مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

فالمهمّ في المقام إنّما هو معرفة سعة هذا الدرهم الموصوف بالوافي الذي شهدت القرائن وصرّح غير واحد بأنّه هو المسمّى بالبغليّ ، وإلّا فمجرّد العلم بوزنه ومغايرته للدرهم المتعارف غير مجد.

وقد اختلفت الكلمات في تحديده.

فعن بعض تحديده بأخمص الراحة (١) ، وهو ما انخفض من باطن الكفّ.

وربما نسب ذلك إلى أكثر عبائر الأصحاب (٢).

ولا يبعد أن يكون مستندهم في ذلك شهادة ابن إدريس في عبارته المتقدّمة (٣) بأنّه شاهده قريبا من أخمص الراحة ، فتحديدهم بالأخمص تقريبيّ ، كما هو واضح.

وقد سمعت آنفا (٤) من ابن أبي عقيل تحديد مقدار الدم المعفوّ عنه بالدينار.

ويشهد له خبر عليّ بن جعفر ، المتقدّم (٥).

والدينار على ما قيل هو : الذهب اللعيبي (٦) الذي ربما يوجد في زماننا ، وهو ـ على ما نقل ـ بقدر الدنانير المتعارفة في هذه الأعصار التي وزن كلّ منها مثقال شرعيّ.

__________________

(١) حكاه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٢٩ عن السرائر ١ : ١٧٧.

(٢) راجع : مفتاح الكرامة ١ : ١٦٠.

(٣) في ص ٧٩.

(٤) في ص ٦٩.

(٥) في ص ٧٤.

(٦) كذا ، والظاهر : «الصنمي» بدل «اللعيبي» كما في مجمع البحرين ٥ : ٣٣١ «ثقل».

٨١

والظاهر أنّ من حدّد الدرهم بالأخمص لم يرد إلّا ما يقرب من ذلك.

وحكي عن الإسكافي تقدير الدرهم بعقد الإبهام الأعلى (١) من غير تعرّض لكونه البغليّ أو غيره.

وعن بعض آخر تقديره بعقد الوسطى (٢).

وعن روض الجنان بعد نقل هذه التقديرات الثلاثة قال : إنّه لا تناقض بين التقديرات ، لجواز اختلاف أفراد الدراهم من الضارب الواحد ، كما هو الواقع ، وإخبار كلّ واحد عن فرد رآه (٣) انتهى.

وعن المصنّف في المعتبر ـ بعد ذكر التحديدات المتقدّمة وتقدير العماني له بالدينار ـ قال : والكلّ متقارب ، والتفسير الأوّل أشهر (٤). انتهى.

وربما يناقش في الاعتماد على هذه التحديدات : بأنّه لم يتحقّق أنّ مرادهم تحديد الدرهم البغليّ حتّى يكون رفع المناقضة ـ التي تتراءى من عبائرهم ـ بحملها على التحديد التقريبي ، أو كون إخبار كلّ عن فرد رآه مجديا ولو بالنسبة إلى القدر المشترك.

أمّا تحديد العماني بالدينار : فلعلّ نفس مقدار الدينار لديه موضوع الحكم.

وليس في كلام الإسكافي وغيره دلالة على إرادة الدرهم البغليّ.

نعم ، وقع تقييد الدرهم بالبغليّ في عبارة الحلّي ، ولكنّه أيضا لم يصرّح بأنّ

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٣٠.

(٢) كما في روض الجنان : ١٦٦ ، وكشف اللثام ١ : ٤٣٠.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٣١ ، وانظر : روض الجنان : ١٦٦.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٣٠ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٣٠.

٨٢

ما رآه من الدرهم وقدّره بالأخمص كان هو الدرهم البغليّ ، وإنّما حكاه عن رجل له علم بالأخبار والأنساب ، وضعّفه ، ومن الواضح أنّ طريق ذلك الرجل أيضا لإحراز مثل هذه الموضوعات ليس إلّا الحدس ، فكيف يعتمد على قوله!؟

واعترض بعض (١) على من حدّد الدرهم بالأخمص ، اعتمادا على إخبار الحلّي بذلك : بأنّه إنّما يقبل قوله في مثل المقام من باب الشهادة التي يعتبر فيها العدد ، فلا وجه للاعتماد على قوله منفردا.

وقد أجيب عن ذلك : بأنّ قوله يفيد الوثوق بل القطع ، إذ لا يحتمل في حقّه التعمّد في الكذب أو الخطأ في الحسّ.

وفيه ما عرفت من أنّ قول الحلّي وإن كان موجبا للقطع بمشاهدته درهما كما وصف ، لكن من أين يحصل القطع بأنّ ذلك الدرهم كان من أفراد الدرهم البغليّ؟ هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّه يحصل من مجموع هذه التحديدات الوثوق بأنّ الدرهم البغليّ كانت سعته قريبة من هذه التحديدات.

وأمّا احتمال أن يكون مراد الإسكافي وغيره ـ ممّن حدّد مقدار الدرهم ـ درهما غير الدرهم الوافي الذي هو بحسب الظاهر متّحد مع البغليّ فممّا يبعّده ما عرفت من أنّ الظاهر ـ كما صرّح به غير واحد ـ عدم الخلاف في أنّ هذا هو المراد بالدرهم الوارد في النصوص والفتاوى.

وكيف كان فإن حصل الوثوق من هذه الكلمات وغيرها بمقدار معيّن فهو ،

__________________

(١) لم نتحقّقه.

٨٣

وإلّا فالمتعيّن هو الاقتصار على القدر المتيقّن ، والاجتناب عمّا زاد عليه في الصلاة ، لوجوب الاقتصار في رفع اليد عن ظاهر ما دلّ على الاجتناب عن الدم أو مطلق النجاسات على المتيقّن.

وما يقال من أنّ تخصيص العمومات بأقلّ من مقدار الدرهم معلوم ، فالشكّ إنّما يتعلّق بكون الفرد الخارجي من أفراد المخصّص أو العامّ ، ولا يجوز في مثله التمسّك بالعموم ، بل يرجع إلى الأصول العمليّة ، مدفوع : بأنّ هذا فيما إذا لم يكن الشكّ ناشئا من إجمال المخصّص وتردّده بين الأقلّ والأكثر ، كما فيما نحن فيه ، فإنّ مرجع الشكّ في هذه الصورة بالنسبة إلى ما زاد عن المتيقّن إلى الشكّ في أصل التخصيص ، لا في مصداق المخصّص ، فالمرجع فيه أصالة العموم ، لا الأصول العمليّة ، كما تقرّر في محلّه.

ولا فرق في العفو عمّا دون الدرهم بين أن يكون دم نفسه أو غيره ، لإطلاق النصوص وفتاوى الأصحاب ، بل صريح فتاويهم.

خلافا لصاحب الحدائق ، فألحق دم الغير بدم الحيض الذي ستعرف عدم العفو عن قليله ، ونقله عن المحدّث الأسترآبادي ، استنادا إلى مرفوعة البرقي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «دمك أنظف من دم غيرك ، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك فلا بأس ، وإن كان دم غيرك ، قليلا كان أو كثيرا فاغسله» (١).

وعن الفقه الرضوي : «وأروي أنّ دمك ليس مثل دم غيرك» (٢) (٣).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٩ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) أورده عنه في البحار ٨٠ : ٨٧ / ٦ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٣٠٣.

(٣) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٨.

٨٤

وفيه عدم صلاحيّة الروايتين ـ مع ضعفهما وإعراض الأصحاب عنهما ـ لتقييد الأخبار المطلقة ، خصوصا لو أريد بدم الغير ما يعمّ دم المأكول ، فإنّه يستبعد إخراجه من الأخبار المطلقة ، فالأولى حمل الروايتين على الاستحباب.

ثمّ إنّ هذا الحكم ـ أي العفو عمّا دون الدرهم ـ إنّما هو في غير دم الحيض والاستحاضة والنفاس.

أمّا دم الحيض فالظاهر عدم الخلاف في عدم العفو عنه ، بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له ـ مضافا إلى ذلك ـ رواية أبي سعيد عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام ، قالا : «لا تعاد الصلاة من دم لم تبصره إلّا دم الحيض فإنّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه وإن لم يره سواء» (١).

وضعفها مجبور بالعمل.

وعن الفقيه الرضوي «وإن كان الدم حمّصة فلا بأس بأن لا تغسله إلّا أن يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمنيّ قلّ أم كثر ، وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم» (٢).

واستدلّ له أيضا : بإطلاق بعض الأخبار الخاصّة الدالّة على وجوب غسل دم الحيض.

مثل : قول الصادق عليه‌السلام ـ في خبر سورة بن كليب ـ في الحائض : «تغسل ما

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٥٧ / ٧٤٥ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب النجاسات ، ج ١.

(٢) أورده عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٥.

٨٥

أصاب ثوبها (١) من الدم» (٢) بدعوى أنّ النسبة بينها وبين ما دلّ على العفو عمّا دون الدرهم العموم من وجه ، ففي مورد الاجتماع يتعارضان ، فيترجّح ما دلّ على وجوب الإزالة بفتوى الأصحاب.

وفيه : أنّ الأخبار الواردة في دم الحيض ليست إلّا كغيرها من الأخبار الخاصّة الواردة في بعض أنواع الدم ، كدم الرعاف ونحوه ، والأخبار الدالّة على العفو عمّا دون الدرهم حاكمة على مثل هذه الأخبار لا يلاحظ بينها النسبة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ونظير ذلك في الضعف الاستدلال بعموم ما دلّ على الاجتناب عن الدم أو مطلق النجس بعد دعوى قصور الأخبار الدالّة على العفو عن شمول دم الحيض وأخويه ، نظرا إلى أنّ المفروض في موضوع تلك الأخبار هو الرجل الذي رأى بثوبه الدم ، وفرض إصابة الدماء الثلاثة إلى ثوب الرجل من الفروض النادرة التي ينصرف عنها إطلاقات الأدلّة.

وقاعدة مشاركة النساء مع الرجال في الأحكام الشرعيّة غير مجدية في المقام ، فإنّها لا تقتضي إلّا تعميم الحكم ـ المستفاد من الدليل المتوجّه إلى الرجال ـ بالنسبة إلى النساء ، لا فرض كون النساء مخاطبة بهذا الكلام حتّى يكون فرضه كذلك مانعا من الانصراف عن مثل دم الحيض.

وقد يقال في توجيه دعوى الانصراف : إنّ نجاسة دم الحيض ـ على ما هو

__________________

(١) في المصادر : «ثيابها».

(٢) الكافي ٣ : ١٠٩ (باب غسل ثياب الحائض) ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٧٠ / ٧٩٦ ، الإستبصار ١ : ١٨٦ / ٦٥٢ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٨٦

المغروس في الأذهان ـ أغلظ من سائر الدماء ، فينصرف عنه إطلاق أدلّة العفو عن الدم.

وتوضيح الضعف : أمّا دعوى الانصراف من حيث ندرة الفرض : فيتوجّه عليها ـ بعد الغضّ عن أنّ ذكر الرجل في أسئلة السائلين وأجوبتهم في مثل هذه الأخبار المسوقة لبيان الأحكام الشرعيّة الكلّيّة إنّما هو من باب المثال جريا مجرى العادة في مقام التعبير ، والمقصود به مطلق المكلّف ـ أنّ فرض إصابة دم الحيض ونحوه إلى ثوب الرجل ليس بأبعد من فرض إصابة مثل دم جملة من الوحوش والطيور ودم العلقة ونحو ذلك ، مع أنّه لم يتوهّم أحد انصراف الأخبار عن مثل هذه الدماء ، فلو فرض انصراف الأخبار عن دم الحيض ، فليس منشؤه ندرة الابتلاء بلا شبهة ، بل لخصوصيّة أخرى وإن لم نعلم بها تفصيلا.

وأمّا ما قيل من أغلظيّة نجاسة دم الحيض : ففيه ـ بعد تسليم أنّ الأغلظيّة توجب الانصراف ـ أنّه لو لا عدم العفو عنه في الصلاة من أين علم أغلظيّته من سائر الدماء من حيث النجاسة؟ وكون حدوثه موجبا للغسل لا يقضي بأغلظيّته من حيث النجاسة.

ولعمري إنّ مثل هذه الدعاوي إنّما تنشأ بعد مسلّميّة المدّعى وإرادة توجيهه ، وإلّا فلو فرض كون العفو عن دم الحيض أيضا معروفا لدى الأصحاب لم يكن يصغى أحد إلى مثل هذه الدعاوي.

فظهر لك أنّ عمدة مستند الحكم هو الإجماع ورواية أبي بصير ،

٨٧

المتقدّمة (١) المعتضدة بالفقه الرضوي وفتاوى الأصحاب.

وأمّا دم الاستحاضة والنفاس : فقد حكي عن جماعة (٢) دعوى الإجماع على عدم العفو عنهما أيضا.

لكن ربما يستشعر من نسبة المصنّف ـ في محكيّ المعتبر والنافع ـ إلحاقهما بدم الحيض إلى الشيخ (٣) : عدم كون المسألة من المسلّمات.

ووجّهه في المعتبر ـ على ما حكي عنه ـ بعد أن نقله عن الشيخ بقوله : ولعلّه نظر إلى تغليظ نجاسته ، لأنّه يوجب الغسل ، واختصاصه بهذه المزيّة يدلّ على قوّة نجاسته على باقي الدماء ، فغلظ حكمه في الإزالة (٤). انتهى.

ولا يخفى ما في هذا الدليل من أنّه مجرّد اعتبار لا يصلح دليلا لإثبات حكم شرعيّ.

اللهمّ إلّا أن يكون المقصود أنّ اختصاصه بهذه المزيّة أوجب انصراف أخبار العفو عنه.

ولكنّك عرفت آنفا أنه لا يخلو عن نظر بل منع ، ولذا قوّى في الحدائق (٥) دخولهما في عموم أخبار العفو.

__________________

(١) في ص ٨٥.

(٢) منهم الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧ ، المسألة ٢٢٠ ، وابن زهرة في الغنية : ٤١ ، كما حكاه عنهما صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٠.

(٣) حكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٦١ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٢٩ ، والمختصر النافع : ١٨.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٢٩.

(٥) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٨.

٨٨

وما قيل في تضعيفه من أنّ ما ذكر لو لم يكن منشأ لانصراف أخبار العفو فلا أقلّ من كونه موجبا للشكّ في الشمول ، فيبقى ما دلّ على الإزالة لا معارض له ، ففيه : أنّ الشكّ في الشمول لا يمنع من التمسّك بأصالة الإطلاق ، بل يحقّق موضوعها ، فلا يعارضها عموم ما دلّ على الإزالة ، لأنّ أصالة الإطلاق في المخصّص حاكمة على أصالة العموم في العامّ ، كما هو واضح.

والذي يقتضيه التحقيق عدم العفو عن دم النفاس ، لما عرفت في محلّه من كونه كدم الحيض حكما بل موضوعا. وأمّا دم الاستحاضة فإن لم يتحقّق فيه إجماع فلا يخلو إلحاقه بهما عن تردّد ، والله العالم.

وحكي عن بعض القدماء وغير واحد من المتأخّرين إلحاق دم الكلب والخنزير بل مطلق نجس العين أعمّ منهما ومن الكافر ـ كما هو صريح عبارة المتأخّرين ـ بدم الحيض.

قال المصنّف في محكيّ المعتبر ـ بعد عبارته المتقدّمة (١) في توجيه ما نسبه إلى الشيخ ـ : وألحق بعض فقهاء قم دم الكلب والخنزير ، ولم يعطنا العلّة ، ولعلّه نظر إلى ملاقاته جسدهما ، ونجاسة جسد هما غير معفوّ عنها (٢). انتهى.

واشتهر حكاية هذا القول عن القطب الراوندي.

قال الحلّي في السرائر : وقد ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين من الأعاجم ـ وهو الراوندي المكنّى بالقطب ـ أنّ دم الكلب والخنزير لا تجوز الصلاة في قليله وكثيره مثل دم الحيض ، قال : لأنّه دم نجس العين. وهذا خطأ عظيم وزلل فاحش ،

__________________

(١) في ص ٨٨.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٢٩.

٨٩

لأنّ هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا (١). انتهى.

وعمدة مستند القول بالإلحاق ما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في عبارته المتقدمة (٢) من اكتسابه بالملاقاة نجاسة عرضيّة غير معفوّ عنها.

وفيه : أنّ اكتساب دم الكلب أو أحد أخويه نجاسة عرضيّة بملاقاة أجزائه مع مشاركته لها في الجهة المقتضية لنجاستها ـ وهي كونه جزءا من الكلب ونحوه ـ غير معقول ، لأنّ الأجزاء نجاستها من هذه الجهة متماثلة ، فلا يعقل أن ينفعل أحد المتماثلين بملاقاة الآخر.

نعم ، لو كان للجزء الذي لاقاه جهة أخرى مخصوصة به مقتضية لنجاسة أيضا من تلك الجهة ، كما لو لاقى بوله أو منيّه وكانت الجهة المخصوصة بالبول أو المنيّ مؤثّرة في اشتداد نجاسته أو تضاعفها ، أمكن انفعال الدم ، واكتسابه الصفة المخصوصة به بملاقاته له ، وهذا بخلاف ما لو لاقى لحمه الذي ليس له جهة مقتضية لنجاسة إلّا وكان الدم واجدا لها بالذات.

وثبوت العفو عن الدم في الجملة بدليل تعبّديّ لا يصحّح قبوله للانفعال بملاقاة ما هو مثله في النجاسة ، فملاقاة دم الكلب لسائر أجزائه التي ليس لها جهة مقتضية لنجاستها عدا جزئيّتها للكلب ليست إلّا كملاقاة الدم القليل الذي أصاب الثوب للدم الكثير الذي انفصل عنه.

وهكذا الكلام في دم الميتة ، فإنّ الحمار الميّت ـ مثلا ـ إن كان دمه قابلا لأن يعرضه نجاسة أخرى غير نجاسته الذاتية انفعل بنفس الموت الذي هو سبب

__________________

(١) السرائر ١ : ١٧٧.

(٢) في ص ٨٩.

٩٠

لانفعال أجزاء الميّت التي منها دمه ، وإلّا فلا يعقل أن يكتسب النجاسة من سائر الأجزاء ، إذ لا مزيّة لها عليه حتّى تكون واسطة في العروض.

والحاصل : أنّ اكتساب دم نجس العين نجاسة عرضيّة ممّا لاقاه مع مشاركتهما في الجهة الموجبة للنجاسة غير معقول.

إن قلت : سلمنا أنّ دم نجس العين لا يكتسب نجاسة عرضيّة بملاقاة سائر جسده ، لكن تصادق عليه عنوانان من النجاسة أحدهما : كونه جزءا من نجس العين كسائر أجزائه ، والآخر : كونه دما ، وأخبار العفو إنّما دلّت على العفو عنه من حيث كونه دما ، لا من حيث كونه جزءا من كلب أو كافر ، فوجوب إزالته من هذه الجهة لا ينافي ثبوت العفو عنه من حيث كونه دما ، كما أنّه لا منافاة بين ثبوت العفو عن دم من حيث كونه دما ووجوب إزالته من حيث ملاقاته للبول.

وكون العنوانين متلازمين في الوجود بالنسبة إلى الفرد الذي تصادقا عليه لا يصلح مانعا من كون حيثيّة كونه دما مرعيّة في موضوع الحكم المستلزم لعدم العفو عنه من الحيثيّة الأخرى ، إلّا أن يتعلّق نصّ خاصّ بهذا الفرد بأن يرد مثلا : إنّ دم الكلب لا بأس بالصلاة فيه ، فلا يمكن في مثل الفرض تنزيل مثل هذا النصّ على إرادة بيان الحكم من حيث كونه دما ، لاستلزامه لغويّة الحكم ، وهذا بخلاف الأخبار العامّة المتعلّقة بطبيعة الدم ، التي تحقّقت غالبا في ضمن غير هذا الفرد ، كما هو واضح.

قلت : لا يخفى على المتأمّل في أخبار العفو أنّها ليست مسوقة لبيان قضيّة طبيعيّة ، نظير قولنا : الغنم حلال ، والخنزير حرام ، حتّى يكون موضوعها صرف

٩١

الطبيعة من حيث هي مع قطع النظر عن عوارضها المشخّصة بحيث لا ينافيها خروج بعض الأفراد بواسطة تلك العوارض ، بل هي مسوقة لبيان الحكم الفعلي الثابت لمصاديق الدم وجزئيّاته المتحقّقة في الخارج.

وكيف لا! مع أنّ رواية (١) أبي بصير ، التي استثني فيها دم الحيض ظاهرها إرادة العموم ، وكذا أغلب الأخبار المتقدّمة الدالّة على العفو صدرت جوابا عن السؤال عن حكم من رأى بثوبه دما ، فكيف يجوز في مثل الفرض تنزيل إطلاق الجواب من غير استفصال على إرادة بيان حكم الطبيعة من حيث هي دون أفرادها!؟ مع أنّ السائل إنّما سأل عن حكم الدم الخارجي الذي أصاب الثوب لا عن الحكم المتعلّق بطبيعة الدم من حيث هي.

والحاصل : أنّه لا مجال للارتياب في أنّ الأخبار مسوقة لبيان حكم أفراد الدم وجزئيّاته المتحقّقة في الخارج ، وكونه دم كلب أو كافر ككونه دم رجل أو امرأة أو فرس أو غير ذلك إنّما هو من مشخصات الفرد غير خارج من حقيقته ، فأخبار الباب بظاهرها تعمّ دم الكلب والكافر أيضا ، كغيرهما من أنواع الدم ، فلو دلّ دليل على عدم العفو عن دم الكافر مثلا ، لكان ذلك الدليل مخصّصا لهذه الأخبار ، لا أنّه غير مناف لها من أصله ، كما توهم.

فتلخّص : أنّ الأخبار بظاهرها تعمّ دم نجس العين ، وحينئذ نقول : لا مقتضي لصرفها عن هذا الظاهر ، إذ لا دليل على عدم جواز الصلاة في دم الكافر وشبهه ، بل ولا في سائر أجزائه ، عدا العمومات الدالّة على إزالة الدم وغيره من النجاسات

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٨٥ ، الهامش (١).

٩٢

المخصّصة بأخبار العفو ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فالأظهر عدم الفرق بين دم نجس العين وغيره.

نعم ، ربما يشكل الأمر في دم الكلب والخنزير لا من حيث نجاسته ، بل من حيث كونه من فضلات ما لا يحل أكله ، وسيأتي الكلام فيه من هذه الجهة.

واستدلّ في الحدائق لإلحاق دم نجس العين بدم الحيض : بعمومات الإزالة ، بعد منع شمول أخبار العفو له ، بدعوى ندرة ابتلاء المصلّي بدم نجس العين ، فينصرف عنه إطلاقات الأخبار حيث إنّ المتبادر منها إرادة الأفراد الشائعة ، وهي دم المسلم وغيره من الحيوانات التي يتعارف ذبحها (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ مقتضاه عدم العفو عن دم أغلب الحيوانات التي يحلّ أكلها ، فضلا عن غيره ، بل عدم العفو عن دم ما يتعارف ذبحه أيضا إلّا عن خصوص القسم الذي يتعارف وصوله إلى الثوب كدم ذبحه ، لا مطلق دمه ، وهو كما ترى.

وكيف كان فقد ظهر لك في الفرع السابق بطلان دعوى الانصراف في مثل هذه الموارد بواسطة الندرة ، وأنّ الشكّ في حكم الدم في هذه الموارد ليس إلّا لخصوصيّات أخر لو لا تلك الخصوصيّات لم يكن يرتاب أحد في استفادة حكمه من هذه الأدلّة ، كما أنّه لو لم يكن الحكم ـ الذي تضمّنته هذه الروايات ـ العفو الغير المناسب لدم نجس العين ، بل كان حكما آخر ـ كوجوب إعادة الصلاة ولو مع الجهل به ، أو وجوب غسل الثوب ـ الذي رأى فيه الدم ـ خمس مرّات ، مثلا ـ لم يكن يتوهّم أحد انصرافها عن دم الكافر وشبهه ، فمنشؤ توهّم الانصراف ليس

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٨.

٩٣

إلّا سائر الخصوصيّات التي لا ينبغي الالتفات إليها ما لم تتحقّق صارفيّتها للإطلاق ، لا ندرة الابتلاء ، وإلّا فربّ دم يكون فرض الابتلاء به أبعد من دم نجس العين بمراتب ، ومع ذلك لا يرتاب أحد في استفادة حكمه من هذه الروايات ، كدم الضأن والمعز الجبليّين وغيرهما من الحيوانات الوحشيّة والطيور التي يحلّ أكلها ، مع أنّه ربما يكون فرض الابتلاء به مجرّد الفرض ، فضلا عن ندرته ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر النصوص والفتاوى بل صريح كلمات الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة : عدم الفرق في دم ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل.

وربما يشكل ذلك بمعارضة أخبار العفو بالنسبة إلى دم غير المأكول لموثّقة ابن بكير ، الواردة في باب الصلاة.

قال : سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتابا زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شي‌ء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله» (١) الحديث.

والمراد بعموم «كلّ شي‌ء» بحسب الظاهر بقرينة ما قبله هو الأجزاء والفضلات التي لها نحو استقلال وعنوان في العرف ، كاللحم والعظم والشحم والدم ونحوها ، فمثل هذه الأشياء بعناوينها الإجماليّة أفراد للعامّ ، فاستفادة عدم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ / ٨١٨ ، الإستبصار ١ : ٣٨٣ / ١٤٥٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٩٤

جواز الصلاة في اللحم القليل أو الدم القليل ـ مثلا ـ من هذه الرواية إنّما هي بالإطلاق لا بالعموم ، كما أنّ دلالتها على عدم جواز الصلاة في البول القليل أيضا ليست إلّا بالإطلاق ، لكنّها كادت تكون صريحة في الإطلاق ، فيشكل التصرّف فيها بالأخبار المتقدّمة خصوصا مع ما هو المغروس في النفس من استبعاد العفو عن قليل من الدم مع نجاسته وعدم العفو عن قليل من سائر فضلاته الطاهرة.

ولذا قد يقوى في النظر عدم العفو عن دم غير المأكول مطلقا ، كما هو خيرة كاشف الغطاء على ما حكي (١) عنه.

ولكن مع ذلك الأقوى خلافه ، لا لمجرّد دعوى اعتضاد عموم أخبار العفو بالنسبة إلى مورد المعارضة بفهم الأصحاب وعملهم ونقل إجماعهم المعتضد بالشهرة ، وعدم نقل خلاف يعتدّ به ، بل لضعف ظهور الموثّقة في إرادة الدم من عموم «كلّ شي‌ء» بل عدم ظهوره فيه ، فإنّ سياق الرواية يشهد بأنّ المراد بعموم «كلّ شي‌ء» هو الأشياء التي يكون المنع من الصلاة فيها ناشئا من حرمة الأكل بحيث لو كان حلال الأكل لكانت الصلاة فيها جائزة ، فمثل الدم والمني خارج ممّا أريد بهذا العامّ.

كما يؤيّد ذلك بل يشهد له : قوله عليه‌السلام بعد ذكر هذه الرواية ونقلها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأمر بحفظها : «يا زرارة فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكيّ وقد ذكّاه الذبح ، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرّم عليك أكله فالصلاة

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢١ ، وانظر : كشف الغطاء : ١٧٥ و ٢٠٠.

٩٥

في كلّ شي‌ء منه فاسدة ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» (١) إذ الظاهر ـ على ما يشهد به سوق الرواية ـ أنّ المراد بـ «كلّ شي‌ء» في الفقرة الأولى والثالثة ليس إلّا الأشياء التي أريد منه في الفقرة الثانية ، بل قوله عليه‌السلام : «فإن كان» إلى آخره ، بحسب الظاهر تفريع على كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيان لما يفهم من الوصف الواقع فيه ، فيجب أن يتّحد موضوعهما ، والله العالم.

تنبيه : لا فرق في الدم الذي هو أقلّ من الدرهم ـ ممّا عرفت العفو عنه في الثوب والبدن ـ بين أن يكون مجتمعا أو متفرقا ، بلا خلاف فيه على الظاهر ولا إشكال ، لدلالة الأخبار المتقدّمة عليه ، بل صراحة بعضها فيه.

وأمّا ما زاد عن ذلك فإن كان مجتمعا ، فقد عرفت أنّه تجب إزالته بلا خلاف فيه في الجملة نصّا وفتوى.

(و) أمّا (إن كان متفرّقا) فقد اختلفوا فيه على أقوال.

(قيل : هو عفو) فيلاحظ كلّ جزء جزء في حدّ ذاته موضوعا مستقلّا للحكم. وقد حكي (٢) هذا القول عن كثير من القدماء والمتأخّرين ، بل عن الذكرى نسبته إلى المشهور (٣).

(وقيل : تجب إزالته) كالمجتمع. وحكي (٤) هذا القول أيضا عن جملة

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٩٤.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٥ ، وانظر : المبسوط ١ : ٣٦ ، والسرائر ١ : ١٧٨ ، والمختصر النافع : ١٨ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٣١٨ ، والحدائق الناضرة ٥ : ٣١٥ ـ ٣١٦ ، وذخيرة المعاد : ١٥٩.

(٣) حكاها عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٦ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٣٧.

(٤) الحاكي هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٦٦ ، وكذا صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٦ ، وانظر :المراسم : ٥٥ ، والوسيلة : ٧٧ ، وتحرير الأحكام ١ : ٢٤ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٧٤ ، الفرع الثالث من المسألة ٢٣ ، وقواعد الأحكام ١ : ٨ ، ومختلف الشيعة ١ : ٣٢١ ، المسألة ٢٣٦ ، ومنتهى المطلب ٣ : ٢٥٣ ، الفرع الأوّل ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٨٧ ، والبيان : ٤١ ، والذكرى ١ : ١٣٧ ، والتنقيح الرائع ١ : ١٤٩ ، وجامع المقاصد ١ : ١٧٢ ، وروض الجنان : ١٦٦ ، والروضة البهيّة ١ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، وكشف الالتباس ١ : ٤٥٦ ، وكشف الغطاء : ١٧٥.

٩٦

من القدماء والمتأخّرين ، بل عن بعض نسبته إلى الشهرة (١) ، وعن آخرين إلى أكثر المتأخّرين (٢).

(وقيل : لا تجب) إزالته (إلّا أن يتفاحش) كما عن نهاية الشيخ ومعتبر المصنّف (٣).

واستدلّ للقول الأوّل : بمرسلة جميل عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام أنّهما قالا : «لا بأس بأن يصلّي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرّقا شبه النضح ، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم» (٤).

وصحيحة عبد الله بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : «ليس به بأس» قال : قلت : إنّه يكثر ويتفاحش ، قال : «وإن كثر» قلت : فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي

__________________

(١) حكاها عن الصيمري في كشف الالتباس ١ : ٤٥٦ العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٦٦ وكذا صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٦.

(٢) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، وكذا صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٦ عن روض الجنان : ١٦٦ ، وذخيرة المعاد : ١٥٩.

(٣) حكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣١٨ ، وانظر : النهاية : ٥٢ ، والمعتبر ١ : ٤٣٠ ـ ٤٣١.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٧٣ ، الهامش (١).

٩٧

ثمّ يذكر بعد ما صلّى ، أيعيد صلاته؟ قال : «يغسله ولا يعيد صلاته إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة» (١).

وعن العلّامة في المختلف الجواب عن الاستدلال بالصحيحة : بأنّ «مجتمعا» كما يحتمل أن يكون خبرا لـ «يكون» يحتمل أن يكون حالا مقدّرة ، واسمها ضمير يعود إلى «نقط الدم» و «مقدار» خبرها ، والمعنى : إلّا أن يكون نقط الدم مقدار الدرهم إذا قدّر اجتماعها (٢). انتهى.

وأورد عليه بوجوه ، أوجهها : أنّه على تقدير كونه حالا أيضا ظاهرها إرادة الاجتماع الفعلي لا الفرضي.

توضيح المقام : أنّه يحتمل أن يكون «مقدار الدرهم» بالرفع اسما لـ «يكون» و «مجتمعا» خبره ، ومقتضاه كون العفو عن مقدار الدرهم في الجملة معروفا لديهم.

ويحتمل أن يكون بالنصب خبرا لـ «يكون» و «مجتمعا» خبرا بعد خبر ، نظير قولنا : هذا حلو حامض. فعلى هذين التقديرين دلالته على المدّعى واضح.

ويحتمل أن يكون حالا إمّا من «مقدار الدرهم» فمعناه : إلّا أن يكون الدم المتحقّق في ضمن النقط المفروضة في الثوب مقدار الدرهم حال كون هذا المقدار مجتمعا بأن يكون بعض النقط أو جميعها بسعة الدرهم فما زاد. فعلى هذا التقدير أيضا شاهد على المدّعى ، وإمّا من ضمير «يكون» الراجع إلى الدم.

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٧٢ ، الهامش (٣).

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣١٩ ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ٣٢٢ ، ذيل المسألة ٢٣٦.

٩٨

وحينئذ فإن أريد بالمرجع الطبيعة بلحاظ تحقّقها في ضمن جميع أفرادها المفروضة في الثوب ، وجب التصرّف في ظاهر «مجتمعا» بحمله على إرادة فرض الاجتماع ، وإلّا لتحقّق التنافي بينه وبين ما فرضه السائل من كونه نقطا ، إلّا أن يجعل الاستثناء منقطعا ، وهو خلاف الظاهر.

وإن أريد به الطبيعة بلحاظ تحقّقها في ضمن كلّ فرد فرد ، كان أيضا شاهدا على المطلوب ، لكنّ الأنسب على تقدير إرادة هذا المعنى جعله خبرا بعد خبر ، إذ ليس لأفراده المفروضة أحوال مختلفة حتّى يراد إثبات الحكم لها في بعض أحوالها ، كما لا يخفى على المتأمّل.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : كون «مجتمعا» خبرا بعد خبر أو حالا من الخبر أقرب المحتملات ، وأنسب بحفظ ظاهره.

لكنّ الإنصاف عدم الوثوق بهذا الاستظهار بحيث يرفع اليد به عن العمومات الدالّة على وجوب الإزالة.

وأمّا مرسلة جميل : فقد نوقش فيها : بضعف السند ، واحتمال إرادة فرض الاجتماع من قوله : «ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم».

وفيه : أنّه لا ينبغي الالتفات إلى ضعف السند بعد كون الرواية معمولا بها لدى الأصحاب ، خصوصا مع كون المرسل ممّن ادّعي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنه (١).

وأمّا حمل الرواية على إرادة فرض الاجتماع : فهو تأويل بلا مقتض.

__________________

(١) راجع : اختيار معرفة الرجال : ٣٧٥ / ٧٠٥.

٩٩

هذا ، مع أنّ الظاهر أنّ كلمة «إن» في قوله عليه‌السلام : «وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك» وصليّة ، فيكون قوله : «فلا بأس ما لم يكن الدم مجتمعا» تفريعا على الكلام السابق ، فعلى هذا يتعيّن إرادة الاجتماع الفعليّ لا الفرضيّ ، كما هو واضح.

ويمكن الاستدلال أيضا : بخبر الجعفي ، بل وحسنة محمّد بن مسلم ، كما ستعرف تقريبه عند التكلّم في أدلّة الخصم.

احتجّ القائلون بوجوب الإزالة : بعمومات الإزالة ، وخصوص صحيحة ابن أبي يعفور ، المتقدّمة (١) ، بدعوى ظهورها في إرادة فرض الاجتماع.

وبإطلاق الأمر بإعادة الصلاة على تقدير كون الدم أكثر من قدر الدرهم في رواية الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «في الدم يكون في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه ولم يغسله حتّى صلّى فليعد صلاته» (٢) وحسنة ابن مسلم (٣) ، قال : قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ـ إلى أن قال ـ : «ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقلّ من ذلك فليس بشي‌ء ، رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه» (٤) فإنّ إطلاقهما شامل لصورتي الاجتماع والتفرّق.

وفيه : أنّ العمومات مخصّصة بما عرفت وستعرف.

__________________

(١) في ص ٧٢ و ٩٧.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٧٢ ، الهامش (٤).

(٣) في «ض ١١» : «محمّد بن مسلم».

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٧٣ ، الهامش (٢).

١٠٠