مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

اعتبار المرّتين في غيره ، وهي متروكة عند الأصحاب.

ويمكن حملها على الاستحباب ، أو على أنّ المراد بالعصر ما يتوقّف عليه إخراج عين النجاسة من الثوب ، فإنّ ذلك واجب قطعا.

وكيف كان فلا يتمّ الاستدلال بها على المطلوب.

ولو قيل بعدم اعتبار العصر إلّا إذا توقّف عليه زوال عين النجاسة ، كان قويّا ، ومال إليه شيخنا المحقّق سلّمه الله تعالى (١). انتهى.

أقول : لا يبعد أن يكون مراد المستدلّ بالروايتين إثبات اعتبار الغسل المقابل للصبّ في إزالة الخبث ، دفعا لتوهّم الاجتزاء بالأهمّ منهما ، كما في الغسل المعتبر في رفع الأحداث ، فتماميّة الاستدلال بهما موقوفة على مقدّمة مسلّمة عند المستدلّ ، وقد اعترف بها المعترض في طيّ كلماته ، وهي توقّف صدق الغسل المقابل للصبّ على استيلاء الماء على المحلّ وانفصاله عنه ، فزعم المستدلّ أنّه لا يتحقّق الانفصال المعتبر في مفهوم الغسل المقابل للصبّ في الثوب ونحوه ممّا يرسب فيه الماء إلّا بالعصر ، فلو صبّ الماء على ثوب محشوّ بالقطن إلى أن ارتوى وسال عنه الماء لا يخرج بذلك من كونه مصداقا للصبّ المقابل للغسل ، إذ المعتبر في تحقّق الغسل إنما هو انفصال الغسالة ، لا انفصال الفضالة ، وغسالة ما في جوفه من القطن إنّما تنفصل بالعصر ونحوه ، لا بإكثار الماء ، فمرجع الاستدلال بالروايتين بهذا التقريب إلى الدليل الثاني الذي ذكره في المعتبر ، لكنّه متضمّن لإثبات صغراه من غير تعرّض لكبراه ، لفرض التسالم عليه ، عكس ما في المعتبر.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٣٥.

١٢١

وكيف كان فإن أراد المستدلّ هذا المعنى ، فسيأتي التكلّم فيه. وإن أراد إثبات اشتراط العصر بمجرّد جعل الغسل قسيما للصبّ أو الأمر به في ذيل الرواية الثانية ، ففيه ما سمعته من صاحب المدارك.

وأوجه من ذلك اعتراضه على الدليل الأوّل ، ضرورة أنّه إن تمّ فإنّما هو في النجاسات العينيّة الراسخة في الثوب ، دون الحكميّة التي ليس لها قذارة محسوسة.

نعم ، لو أريد بالنجاسة الراسخة الماء المتنجّس بملاقاة الثوب عند استعماله في تطهيره ، اتّجه كلامه بإرجاعه إلى الدليل الثالث المحكيّ عن المنتهى ، وهو عمدة ما ركن إليه أغلب المتأخّرين الذين وافقوا المشهور ، ومقتضاه التفصيل بين الغسل بالماء القليل وغيره ، كما اشتهر بينهم.

وكيف كان فالمهمّ في المقام أوّلا إنّما هو تحقيق مفهوم الغسل وتمييز ما يتوقّف عليه هذا المفهوم ، إذ لا شبهة نصّا وفتوى في اعتبار عنوان الغسل في حصول الإزالة ، وعدم كفاية مطلق الصبّ فيما عدا ما استثني ، كما شهدت به الروايتان المتقدّمتان (١).

فنقول : أمّا غسل الثوب الوسخ بالماء كغسل اليد القذرة فهو عرفا ولغة ليس إلّا تنظيفه وإزالة وسخه باستعمال الماء بوضعه ـ مثلا ـ في إناء ، وصبّ الماء عليه ، واستعمال بعض المعالجات المؤثّرة في انتقال وسخه إلى الماء من الفرك والدلك والعصر واستعمال الصابون والأشنان ونحوهما ، فمتى أزيل وسخ الثوب

__________________

(١) في ص ١١٩.

١٢٢

بانتقاله بنفسه أو بعلاج إلى الماء المستولي عليه فقد غسل الثوب وتطهّر ، سواء أخرج بعد ذلك من الماء المغسول به أم بقي فيه ، فإخراج الثوب من الماء فضلا عن استخراج الماء الباقي فيه بعد إخراجه بالعصر ونحوه أمر أجنبيّ عن ماهيّة الغسل ، بل هو من مقدّمات تجفيفه لا ربط له بغسله أصلا.

والذي يمكن أن يتوهّم كونه معتبرا في مفهوم الغسل هو الفرك والدلك ونحوهما من المعالجات الحاصلة في خلال الغسل عند استيلاء الماء على المحلّ ، المؤثّرة في نقل الوسخ إلى الماء ، لا العصر الحاصل بعده الذي لا يقصد به غالبا إلّا تجفيف الثوب ، وإن كان الأظهر فيها أيضا خروجها من حقيقة الغسل ، وكونها من مقدّمات حصول مفهومه ، لا من مقوّمات ماهيّته.

والحاصل : أنّ ما يتوقّف عليه الغسل شطرا أو شرطا إنّما هو هذه المعالجات التي لها دخل في انتقال الوسخ إلى الماء ما دام التشاغل بالغسل ، ولا شبهة بل لا نزاع في اعتبارها في طهارة الثوب على تقدير كون نجاسة عينيّة متوقّفة إزالتها على استعمال مثل هذه المعالجات ، كما أنّه لا نزاع في عدم الحاجة إليها على تقدير كون النجاسة حكميّة أو بمنزلتها في عدم احتياج خلوص المحلّ منها إلى إعمال مثل هذه المعالجات ، وإنّما الكلام في اعتبار العصر بعد انتقال القذارة إلى الماء ، وهذا أمر أجنبيّ عن ماهيّة الغسل لا بدّ في إثبات وجوبه من التماس دليل آخر غير أوامر الغسل.

لكن لقائل أن يقول : إنّ حصول غسل الثوب واتّصافه بالنظافة بمجرّد انتقال وسخه إلى الماء وخلوصه بنفسه من القذارة الراسخة فيه إنّما هو فيما إذا

١٢٣

لم يستقذر الماء المستولي عليه بما انتقل إليه بأن استهلك القذر في الماء وبقي الماء على نظافته ، وأمّا إذا تغيّر الماء به وصار قذرا ، فلا يحصل غسل الثوب وتنظيفه إلّا بعد تخليصه من غسالته بالعصر وشبهه بحيث لم يبق فيه من غسالته الوسخة شي‌ء يعتدّ به في العرف.

وحيث إنّا علمنا بما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس أنّ الماء الذي يغسل به الثوب ينجس بملاقاته عرفنا أنّه كالماء الوسخ الذي اكتسب القذارة من الثوب في المانعيّة من اتّصاف الثوب بالطهارة ما دام مشغولا بذلك الماء ، فلا يتحقّق غسله ولا يوصف بالنظافة إلّا بعد انفصال غسالته عنه باستخراجه بالعصر أو ما هو بمنزلته من تثقيل ونحوه ، لا بتجفيفه بالشمس أو الريح ونحوهما ، فإنّ هذا لدى العرف تثبيت للقذارة ، ولا يعدّ إزالة.

لكن هذا إذا كان الغسل بالماء القليل الذي ينفعل بالملاقاة ، دون الكثير ونحوه.

ومن هنا يتّجه التفصيل بين الغسل بالماء القليل وغيره ، كما اشتهر بين المتأخرين.

والإنصاف أنّ هذه الدعوى وجيهة إلّا أنّها مبنيّة على القول بنجاسة الغسالة ، فلا تتمّ على القول بطهارتها أو طهارة الماء الوارد ، كما أنّها لا تطرد على ما نفينا عنه البعد فيما سبق من عدم كون المتنجّسات الجامدة الخالية من أعيان النجاسات مؤثّرة في تنجيس ما يلاقيها ، فالمتّجه حينئذ اشتراط العصر في كلّ مورد حكمنا فيه بنجاسة غسالته ، لا مطلقا ، كما أنّ مقتضى الدليل الثالث المحكيّ

١٢٤

عن المنتهى ليس إلّا ذلك ، فالقول بعدم وجوبه بناء على طهارة الغسالة لا يخلو عن قوّة.

ولكنّ الأقوى اعتباره مطلقا ، إلّا أن يدلّ دليل على خلافه ، فإنّا وإن أنكرنا كون العصر بل وكذا انفصال الغسالة معتبرا في مفهوم الغسل لكن ليس لنا إنكار كون الغسل عرفا ولغة أخصّ من مطلق استيلاء الماء على المحلّ ، ضرورة أنّ غسل الثوب عبارة عن تنظيفه وإزالة وسخه ، فلا يتحقّق غسل الثوب الوسخ بمجرّد إلقائه في الماء أو إجراء الماء عليه.

وكون القذارة الشرعيّة الحكميّة أمرا معنويّا غير محسوس لدينا لا يستلزم أن يتحقّق غسلها بمجرّد استيلاء الماء على المتنجّس ، لجواز أن تتوقّف إزالتها على ما تتوقّف عليه إزالة القذارات الحسّيّة من الفرك والدلك ونحوهما ، فلو لا معروفيّة عدم اعتبار مثل هذه الأمور في غسل النجاسات الحكميّة بالإجماع وغيره لأشكل علينا نفي اعتبارها ، فإنّ المتبادر من الأمر بغسل الثوب المتنجّس الذي لا نعقل نجاسته ليس إلّا إرادة الطبيعة التي من شأنها إزالة الوسخ ، لا مطلق إجراء الماء عليه ، فحالنا بالنسبة إلى القذارات الحكميّة حال الأعمى المأمور بغسل الثوب الملطّخ بالدم في أنّه يجب عليه الاحتياط حتّى يقطع بنظافته.

نعم ، لو لم يكن مفهوم الإزالة مأخوذا في ماهيّة الغسل وكان الغسل اسما لمطلق إيصال الماء إلى الشي‌ء أو إجرائه عليه ، لم يجب عليه إلّا إيجاد مسمّاه ، لكنّه ليس كذلك ، فلو أمر المولى عبده بغسل ثوب نظيف يتنفّر طبعه عن لبسه بواسطة بعض الأشياء المقتضية له ـ ككونه ثوب ميّت ونحوه ـ ليس للعبد الاجتزاء في

١٢٥

امتثاله بمجرّد طرحه في الماء وإخراجه ، لانصراف الأمر بالغسل عن مثل هذا الفعل قطعا ، بل عدم كونه مصداقا للغسل عرفا.

نعم ، لو عصر بعد إخراجه أو فركه في ماء كثير ليس من شأنه التغيّر بالقذارات ، لا يبعد صدق اسم الغسل عليه لدى العرف ، فإنّ لاستخراج ما جذبه الثوب من الماء بالعصر ونحوه تأثيرا في النفس في رفع النفرة الحاصلة للطبع من هذا النحو من القذارات الحكميّة التي ليس لها حقيقة متأصّلة ، والقذارات الحكميّة الشرعيّة أيضا لا يبعد أن تكون من هذا القبيل ، فيحتمل أن يكون للعصر وشبهه دخل في إزالتها فيجب.

والحاصل : أنّ مفهوم النظافة والنزاهة حقيقيّة كانت أو حكميّة إجمالا مأخوذ في ماهيّة الغسل ، فلا بدّ من القطع بحصوله في رفع اليد عن استصحاب النجاسة ، ولا يحصل القطع بذلك إلّا بالعصر فيما يتعارف عصره لدى غسله من الثياب ونحوها فيجب.

ولعلّه إلى هذا نظر من قال في العبارة المتقدّمة (١) عن المدارك : إنّا نظنّ انفصال أجزاء النجاسة مع الماء بالعصر ، بخلاف الجفاف المجرّد ، يعني نتخيّل انفصالها بالعصر ، وقد عرفت أنّ هذه الدعوى في محلّها.

فما أورده عليه صاحب المدارك من أنّه دعوى بلا دليل (٢) في غير محلّه ، مع أنّ قوله موافق للأصل ، فعلى خصمه القائل بكفاية مطلق الانفصال إثباته.

وممّا يؤيّد اشتراط العصر : ما عن الفقه الرضوي ، قال : «وإن أصابك بول

__________________

(١) في ص ١٢٠.

(٢) راجع ص ١٢٠ ، وكذا مدارك الأحكام ٢ : ٣٢٦.

١٢٦

في ثوبك فاغسله من ماء جار مرّة ، ومن ماء راكد مرّتين ثمّ أعصره ، وإن كان بول الغلام الرضيح فتصبّ عليه الماء صبّا ، وإن كان قد أكل الطعام فاغسله» (١).

لكن ظاهره اعتبار عصرة بعد الغسلتين في البول الذي يعتبر في غسله العدد ، لا العصر في كلّ غسلة كما هو ظاهر المتن وغيره.

وقد استند صاحب الحدائق إليه في إثبات العصر ، والتزم بظاهره (٢) ، وفاقا لظاهر الصدوقين (٣) حيث عبّرا بمضمون الرضوي.

وحكي عن بعض القول بكفاية عصرة عقيب الغسلة الأولى (٤).

ولعلّه ممّن يقول بطهارة الغسالة في الغسلة المطهّرة ، فيتّجه حينئذ قوله ببعض ما عرفت مع ضعفه.

والعجب من صاحب المستند حيث استند في إثبات وجوب العصر إلى الرضوي ، ولكنّه اجتزأ بعصرة واحدة مخيّرا بين توسيطها بين الغسلتين وتأخيرها عنهما بدعوى انجبار ضعف الرضوي بالنسبة إلى إثبات أصل العصر بالشهرة ، وعدم انجباره بالنسبة إلى الخصوصيّة التي تضمّنها (٥).

وفيه ما لا يخفى من عدم إمكان هذا النحو من التفكيك في مثل الرضوي

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٨ و ٣٨٤ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٥.

(٢) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٣) الفقيه ١ : ٤٠ ، ذيل ح ١٥٦ ، وحكى قول عليّ بن بابويه صاحب المعالم فيها (قسم الفقه) :٦٥٠ و ٦٥٥.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٦٧ ، وانظر : اللمعة الدمشقيّة : ١٧.

(٥) مستند الشيعة ١ : ٢٧١.

١٢٧

الذي لا يحتاج إلى الجبر إلّا من حيث السند ، فهو في الحقيقة لم يستند في فتواه إلّا إلى نفس الشهرة.

وكيف كان فهل يختصّ اعتبار العصر بما إذا غسل الثوب بماء غير معتصم ، فلو غسل في الكرّ أو الجاري أو بماء المطر ، لم يجب ، كما اشتهر بين المتأخّرين ، أم لا ، كما يقتضيه إطلاق غيرهم؟ وجهان : من الشكّ في تحقّق مفهوم الغسل عرفا بدونه ، ومن إطلاق قول الصادق عليه‌السلام في مرسلة الكاهلي : «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (١) فإنّ الرؤية تتحقّق بدون العصر بلا شبهة. ويثبت الحكم في الجاري بضميمة عدم القول بالفرق.

والظاهر عدم القول بالفرق بينه وبين الكثير أيضا.

مضافا إلى قول أبي جعفر عليه‌السلام ـ في المرسل المحكيّ عن [المختلف] (٢) ـ مشيرا إلى غدير ماء : «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا وطهّره».

ويؤيّده ما في بعض أخبار ماء الحمّام «أنّه بمنزلة الجاري» (٣). فهذا الوجه لا يخلو عن قوّة.

ثم إنّا إن اعتبرنا العصر في الماء المعتصم ، فلا نلتزم باعتباره بالخصوص ، بل نقول بكفاية كلّ فعل مؤثّر في انتقال ما جذبه الثوب من الماء من غير حاجة إلى إخراجه من الماء وعصره ، فيكفي فركه في الماء أو دلكه أو إمرار اليد عليه و

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الماء المطلق ، ح ٥.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «المنتهى». والصحيح ما أثبتناه حيث لم نجده في المنتهى ، بل في مختلف الشيعة ١ : ١٥ ، ضمن المسألة ١ ، وعنه في مستدرك الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، ح ٨.

(٣) التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٠ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

١٢٨

غير ذلك من المعالجات التي تستعمل لإزالة القذارات الحسّيّة ، فإنّه لا يبقى مع هذه المعالجات شكّ في صدق اسم الغسل عليه عرفا ، بل تحقّق مفهوم الغسل عند إعمال هذه المعالجات بنظر العرف أوضح من تحقّقه بمجرّد إيصال الماء إلى الثوب وعصره ، فلا ينبغي الاستشكال فيه.

بل وكذا لا ينبغي الاستشكال في كفاية مثل هذه الأمور في الغسل بالماء القليل لو لم نقل بنجاسة الغسالة.

وأمّا على القول بنجاستها فلا بدّ من استخراج مائه بالعصر ونحوه ، لما عرفت آنفا من أنّ قذارة الماء الراسخ في الثوب مانعة من تحقّق مسمّى الغسل لدى العرف بعد علمهم بقذارة الماء ، لكن القدر الذي يمكن الالتزام باعتباره إنّما هو المقدار الذي يتعارف فعله في غسل الثوب من القذارات الحسّيّة ، أي العصر المتعارف لدى التطهير ، فلا تجب المبالغة في العصر ، للعفو عمّا يبقى في الثوب بعد عصره على النحو المتعارف ، لتبعيّته للمغسول بنظر العرف ، وعدم ممانعته من تحقّق مفهوم الغسل ، فيدلّ على العفو عنه إطلاق ما دلّ على طهارة الثوب بغسله مرّتين ، إذ المفروض عدم كون ما يبقى فيه لدى العرف مانعا من تحقّق مفهوم الغسل.

ويدلّ عليه أيضا الإجماع واستقرار السيرة على عدم التجنّب عمّا يتخلّف في الثوب بعد غسله.

ثمّ إنّ هذا كلّه في الثوب ونحوه ممّا يرسب فيه الماء ويتعارف عصره عند غسله ، وأمّا ما لم يتعارف فيه ذلك ، لتعسّره أو تعذّره لكبره أو غلظته وصلابته ،

١٢٩

كبعض الفرش التي عند إصابة الماء إليها تشبه الخشبة في عدم قبولها للعصر ، أو لثخنه ، كالوسائد واللحف وغيرها ممّا فيه الحشو ، فلا إشكال في تطهيره (١) بالماء العاصم ، فإنّه يطهر بمجرّد نفوذ الماء العاصم فيه وإحاطته به ، لما عرفت من أنّ الأقوى عدم اعتبار العصر في التطهير بالماء العاصم.

ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بفعل ما يتحقّق معه مسمّى الغسل العرفي من فرك ودلك وتحريك في الماء وغير ذلك ممّا يتعارف فعله عند تنظيفه من القذارة الصوريّة التي تنفصل عنه بسرعة.

وأمّا لو غسل بالماء القليل ، فلا بدّ من التحرّي في استخراج غسالته بتثقيل أو تقليب أو دقّ أو غير ذلك من المعالجات بحيث لم يبق فيه من غسالته إلّا المقدار الذي لا يعتدّ به عرفا مما ثبت العفو عنه بالإجماع وضرورة شرع التطهير بالماء القليل.

نعم ، لو لم نقل بنجاسة الغسالة ، اتّجه الاكتفاء ببعض المعالجات التي يتحقّق معها مسمّى الغسل العرفي وإن لم تنفصل غسالته ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما لو أريد تطهير ما في جوف الفرش ونحوها ، وأمّا لو أريد تطهير سطحها الظاهر ، فالظاهر كفاية إجراء الماء على ظاهره وإمرار اليد عليه بحيث تنفصل غسالة ظاهره.

وربما يستشعر بل يستظهر من بعض الأخبار الواردة في كيفيّة تطهير الفرش ونحوها أو سعيّة الأمر فيها ممّا عرفت ، وعدم وجوب استخراج ما رسخ

__________________

(١) «ض ١١» : «تطهّره».

١٣٠

فيها من الماء بالدقّ ونحوه.

كخبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال عليه‌السلام : «يغسل الظاهر ثمّ يصبّ عليه الماء في المكان الذي أصابه البول حتّى يخرج من جانب الفراش الآخر» (١).

وموثّقة إبراهيم بن عبد الحميد ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو ، قال : «اغسل ما أصاب منه ومسّ الجانب الآخر ، فإن أصبت مسّ شي‌ء منه فاغسله ، وإلّا فانضحه بالماء» (٢).

وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما وهو ثخين كثير الحشو؟ قال : «يغسل ما ظهر منه في وجهه» (٣).

ولكنّ الإنصاف قصور هذه الأخبار عن إفادة الاجتزاء بما دون ما عرفت.

أمّا ما عدا رواية عليّ بن جعفر : فواضح ، لعدم التنافي بينها وبين كون العصر أو انفصال الغسالة النجسة المتوقّف على العصر أو ما يفيد فائدته مأخوذا في مفهوم الغسل.

وأمّا رواية عليّ بن جعفر : فلا مانع من الالتزام بمضمونها في مثل موردها

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٨١ / ١١١٤ ، مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٢ / ٣٩٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥ / ٢ ، الفقيه ١ : ٤١ / ١٥٩ ، التهذيب ١ : ٢٥١ / ٧٢٤ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب النجاسات ، ح ١.

١٣١

ممّا كان الفراش محشوّا بالصوف ، فإنّ الشي‌ء المحشوّ بالصوف لا تستقرّ غسالته فيه ، بل تخرج من طرفه الآخر من غير احتياجه إلى العصر ، وقد عرفت أنّ اعتبار العصر ليس شرطا تعبّديّا حتى نلتزم بلزومه حتّى فيما لا يتوقّف انفصال غسالته عليه.

بقي الكلام في بعض الأشياء التي لا تنفصل عنها الغسالة بنفسها ولا بالعصر أو الدقّ أو التغميز أو غير ذلك ،كالصابون والفواكه والخبز والسمسم والحنطة وغيرها من الحبوب وما جرى هذا المجرى.

وقد وقع الخلاف والإشكال في تطهيرها إذا انتقعت في الماء المتنجّس بحيث نفذت النجاسة في بواطنها.

وأمّا لو لم ينجس إلّا سطحها الظاهر ، فلا ينبغي الاستشكال في طهارتها بغسلها على حدّ سائر الأجسام الصلبة الغير القابلة للعصر ، إلّا أن يكون مثل الخزف والتراب وغيرهما ممّا ترسب فيه غسالته ولا تنفصل عنه ، فيتطرّق فيه الإشكال حينئذ من هذه الجهة.

وكيف كان فعن جملة من الأصحاب أنّ ما جرى هذا المجرى لا يطهّر بالماء القليل ، بل تتوقّف طهارته على الغسل في الكثير.

واستشكله في المدارك.

أوّلا : باستلزامه للحرج والضرر.

وثانيا : بأنّ ما يتخلّف في هذه الأشياء من الماء ربما كان أقلّ من المتخلّف في الحشايا بعد الدقّ والتغميز ، وقد حكموا بطهارتها بذلك.

١٣٢

وثالثا : بعدم تأثير مثل ذلك في المنع مع إطلاق الأمر بالغسل المتحقّق بالقليل والكثير (١).

وعن الذخيرة بعد نقل ما في المدارك الاعتراض على ما ذكره ثالثا بقوله : وفي الأخير نظر ، لأنّه ليس في الأدلّة ـ فيما أعلم ـ ما دلّ على الأمر بالغسل في كلّ مادّة بحيث يشمل مورد النزاع ، لاختصاصها بالبدن والثوب وبعض الموارد الخاصّة ، فتعدية الحكم إلى غيرها تحتاج إلى دليل (٢). انتهى.

وأجيب عن ذلك : بأنّه يستفاد من تتبّع الأخبار وكلمات الأصحاب أنّ كلّ جسم متنجّس حاله حال الثوب والبدن في قبوله للتطهير ، والتشكيك في ذلك سفسطة.

وكيف كان فالذي يقتضيه التحقيق أنّ ما كان من هذا القبيل فإن كان ممّا لا ينفذ فيه الماء إلّا وهو خارج من حقيقته كالقند والسّكر وما جرى هذا المجرى ، فهو كالمائعات المضافة غير قابل للتطهير لا بالقليل ولا بالكثير. وإن لم يكن كذلك ـ كالأمثلة المتقدّمة ـ فيطهر بغسله في الكثير النافذ في أعماقه بلا تأمل في ذلك ، بل عن بعض نفي الخلاف فيه (٣).

نعم ، يظهر من طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله نوع تردّد في قبول مثل الصابون والحنطة والسمسم وغيرها من الأمثلة المذكورة للتطهير بالكثير أيضا ، نظرا إلى قوّة احتمال كون ما ينفذ في أعماق مثل هذه الأشياء أجزاء لطيفة مائيّة يشكّ في

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣٣١.

(٢) حكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ١٦٣.

(٣) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٧٩ عن صاحب المعالم فيها (قسم الفقه) : ٣٧٨.

١٣٣

صدق اسم الماء عليها أو انصرافه إليها ، فضلا عن تحقّق غلبتها على الأجزاء الباطنيّة التي هي مناط تحقّق الغسل عرفا (١).

وذكر أيضا في ذيل كلامه ـ في تقريب ما استشكله من طهارة مثل هذه الأشياء بالغسل في الكثير ـ أنّ الماء النافذ في أعماق الجسم لا يتصل بالكثير على وجه يصدق اتّحاده معه عرفا حتى يصدق على المجموع عنوان الكرّ أو الجاري ، إلّا أن يقال : إنّ الإجماع منعقد على عدم انفعال المتّصل بالكثير والجاري مطلقا ، إلّا أن يدّعى ضعف الاتّصال بحيث يلحق عرفا بالانقطاع ، ولهذا لو فرضنا أنّ نجاسة عينيّة وقعت في الكثير وكان بعض جوانبه خارجا من الماء فنفذ الماء من الكثير إلى ذلك الجانب فتقاطر على جسم ، فلا يلزم بقاء ذلك الجسم على الطهارة ، إلّا أن يقال : إنّ غاية الأمر الشكّ في الاتّحاد ، فيرجع إلى أصالة عدم انفعال تلك الأجزاء ، فيطهر الباطن.

نعم ، يحصل الإشكال فيما لو انتقع الشي‌ء بالماء ووقع في الكثير ، وفرضنا عدم نفوذ الكثير إلى أعماقه من جهة وجود أجزاء المتنجّس فيه ، فحينئذ لا يكفي مجرّد اتّصال تلك الأجزاء بأجزاء الكثير.

أمّا على اعتبار الامتزاج : فظاهر.

وأمّا على مطلق الاتّصال : فلعدم تحقّق الاتّحاد عرفا ، فالأحوط بل الأقوى لزوم تجفيف الجسم النجس أوّلا ثمّ وضعه في الكثير. وأحوط من ذلك تجفيفه بالشمس ثانيا. وأحوط من ذلك وضعه في الكثير ثانيا. وأحوط من الكلّ تجفيفه

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٧٨.

١٣٤

ثانيا (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : لو كان المناط في تطهير هذه الأشياء صدق الماء المطلق على ما نفذ في أعماقها مع اتّصاله بالكرّ واتّحاده معه عرفا بحيث يتقوّى به ، فلا يكاد يتحقّق هذا المناط في شي‌ء من هذه الموارد ، ولا مجال للتشكيك في ذلك حتّى يتشبّث في إثبات اتّصاله واعتصامه بمادّته بالأصول العمليّة ، بل هو مقطوع العدم.

ألا ترى أنّ نفوذ الماء في الآجر أو الخزف الجديدين أسرع ، واتّصال ما نفذ فيه بأصله أقوى ممّا ينفذ في الصابون والحنطة ، مع أنه لا يشكّ أحد في عدم انفعال الماء الكائن في الأواني الخزفيّة ونحوها ممّا يترشّح منه الماء بوصول النجاسة إلى ظاهرها أو نجاسة سطحها الظاهر.

نعم ، ربّما يتوهّم العكس ، أعني انفعال ما رسب فيها أو ظهر عليها بملاقاة ما فيها للنجس ، نظرا إلى ما عرفت في مبحث تقوّي الماء السافل بالعالي من مساعدة العرف على عدّ الماء السافل متحدا مع العالي من غير عكس بالتقريب الذي عرفته في محلّه.

لكن هذا التوهّم أيضا ضعيف ، لضعف الاتصال ، بل استهلاك الأجزاء المائية النافذة في الباطن ، وخروجها لدى العرف من كونها مصداقا عرفيّا للماء ، فإنّها لا تسمّى عند ملاحظتها بالاستقلال لدى العرف إلّا النداوة والرطوبة ، فكأنّه قدس‌سره أغمض عمّا أورده نقضا ، إذ لا يظنّ بأحد أن يلتزم بطهارة ما يترشّح من الجانب الآخر من النجس المستنقع في الماء ، وكون ما يظهر عليه من النداوة و

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٧٩.

١٣٥

الرشحات العالقة به بمنزلة أجزاء الكرّ.

وكيف كان فليس المدار في باب التطهير على ذلك ، بل المدار على صدق نفوذ الكرّ فيه ، ووصول الماء المطلق إلى باطنه ، ولا ملازمة بينه وبين إطلاق اسم الماء عليه فضلا عن اتّصافه بكونه جزءا من الكرّ متّحدا معه.

ألا ترى أنّه لو أريق الماء في إبريق أو حبّ أو غير ذلك من أوعية الماء وسرت نداوته فيه بحيث ظهر عليه وترشّح منه ، يطلق عرفا أنّ ماءه نفذ فيه وخرج منه إطلاقا حقيقيّا ، لكن لو لوحظت الأجزاء المائيّة السارية فيه بحيالها ، لا يطلق عليها اسم الماء ، لاضمحلالها واستهلاكها في الظرف ، بل يطلق عليها اسم الرطوبة والنداوة ، ولا تعدّ الرشحات المجتمعة على ظهر الإناء أو المتقاطرة منه متّصلة (١) بما فيه ، ولذا لو أصابها نجس لا ينجّس ما فيه.

وكذا الحنطة المستنقعة في الماء لو لاقت نجسا من بعض جوانبها ، لا ينجّس الجانب الآخر.

والحاصل : أنّ ملاك التطهير فيما نحن فيه على ما تقتضيه أدلّته إنّما هو صدق إصابة الماء إلى الأجزاء ، وهذا حاصل في الفرض بشهادة العقل والعرف ، ولا ينافيه عدم صدق اسم الماء على ما وصل إلى الأجزاء عند ملاحظته على سبيل الاستقلال.

ويدلّ على قبول الأمثلة المذكورة للطهارة بنفوذ الماء العاصم في بواطنها من غير اعتبار إطلاق اسم الماء عليه بعد النفوذ عند ملاحظته مستقلّا : الأخبار

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «متّصلا». والصحيح ما أثبتناه.

١٣٦

الدالّة على طهارة طين المطر وطهارة السطح الذي يبال عليه بالمطر ، ضرورة أنّ رسوب ماء المطر في الطين والسطح ليس إلّا بطريق السراية ، ولا يطلق على ما ينفذ في باطنهما من الأجزاء المائيّة عند ملاحظتها من حيث هي اسم الماء ، وإلّا للزم انفعال كلّ جزء منه بملاقاة الجزء الآخر للنجس ، لاتّصال الأجزاء بعضها ببعض ، وهو باطل جزما.

فتلخّص ممّا ذكر أنّ كلّ ما يرسب فيه الماء من الأمثلة المذكورة ونحوها فإن كان كالقند والسّكّر والملح ونحوها ممّا لا ينفذ فيه الماء إلّا وهو خارج من حقيقته بحيث لو تقاطر من جانبه الآخر لا يتقاطر إلّا وهو مضاف ، لا يقبل التطهير.

وإن لم يكن كذلك ، يطهر بنفوذ الماء العاصم فيه بلا تأمّل.

وهل يطهر بغسله بالماء القليل النافذ في أعماقه ، كما حكي عن صريح المنتهى والنهاية ومجمع الفائدة والمدارك ، فجوّزوا غسل هذه الأشياء بالقليل (١) ، أم لا يطهر ، كما حكي عن الشهيد والمحقّق الثاني (٢) ، بل عن المعالم نسبته إلى المعروف بين المتأخّرين (٣)؟ وجهان ، أقواهما : الأوّل.

والذي يصلح أن يكون مستندا للمنع أمور :

الأوّل : تعذّر تحقّق مفهوم الغسل بالنسبة إلى الأجزاء الباطنيّة ، لاشتراطه

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٧٨ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٢٩١ ، الفرع العاشر ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٨١ ، ومجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٣٨ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٣٣١.

(٢) الحاكي عنهما هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٧٨ ، وانظر : الدروس ١ : ١٢٤ ، والذكرى ١ : ١٢٤ ، وجامع المقاصد ١ : ١٨٣.

(٣) حكاها عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٥٠ ، وانظر : المعالم (قسم الفقه) : ٧٣٧ ـ ٧٣٨.

١٣٧

بغلبة الماء وجريانه بل انفصاله ، ولا يتحقّق شي‌ء من هذه الشرائط في الفرض.

الثاني : بقاء غسالته النجسة فيه ، فلا يطهر.

الثالث : عدم الدليل على طهارة مثل هذه الأشياء بالغسل بالماء القليل.

ويرد على الوجه الأوّل : أنّ الحاكم باعتبار مثل هذه الشرائط في تحقّق المفهوم إنّما هو العرف ، وهو لا يحكم باعتبارها بالنسبة إلى كلّ جزء جزء من أجزاء المغسول إلّا أن يتعلّق الغسل بنفس الجزء على سبيل الاستقلال ، نظير اشتراط العصر في غسل الثوب ، فإنّه لا يعتبر ملاحظته في كلّ جزء جزء ، ضرورة أنّ كثيرا من أجزاء الثوب الكبير الذي يعصر لا يتأثّر بالعصر ، وكثير من أجزائه تتنقّل غسالته إلى سائر أجزائه ولا تنفصل عنه.

وكيف كان فغسل الإناء القذر أو الحنطة المستنقعة في ماء قذر لدى العرف ليس إلّا استيلاء الماء القاهر النافذ في أعماقه عليه بحيث تستهلك قذارته أو تنتقل بواسطة الأجزاء المائيّة الواصلة إليها إلى الماء المستولي عليه الذي ينفصل عنه.

ألا ترى أنّه لو رسخ شي‌ء من القذارات ـ كالدم مثلا ـ في خشبة أو إناء وأريد تنظيفها من ذلك ، توضع مدّة في الماء مرّة أو مرّتين أو أزيد إلى أن ينتقل ما في جوفها من القذارة بواسطة الرطوبات الواصلة إليها إلى الماء ، فيتحقّق بذلك غسله لدى العرف.

ولذا لم يستند أحد من القائلين بالمنع ـ فيما وجدت من كلماتهم ـ إلى إنكار حصول مسمّى الغسل ، بل ظاهرهم التسالم عليه ، كما يشهد بذلك اعترافهم به في الماء الكثير ، إذ لا فرق بين الغسل بالماء القليل والكثير من هذه الجهة لو لا

١٣٨

نجاسة الغسالة في الأوّل.

وكيف كان فالاستناد للمنع إلى هذا الوجه ضعيف.

وأضعف منه الاستناد إلى الوجه الثالث ، كما حكي عن الذخيرة في ردّ استدلال صاحب المدارك للجواز بإطلاق الأمر بالغسل ، حيث قال في عبارته المتقدّمة (١) : ليس في الأدلّة ـ فيما أعلم ـ ما دلّ على الأمر بالغسل في كلّ مادّة بحيث يشمل مورد النزاع ، لاختصاصها بالبدن والثوب وبعض الموارد الخاصّة ، فتعدية للحكم إلى غيرها تحتاج إلى دليل. انتهى.

ولذا طعن عليه جلّ من تأخّر عنه : بأنّ تطهير كلّ متنجّس إذا غسل على الوجه المعتبر قاعدة كلّيّة استفيدت من استقراء الموارد الخاصّة ، وإلّا لاحتجنا إلى الدليل في كلّ جزئيّ.

أقول : لو كان الأمر كما زعم ، لاحتجنا في الحكم بطهارة سطحه الظاهر عند تنجّسه أيضا أو سطحه الظاهر من باطنه عند شقّه وغسله إلى دليل خاصّ ، وهو كما ترى ، فالشكّ في المقام إنّما نشأ من عدم قبول هذه الأشياء للعصر ، وبقاء ماء الغسالة فيها ، لا من قصور ما دلّ على مطهّريّة الغسل ، ولذا لو فرض عروض وصف النعومة للخشبة أو الحنطة المستنقعة في الماء بحيث أمكن عصرها واستخراج غسالتها ، لا يستشكل أحد في كون حالها حال الثوب ، كما أنّه لو فرض عروض وصف الخشونة للثوب بحيث تعذّر استخراج ما نفذ فيه من الماء ، يتطرّق فيه الإشكال ، كما هو الشأن بالنسبة إلى عقب بعض أصناف النعال ممّا

__________________

(١) في ص ١٣٣.

١٣٩

لا يقبل العصر إمّا لثخنه أو لوضع الخشبة فيه.

هذا ، مع أنّ من تلك الموارد الخاصّة ـ التي ورد الأمر بغسلها ـ الأواني ، وهي ربما تكون من الخشب أو الخزف ، وهما من قبيل ما نحن فيه ، فإذا ثبت جواز تطهير هما بالقليل عند رسوب النجاسة فيهما ، ثبت في غيرهما بعدم القول بالفرق.

هذا كلّه ، مع أنّ لنا أن نقول : إنّ مقتضى القاعدة طهارة كلّ متنجّس بغسله بالماء ، إلّا أن يدلّ دليل تعبّديّ على خلافه ، فإنّ تنظيف الأشياء المستقذرة بالعرض بغسلها بالماء كان معروفا لدى العرف والعقلاء مع قطع النظر عن الشرع ، والشارع إنّما تصرّف في موضوع القذر بأن حكم بقذارة بعض ما لا يراه العرف قذرا ، فأوجب التنزّه عنه بغسله بالماء ، ونفى قذارة بعض ما يزعمونه قذرا ، فلم يوجب التنزّه عنه ، فما صدر من الشارع من الأمر بغسل الثوب أو البدن أو غيرهما من البول أو الدم أو نحوهما ليس لبيان كون الغسل مطهّرا ، بل لبيان قذارة ما أمر بغسله.

وأمّا كون الغسل في الجملة رافعا للقذارة فلم يكن محتاجا إلى البيان ، بل كان معروفا لدى أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام وغيرهم ، كما لا يخفى على من تدبّر في الأخبار.

نعم ، ربما اعتبر الشارع في كيفيّة التطهير أمورا لم تكن معروفة (١) لديهم ، كالتعفير والتعدّد واعتبار كون الماء مطلقا أو غير ذلك ، لا أنّه جعل نفس الغسل بالماء مطهّرا حتّى نحتاج في كلّ مورد إلى مطالبة دليل خاصّ.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «معروفا». والصحيح ما أثبتناه.

١٤٠