى البداية والنهاية وصل فيه مؤلفه إلى آخر حوادث سنة ٧٦٧ ه‍ وفي كشف الظنون أن تاريخه على ما هو المشهور انتهى إلى آخر سنة ٧٣٨ ه‍.

٢٠