موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ١

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٢

ما أوجب تقديمه وتشريفه ، فعهد إليه أن يتفق مع الوزير وصاحب الديوان في الحكم ولقب ب (الملك) ، ونجم الدين عبد الغني بن درنوس ، وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل ، وجعل تاج الدين علي ابن الدوامي حاجب الباب (صدر الأعمال الفراتية) (١) ؛ كان قد خرج مع الوزير إلى حضرة السلطان فأمر أن يكون صدر الأعمال الفراتية فلم تطل مدته وتوفي في ربيع الأول فنصب ولده مجد الدين حسين مكانه.

وحضر (قاضي القضاة) نظام الدين عبد المنعم وجاء في جامع التواريخ أنه (عبد المؤمن) البندنيجي ولما صار بين يدي هلاكو خان أقره على القضاء. وكان قاضي القضاء في زمن الحكومة العباسية إلى أواخر أيامها ، قد عين لهذا المنصب سنة ٦٥٥ ه‍ نقل إليها من قضاء الجانب الغربي (٢).

فلما عاد الوزير والجماعة المذكورة من السلطان هلاكوخان قرروا حال البلاد ومهدوا قواعدها وعينوا بها الصدور والنظار والنواب فعينوا :

سراج الدين بن البجلي في الأعمال الواسطية والبصرية.

ونجم الدين بن المعين صدر الأعمال الحلية والكوفية.

وفخري الدين مبارك ابن المخرّمي صدر دجيل والمستنصري.

وعز الدين بن أبي الحديد كاتب السلة. فلم تطل أيامه وتوفى فرتب مكانه ابن الجمل النصراني.

وعز الدين بن الموسوي العلوي نائب الشرطة.

والشيخ عبد الصمد بن أبي الجيش إمام مسجد قمرية خازن الديوان.

__________________

(١) ابن الفوطي.

(٢) حوادث سنة ٦٥٥ ه‍ من الفوطي.

٢٢١

ورتبوا في جميع الأعمال نوابا وشرعوا في عمارتها.

ووصل الأمير قيراغا (وفي جامع التواريخ قرابواقا) وايلكان نويان إلى بغداد مع ثلاثة آلاف من المغول ليعمروا ما كانوا هدموه وأن يقبضوا على نواصي الأمور.

وعين الأمير قراتاي عماد الدين عمر بن محمد القزويني نائبا عن الوزير. فكان يحضر الديوان مع الجماعة. وكان ذا دين ومروءة وعين شهاب الدين بن عبد الله صدرا للوقوف وتقدم إليه بعمارة جامع الخليفة.

وكان قد أحرق وكذا مشهد موسى الجواد (مشهد الكاظمين) ثم فتح المدارس والربط وأثبت الفقهاء والصوفية وأدرّ عليهم الأخباز والمشاهرات وسلمت مفاتيح دار الخليفة إلى مجد الدين محمد بن الأثير وجعل أمر الفراشين والبوابين إليه.

وحينئذ أخذ الناس يدفنون قتلاهم ورفعوا جثث الدواب المطروحة في الأسواق والأزقة وشرعوا في تعمير الأسواق (١) ...

ومما نقله الفوطي أن الجاثليق تقدم بسكنى دار علاء الدين الطبرسي الدويدار الكبير التي على شاطىء دجلة فسكنها ودق الناقوس على اعلاها واستولى على (دار الفلك) التي كانت رباطا للنساء تجاه هذه الدار المذكورة ، وعلى الرباط البشيري المجاور لها ، وهدم الكتابة التي كانت على البابين وكتب عوضها بالسرياني ....

التشكيلات الإدارية :

هؤلاء موظفو العراق آنئذ ، وإن التشكيلات الإدارية أبقيت على ما هي عليه وأهم أوصافها أن الوزير في الحقيقة لم يكن مستقلا في

__________________

(١) ابن الفوطي وجامع التواريخ.

٢٢٢

الحكم ، وهذا طبيعي في حكومة أجنبية لم تعرف حقيقة الأشخاص ومع هذا راعت الترتيبات السابقة بمقياس صغير فأضافت إلى الوزير من يراقب أعماله مراقبة عامة ...

نعم إن حكومة هلاكو لم تتول ادارة العراق رأسا وإنما استعانت بنا ولو كانت تدار رأسا من قبل الفاتحين لامّحت كافة نضاراتها ، ولذهب حسنها بمدة وجيزة وما أصابها حين الفتح من دمار فكان أشبه بالمرض يعتري البدن ثم يزول ... سوى أن هؤلاء كانوا أبصر بالمضرة ، وأعلم بطرق افادة الأجنبي فثبّتوا مواقعهم واستفادوا وقد قرروا الادارة السالفة باختصار ...

والحكومة المركزية كانت تودع شؤونها لأمير مغولي بمقام مراقب حذرا من اختلاس الأموال ، أو التدخل في شؤون السياسة المضرة بصالحهم ... لكنها رأت من القوم الفساد الأخلاقي والتنازع بين الأفراد على الوظائف بحيث صار كلّ يسند الخيانة لصاحبه ويظهر الخدمة والإخلاص ... فلم تقف الحكومة على حقيقة الأقوال من كل جانب فولت الإدارة إلى غيرهم ... إلا أنها لم تنزع كل الوظائف وإنما احتفظت ببعضها واستخدمت الباقين من أهل العراق.

والتشكيلات الإدارية آنئذ تقسم إلى :

١ ـ بغداد. وفيها الوزير وفي الغالب له مشرف ونائب وصاحب الديوان والشحنة ونائب الشرطة وخازن الديوان.

٢ ـ الأعمال الشرقية (الخالص وطريق خراسان والبندنيجين).

٣ ـ الأعمال الفراتية.

٤ ـ الأعمال الواسطية والبصرية.

٥ ـ أعمال دجيل والمستنصري.

٦ ـ الأعمال الكوفية والحلية.

٢٢٣

٧ ـ أعمال الأنبار.

٨ ـ أعمال داقوقا.

والأخيرتان لم ينظر في هذه الأيام في أمر إدارتها ، ولا عدتا ضمن الأعمال التي جرى التوظيف من أجلها للقيام بشؤونها ...

وأما إربل فإنها لا تزال خارجة عن حدود هذه المملكة ... وكان يعين لهذه الأعمال الصدور والصدر هنا بمقام (متصرف) وكل منطقة من هذه الأعمال بمنزلة (اللواء) ، وقد يسمى القائم بإدارته الملك وهذا اللقب يناله من كانت له خدمة يستحق عليها هذا اللقب مثل نجم الدين أبي جعفر أحمد بن عمران الباجسري وغيره ومعهم النواب والنظار حسب الحاجة وسعة الأعمال ...

وعلى هذا اكتسبت الإدارة استقرارا نوعا وأبقيت المملكة على إدارتها السابقة وقوانينها ... إلا أنها لم تبقها على اتساعها بل صغرت الإدارة وجعلتها متناسبة مع القابلية الحاضرة ...

وقائع وحوادث أخرى :

ولنرجع إلى ذكر وقائع بغداد. فبعد أن رتبت أمور بغداد ووجهت الأعمال أي في يوم الخميس ٢٩ صفر توجه عز الدين (١) ابن الوزير وصاحب الديوان إلى اعتاب السلطان هلاكوخان لإطلاعه على الأحوال فسمعوا أوامره ورجعوا إلى بغداد.

وكان في يوم الجمعة ٢٣ صفر رحل هلاكو ونزل بجوار قبة الشيخ مكارم ومن هناك رحل حتى وصل مع معسكره إلى خانقين.

__________________

(١) وجاء في جامع التواريخ أنه شرف الدين والأصح الأول كما في التاريخ المنسوب للفوطي أنه عز الدين أبو الفضل ، وهكذا جاء في الوافي بالوفيات كما سيجيء.

٢٢٤

وأثناء حصار بغداد كان قد أتى نفر من العلويين وأعاظم أهل الحلة وعلمائها فالتمسوا أمانا من هلاكو فأرسل إليهم (بوكله) و(أمير نجلي النخچواني) وأرسل في أثرهم بوقا تيمور وهو أخ اولجاي خاتون ليمتحنوا إخلاص أهل الحلة والكوفة فاستقبلوهم وجيوشهم استقبالا باهرا ونصبوا جسرا على الفرات لعبورهم وفرحوا بوصولهم وأظهروا مزيد السرور ...

رأى بوقا تيمور إخلاصهم وثباتهم فرحل في ١٠ صفر وتوجه إلى واسط. وفي اليوم ١٧ منه وصلها فلم يطعه الأهلون هناك وشرع في قتالهم ومحاربتهم وقتل منهم ما يقارب الأربعين ألفا.

ومن هناك توجه إلى خوزستان واصطحب معه شرف الدين ابن الجوزي فأطاع أهل تستر وقتل من بقي من جيش الخليفة هناك وانهزم بعضهم وأظهر الطاعة البعض الآخر ممن كان قد فر إلى حدود البصرة.

ثم إن الأمير سيف الدين البتكيچي (البيتكچي) التمس أن يرسل معه مائة من المغول إلى النجف لمحافظة مشهد أمير المؤمنين علي (رض) وأهليه ومن جاوره.

وفي ١٢ ربيع الأول عاد بوقا تيمور إلى معسكر هلاكو في سياه كوه. وفي ١٩ منه ارجع رسل حلب الذين جاؤوا إلى بغداد.

نص الكتاب المرسل إلى حلب :

وهذا نص الكتاب الذي كتبه الخواجة نصير الدين الطوسي بأمر من هلاكوخان :

«أما بعد فقد نزلنا بغداد سنة ٦٥٦ ه‍ فساء صباح المنذرين فدعونا مالكها وأبى فحق عليه القول فأخذناه أخذا وبيلا. وقد دعوناك إلى طاعتنا فإن أتيت فروح وريحان وإن ابيت فخزي وخسران. فلا تكن

٢٢٥

كالباحث عن حتفه بظلفه ، والجادع مارن أنفه بكفه ... فتكون من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وما ذلك على الله بعزيز. والسلام على من اتبع الهدى.» انتهى.

ما جرى بعد ذلك :

وفي يوم الأربعاء ١١ ربيع الآخر وصل هلاكوخان إلى معسكره في حدود همذان وسياه كوه. فاستراح هناك من عناء السفر وانحرف مزاجه اسبوعا كاملا ثم كسب الصحة.

وفي ١٦ منه إلى ٢٠ منه توالى وصول الأمراء إلى هلاكوخان وهم (ايلكا نويان) وآخرون.

أواخر أيام الوزير ابن العلقمي : (وفاته)

لم تطل أيام هذا الوزير ولم يبق في الادارة إلا قليلا وغاية ما عمله أن أبقى الإدارة كما كانت تقريبا بعد أن زال من البين مناوئوه على يد هلاكو وبعد أن نالت المملكة مكانتها الحقيقية فاكتسبت شكلها المصغر ... وحينئذ عاجلته المنية في مستهل جمادى الثانية (١) من هذه السنة فخدم حكومة العباسيين والمغول معا ونال رضاهما رغم الشغب الموجه عليه ... ودفن في مشهد موسى بن جعفر عليه السّلام (الكاظمية). فخلفه ابنه عز الدين أبو الفضل فصار وزيرا.

ترجمة حاله :

إن غالب ترجمة الرجل ، وتاريخ حياته رسمي وحكومي أي أنه

__________________

(١) ابن الفوطي ، وفي كتاب الفخري توفي في جمادى الأولى ص ٣٠٣ ، وفي جامع التواريخ أنه توفي في ثاني جمادى الآخرة ص ٣١٢.

٢٢٦

سياسي أوضح من غيره. وهو آخر وزير للعباسيين وأول وزير للمغول.

وفي الفخري :

«هو أسدي أصله من النيل (قرب الحلة) وقيل لجده العلقمي لأنه حفر النهر المسمى بالعلقمي ، ثم سمي الغازاني. اشتغل في صباه بالأدب ففاق فيه ، وكتب خطا مليحا». ا ه.

كان إلى سنة ٦٢٩ مشرف دار التشريفات للخليفة المستنصر ، ...

وفي يوم الاثنين ١٩ شوال من السنة المذكورة ولي استاذية الدار وبقي في هذا المنصب إلى آخر أيام المستنصر ومن بعده في أيام المستعصم حتى سنة ٦٤٣ ه‍ وفيها نال الوزارة آخر نهار الاثنين ١٣ صفر (١) واستمر فيها إلى آخر أيام العباسيين ...

وهذا الوزير كان كاملا في العلوم والآداب وقد نقلت عنه جملة صالحة من الآثار الأدبية عن مؤرخين عديدين منهم الفوطي ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ، وفوات الوفيات ، والوافي بالوفيات وفيها النثر والنظم في ساعات خطرة وحالات حرجة وآنية مما يدل على غزارة أدبه وفضله ...

وفي الفخري «واشتملت خزانته على عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب ، وممن صنف له الصغاني اللغوي صنف له (العباب) في اللغة ، وابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ...

__________________

(١) في التاريخ المعروف بالفوطي خطأ نشأ من ترتيب صفحاته فذكرت فيه وزارته بتاريخ عام ٦٥٣ ه‍ أيام وفاة أبي الأزهر أحمد بن الناقد يدل على ذلك العنوان المذكور سنة ٦٤٣ في ترتيب الوزارة وإهمال مراسمها مع ان المؤرخين اتفقت كلمتهم على أن وزارته دامت ١٤ سنة. وفي الفخري : «مات نصير الدين» «ابن الناقد» سنة ٦٤٢ ه‍ ولما توفي ولي ابن العلقمي الوزارة ...» ص ٢٩٥ وص ٣٠١.

٢٢٧

وكان خواص الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه ، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبه ، وكثروا عليه عنده فكف يده عن أكثر الأمور ، ونسبه الناس إلى أنه خامر ، وليس ذلك بصحيح.» ا ه.

فالحوادث أثرت تأثيرا كبيرا على سمعته في الداخل والخارج ولا تزال باقية ما بقي التاريخ وبقيت آثاره ...

ومن نظر قدرة الحكومة العباسية آنئذ ودرجة سلطتها وشاهد وضعها السياسي والعسكري وأنها لم تكن لها من المكانة ما تستطيع أن تدفع عنها الملوك الذين هاجموها قبل المغول ... قطع بأن منزلتها كانت اسمية أكثر منها فعلية ... خصوصا بعد أن عرفنا أن حكومة المغول بقوتها القاهرة قد قضت على حكومات جمة ، وأرعبت العالم بما أحدثته من دويّ وضجة ... فليس في وسع الحكومة العباسية أن تقاوم ، وكان وزيرها أعلم بالوضع فأبدى لزوم المسالمة فلم يسمع منه قول.

وكان قد أنشد :

كيف يرجى الصلاح من أمر قوم

ضيعوا الحزم فيه أي ضياع

فمطاع الكلام غير سديد

وسديد المقال غير مطاع

وكان بينه وبين أمراء بغداد مشاحنة واستفادة من وقائع المغول نسبوا إليه الخيانة وأتخذوها وسيلة للوقيعة به كما أنه نسب إليهم محاولة خلع الخليفة ... فكانت نتائج هذا الخلاف بين الطرفين وخيمة ...

فاتخذ مناجزوه آراءه هذه وسيلة للوقيعة به والتنديد بها وتفنيدها والإذاعات المرة عنها بنسبة الخيانة إليه ... وقد ذكرها غالب المؤرخين ففي التاريخ المسمى بالفوطي قال : «توفي الوزير ... وعمره ٦٣ سنة وكان عالما ، فاضلا أديبا ، يحب

٢٢٨

العلماء ويسدي إليهم المعروف إلا أن خيانته لمخدومه تدل على سوء أصله.» ا ه (١).

وفي ابن خلدون :

«بينا هلاكو سائرا نحو الإسماعيلية بلغه في طريقه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب إربل يستحثه للمسير إلى بغداد ويسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقمي رافضيا هو وأهل محلته بالكرخ ، وتعصب عليهم أهل السنة وتمسكوا بأن ابن الخليفة والدوادار يظاهرونهم وأوقعوا بأهل الكرخ وغضب لذلك ابن العلقمي ودس إلى ابن الصلايا بإربل وكان صديقا له بأن يستحث التتر لملك بغداد وأسقط عامة الجند يموه أنه يصانع التتر بعطائهم ... وسار هلاكو والتتر إلى بغداد واستنفر بنحو (هوبايجو) مقدم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أولا ثم اجاب وسار إليه (الخ ما هناك من حوادث الفتح حتى قال) : واستبقي ابن العلقمي على الوزارة والرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل والخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه فبقي على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله هلاكو.» انتهى (٢).

ومثله في تواريخ أخرى عديدة ولا نرانا في حاجة إلى نقل كل ما شاع من هذا النوع ... وإنما نكتفي بملخص ما قصه صاحب كتاب (الوافي بالوفيات) قال :

«أبو طالب الوزير المدبر مؤيد الدين محمد بن محمد (٣) بن محمد المعروف بابن العلقمي البغدادي الرافضي وزير المستعصم ، ولي الوزارة

__________________

(١) «ر : حوادث سنة ٦٥٦ ه‍».

(٢) ابن خلدون ج ٥ ص ٥٤٣.

(٣) ورد في ابن أبي الحديد وغيره بدل محمد «أحمد».

٢٢٩

١٤ سنة فأظهر الرفض قليلا ، وكان وزيرا كافيا ، خبيرا بتدبير الملك ، ولم يزل ناصحا لأستاذه حتى وقع بينه وبين الدوادار ، لأنه كان يتغالى في السنة ، وعضده ابن الخليفة ، فحصل عنده من الضغن ما أوجب له أنه سعى في دمار الإسلام ، وخراب بغداد على ما هو مشهور لأنه ضعف جانبه وقويت شوكة الدوادار بحاشية الخليفة حتى قال في شعره :

وزير رضى من بأسه وانتقامه

بطيّ رقاع حشوها النظم والنثر

كما تسجع الورقاء وهي حمامة

وليس لها نهي يطاع ولا أمر

وأخذ يكاتب التتار إلى أن جرّ هولاكو وجرأه على أخذ بغداد ، وقرر مع هولاكو أمورا انعكست عليه وندم حيث لا ينفعه الندم ، وكان كثيرا ما يقول عند ذلك :

وجرى القضاء بعكس ما أملته.

لأنه عومل بأنواع الهوان من اراذل التتار والمرتدة ... ولم تطل مدته حتى مات غما وغبنا في أوائل سنة ٦٥٧ ه‍ ، ومولده في شهر ربيع الأول سنة ٥٩١ ه‍ ... (إلى أن قال) : واشتغل بالحلة على عميد الرؤساء أيوب وعاد إلى بغداد ، وأقام عند خاله عضد الدين أبي نصر المبارك بن الضحاك وكان أستاذ الدار» (١).

وعلى كلّ إن الحكومة كانت ضعيفة ومحكومة الزوال قطعا ، وليس لها قدرة على المقاومة بوجه ولكن اللوم إنما يوجه على الوزير من جراء تخذيل الخلافة والشعب بإضاعته قسرا لآراء الآخرين التي استقر عليها رأي حكومته بالوجه المذكور دون أن يتخذ معها تدبيرا حازما ، وإن

__________________

(١) الوافي بالوفيات ج ١ ص ١٨٤.

٢٣٠

الترجيح أو المتابعة لآراء الآخرين والقطع به يجب أن يكون مقرونا بقوة ومساعدة قلبا وقالبا ما دام القوم رجحوا غير رأيه ... فلم يقم بعمل ، ولا شوق الخليفة على الدوام في الحرب واتخاذ لوازمها.

وفي هذا جريرة عظمى إلا أن مؤرخي المغول مثل صاحب جامع التواريخ والفخري وجهوا اللوم مباشرة على الخليفة من جهة أنه لم يتمكن من الوزير ولم يتسلط عليه في أمور المال والصرف على الجند ، والحال أن هذا الإهمال إنما ينسب إلى الوزير المسؤول عن الحكومة فكان الأولى به أن يعتزل المنصب أو يقوم بواجباته لا أن يمنع ارزاق الجند ، ويسقط أكثرهم من ديوان العرض بحيث آلت أحوالهم إلى سؤال الناس وبذل وجوههم للطلب في الأسواق والجوامع ... مع أن العدو على الأبواب ...

وتابع هؤلاء المؤرخين آخرون في هذه الفكرة والتزام التوجيه بموجبها ...

ومدة وزارته ـ أيام الحكم المغولي ـ قليلة جدا ، وفيها بعد قتل الخليفة عاد والجماعة الذين معه من خدمة هلاكو ، فقرروا حال البلاد ؛ ومهدوا قواعد الحكومة وعينوا لها الصدور والنظار والنواب ... ورتبوا جميع الأعمال ، وشرعوا في عمارة المدينة ... وكان يندد به من جهة قبوله الوزارة بعد قتل الخليفة ، ... ومن جراء لومه الخليفة وتسفيهه لرأيه بعتاب وتقريع ... وأمثال ذلك مما كان يتمثل به من البيت المشهور والمنقول سابقا ... ومهما يكن فالآراء متضاربة في أمره ، ووضعه ما حكيناه ، والتقصير موجه على الكل فلا يسلم منه أحد ...

٢٣١

وزارة عز الدين أبي الفضل بن العلقمي

من ٢ جمادى الثانية سنة ٦٥٦ هـ

وزارة بغداد :

يوم الخميس ٢ جمادى الثانية وجهت وزارة بغداد بأمر من السلطان هلاكو إلى عز الدين أبي الفضل بن مؤيد الدين العلقمي وقد جاء في جامع التواريخ أنه شرف الدين والصحيح المنقول عن التاريخ المنسوب للفوطي وكتاب الوافي بالوفيات أنه ما قدمنا. فصار وزيرا مكان أبيه الوزير المتوفى.

إربل ـ الاستيلاء عليها (قتلة ابن صلايا):

إن إربل من ألوية العراق وكان يعين لها صدر فلما عزم هلاكو على فتح بغداد كان قد أرسل ارقيو نويان لفتح هذه المدينة (اربل) (١) وهي قلعة حصينة يكاد لا يكون لها نظير في البلاد فزاول ارقيو نويان محاصرتها وفتحها ولكن سكانها الأكراد قاوموه مقاومة الأبطال ...

وفي هذه الأثناء انفرد بإظهار الطاعة تاج الدين أبو المعالي محمد ابن الصلايا العلوي ووصل إلى القائد ارقيو نويان فقال له :

إنما يصح إظهار الطاعة بتسليم القلعة :

فرجع تاج الدين إلى باب القلعة وبذل جهودا لإقناع الأكراد فلم ينل مطلوبه منهم ولم يسمعوا قوله فأخذ يبالغ في الإلحاح والتماس العفو فلم يفده ذلك فاضطر للذهاب إلى ارقيو نويان وهذا أرسله إلى هلاكو خان فلم ينل قبولا منه وأمر بقتله فقتل في سياه كوه ، وكان كريما ، جوادا ، فاضلا متدينا يبالغ في عقوبة من يفسد أو يشرب الخمر. وهذا

__________________

(١) لفظها الصحيح إربل ، والآن شائعة بلفظ اربيل وقد جرى كتاب العجم على هذا.

٢٣٢

هو الصاحب تاج الدين أبو المكارم محمد بن نصر بن يحيى الهاشمي العلوي المدائني نائب الخليفة بإربل كان من رجال الدهر عقلا وورأيا وهيبة ... قتله هلاكو في ربيع الآخر (١) ...

ثم إن القائد ارقيو نويان حاصر قلعة إربل مدة فلم ينقادوا له بل بقوا في الحصار. فاستعان عليهم بالسلطان بدر الدين لؤلؤ ليرسل جيشا إليه فأرسل. وإن سكان أهل القلعة نزلوا ليلا وباغتوا المغول وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأحرقوا منجنيقاتهم ثم رجعوا إلى المدينة مقرهم.

فعجز القائد ارقيو نويان من مقاومتهم الشديدة ودعا إليه بدر الدين لؤلؤ واستشاره فقال له بدر الدين لؤلؤ :

التدبير هو أن تترك مهمة الفتح إلى موسم آخر. لأن الأكراد عاجزون عن الحروب ويملون منها. وفي زمن المعركة يفرون إلى الجبال حيث إن هذا الموسم طيب الهواء. ولهم ذخائر كثيرة ومؤن كافية ، والقلعة في غاية الإحكام ... ولذا يتعذر فتحها إلا بالحيلة.

ثم إن القائد المذكور فوض مهمة فتح القلعة ـ مدينة إربل ـ إلى السلطان بدر الدين لؤلؤ وهذا قد هدم سور القلعة. وبهذه الوسيلة والتدبير استولى على المدينة.

وعلى كل تسلط العدو علينا بتدبير منا وحيل احتلناها لمصلحته ، فالكل عاونوه وساعدوه بأمور لا تخطر على بال ...

وكانت إربل لزين الدين علي المعروف بكوچك من التركمان ملك إربل وبلادا كثيرة في تلك النواحي وفرقها على أولاد أتابك قطب الدين ابن مودود بن زنكي صاحب الموصل ولم يبق له سوى إربل وانقطع بها إلى أن توفي ليلة الأحد ١١ ذي القعدة سنة ٥٦٣ فولي بعده ولده مظفر

__________________

(١) ابن الفوطي والشذرات ج ٥ ص ٢٨٤.

٢٣٣

الدين أبو سعيد كوكبوري (كوكبري) وكان عمره (١٤ سنة) فأقام مدة ثم تغلب عليه أتابكه مجاهد الدين قايماز ، وكتب محضرا أنه ليس أهلا ، وأقام أخاه زين الدين أبا المظفر يوسف وكان أصغر منه ، ثم أخرج مظفر الدين من البلاد ، فتوجه إلى بغداد فلم ينل بها مطلوبه ، ثم سار إلى الموصل فأقطعه مالكها سيف الدين غازي بن مودود مدينة حران فانتقل إليها وأقام بها مدة.

ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين وحظي عنده وتمكن منه وزاده في الإقطاع الرّها سنة ٥٧٨ ه‍ أخذها صلاح الدين من ابن الزعفراني وأعطاها مظفر الدين مع حران. وأخذ الرقة من ابن حسان وأعطاها ابن الزعفراني. ثم اعطاه سميساط وزوجه اخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب. وشهد مظفر الدين مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة وقوة نفس وعزة وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره.

ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا بعد استيلاء الفرنج عليها وردت إليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين وهو يومئذ صاحب إربل فأقام قليلا ، ثم مرض وتوفي في ٢٨ رمضان سنة ٥٨٦ ه‍ بالناصرة فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرّها وسميساط ويعوضه إربل فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهر زور فتوجه إليها ودخل إربل في ذي الحجة سنة ٥٨٦ ه‍ وبقي فيها إلى أن توفي ٨ رمضان عام ٦٣٠ ه‍ وكانت ولادته بالموصل ليلة الثلاثاء ٢٧ من المحرم سنة ٥٤٨ (١).

وكان قد جاء إلى بغداد عام ٦٢٨ ه‍ فاحتفل به احتفالا باهرا ولم يكن قدم بغداد قبل ذلك.

__________________

(١) وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٣٥.

٢٣٤

وفي ١٧ رمضان لسنة ٦٣٠ ه‍ ورد الخبر بوفاة مظفر الدين أبي سعيد كوكبري (ورد في ابن خلكان كوكبوري وضبطه كذلك) فتقدم الخليفة بتعيين جماعة من الأمراء للتوجه إلى إربل وكان بها خادمان أحدهما برنقش والآخر خالص فامتنعا من فتح البلد فحصلت معركة ثم افتتح وجاءت البشائر إلى بغداد فأمر الخليفة بإحضار الأمير شمس الدين باتكين أمير البصرة فورد بغداد في ١٤ ذي القعدة فوجهت إليه ، وسار فوصلها في ١٩ منه (١).

وهكذا توالى الأمراء عليها ، إلى أن جاء هلاكو فاستولى عليها وكان ناظرها ابن الصلايا (٢) فقتله ... وليها بعد الوقيعة من التتار في سنة ٦٣٥ ه‍ وبقي إلى أن قتل سنة ٦٥٦ ه‍ بالوجه المشروح.

أما الأمير شمس الدين باتكين فإنه عاد إلى بغداد وبقي فيها إلى أن توفي سنة ٦٤٠ ه‍.

نقل أموال بغداد وأموال الملاحدة وغيرها :

إن هلاكو أمر بإرسال الخزائن والأموال الوافرة المستحصلة حين فتح بغداد إلى اذربيجان بصحبة الملك ناصر الدين بن علاء الدين صاحب الري. وكذا الأموال التي حصلوا عليها حين استيلائهم على قلاع الملاحدة وبلاد الروم والكرج والأرمن (واللر) والكرد وأمر الملك مجد الدين التبريزي بإنشاء عمارة عالية ومحكمة على الجبل الذي هو في ساحل بحيرة أورمية وسلماس.

وهذا قد بنى عمارة عالية في غاية الإحكام والمتانة وأخذوا من

__________________

(١) «تاريخ الفوطي ـ فيه تفصيل».

(٢) ورد في جامع التواريخ وغيره بلفظ ابن صلابة.

٢٣٥

هناك جميع النقود والأموال ووضعوها في العمارة بعد أن صيروا الذهب والفضة قطعا.

كذا في جامع التواريخ. وجاء في غيره أن هلاكو أمر أن تبنى عمارة عالية داخل جزيرة في بحيرة اورمية (بحر كبودان) ما بين مدينة سلماس وأورمية فتمت كما اراد ووضعت فيها الأموال وقطع الذهب والفضة ، وأن هذه الجزيرة غارت سنة ٦٨١ ه‍ في السنة التي مات فيها ابقا خان (١).

وأرسل هلاكو خان إلى أخيه منگوقاآن من هذه الأموال تحفا وهدايا مع بشائر ظفرهم وفتحهم وأطلعه على كيفية استيلائهم على ممالك ايران ، ثم عاصمة الخلافة ، وأعلمه أنه عازم على الذهاب إلى ديار مصر والشام إذ تم له فتح بغداد.

وكان حامل هذه الرسالة الأمير هولاجو.

أما القاآن فإنه قد فرح بهذا الفتح وسر كثيرا لنبأ هذه البشارة العظمى ...!

وفود إلى هلاكوخان :

بتاريخ ٢٩ رجب سنة ٦٥٦ ه‍ وفد بدر الدين لؤلؤ إلى هلاكو بإشارة من حضرته فوصل إليه في حدود مراغة. وكان تجاوز من العمر ٩٠ عاما. فبالغ هلاكوخان بإكرامه وإعزازه ورجع في ٦ شعبان من السنة المذكورة.

وفي ٧ شعبان من تلك السنة وفد إليه اتابك سعد بن أبي بكر

__________________

(١) عباس إقبال : «تاريخ مفصل إيران». وهذا تأليف نافع ، طبع سنة ١٣١٢ هجرية شمسية في طهران.

٢٣٦

اتابك فارس (١) ليهنىء هلاكوخان بفتح بغداد وصل إلى اعتابه فرأى منه كل لطف وإنعام ، ثم رجع.

وفي ٤ منه وصل إليه السلطان عز الدين ملك الروم في حدود تبريز ثم وصل إليه السلطان ركن الدين يوم الأربعاء ٨ منه.

وكان هلاكوخان متألما من السلطان عز الدين لعدم التفاته إلى أحد قواده بايجونويان ومحاربته له. وبعد استيلاء المغول على بغداد أحس عز الدين بالخطر الحائق به فدبر حيلة ينقذ بها نفسه ويتذرع بها للخلاص فركن إلى المثول بين يدي هلاكوخان واغتنم فرصة الوفادة بصنع نعل جعل صورته مصورة فيه وقدمه إلى هلاكو وقال له :

إن صورتي التي تحت نعلك آمل أن تكون شفيعا لي وتجعلني مفتخرا بلطفك.

فاستذل لهذا الحد فتعسا له ولما صنع ...

وحينئذ رق عليه هلاكوخان وبتوسط دوقوز خاتون عفا عنه.

حكاية عن هلاكو تعين خطته :

لا نرى فائدة في استيعاب أحوال هذا الفاتح وذكر وقائعه مما ليس له تعلق بالعراق وأحواله. فهو بالإجمال فاتح عظيم ، ـ والقصة الآتية تبين سياسته وخطته.

__________________

(١) أصل «آتا» تركية بمعنى الأب وبك بمعنى أمير ، ثم اطلق اتابك بمد وبلا مد على من يقوم بتربية أولاد ملوك السلاجقة من الأتراك ثم أودعت لبعض هؤلاء ادارة بعض الممالك كولاة فاستقلوا بمرور الأيام فصار يطلق عليهم «الاتابكة» وملوك الاتابكة ... ومن هؤلاء اتابكة فارس مثل أتابك سعد المذكور ، واتابكة الموصل وهم اتابكة العراق.

وسيأتي الكلام عليهم ...

٢٣٧

يحكى أن الخواجه نصير الدين الطوسي عرض على هلاكوخان أن السلطان جلال الدين خوارزمشاه الذي كان قد انهزم من استيلاء المغول ولما وصل إلى تبريز أخذ جنده يمدون الأيدي ويتطاولون على الرعايا فطلب منه لزوم تأديبهم وعرض له عن هذه الحالة فقال :

إننا في هذا الوقت نشتغل في الفتح والاستيلاء لا في حراسة الملك وإن حالة الاستيلاء لا يلتفت فيها إلى أحوال الرعايا ... ولما كنا لم نتم الاستيلاء فلا نراعي ذلك. ولكننا بعد أن تنتهي الفتوح نصغي إلى سماع شكاوى الناس وتظلمهم.

وأما ما تفضل به السلطان هلاكو فهو :

«أنه بحمد الله تعالى قد استولى وملك ولا يزال مع الطغاة في حالة الحرب ومع المطيعين في حالة العدل» ، لا كجلال الدين فإنه في حالة ضعف وعجز لم يكن فاتحا (جهانكير) فحسب ، ولا مالكا لزمام الادارة وحدها (جهاندار) ...

وهذه توضح أوضاعهم وحالاتهم السياسية والحربية بصورة جلية.

والحاصل أن هلاكو خان بعد هذا توجه إلى ديار الشام واستولى على حلب ومدن كثيرة من سورية وكل هذا الدور هو زمن حروب واستيلاء كما تقدم ...

اثر سقوط بغداد في النفوس

كانت بغداد إلى حين سقوطها على يد هلاكو تعتبر عاصمة العالم الاسلامي ومركز خلافته لمدة تزيد على خمسمائة سنة ولم تفقد مكانتها العظمى وسيطرتها الدينية والعلمية والصناعية والأدبية وإن حصل اعتلال في السياسة في غالب الأحيان وكان قد حاول خوارزمشاه محمد إلغاء الخلافة ، ورفع الخطبة ... فلم يفلح كما مرّ ذلك فيما سبق.

٢٣٨

مزاياها العلمية لم تعتل بوجه وإن كانت تأسست مواطن علمية كبرى في الأقطار الإسلامية النائية والمستقلة عنها ... فهي في احتكاك معها دائما واتصال بها ولو على طريق الحج والزيارة أو على سبيل الأخذ والتلقي للدراسة من جانب رجال المدارس الأخرى وسائر العلماء ...

هي السوق الأعظم لتجارة العلوم وعرضها والمعهد الأكبر للمعارف والثقافة والحضارة ، كانت غنية برجالها لا يضارعها قطر ما ، ومركز اساسي للحضارة بأنواعها والبواقي فروع قد تفرعت منه ولم تستغن عنه ... وغالب من رحل عنها من علمائها نال المكانة السامية في القطر الذي حل فيه ...

هذه المكانة من دينية وعلمية وسياسية وأدبية وصناعية إنما يستدعي فقدانها وضياعها الحزن العظيم والألم الكبير. فإنها صارت مدينة عادية يعين لها وال أو وزير وتابعة لغيرها بعد أن كانت رأس المدن وأم البلاد وعادت لا قيمة لها سياسية ولا منزلة علمية ...

ناهيك مما اصابها في النفوس والأموال ، و(حادثة الضياع الكبرى) هي في الحقيقة ضياع الاستقلال والإدارة والمركز الديني ، فالأهلون وإن كانوا في تذمر من إدارة العباسيين بسبب ما كانوا يرون من أنواع الجفاء والظلم على يد المسيطرين من الاتراك فإن رأسها (خليفتها) منهم ، وصبغتها صبغتهم وطابعها طابعهم ، وإدارتها ـ وإن كانت قاسية ومؤلمة ـ تعد منهم. فلا يودون الأجنبي ولو ملك خير الصفات ولا يرغبون في سيطرة الأغيار وإن جاؤوا من السماء ...

هذا ما دعا الشعراء أن قالوا قصائد كثيرة أبدوا فيها احساسهم ، وما نالهم من آلام في هذه الوقعة التي لم تضارعها وقعة اصابت البلاد إلا حادثة (ضياع بغداد) على يد الانجليز ...

٢٣٩

وعلى كل حال إن النفوس لا تريد أن تحكم إلا بما شاءت وطبق رغبتها ، ولا تود أن يسيطر عليها إلا من تهواه وتميل إليه من رجالها المخلصين وأبنائها البررة ...

والأمم اليوم لم يأت لها الوقت أن تدقق فيه المبادىء فتختار أحسنها ، وأن تراعي الإدارات فتنتقي خيرها ... فلا تزال تنظر إلى الطوابع الخاصة والعلائم الفارقة فلا لوم عليها أن تحزن وأن يذكر شعراؤها المصاب ...

فاض على لسان شعرائها ما كان يشعر به الكل. فهلاكو لم يغير في الإدارة ولا في رجال الحكومة إلا قليلا ولكنه بدل السلطة وغير الرأس (رأس الحكومة) وإن كان أبقى الشرائع على مجراها وترك الشؤون تجري بمقتضى حالتها ... بعد أن انتهب خزائنها وأموالها وقتل في نفوسها ...

ولا محل لإيراد جميع ما قيل من شعر عن هذه الحادثة وما ولدته من ضجة في العالم الإسلامي وإنما أكتفي بما قيل إثر المصاب قال شمس الدين محمد بن عبد الله الكوفي الواعظ :

بانوا ولي أدمع في الخد تشتبك

ولوعة في مجال الصدر تعترك

بالرغم لا بالرضى مني فراقهم

ساروا ولم أدر أي الأرض قد سلكوا

يا صاحبي ما احتيالي بعد بعدهم

أشر عليّ فإن الرأي مشترك

عزّ اللقاء وضاقت دونه حيلي

فالقلب في أمره حيران مرتبك

يعوقني عن مرادي ما بليت به

كما يعوق جناحي طائر شرك

٢٤٠