مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوّم به عند الملاقاة ، فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به ، كما إذا القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصية وتأثير» مع كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع.

وإن أبيت إلّا عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول : لا شكّ أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة ، مثل : الثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاستنباط القضيّة الكلّيّة المذكورة منها ليس إلّا من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما يتقوّم به ، وإلّا فاللازم إناطة النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله.

ودعوى أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما ليس بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضيّة العامّة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوّم النجاسة بالجسم.

نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر الدليل ، وفي المتنجّس محتمل البقاء ، لكن هذا المقدار لا يوجب الفرق بعد ما تبيّن أنّ العرف هو المحكم في موضوع الاستصحاب.

أرأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّيّة أو الحرمة أو النجاسة أو الطهارة هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب؟ كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا أو الماء المتنجّس بولا لمأكول اللّحم ، خصوصا إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة ،

٢٨١

كما أنّ العلماء لم يفرّقوا أيضا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع ، بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة حتّى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّيّة مطلق الظنّ (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : ما ذكره قدس سرّه في غاية الجودة ، إلّا أنّه يظهر منه تسليم مدّعى الخصم لو كانت الكلّيّة التي ادّعى عليها الإجماع مضمون دليل معتبر ، ولم تكن عنوانا انتزاعيّا من الأدلّة الخاصّة ، مع أنّ التحقيق يقتضي خلافه ، ضرورة أنّ النجاسة والطهارة وكذا الحلّيّة والحرمة ـ كخواصّ الأدوية ـ إنّما هي من عوارض الجسم الخارجيّ ، لا الطبيعة من حيث هي ، فمعروض الأحكام إنّما هو مصاديق الجسم ـ أعني أفراده ـ لا مفهومه ، فحكم كلّ فرد فرد مخصوص به لا يتعدّاه ، فلو قال الشارع مثلا : عذرة غير المأكول نجسة ، فتغذّى حيوان بعذرة إنسان وصارت العذرة عذرة له ، نحكم بنجاستها ، لكونها بنفسها موضوعا للحكم ، لا لبقاء نجاستها السابقة ، إذ لا يعقل بقاء نجاسة فرد متبدّل بفرد آخر ، لاستحالة انتقال العرض.

فإذا قال الشارع مثلا : كلّ ثوب لاقى نجسا ينجس ، وقلنا بأنّ المرجع في تشخيص موضوع الاستصحاب هو الأدلّة الشرعيّة ، لو لاقى ثوب نجاسة ، كالقميص مثلا ، ثمّ تغيّرت صورته وصار ثوبا آخر وشكّ في مدخليّة عوارضه المشخّصة في بقاء نجاسته ، لم يجر الاستصحاب.

ولو قال : كلّ كرباس لاقى نجسا ينجس ، جرى الاستصحاب في مثل

__________________

(١) فرائد الأصول : ٦٩٤ ـ ٦٩٥.

٢٨٢

الفرض ، لأنّه يصحّ أن يقال : إنّ هذا الكرباس الذي صار ثوبا آخر حال كونه قميصا لاقى نجسا ، وشكّ في بقاء نجاسته بعد أن تغيّرت هيئته الخاصّة ، فليستصحب نجاسته ، لكن لو تبدّل الكرباس بكرباس آخر بأن تفلّل ونسج من خيوطه كرباس آخر ، لم يجر الاستصحاب ، إذ لا يصدق عليه حينئذ أنّ هذا الكرباس لاقى نجسا.

ولو قال : كلّ جسم لاقى نجسا ينجس ، جرى الاستصحاب في هذه الصورة أيضا : لأنّه يصحّ أن يقال : هذا الجسم بعينه لاقى نجسا قبل صيرورته بهذه الكيفيّة الخاصّة ، فلم يتغيّر الموضوع ، ولكن لو تغيّرت ذات الجسم بأن صار الكرباس ترابا أو رمادا ، لم يجر الاستصحاب أصلا ، سواء قال : كلّ جسم ، أو كلّ ثوب ، أو كلّ شي‌ء ، إذ بعد الاستحالة لا يصدق عليه أنّ هذا الشي‌ء بعينه لاقى نجسا حتّى يستصحب حكمه ، لأنّ الكرباس الذي لاقى النجاسة عقلا وعرفا شي‌ء آخر مغاير للتراب والرماد ، ومجرّد مشاركتهما في الجسميّة لا يصحّح جريان الاستصحاب ما لم يطلق عليه عرفا أنّ هذا الشي‌ء بعينه لاقى النجس ، كما هو واضح.

نعم ، لو لم تكن المغايرة على وجه عدّ الفرد الآخر في أنظار العرف أمرا مغايرا للفرد الأوّل وإن كان الأمر كذلك بالتدقيق الحكمي بل كان بنظر العرف من أنحاء وجود الفرد الأوّل ، جري الاستصحاب ، كما لو تبدّل سواد شديد بسواد ضعيف ، وشكّ في بقاء حكمه ، فإنّ أهل العرف يزعمون أنّ هذا السواد بعينه هو اللّون الأوّل وقد ذهبت شدّته ، فيستصحبون حكمه بعد أن علموا بحجّيّة الاستصحاب ، كما أنّهم يستصحبون نجاسة الحنطة المتنجّسة عند صيرورتها طحينا والطحين عجينا والعجين خبزا ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي يشهد العرف

٢٨٣

ببقاء الشي‌ء الأوّل وعدم تغيّره إلّا من حيث الأوصاف التي لا مدخليّة لها في قوام ذاته التي هي لدى العرف معروض النجاسة.

ولعلّ من هذا القبيل ما لو صارت الخشبة المتنجّسة فحما ، إذ لا يبعد أن يدّعى أنّ الفحم لدى العرف هو بعينه ذلك الجسم الملاقي للنجس وقد تغيّرت صفته ، فيتّجه حينئذ استصحاب نجاسته على تقدير الشكّ في بقائها ، وإن أنكرنا ذلك ، لم يجر الاستصحاب.

وكذا لو شككنا فيه ، فإنّ إحراز الموضوع شرط في جريان الاستصحاب ، واستصحاب بقاء الموضوع لا يجدي في إثبات نجاسة الفحم ، كما تقرّر في محلّه.

وبهذا ظهر لك وجه اختلاف الأصحاب في حكم الفحم.

ولكن مقتضى ما ذكره شيخنا المرتضى رحمه‌الله من أنّ معروض النجاسة هو الجسم من حيث كونه جسما ، وما ذكره الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ أنّ كل جسم لاقى نجسا ينجس كلّي انتزاعيّ من العناوين الخاصّة : عدم جريان الاستصحاب في الفرض وإن صدق عرفا كونه بعينه هو ذلك الجسم ، فإنّ وصف الخشبية التي هي من العناوين الخاصّة زال قطعا ، فلا مجال للاستصحاب.

لكن هذا إذا بنينا على مراجعة الأدلّة الشرعيّة في تشخيص الموضوع ، وإلّا فلا يترتّب على دعوى كون العموم كلّيّا انتزاعيّا فائدة بناء على ما هو التحقيق ومرضيّ الشيخ رحمه‌الله من الرجوع إلى العرف ، فإنّ الموضوع لدى العرف ليس إلّا جسم الملاقي ، فالثوب الملاقي للنجس ما دام بقاء جسمه ـ الذي هو القطن الخاصّ ـ لو شكّ في بقاء نجاسته تستصحب نجاسته ، وكذا السرير وغيره من

٢٨٤

الأشياء المتّخذة من الخشب ما دام بقاء جسمها وهو الخشب ، بل لا يشكّ أحد من المتشرّعة في بقاء النجاسة في مثل هذه الأشياء بزوال العناوين الخاصّة المعلّق عليها الحكم في الأدلّة السمعيّة ما دام جسم الملاقي بعينه باقيا ، فالشكّ في بقاء النجاسة عند احتراق الثوب والسرير ونحوهما وصيرورتهما رمادا أو دخانا إنّما هو لحصول الاستحالة وتبدل ذلك الجسم الملاقي بجسم آخر ، وإلّا فلو بقي ذلك الجسم بعينه بعد ارتفاع عنوانه الخاصّ لا يشكّ أحد في بقاء حكمه فضلا عن أن يشكّ في استصحابه.

وملخّص الكلام : أنّه مهما أثرت الاستحالة في تبدّل الجسم بجسم آخر بحيث عدّ بنظر العرف شيئا مغايرا للأوّل لا يجوز استصحاب شي‌ء من أحكامه السابقة من غير فرق بين النجس والمتنجّس ، ولا بين موضوعات سائر الأحكام الشرعيّة من الحلّيّة والحرمة وإباحة التصرّف ونحوها.

ولا يكفي في بقاء الموضوع شهادة العرف ببقاء جسميّة الشي‌ء المستحيل في ضمن الفرد المستحال إليه ، فإنّ العرف ربما يحكم ببقاء الجسميّة المطلقة التي كانت بصورة العذرة أو الخشبة بعد صيرورتهما رمادا ، لكن لا يساعد على إطلاق أنّ هذا الجسم بعينه كان كذا ، وهذا هو المناط في جريان الاستصحاب ، لا الأوّل ، كما لا يخفى على المتأمّل في دليله.

نعم ، ربما يتخيّل الفرق في بعض الموارد بين النجاسات العينيّة والمتنجّسات ، نظرا إلى مساعدة العرف على أخذ الوصف العنواني المأخوذ موضوعا في الأدلّة الشرعيّة من مقوّمات الموضوع في النجاسات العينيّة ، دون

٢٨٥

المتنجّسات ، كما إذا حكم الشارع بنجاسة الخمر ، فإنّه يرى أهل العرف أنّ لطبيعتها الخمريّة دخلا لنجاستها العينيّة ، فعند انقلابها خلّا يتبدّل موضوعها ، وهذا بخلاف ما لو عرضها نجاسة خارجيّة بأن لاقت نجسا قبل صيرورتها خمرا أو بعدها ، فإنّ موضوع هذه النجاسة العارضة بنظر العرف هو جسمها الباقي بعد الانقلاب.

هذا ، ولكن للنظر في هذه التفرقة مجال ، نظرا إلى أنّ طهارة الخلّ المستحال إليه الخمر إنّما ثبتت بالأدلّة الاجتهاديّة ، وإلّا فلو لم يكن الحكم الشرعيّ الواصل إلينا إلّا نجاسة الخمر أو مطلق العصير عند غليانه واشتداده لأشكل الحكم بطهارتهما عند انقلابهما خلّا أو دبسا ، إذ الظاهر أنّ معروض النجاسة في النجاسات العينيّة أيضا كالمتنجّسات ـ على ما هو المغروس في الأذهان ـ ليس إلّا الجسم الخارجيّ الصادق عليه عنوان النجس ، فما دام ذلك الجسم باقيا بعينه يحكم بنجاسته وإن تغيّر بعض أوصافه الموجبة لصدق العنوان ، ولذا لا يتوهّم أحد طهارة أجزاء الكلب أو الخنزير ـ كشعره وعظمه ـ بعد الانفصال ، مع أنّه لا يصدق عليها بعد الانفصال اسم الكلب أو الخنزير.

وكيف كان فمتى استحيل الجسم (١) إلى جسم بحيث صار لدى العرف شيئا آخر مغايرا للأوّل لا يجوز استصحاب شي‌ء من أحكامه السابقة ، وهذا ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، وأمّا أنّ معروض الحكم في النجاسات العينيّة أيضا كالمتنجّسات هو جسمها من حيث هو ، أو أنّ لوصفها العنواني دخلا في قوام موضوعيّة

__________________

(١) في «ض ١٠ ، ١١» : «جسم».

٢٨٦

الموضوع فهو ممّا لا يهمّنا تحقيقه ، والمرجع فيه العرف ، ومع الشكّ يمتنع جريان الاستصحاب فيه ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

الثالث : الطين النجس إذا طبخ بالنار حتّى صار خزفا أو آجرا فقد حكي عن الشيخ في الخلاف ، والعلّامة في النهاية وموضع من المنتهى ، والشهيد في البيان ، والمحقّق الشيخ حسن في المعالم القول بطهارته (١).

وجزم جمع من المتأخّرين ـ على ما حكي (٢) عنهم ـ بالعدم.

وعن المصنّف في المعتبر ، والعلّامة في موضع آخر من المنتهى ، وصاحب المدارك : التوقّف فيه (٣).

واستدلّ الشيخ للطهارة في محكيّ خلافه : بالإجماع ، وصحيحة الحسن ابن محبوب (٤) ، المتقدّمة (٥).

وعن صاحب المعالم الاستدلال عليه بأصالة الطهارة بعد منعه قيام الدليل على بقاء حكم النجاسة بعد زوال عينها ، نظرا إلى أنّ عمدة المستند فيه الإجماع ، وهو مفقود في المقام ، والاستصحاب لا يجري في مثل المقام ممّا كان مدركه

__________________

(١) حكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٦٣ ، وانظر : الخلاف ١ : ٤٩٩ ، المسألة ٢٣٩ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٩١ ، ومنتهى المطلب ٣ : ٦١ ، الفرع الخامس ، والبيان : ٣٩ ، والمعالم (قسم الفقه) : ٧٧٨.

(٢) الحاكي عنهم هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٦٣ ، وانظر : روض الجنان : ١٧٠ ، ومسالك الافهام ١ : ١٣٠.

(٣) حكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٦٣ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٥٢ ، ومنتهى المطلب ٣ : ٢٨٨ ، القسم السادس من الأعيان النجسة إذا استحالت ، ومدارك الأحكام ٢ : ٣٦٩.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٦٣ ، وانظر : الخلاف ١ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ، المسألة ٢٣٩.

(٥) في ص ٢٧٧.

٢٨٧

الإجماع (١).

وأمّا توقّف صاحب المدارك وغيره فمنشؤه الشكّ في تحقّق الاستحالة الموجبة لارتفاع الحكم.

ولا يخفى عليك مساعدة العرف على بقاء الموضوع في مثل هذه الموارد ، فالأقوى هو القول ببقاء النجاسة ، للاستصحاب.

وما عن صاحب المعالم ـ من منع الاستصحاب في ما إذا ثبت الحكم بالإجماع ـ ففيه ما تقرّر في محلّه من عدم مدخليّة دليل المستصحب في قوام الاستصحاب.

وما عن الشيخ ـ من دعوى الإجماع على الطهارة ـ فلا ينهض حجّة بعد تحقّق الخلاف.

وأمّا الصحيحة : فقد تقدّم الكلام فيها آنفا ، وعرفت عدم تماميّة الاستدلال بها للمدّعى.

هذا ، ولكن ربما يتوهّم في مثل هذه الموارد أنّ الشكّ في بقاء النجاسة ليس في قبيل الشكّ في الرافع ، بل من قبيل الشكّ في المقتضي الذي لا نقول بحجّيّة الاستصحاب فيه.

ويدفعه : أنّه قد ثبت في الشريعة أنّ الطهارة والنجاسة من الأمور القارّة التي لا ترتفع إلّا برافع ، وحيث إنّ أهل العرف يزعمون بقاء الموضوع لو ثبت عندهم طهارته بالطبخ بالنار يرون الطبخ بالنار ـ كالغسل بالماء ـ من المطهّرات ،

__________________

(١) المعالم (قسم الفقه) : ٧٧٨ ، وأشار إليه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٦٤ و ٤٤٠.

٢٨٨

فمتى أوجب عليهم الشارع العمل بالاستصحاب في موارد الشكّ في الرافع يجرونه في مثل هذه الموارد ، وكون الشكّ في الحقيقة ناشئا من الشكّ في مدخليّة الوصف الزائل في قوام الموضوع الذي بقاؤه من أجزاء المقتضي غير قادح بعد أن كان أمر الاستصحاب موكولا إلى أهل العرف قد ألقي إليهم دليله ، وهم يعاملون في هذه الموارد معاملة الشكّ في الرافع ، فليتأمّل.

الرابع : العجين المعجون بماء نجس لو خبز لا يطهر على المشهور.

وحكي عن الشيخ في النهاية في باب المياه أنّه قال : فإن استعمل شي‌ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن ويخبز ، لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز ، فإنّ النار قد طهّرته (١).

وعنه في باب الأطعمة من الكتاب المذكور ، قال : وإذا نجس الماء بحصول شي‌ء من النجاسات فيه ثمّ عجن به وخبز ، لم يجز أكل ذلك الخبز ، وقد رويت رخصة في جواز أكله ، وذلك إنّ النار قد طهّرته ، والأحوط ما قدّمناه (٢).

واختلف كلامه أيضا في كتابي الاستبصار والتهذيب ـ على ما حكي (٣) عنهما ـ فأفتى في الأوّل بالطهارة ، وفي الثاني بعدمها.

وليس مستنده على الظاهر دعوى الاستحالة حتّى يتوجّه عليه قضاء العرف ببقاء الموضوع وعدم تحقّق الاستحالة الموجبة لارتفاع الحكم ، بل الخبران (٤)

__________________

(١) حكاه عنه صاحب المعالم فيها (قسم الفقه) : ٧٧٩ ـ ٧٨٠ ، وانظر : النهاية : ٨.

(٢) حكاه عنه صاحب المعالم فيها (قسم الفقه) : ٧٨٠ ، وانظر : النهاية : ٥٩٠.

(٣) الحاكي هو صاحب المعالم فيها (قسم الفقه) : ٧٨٠ ، وانظر : الاستبصار ١ : ٣٠ ، ذيل ح ٧٧ ، والتهذيب ١ : ٤١٤ ، ذيل ح ١٣٠٦.

(٤) أي مرسلة ابن أبي عمير ورواية عبد الله بن زبير ، المتقدّمتان في ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٢٨٩

المتقدّمان في صدر المبحث ، الدالّان عليه.

وقد عرفت فيما سبق عدم صلاحيّتهما لإثبات الحكم بعد إعراض المشهور عنهما ، مع ما فيهما من ضعف السند ، وورود ثانيهما في ماء البئر ، الذي لا نقول بنجاسته ، واحتمال كون الأوّل أيضا فيه ، مع معارضتهما بغيرهما من الأخبار المعتضدة بالشهرة ، فالقول بالطهارة ضعيف ، مع أنّه من الأقوال الشاذّة التي لا يبعد دعوى الإجماع على خلافه ، والله العالم.

الخامس : قد أشرنا آنفا إلى أنّ عمدة المستند في الحكم بطهارة الخلّ المستحيل إليه الخمر وكذا العصير الذي ذهب ثلثاه هي الأدلّة الخاصّة ، وإلّا لأشكل الحكم بطهارتهما لأجل الاستحالة ، كما تمسّك بها غير واحد ، خصوصا على ما هو المشهور من كون المتنجّسات الخالية من أعيان النجاسة (١) منجّسة ، فإنّ استحالة الخمر أو العصير إلى مائع آخر لا تقتضي طهارة إنائهما المتنجّس بهما ، ونجاسة الإناء مانعة من طهارتهما ، ولعلّه لذا جعل الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ انقلاب الخمر خلا ، وكذا ذهاب ثلثي العصير قسيما للاستحالة عند تعداد المطهّرات.

وكيف كان فيدلّ على طهارة العصير بذهاب ثلثيه : الأخبار الكثيرة الدالّة على حلّيّته بعد ذهاب الثلثين ، فإنّها أخصّ من الطهارة ، وقد تقدّم جملة منها عند التكلّم في إلحاق العصير بعد الغليان بالخمر في الحرمة والنجاسة ، فراجع (٢).

وقد أشرنا في ذلك المبحث إلى عدم التنافي بين القول بعدم سببيّة الغليان

__________________

(١) في «ض ١٠» : «النجاسات».

(٢) ج ٧ ، ص ٢٠٠ وما بعدها.

٢٩٠

بنفسه للنجاسة ما لم يسكر ، وبين الالتزام بكون ذهاب الثلثين مطهّرا له ، وإن كان الأوجه على هذا التقدير هو الالتزام بكون ذهاب الثلثين ـ الذي هو سبب للحلّيّة ـ كاشفا عن طهارته ، وأمّا كونه مؤثّرا فيها فلا دليل عليه.

وكيف كان فطهارة العصير بعد ذهاب ثلثيه ـ سواء قلنا بنجاسته بعد الغليان مطلقا أو بشرط أن يحدث فيه شدّة مطربة ـ ممّا لا شبهة فيه.

وأمّا الخلّ المستحيل من الخمر فممّا يدلّ على طهارته ـ مضافا إلى الإجماع ـ جملة من الأخبار :

منها : صحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا ، قال : «لا بأس» (١).

وموثّقة عبيد بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلّا ، قال : «لا بأس» (٢).

وموثّقة أخرى له أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتّى صار خمرا فجعله صاحبه خلا ، فقال : «إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس» (٣).

وصحيحة ابن المهتدي ، قال : كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك ، العصير

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٨ (باب الخمر تجعل خلّا) ح ٢ ، التهذيب ٩ : ١١٧ / ٥٠٤ ، الوسائل ، الباب ٧٧ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٨ / ٣ ، التهذيب ٩ : ١١٧ / ٥٠٥ ، الوسائل ، الباب ٧٧ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٩ : ١١٧ ـ ١١٨ / ٥٠٧ ، الإستبصار ٤ : ٩٣ / ٣٥٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٥.

٢٩١

يصير خمرا فيصبّ عليه الخلّ وشي‌ء يغيّره حتّى يصير خلّا ، قال : «لا بأس به» (١).

وخبر أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر يصنع فيها الشي‌ء حتّى تحمض ، قال : «إذا كان الذي صنع فيها هو الغالب على ما صنع فيها فلا بأس» (٢).

عن الشيخ أنّ هذا الخبر شاذّ متروك ، لأنّ الخمر نجس ينجس ما حصل فيها (٣). انتهى.

ولعلّه محمول على الانقلاب ، لا الاستهلاك والامتزاج.

والمرويّ عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الخمر يكون أوّله خمرا ثمّ يصير خلّا ، قال : «إذا ذهب سكره فلا بأس» (٤).

وعن جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه سئل عن الخمر تعالج بالملح ونحوه لتحوّل خلّا ، قال : «لا بأس بمعالجتها» قلت : فإنّي عالجتها وطيّنت رأسها ثمّ كشفت عنها فنظرت إليها قبل الوقت فوجدتها خمرا أيحلّ لي إمساكها؟ قال : «لا بأس بذلك إنّما إرادتك أن تتحوّل الخمر خلّا وليس إرادتك الفساد» (٥).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١١٨ / ٥٠٩ ، الإستبصار ٤ : ٩٣ / ٣٥٩ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٨.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢٨ (باب الخمر تجعل خلّا) ح ١ ، التهذيب ٩ : ١١٩ / ٥١١ ، الإستبصار ٤ : ٩٤ / ٣٦٢ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٢.

(٣) حكاه عنه الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٢ من الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، وانظر : التهذيب ٩ : ١١٩ ، ذيل ح ٥١١.

(٤) قرب الإسناد : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ / ١٠٨٣ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٩.

(٥) السرائر ٣ : ٥٧٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ١١.

٢٩٢

وعن محمّد بن أبي عمير وعليّ بن حديد جميعا عن جميل ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا ، فقال : «خذها ثمّ أفسدها» قال عليّ : «واجعلها خلّا» (١).

وهذه الأخبار ما بين مطلق وظاهر وصريح في حلّيّة الخلّ المستحيل من الخمر بالمعالجة.

ولا يعارضها المرويّ عن العيون عن عليّ عليه‌السلام : «كلوا [خلّ] الخمر ما انفسد ، ولا تأكلوا ما أفسد تموه أنتم» (٢) وخبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر تجعل خلّا ، قال : «لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يقلبها» (٣) وخبره الآخر أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الخمر يجعل فيها الخلّ ، فقال : «لا ، إلّا ما جاء من قبل نفسه» (٤) فإنّها مع ضعف سندها وإعراض الأصحاب عن ظاهرها لا تصلح لمعارضة الأخبار المتقدّمة ، خصوصا مع إمكان ارتكاب التوجيه في هذه الأخبار بالحمل على الاستحباب.

وقد حكي عن الشيخ حمل خبري أبي بصير عليه (٥) ، جمعا بينهما وبين

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١١٨ / ٥٠٨ ، الإستبصار ٤ : ٩٣ / ٣٥٨ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٦.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٠ ، ذيل ح ١٢٧ ، وعنها في البحار ٦٦ : ٥٢٤ / ٢ ، والوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٢٤ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٨ / ٤ ، وفيه : «ما يغلبها» التهذيب ٩ : ١١٧ / ٥٠٦ ، وفي الاستبصار ٤ : ٩٤ / ٣٦١ عن عبيد بن زرارة ، الوسائل الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٤.

(٤) التهذيب ٩ : ١١٨ / ٥١٠ ، الإستبصار ٤ : ٩٣ ـ ٩٤ / ٣٦٠ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٧.

(٥) حكاه عنه الشيخ الحرّ العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٧ من الباب ٣١ من أبواب الأشربة المحرّمة ، وانظر : التهذيب ٩ : ١١٨ ، ذيل ح ٥١٠ ، وفيهما حمل الخبر الأخير على الاستحباب.

٢٩٣

غيرهما من الروايات.

ولا بأس به بعد البناء على المسامحة في السنن.

ومقتضى إطلاق بعض الأخبار المتقدّمة وترك الاستفصال في غيرها : عدم الفرق بين ما لو بقي فيها عين ما عولجت به بعد صيرورتها خلّا أو استهلك فيها قبل التخلّل خصوصا مع أنّه كثيرا مّا يتخلّف من الملح ونحوه ـ كما في خبر (١) البزنطي ـ بعض الأجزاء الأرضيّة بعد الانقلاب ، فتطهر بالتبع.

فما عن بعض ـ من التفصيل بينهما واختصاص الطهارة بما إذا لم تبق العين بعد الانقلاب : نظرا إلى أنّ نجاسة العين الباقية مانعة من الطهارة ، ولا دليل على طهارتها بالتبع (٢) ـ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، بل لو فرض كون المعالجة بما تبقى عينه بعد الانقلاب خلاف المتعارف الذي ينصرف عنه الإطلاق ، لا ينبغي الاستشكال فيه أيضا ، فإنّ خروجه من المتعارف لا يخرجه من الآليّة ، كي لا يفهم طهارته بالتبع ممّا دلّ على حلّيّة الخلّ المستحيل من الخمر ، بل لا ينبغي التشكيك في طهارة جسم خارجيّ طاهر من حجارة ونحوها لو وقع في الخمر وبقي فيها إلى أن تتخلّل ، أو ألقي فيها بعض الأجسام الطاهرة الطيّبة الريح ليطيب ريحها ، فإنّ ما دلّ على حلّيّة الخمر بعد أن ذهب سكرها وصارت خلّا لا يقصر عن شمول مثل الفرض ، ولذا لا يظنّ بأحد ممّن سمع بأخبار الباب ولم يكن ذهنه مشوبا ببعض الشبهات أن يتردّد في حكم المسألة في مثل هذه الموارد خصوصا بعد

__________________

(١) تقدّم الخبر في ص ٢٩٢.

(٢) كما في مجمع الفائدة والبرهان ١١ : ٢٩٤.

٢٩٤

الالتفات إلى أنّ الأخبار بأسرها مسوقة لبيان الحلّيّة ، ودلالتها على الطهارة إنّما هي بالتبع ، فربما لم يكن السائل ملتفتا إلى نجاستها حتّى يمكن أن يدّعى أنّ مغروسيّة نجاستها في الذهن توجب صرفها عن مثل هذه الفروض ، بل قد عرفت عند البحث عن نجاسة الخمر أنّ الذي يساعد عليه القرائن عدم كون نجاسة الخمر من الأمور المسلّمة عند السائلين حتّى تجعل معروفيّة نجاستها قرينة صارفة عن مثل هذه الموارد ، لكن الجزم بذلك في غير ما جرت العادة بعدم التحرّز عن مثله في مثل هذه الموارد كقليل من التراب أو الحجارة أو الحصى أو الأجرام العينيّة الباقية فيها وغيرها ممّا جرى هذا المجرى في غاية الجرأة.

وكيف كان فهذا إذا كان ذلك الجسم الباقي بعد الانقلاب من الجوامد ، وأمّا إن كان من المائعات فلا يخلو الحكم بتبعيّته للمستحيل ـ وإن كان مستعملا في العلاج فضلا عن غيره ـ عن إشكال ، لعدم مساعدة العرف عليه في المائعات حيث يرونها بمجرّد الاتّصال بالنجس ـ لصيرورتها بذاتها نجسة ـ كعين النجس مستقلّة بالأثر ، بخلاف الجامدات الملاقية للنجس التي لا تتخطّى النجاسة عن سطحها الملاصق للجسم ، فلا يرون لها ما لم ينفصل أثرا خاصّا ، بل يرون نجاستها تابعة لنجاسة النجس الملاصق لها [و] (١) لا يتعقّلون بقاءها بعد انقلاب ذلك النجس وصيرورته طاهرا.

والحاصل : أنّ مساعدة العرف على التبعيّة في المائعات محلّ نظر ، فمقتضى الأصل بقاء نجاستها ومانعيّتها من طهارة المستحيل.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٢٩٥

فما عن الشيخ ـ من القول بطهارة الخمر القليلة الملقاة في خلّ كثير إذا مضى عليها زمان يعلم عادة باستحالتها (١) ـ مشكل ، لخروج مثل الفرض من منصرف الأدلة ، وعدم كونه فرضا متعارفا حتّى يدّعى استفادة حكمه من إطلاق الأمر بالتخليل ، وعدم كون الخصوصيّة المفروضة من الخصوصيّات الغير الملحوظة لدى العرف حتّى لا تكون ندرتها موجبة للانصراف ، فليتأمّل.

ولا فرق بين الخمر وسائر المسكرات المائعة في حلّيّتها وطهارتها عند انقلابها خلّا ، لما عرفت في محلّه من أنّ الحكم بنجاسة سائر المسكرات إنّما هو لاندراجها في موضوع الخمر حقيقة أو حكما على أبعد الاحتمالين ، بل قد عرفت في ذلك المبحث أنّ خمر أهل المدينة ـ التي هي بحسب الظاهر مورد الأخبار غالبا ـ لم تكن متّخذة إلّا من غير العصير الذي قد يقال باختصاص اسم الخمر به ، فلا ينبغي الارتياب فيه ، كما أنّه لا ينبغي الارتياب في طهارة العصير الذي غلى بانقلابه خلّا ، كطهارته بذهاب ثلثيه إذا قلنا بأنّ نجاسته تدور مدار صيرورته مسكرا ، كما قوّيناه في محلّه ، وإلّا أشكل إلحاقه بالخمر في هذا الحكم المخالف للأصل بعد خروجه من موضوعها ، وقصور الأخبار الدالّة على حلّيّة الخمر بالتخليل عن شموله.

لكن يظهر من بعض عدم الخلاف فيه ، بل في الجواهر دعوى الإجماع عليه بقسميه (٢).

وكيف كان فمتى طهر العصير بانقلابه خلّا أو بذهاب ثلثيه يتبعه إناؤه و

__________________

(١) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٦٨ ، وانظر : النهاية : ٥٩٢ ـ ٥٩٣.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٢٩١.

٢٩٦

الآلات المصاحبة له المتّصلة به حال الانقلاب وذهاب الثلثين ، دون المنفصلة عنه في هذا الحين فضلا عن ثياب المباشر وبدنه ، لعدم الدليل عليه.

لكن لو قلنا بنجاسة العصير بمجرّد الغليان وإن لم يسكر ، أشكل الالتزام بذلك ، لعسر التحرّز عنه ، وقضاء العادة باستعمال الآلات قبل ذهاب الثلثين وبعده لدى الحاجة إليه.

ومن هنا اشتهر القول بتبعيّة الآلات مطلقا ما دام بقاؤها على صفة الآليّة عرفا بين القائلين بالنجاسة ، وقد صرّح غير واحد منهم بتبعيّة يد المباشر وثيابه أيضا.

ولعلّ هذا هو المشهور فيما بينهم ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه (١).

وفي طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله بعد أن صرّح بطهارة الإناء وإن كانت أجزاء العصير عالقة بأطرافه الفوقانيّة قال : وتطهر أيضا الآلات التي يزاولها العامل وإن كان العصير الغير المثلّث عالقا بها ، وكذا ثياب العامل إذا لاقت شيئا من العصير قبل التثليث ، كلّ ذلك لفهمه من الإطلاقات ، وترك الإمام عليه‌السلام لاستدراكها عند الحكم بطهارة نفس العصير مع عموم البلوى ، وعدم تعرّض السائلين للسؤال الكاشف عن فهم ذلك من الإطلاقات. ومن ذلك يعلم أنّ الضابط في التبعيّة الأمور التي تلاقي العصير غالبا عند التثليث (٢). انتهى.

وقد عرفت في محلّه أنّ ما ذكره إنّما هو من الأمارات التي يستكشف منها طهارة العصير ، وأنّه لا ينجس ما يلاقيه حتّى يجب غسله ، لا أنّه يطهر بالتبع ، و

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٩١ عن اللوامع.

(٢) كتاب الطهارة : ٣٨٧.

٢٩٧

عدم تعرّض السائلين للسؤال كاشف عن عدم خطور النجاسة في أذهانهم ، لا أنّهم فهموا من الإطلاقات المسوقة لبيان حكم آخر ـ أي : حلّيّة العصير بعد ذهاب ثلثيه ، التي يلزمها الطهارة على تقدير كونه نجسا ـ مثل هذا الحكم التعبّدي الذي لا يدخل في الأذهان إلّا بنصّ صريح على وجه استغنوا بها عن المسألة عنه وعمّا يترتّب عليه من الفروع الخفيّة ، كما لا يخفى.

وجعل بعضهم (١) المدار في طهارة الثياب ونحوها على بقاء ما عليها من العصير حتّى يذهب ثلثاه بالهواء ونحوه ، فتطهر تبعا لما عليها من العصير ، لا للعصير المغليّ في القدر ، فلو مسح ما عليها وأزال عينه قبل أن يذهب ثلثاه ، بقي محلّه متنجّسا ، فلو لاقى العصير بعد ذهاب ثلثيه ، نجّسه ، فعلى هذا لا خصوصيّة للثوب والآلات ، بل حالهما حال سائر الأشياء الملاقية للعصير.

والقول بطهارتها تبعا لما عليها إنّما يتّجه على القول بعدم اعتبار كون ذهاب الثلثين بالنار ، وهو لا يخلو عن تأمّل.

وكيف كان فهاهنا فروع كثيرة متفرّعة على القول بالنجاسة لا يهمّنا التعرّض لها بعد البناء على ضعف المبنى.

تذنيب قال في الجواهر في تحديد ذهاب الثلثين : والمعتبر صدق ذهاب الثلثين من غير فرق بين الوزن والكيل والمساحة وإن كان الأحوط الأوّلين ، بل قيل : الأوّل (٢). انتهى.

أقول : وهو كما قيل ، فإنّ الوزن بمقتضى الاعتبار أخصّ مطلقا من غيره ،

__________________

(١) هو شارح الروضة كما صرّح به الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٨٧.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٢٩٢.

٢٩٨

فلا شبهة في كفايته ، وفرض التخلّف مجرّد فرض لا تحقّق له بحسب العادة.

هذا ، مضافا إلى استفادته من رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في رجل أخذ عشرة أرطال من عصير العنب ، فصبّ عليه عشرين رطلا ماء ، ثمّ طبخهما حتّى ذهب منه عشرون رطلا وبقي عشرة أرطال ، أيصلح شرب تلك العشرة أم لا؟ فقال : «ما طبخ على الثلث فهو حلال» (١).

وخبر ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا زاد الطلاء (٢) على الثّلث أوقيّة (٣) فهو حرام» (٤) فإنّ في تحديد الزائد بالأوقيّة شهادة على أنّ العبرة في المزيد عليه بالوزن.

وأمّا الكيل فليس لخصوصيّته دخل في الحكم بلا شبهة ، بل هو طريق لإحراز ذهاب الثلثين من حيث المساحة ، فلا وجه لجعله قسيما لها ، عدا أنّه أضبط من سائر الطرق التي يعتمد عليها العرف في إحراز ذهاب الثلثين بحسب المساحة المبنيّة على المسامحة والتقريب ، فبهذه الملاحظة جعل الكيل أحوط.

وكيف كان فالظاهر كفاية التقدير بالمساحة أيضا كالوزن من غير فرق بين إحرازها بالكيل أو بغيره من الطرق ، كالاختبار بعود ونحوه ، لما أشير إليه من الصدق العرفي خصوصا مع غلبة اعتبار العصير عند الطبخ بالمساحة ، وتعسّر اختباره بالوزن.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢١ / ١١ ، التهذيب ٩ : ١٢١ / ٥٢١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأشربة المحرمة ، ح ١.

(٢) الطلاء : ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه ، الصحاح ٦ : ٢٤١٤ «طلا».

(٣) الأوقيّة : زنة سبعة مثاقيل وزنه أربعين درهما ، لسان العرب ١٥ : ٤٠٤ «وقى».

(٤) الكافي ٦ : ٤٢١ / ٩ ، التهذيب ٩ : ١٢١ / ٥٢٠ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح ٩.

٢٩٩

ولا ينافيه الخبران المتقدّمان (١) كما هو واضح.

هذا ، مع وقوع التصريح بالكيل في روايتي عمّار ، الواردتين في كيفيّة طبخ نقيع الزبيب ، المتقدّمتين (٢) في مبحث العصير.

لكنّك عرفت في ذلك المبحث قصورهما عن إفادة كون التثليث لزوال التحريم ، فلا يخلو الاستدلال بهما للمدّعى عن مناقشة ، فليتأمّل.

واعلم أنّهم قد عدّوا من المطهّرات الانتقال والإسلام ، وقد أهملهما المصنّف رحمه‌الله ، كما أنّه أهمل الاستحالة أيضا ، عدا قسم منها ، وهو ما أحالته النار.

ولعلّ وجهه عدم كون هذه الأمور مطهّرات حقيقة ، بل هي مؤثّرات في رفع موضوع النجاسة ، فيتبعه حكمه ، فما صنعه غيره من عدّ مثل هذه الأمور من المطهّرات مبنيّ على المسامحة.

وأمّا وجه التعرّض لخصوص ما أحالته النار فهو ما نبّهنا عليه آنفا من استشعار مطهّريّة النار بنفسها ـ كالشمس ـ أو استظهارها من بعض الأخبار ، القاصر عن إثباتها.

وكيف كان فالمراد بالانتقال هو حلول النجس في محلّ آخر حكم الشارع بطهارته عند إضافته إلى ذلك المحلّ ، كانتقال دم ذي النفس إلى غير ذي النفس من القمّل والبقّ ونحوهما.

وقد مثّل له أيضا : بانتقال الماء المتنجّس إلى باطن النبات والشجر.

وتنقيح المقام : أنّ الانتقال قد يكون موجبا لانقلاب الموضوع واستحالته

__________________

(١) أي : رواية عقبة بن خالد ، وخبر ابن أبي يعفور ، المتقدّمان في ص ٢٩٩.

(٢) في : ج ٧ ، ص ٢١٢ ـ ٢١٣.

٣٠٠