مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

لفظ «مرّتين» بعد قوله : «اغسله بالماء» (١) وقلّده في ذلك من تأخّر عنه.

ولا يبعد أن تكون الزيادة وقعت سهوا من قلم الناسخ.

ومقتضى إطلاق الأمر بالغسل : الاكتفاء بالمرّة الواحدة بعد التعفير ، إلّا أنّ ظاهر المنتهى وصريح الذكرى (٢) : انعقاد الإجماع على تعدّد الغسل بالماء ، فإن تمّ فهو الحجّة ، وإلّا أمكن الاجتزاء بالمرّة ، لحصول الامتثال بها (٣). انتهى.

واعترضه جلّ من (٤) تأخّر عنه باحتمال اطّلاعه على كون الرواية كذلك في أصل معتبر لم يصل إلينا ، فإنّه ـ بحسب الظاهر ـ كان عنده بعض الأصول التي ليس في هذه الأزمنة إلّا أسماؤها.

ويؤيّده معروفيّة الفتوى بذلك في الأعصار المتقدّمة ووقوع التصريح به في الفقه الرضوي (٥).

أقول : ولو لا احتمال اطّلاعه على أصل غير واصل إلينا ، لجزمنا بكون الزيادة سهوا أو بحكمه ، ككونها نقلا بالمعنى باعتقاد الناقل حيث اعتقد بواسطة الإجماع وغيره جرى الإطلاق مجرى العادة ، فأريد به الغسل مرّتين ، كما هو الغالب المتعارف في غسل الإناء المتلطّخ بالتراب حيث يتخلّف بعد الغسلة الأولى بعض الأجزاء الأرضيّة أو أثرها ، فتزال بغسله ثانيا.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٥٨.

(٢) منتهى المطلب ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، الذكرى ١ : ١٢٥.

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٤) كالشيخ البهائي في الحبل المتين : ٩٨.

(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٣.

٤٠١

وكيف كان فاحتمال وقوع الزيادة سهوا أو نقلا بالمعنى قويّ.

ولا ينافيه معروفيّة الفتوى باعتبار المرّتين فيما سبق ، بل تؤكّده ، لكونها موجبة لأنس الذهن بالزيادة ، فتجري على القلم من غير التفات.

فالاعتراض على صاحب المدارك باحتمال اطّلاعه على كون الرواية كذلك بظاهره غير وجيه.

إلّا أن يوجّه بأنّه متى جاز ذلك ، وجب البناء على عدم وقوع الزيادة سهوا ، لأنّ الأمر دائر بين كون الزيادة سهوا أو بحكمه وبين كون النقص كذلك.

وقد تقرّر في محلّه أنّ مقتضى القاعدة في مثل الفرض هو البناء على كون الاختلال في طرف النقيصة ، فاستدلال صاحب المدارك ـ بإطلاق الأمر بالغسل بمجرّد نفي البعد عن وقوع الزيادة سهوا ـ في غير محلّه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الاعتماد على القاعدة ، وترجيح أصالة عدم وقوع الزيادة سهوا على أصالة عدم كون النقص كذلك في مثل المقام ـ ممّا كان النقص في مواضع متعدّدة من الخلاف وفي سائر كتب الحديث على ما ذكره في المدارك والزيادة في بعض الكتب المصنّفة في الأعصار المتأخّرة ـ في غير محلّه.

فالإنصاف أنّ إثبات اعتبار المرّتين بهذه الصحيحة اعتمادا على هذا النقل في غاية الإشكال.

فعمدة مستنده إنّما هو نقل الإجماع المعتضد بالشهرة ، وعدم نقل الخلاف فيه ، ووقوع التصريح به في الرضويّ المجبور ضعفه بما عرفت.

قال في الفقه الرضويّ ـ على ما حكي عنه ـ : «إن وقع الكلب في الماء أو

٤٠٢

شرب منه ، أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرّات : بالتراب ومرّتين بالماء ، ثمّ يجفّف» (١) انتهى.

وربما يظهر من بعض الأخبار : كفاية مطلق الغسل في تطهير الإناء من غير حاجة إلى التعفير ، كصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الكلب يشرب من الإناء ، قال : «اغسل الإناء» (٢) فيجمع بينها وبين الصحيحة المتقدّمة (٣) بتقييدها بكون الغسل بعد التعفير ، أو يحمل الغسل على إرادة ما يعمّ التعفير.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّه لو لا اعتضاد الصحيحة الآمرة بالتعفير بفتوى الأصحاب وإجماعهم لأمكن أن يقال : إنّ ارتكاب هذا النحو من التقييد في صحيحة ابن مسلم ، المستلزم لحملها على الإهمال مع كونها بظاهرها مسوقة لبيان الحكم الفعليّ ، أو ارتكاب التجوّز فيها بإرادة المعنى الأعمّ ليس بأهون من حمل الأمر بالتعفير في تلك الصحيحة على الاستحباب ، بل لا يبعد أن يكون هذا هو الأولى ، كما أنّ مقتضى الجمع بين الصحيحتين وبين موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الإناء يشرب فيه النبيذ ، قال : «تغسله سبع مرّات ، وكذا الكلب» (٤) والنبوي العامّيّ : «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهنّ

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٤ ـ ٤٧٥ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٤ ، الإستبصار ١ : ١٨ ـ ١٩ / ٣٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، ح ٣ ، وكذا الباب ٢ من تلك الأبواب ، ح ٣.

(٣) أي : رواية أبي العباس الفضل ، المتقدّمة في ص ٤٠٠.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٣٩٧ ، الهامش (٣).

٤٠٣

بالتراب» (١) : حمل الأمر بالسبع على الاستحباب ، فإنّه أهون من تقييد الغسل في الصحيحتين بسبع مرّات ، فإنّه تصرّف بعيد.

بل لا يبعد أن يدّعى القطع بعدم إرادة المعنى المقيّد من الروايتين خصوصا الصحيحة الأولى على ما رواها في المعتبر من زيادة لفظ «مرّتين» (٢) فإنّها على هذا التقدير في قوّة التصريح بعدم اعتبار ما زاد عن المرّتين ، فتكون المعارضة بينها وبين الموثّقة من باب معارضة النصّ والظاهر ، فيرفع اليد عن الظاهر بواسطة النصّ.

وممّا يؤيّد كون الأمر بالسبع ندبيّا ـ مضافا إلى ما عرفت ـ النبويّان المرويّان عن طرق العامة : «إن ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرّات» مع زيادة أحدهما : «أو خمسا أو سبعا» (٣) فإنّ مقتضى التحديد بالثلاث ـ كما في أحدهما ـ والتخيير بين الأقلّ والأكثر في الآخر : كون الزائد مستحبّا.

فما عن ابن الجنيد ـ من إيجاب سبع غسلات أولاهنّ بالتراب (٤) ـ ضعيف.

وأضعف منه ما عن المفيد من إيجاب ثلاث غسلات وسطاهنّ بالتراب (٥) ، إذ لم نعرف مستنده ، كما اعترف به غير واحد ، عدا ما حكي عن [الوسيلة] (٦) من

__________________

(١) سنن الدار قطني ١ : ٦٤ / ٥ ، سنن البيهقي ١ : ٢٤٠ ، و ٢٤٧ و ٢٤٨.

(٢) المعتبر ١ : ٤٥٨.

(٣) النبويّ الأوّل في سنن الدار قطني ١ : ٦٦ / ١٦ ، والنبويّ الثاني أيضا في سنن الدار قطني ١ : ٦٥ / ١٣ و ١٤ ، وكذا في سنن البيهقي ١ : ٢٤٠.

(٤) تقدّم تخريج قوله في ص ٤٠٠ ، الهامش (٢) وقد سبق هناك قوله : «إحداهنّ». وما هنا من قوله : «أولاهنّ» موافق لما حكاه عنه في كشف اللثام ١ : ٤٨٧.

(٥) تقدّم تخريج قوله في ص ٣٩٩ ، الهامش (٥).

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الخلاف». وما أثبتناه هو الصحيح وفاقا لكشف اللثام ورياض المسائل وجواهر الكلام ، مضافا إلى عدم العثور على الحاكي عن الخلاف ولا على المحكيّ عنه فيه.

٤٠٤

نسبته إلى الرواية (١).

تنبيهات :

الأوّل : صرّح المفيد في ذيل عبارته المتقدّمة (٢) بتجفيف الإناء بعد الغسلات.

وعن الصدوقين أيضا التصريح بذلك (٣).

وعن جملة من المتأخّرين ومتأخريهم اختياره.

ويشهد له ما تقدّمت (٤) حكايته عن الفقه الرضوي.

لكن لا اعتماد على الرضوي خصوصا مع مخالفته للمشهور ، فالأقوى عدم اشتراط التجفيف ، كما يشهد له الأخبار المتقدمة الدالّة بظاهرها على طهارة الإناء بعد غسله من غير اعتبار هذا الشرط ، والله العالم.

الثاني : ظاهر المتن وغيره بل المشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع ـ كما ادّعاه في الجواهر (٥) ـ قصر الحكم على الولوغ ، فلا يتعدّى منه إلى مباشرة باقي أعضائه ، عدا اللطع باللسان المساوي للولوغ ، بل أولويّته منه فيما يحتمل مدخليّته في التنجيس أو الحاجة إلى التعفير.

__________________

(١) حكاها عنها صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٨٧ ، والسيّد الطباطبائي في رياض المسائل ٢ : ١٥٥ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٦١ ، وانظر : الوسيلة : ٨٠.

(٢) في ص ٣٩٩.

(٣) حكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ، وانظر : الفقيه ١ : ٨ ، ذيل ح ١٠.

(٤) في ص ٤٠٣.

(٥) جواهر الكلام ٦ : ٣٥٦.

٤٠٥

قال في محكيّ المعالم : والمشهور بين الأصحاب قصر الحكم على الولوغ وما في معناه وهو اللطع ، والوجه فيه ظاهر ، إذ النصّ إنّما ورد في الولوغ ، وادّعاء الأولويّة في غيره مطلقا في حيّز المنع ، وبدونها يكون الإلحاق قياسا (١). انتهى.

وعن الأردبيلي رحمه‌الله منع التعدية إلى مباشرة لسانه أيضا بما لا تسمّى ولوغا حتّى اللطع (٢).

وهو بالنسبة إلى مجرّد مباشرة اللسان وجيه ، دون اللطع الذي لا يفقد شيئا ممّا يتضمّنه الولوغ من الأمور المناسبة للتنجيس أو التعفير ، ودون ما لو شرب من الإناء على وجه لم يصدق عليه اسم الولوغ ، كما لو كان مقطوع اللسان أو ممنوعا من تحريك لسانه ، فإنّ مستند الحكم إنّما هو الصحيحة المتقدّمة (٣) التي وقع فيها التعبير عن موضوع الحكم بفضل الكلب ، الصادق على ما شرب منه في جميع الصور. وانصرافها إلى كون شربه على وجه صدق عليه اسم الولوغ ، لكونه هو المتعارف في شرب الكلب انصراف بدويّ منشؤه غلبة الوجود.

وعن العلّامة في النهاية إلحاق اللعاب ـ لو حصل بغير الولوغ ـ بالولوغ ، مستدلّا عليه بأنّ المقصود قلع اللعاب من غير اعتبار السبب.

ثمّ قال : وهل يجري عرقه وسائر رطوباته وأجزائه وفضلاته مجرى لعابه؟ إشكال ، الأقرب : ذلك ، لأنّ فمه أنظف من غيره ، ولهذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات ، لكثرة لهثه (٤). انتهى.

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٦ ، وانظر : المعالم (قسم الفقه) : ٦٦٩.

(٢) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٥٦ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٦٧.

(٣) في ص ٤٠٠.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٥ ، وانظر : نهاية الإحكام ١ : ٢٩٤.

٤٠٦

ويتوجّه عليه ما حكي عنه في المنتهى أنّه قال : لا يغسل بالتراب إلّا من الولوغ خاصّة ، فلو أدخل الكلب يده أو رجله أو غيرهما ، كان كغيره من النجاسات. ثمّ نقل عن الصدوقين التسوية بين الوقوع والولوغ ، ونقل أقوال بعض العامّة ، ثمّ أجاب بأنّه تكليف غير معقول ، فيقف على النصّ ، وهو إنّما دلّ على الولوغ. ثمّ نقل حجّة المخالف بأنّ كلّ جزء من [الحيوان] (١) يساوي بقيّة الأجزاء في الحكم. ثمّ أجاب : بأنّ التساوي ممنوع ، والفرق واقع ، إذ في الولوغ تحصل ملاقاة الرطوبة اللزجة للإناء ، المفتقرة إلى زيادة في التطهير (٢). انتهى.

أقول : ما أشار إليه من أنّ الحكم توقيفيّ لم نتعقّل مناطه حقّ ، ومقتضاه :عدم التخطّي إلى اللعاب أيضا ، فإنّ كون مناط الحكم ملاقاة الرطوبة اللزجة للإناء غير معلوم ، كيف! وربما نقطع بعدم صيرورة الماء الذي شرب منه الكلب لزجا ، وعدم اكتساب الإناء منه لزوجة مفتقرة إلى التعفير ، فلا يجوز التعدّي إليه.

والحاصل : أنّ التخطّي عن مورد النصّ لا يجوز إلّا مع القطع بالمناط ، وعدم مدخليّة خصوصيّات المورد في الحكم.

وأنّى لنا القطع بذلك في مثل هذا الحكم التعبّديّ الذي لم نعرف وجهه بعد ذهاب المشهور إلى قصر الحكم على الولوغ أو اللطع الذي هو بمعناه ، كما صرّح به غير واحد ، حيث إنّه مشتمل على جميع الخصوصيّات التي يتضمّنها الولوغ بحيث لو كان الإناء مشتملا على الماء لتحقّق به اسم الولوغ.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الحيوانات». وما أثبتناه من المصدر.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ، الفرع الثامن.

٤٠٧

وعن بعض متأخّري المتأخّرين موافقة الصدوقين في إلحاق الوقوع بالولوغ (١) ، واختاره في الحدائق (٢) ، مستدلّا عليه بعبارة الفقه الرضوي ، المتقدّمة (٣).

وفيه : أنّه لا اعتماد على الرضوي خصوصا مع مخالفته للمشهور ، فما حكي عن المشهور هو الأشبه ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

الثالث : هل يعتبر مزج التراب بالماء أم لا؟

قولان حكي أولهما عن الحلّي والراوندي (٤).

وعن العلّامة في المنتهى خاصّة تقويته (٥).

وتبعه في ذلك كاشف اللثام حيث قال : ودليل ابن إدريس أنّ الغسل حقيقة في إجراء المائع ، فظاهر قوله عليه‌السلام : «اغسله بالتراب» (٦) اغسله بالماء مع التراب ، نحو : اغسل الرأس بالسدر والخطمي ، وحمله على الدلك [بالتراب] مجاز بعيد ، وهو قويّ كما في المنتهى (٧). انتهى.

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٩٥ ، وانظر أيضا جواهر الكلام ٦ : ٣٥٧ ، ومال إليه السيّد الطباطبائي في رياض المسائل ٢ : ١٥٦.

(٢) الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٦.

(٣) في ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

(٤) حكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٨ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٦١ ، وانظر :السرائر ١ : ٩١.

(٥) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٨ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٦١ ، وانظر :منتهى المطلب ٣ : ٣٣٩ ، الفرع السادس.

(٦) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤).

(٧) كشف اللثام ١ : ٤٩٥ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٠٨

واختاره بعض (١) متأخّري المتأخّرين من المعاصرين.

ونسب (٢) إلى المشهور القول بعدم اعتباره.

لكنّهم ـ على ما في الحدائق ـ بين ساكت عن حكم المزج ، وبين مصرّح بجوازه وإجزائه في التطهير. وممّن صرّح بالإجزاء الشهيد في الدروس والبيان ، وهو ظاهر الشهيد الثاني في المسالك أيضا ، إلّا أنّه اشترط أن لا يخرج التراب بالمزج من اسمه (٣).

أقول : فهو بحسب الظاهر [لا] (٤) ينكر الاجتزاء بالممتزج ، لكنّه لا يشترط اليبوسة في التراب.

واستدلّ القائل بالاشتراط : بأنّ الوارد في النصّ هو الغسل بالتراب ، وحقيقة الغسل جريان المائع على المحلّ ، ولا يتحقّق هذا المعنى حقيقة ما لم يمتزج.

قال ابن إدريس ـ على ما حكي عنه ـ : الغسل بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه ومن الماء لا يفرد أحدهما عن الآخر ، إذ الغسل بالتراب لا يسمّى غسلا ، لأنّ حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول ، والتراب وحده غير جار (٥). انتهى.

وفيه : أنّ اعتبار المزج لا يوجب العمل بحقيقة الغسل ، فإنّ الغسل عرفا

__________________

(١) راجع : رياض المسائل ٢ : ١٥٦.

(٢) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٨.

(٣) الحدائق الناضرة ٥ : ٤٧٨ ، وانظر : الدروس ١ : ١٢٥ ، والبيان : ٤٠ ، ومسالك الافهام ١ : ١٣٣.

(٤) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٥) حكاه عنه العلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٣ : ٣٣٩ ، الفرع السادس ، وانظر : السرائر ١ : ٩١.

٤٠٩

عبارة عن إذهاب الوسخ باستعمال الماء وما جرى مجراه في الميعان ، دون مطلق المائع الذي يكون كالوحل والدبس ونحوهما ، ولا يظنّ بأحد أن يلتزم باعتبار هذا الحدّ من الميعان الموجب لصيرورته ماء أو شبهه وإن أشعر كلام العلّامة في محكيّ التذكرة بكونه مفروغا منه لدى القائلين باشتراط المزج حيث قال : إن قلنا بمزج [التراب بالماء] (١) فهل (٢) يجزئ لو صار مضافا؟ إشكال ، وعلى تقديره هل يجزئ عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ إشكال (٣).

وكيف كان فإن أراد القائل باعتبار المزج هذه المرتبة من الامتزاج ، فهو واضح الفساد ، إذ لم يقصد بقوله عليه‌السلام : «اغسله بالتراب» (٤) الغسل بالماء الغير الصافي المشتمل على بعض أجزاء ترابيّة بلا شبهة.

وإن أراد ما دون هذه المرتبة ، فلا يتحقّق معه حقيقة الغسل ، فيكون إطلاق الغسل عليه بلحاظ كونه مؤثّرا في التنظيف ، فقوله عليه‌السلام : «اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء» (٥) يعني نظّفه به أوّلا قبل استعمال الماء ، فلا مقتضي حينئذ لصرف (٦) لفظ «التراب» عن ظاهره وارتكاب التجوّز فيه.

وأمّا ما في الكشف ـ من تنظيره بالأمر بغسل الرأس بالسدر والخطمي (٧) ـ ففيه : أنّه إن أراد غسله بهما بعد امتزاجهما بالماء مزجا مصحّحا لحصول الغسل

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الماء» وما أثبتناه كما في الحدائق ، وفي التذكرة : «الماء والتراب».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «هل». وما أثبتناه من المصدر.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٨٠ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٨٧ ، الفرع التاسع.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤).

(٥) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤).

(٦) في الطبعة الحجريّة بدل «حينئذ لصرف» : «في تصرّف».

(٧) راجع : الهامش (٧) من ص ٤٠٨.

٤١٠

بالممتزج كما في تغسيل الأموات بالسدر والكافور ، فقد أشرنا إلى أنّه غير مراد بالرواية قطعا.

وإن أراد غسله بهما كغسله بالطين والصابون من استعمال ما يستعان به في الإزالة من الصابون والطين والسدر ونحوها أوّلا ثمّ تنظيفه بالماء على حسب ما يتعارف في استعمال مثل هذه الأشياء ، ففيه : أنّ الغسل بالطين ـ مثلا ـ في الفرض اسم لمجموع العمل الذي هو عبارة عن إعمال الطين وإزالته مع ما انتقل إليه من الوسخ باستعمال الماء ، فمتى أطلق الغسل بالطين وأريد به مجموع العمل الذي يتحقّق به نظافة المغسول ، يكون الإطلاق حقيقيّا ، والباء فيه للاستعانة.

وأمّا لو أريد به خصوص الجزء الأوّل من المركّب الذي هو عبارة عن إعمال الطين فقط ـ كما لعلّه المتبادر من قول القائل : اغسل رأسك بالطين أوّلا ثمّ بالماء ـ يكون الاستعمال مجازيّا ، والعلاقة المصحّحة للاستعمال إمّا كونه الجزء المقوّم للمجموع المركّب المسمّى بالغسل بالطين ، أو بلحاظ إرادة التنظيف من الغسل ، وتجريده عن الخصوصيّة المعتبرة فيه ، فمعناه نظّفه بالطين أوّلا ثمّ بالماء ، وكلاهما من أقرب المجازات.

واعتبار مزج الطين أو السدر ونحوه بمقدار قليل من الماء الموجب لتلطّخ الرأس به حين الاستعمال وإن كان بحسب الظاهر من مقوّمات جزئيّته للمركّب الذي يصدق عليه الغسل بالطين أو السدر ، لكنّه ليس من مقوّمات إرادة المعنى المجازيّ بناء على تجريد الغسل من الخصوصيّة ، بل هو من شرائط استعماله بحسب المتعارف.

٤١١

ولا يتبادر من قوله عليه‌السلام في الصحيحة : «اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء» (١) إلّا إرادة غسلة واحدة بالماء بعد تعفيره ، لا غسلتين إحداهما بالماء القراح والأخرى بالماء الذي يتحقّق في ضمنه التعفير ، فتسمية التعفير غسلا مبنيّة على تجريده عن الخصوصيّة وإرادة التنظيف منه ، فحينئذ لا مقتضي لصرف لفظ «التراب» عن ظاهره ، وحمله على إرادة الممتزج الذي يخرج بالمزج من مسمّاه ، بل مقتضى أصالة الحقيقة في لفظ «التراب» اعتبار عدم خروجه بالمزج من مسمّاه ، كما اعتبره الشهيد الثاني (٢) وغيره (٣).

وما قد يتوهّم من أنّ إرادة التنظيف بالتراب الممتزج بالماء لا مطلقه أقرب من حيث الاعتبار بالنظر إلى تسميته غسلا ، ففيه ـ بعد التسليم ـ أنّ هذا لا يصلح قرينة لحمل لفظ «التراب» على إرادة الممتزج الذي لا يصدق عليه اسم التراب.

فما نسب إلى المشهور من عدم اعتبار المزج لا يخلو عن قوّة وإن كان الأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ الجمع بين استعمال مسمّى التراب واستعمال الممتزج وإزالته بالماء على نحو غسل الرأس بطين البصرة ونحوه ، فإنّ إرادة هذا المعنى من الأمر بغسله بالتراب غير بعيدة وإن كان الأسبق إلى الذهن المعنى الأوّل ، أعني خصوص التعفير ، والله العالم.

الرابع : هل يعتبر في الغسلة الأولى استعمال خصوص التراب ، أم يجتزأ بغيره ممّا يشبهه في قالعيّة النجاسة والأجزاء اللعابيّة ، كالأشنان والسدر و

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤).

(٢) مسالك الافهام ١ : ١٣٣.

(٣) كصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٦٢.

٤١٢

نحوهما؟ وجهان ، بل قولان ، نسب (١) أوّلهما إلى المشهور ، وهو الأشبه ، وقوفا في الحكم التعبّديّ التوقيفيّ على مورد النصّ.

وحكي عن ابن الجنيد الاجتزاء (٢). وعن بعض الأصحاب موافقته عند الضرورة (٣).

وربما حكي عنه أيضا القول بذلك في حال الضرورة (٤).

واستدلّ له : بمساواة غير التراب للتراب في قالعيّة النجاسة ، بل أولويّة بعضه منه.

وفيه ـ مع اقتضائه الاجتزاء به في غير حال الضرورة أيضا ـ ما أشرنا إليه مرارا من عدم وضوح مناط الحكم ، بل غلبة الظنّ بعدم كون المناط إزالة أجزاء حسّيّة تتوقّف إزالتها على التعفير ، فهو حكم تعبّديّ توقيفيّ لا يجوز التخطّي عن مورده ، فلعلّ لخصوصيّة التراب ـ الذي جعله الله أحد الطهورين ـ دخلا في ذلك ، والله العالم.

الخامس : لو تعذّر التراب وما قام مقامه على القول به ، قيل : يجتزأ بغسله بالماء (٥).

__________________

(١) الناسب هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٣٨ ، المسألة ٢٥٩.

(٢) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٥٩ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٣٨ ، المسألة ٢٥٩.

(٣) الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ١٤ ، والعلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ٩ ، والشهيد في البيان : ٤٠ ، والدروس ١ : ١٢٥ ، والذكرى ١ : ١٢٥ ، وحكاه عنهم النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٩٨ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٦٣.

(٤) كما في جواهر الكلام ٦ : ٣٦٣ ، وانظر أيضا : المعتبر ١ : ٤٥٩.

(٥) قال به العلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ٩ ، ومختلف الشيعة ١ : ٣٣٨ ، المسألة ٢٥٩ ، والشهيد في الدروس ١ : ١٢٥.

٤١٣

وضعفه ظاهر ، فإنّ مقتضى الدليل الدالّ على اعتباره : كون الغسل بالتراب كالغسل بالماء شرطا في طهارة الإناء مطلقا ، فتعذّره ليس إلّا كتعذّر الماء.

نعم ، قد يتّجه ذلك بناء على ما زعمه غير واحد من المتأخّرين من التفصيل بين الشرائط الثابتة للتكاليف بصيغة الأمر أو بجملة خبريّة ونحوها بتخصيص الاولى بحال القدرة ، نظرا إلى عدم تنجّز التكليف بالشرط إلّا معها ، فإنّ مقتضاه الأخذ بإطلاقات الغسل ، وعدم الالتزام بتقييدها بالتعفير إلّا مع القدرة ، فإنّ عمدة مستنده صحيحة (١) الفضل ، التي وقع فيها التعبير بصيغة الأمر ، أو الإجماع القاصر عن شمول مورد الخلاف.

لكنّك عرفت مرارا ضعف المبنى ، فالمتّجه ما عرفت.

السادس : لو تعذّر التعفير ، لعدم قابليّة الإناء إمّا لضيق فمه ، أو لرقّته وكونه ممّا يفسده التعفير ، أو غير ذلك ، قيل (٢) : يجتزأ في تطهيره بالغسل بالماء ، وإلّا للزم تعطيل الإناء ، وهو ضرر ومشقّة ، فينفيه أدلّة نفي الحرج والضرر.

وفيه : النقض بما لو تعذّر غسله بالماء ، فإنّه لا يقول أحد بصيرورته طاهرا بدونه.

وربما يوجّه هذا القول بقصور ما دلّ على اعتبار التعفير عن شمول مثل الفرض ، فإنّ المتبادر من مثل قوله عليه‌السلام : «اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء» (٣)

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤).

(٢) راجع : تذكرة الفقهاء ١ : ٨٦ ، الفرع الثالث ، ومنتهى المطلب ٣ : ٣٣٨ ، الفرع الرابع.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤).

٤١٤

ليس إلّا إرادته بالنسبة إلى ما أمكن فيه ذلك ، كما هو الغالب فيما يتحقّق فيه الولوغ ، فالأواني التي ليس من شأنها ذلك خارجة من مورد الرواية.

ودعوى أنّ مثل هذه الأوامر مسوقة لبيان الاشتراط ، فلا يختصّ موردها بصورة التمكّن من تحصيل الشرط ، فهي بمنزلة الإخبار عن أنّ طهارة الإناء المتنجّس بالولوغ مشروطة بالتعفير ، سواء أمكن فيها تحصيل الشرط أم لا ، غير مجدية بالنسبة إلى المصاديق الخارجة من منصرف الرواية ، فحال مثل هذه الأواني حال سائر الأشياء المتنجّسة بالولوغ ممّا لم نقل فيها بوجوب التعفير ، فليتأمّل.

السابع : لا يسقط التعفير في الغسل بالماء الكثير والجاري وما بحكمه من ماء الحمّام والمطر على الأظهر ، كما حكي عن المشهور (١) ، لإطلاق النصّ.

ولا يعارضه عموم مرسلة الكاهلي «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (٢) وقوله عليه‌السلام مشيرا إلى غدير ماء : «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا وطهّره» (٣) فإنّ النسبة بينهما وإن كانت عموما من وجه لكنّ اندراج المورد في موضوع الخبر الآمر بالتعفير أظهر من اندراجه في موضوع الخبرين ، بل المتبادر من الخبرين إنّما هو كفاية أصابه ماء المطر والكرّ في طهارة ما من شأنه التطهير بالغسل ، فكما أنّهما لا يعمّان النجاسات العينيّة والمتنجّسات التي لا تزول عنها عين النجاسة بالإصابة ، فكذلك لا يعمّان لما يحتاج إلى التعفير الذي هو بمنزلة إزالة العين.

__________________

(١) نسبه إلى المشهور البحراني في الحدائق الناضرة : ٥ : ٤٨٩.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٣٧ ، الهامش (٢) ، وكذا في ص ١٢٨ ، الهامش (١).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٢٨ ، الهامش (٢).

٤١٥

نعم ، بعد التعفير وصيرورته قابلا لأن يطهّر بالغسل بالماء يندرج في موضوع الخبرين ، فيسقط اعتبار التعدّد في غسله في الفرض ، لسلامة الخبرين من المعارض ، فإنّ عمدة مستند اعتبار التعدّد هو الإجماع المقصور على ما لو غسل بالماء القليل ، وأمّا لو غسل في الكثير والجاري وما بحكمه ، فالمشهور بين الأصحاب ـ على ما ذكره في الحدائق (١) ـ إنّما هو سقوط التعدّد.

وأمّا الرضوي الآمر بغسله بالماء مرّتين (٢) وكذا صحيحة أبي العبّاس الفضل على ما رواها في المعتبر من زيادة لفظة «مرّتين» بعد الأمر بغسله بالماء (٣) فعلى تقدير صحّة الاستدلال بهما وإن كان مقتضى إطلاقهما اعتبار العدد مطلقا لكن تقييدهما بما إذا كان الغسل بالماء القليل أولى في مقام الجمع من تخصيص الخبرين بهما ، فإن ظهور المطلقين في الإطلاق أضعف من ظهور العامّين في العموم بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، بل قد يدّعى انصراف المطلقين في حدّ ذاتهما إلى إرادة الغسل بالماء القليل ، لكونه هو الغالب في مكان صدور الإطلاق.

والحاصل : أنّ قوله عليه‌السلام : «اغسله بالتراب أوّل مرّة» (٤) له قوّة ظهور في إرادة الاطراد بحيث لا يعارضه عموم «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (٥) بل له نوع حكومة على هذا العموم بنظر العرف حيث يرونه بمنزلة الأمر بإزالة العين. وأمّا قوله عليه‌السلام : «ثمّ بالماء مرّتين» فليس له ظهور ـ يعتدّ به ـ في الإطلاق بالنسبة إلى

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٤٨٩.

(٢) راجع : الهامش (١) من ص ٤٠٣.

(٣) المعتبر ١ : ٤٥٨.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٠ ، الهامش (٤) وص ٤٠١ ، الهامش (١).

(٥) تقدّم تخريجه في ص ١٢٨ ، الهامش (١).

٤١٦

مصاديق المياه بحيث يكافئ ظهور المرسلة في سببيّة رؤية الشي‌ء للمطر لطهارته على الإطلاق ، فمقتضى الجمع بين الروايتين : تخصيص عموم المرسلة بالفقرة الأولى من الصحيحة ، وتقييد الفقرة الثانية منها بعموم المرسلة.

وخروج إناء الولوغ في بعض أحواله من العموم لا يستلزم خروجه مطلقا حتّى يمتنع تقييد الفقرة الثانية به ، لأنّ مفاد المرسلة إنّما هو سببيّة مطلق رؤية الشي‌ء للمطر لطهارته ، فخروج فرد في بعض أحواله لا يقتضي إلّا تقييد إطلاق سببيّتها بغير تلك الحال ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه حكي عن غير واحد (١) أنّه أوجب الغسلتين بعد التعفير مطلقا ، ولكنّه جعل تعاقب جريات الماء الجاري ونزول المطر بمنزلة غسلات متعدّدة.

وفيه : أنّ الغسل لا يتعدّد بذلك عرفا حتّى يجتزأ به بعد البناء على اعتبار التعدّد ، كما لا يخفى.

الثامن : حكي عن الشيخ في الخلاف إلحاق الخنزير بالكلب ، مستدلّا عليه بتسميته كلبا لغة (٢).

وفيه : منع صدق الاسم حقيقة. وعلى تقدير التسليم فلا ينصرف إليه الإطلاق عرفا.

والأظهر : وجوب غسل الإناء الذي شرب منه الخنزير سبع مرّات ، كما

__________________

(١) منهم : المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٦٠ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ، ٢ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٩٤ ، وانظر : الخلاف ١ : ١٨٦ ـ ١٨٧ ، المسألة ١٤٣.

٤١٧

صرّح به غير واحد من المتأخّرين ، بل لعلّه المشهور بينهم كما عن بعض (١) ادّعاؤه ، لصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن خنزير شرب من الإناء كيف يصنع به؟ قال : «يغسل سبع مرّات» (٢).

وعن المصنّف في المعتبر حملها على الاستحباب ، معتذرا عنها بقلّة العامل بظاهرها (٣).

ولعلّ إعراض أكثر القدماء عن ظاهرها ـ كما يظهر من اعتذار المصنّف ـ نشأ ممّا فيه من الاستبعاد ، فإنّ إيجاب الغسل سبع مرّات لنجاسة حكميّة مع وضوح عدم كون الغسل واجبا تعبّديّا.

وكفاية مطلق الغسل لإزالة الفضلات العينيّة المنتقلة من الخنزير إلى الثوب الذي أحوج إلى تكرير الغسل في تنظيفه من الإناء ، كما يشهد له صدر هذه الصحيحة فضلا عن غيرها من الأدلّة حيث قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال : «إن كان دخل في صلاته فليمض ، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصابه من ثوبه ، إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله» (٤) في غاية البعد.

فلا يبعد أن يقال : إنّ هذا الاستبعاد العقليّ مانع من مساعدة العرف على تقييد ما يمكن الاستدلال به لكفاية مطلق الغسل في إزالة النجاسة وما ورد في

__________________

(١) البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٩٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦٠ ، وعنه في الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب النجاسات ، ذيل ح ١.

(٣) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٩٥ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٩٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٦٠.

(٤) الكافي ٣ : ٦١ / ٦ ، التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦٠ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٤١٨

خصوص الإناء ـ كالموثّقة الآتية (١) ـ بهذه الصحيحة.

والإنصاف أنّ إعراض أكثر القدماء عن ظاهر الصحيحة السالمة من معارض مكافئ مع ما أشرنا إليه من الاستبعاد يورث غلبة الظنّ بعدم إرادة الوجوب منها.

لكنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ما لم يثبت اعتباره. فالجمود على ظاهر الصحيحة هو الأشبه بالقواعد خصوصا بعد أن ثبت الفرق بين الإناء وغيره في الولوغ وغيره ممّا ستعرف.

(و) يجب غسل الإناء (من الخمر) ثلاثا ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى الموثّقة الآتية (٢) الدالّة عليه في غسل الإناء من مطلق النجاسات ـ خصوص موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الدّنّ يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ (٣)؟ قال : «إذا غسل فلا بأس» وعن الإبريق وغيره يكون فيه الخمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : «إذا غسل فلا بأس» وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر قال : «تغسله ثلاث مرّات» وسئل أيجزئه أن يصبّ فيه الماء؟ قال : «لا يجزئه حتّى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرّات» (٤) فيتقيّد بهذه الموثّقة إطلاق الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز استعمال أواني الخمر بعد غسلها ، مع أنّ المتأمّل فيها يرى ورودها لبيان حكم آخر كما في صدر هذه الموثّقة ، فلا تعارض ما في ذيلها من وجوب الغسل ثلاثا ، كما أنّه لا تعارضه موثّقته الأخرى

__________________

(١) في ص ٤٢٣.

(٢) في ص ٤٢٣.

(٣) في الكافي : «أو ماء أو كامخ» كما سبق في ص ٣٩٧.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٣٩٧ ، الهامش (٢).

٤١٩

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الإناء يشرب فيه النبيذ ، قال : «تغسله سبع مرّات ، وكذا الكلب» (١) لقبول هذه الموثّقة للتوجيه بالحمل على الاستحباب ، كما يؤيّده ما في الرواية من تشبيه الكلب به ، مع أنّ الغسل سبعا من الكلب ليس إلّا على سبيل الاستحباب.

وربما ناقش بعض القائلين بوجوب السبع في هذا الجمع : بعدم كون الموثّقة الأولى نصّا في كفاية الثلاث حتّى يجمع بينهما بتأويل الظاهر بالنصّ ، فإنّ دلالتها إمّا بالمفهوم أو بالسياق ، فلا تكون نصّا في المدّعى ، فمقتضى القاعدة بعد تكافؤ الخبرين : الرجوع إلى استصحاب النجاسة.

وفيه ما لا يخفى : فإنّه قد يكون الكلام نصّا في إرادة المفهوم كما في المقام ، فإنّ من سمع بهذه الرواية لا يحتمل إلّا أنّ المتكلّم أراد بها طهارة الإناء بغسله ثلاثا ، وهذا بخلاف رواية السبع ، فإنّ من سمع بها يحتمل بها إرادة الاستحباب ، بل ربما يظنّ بها بواسطة القرائن الداخليّة والخارجيّة. فالقول بوجوب السبع ضعيف.

وأضعف منه القول بكفاية الواحدة أمّا للبناء على عدم حجّيّة الموثّق ، أو عدم صلاحيّته لتقييد المطلقات الكثيرة. وفي كلا البناءين ما لا يخفى.

(و) يجب غسل الإناء من موت (الجرذ) بالجيم والراء المهملة والذال المعجمة على ما في المجمع : كعمر : الذكر من الفيران يكون في الفلوات ، وهو أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد. وعن الجاحظ : الفرق بين الجرذ والفأرة

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٩٧ ، الهامش (٣).

٤٢٠