مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

واستدلّ له أيضا : بقوله عليه‌السلام في بعض الأخبار الواردة في ماء الحمّام : «إنّه بمنزلة الجاري» (١) وفي بعضها الآخر : «إنّه كماء النهر يطهّر بعضه بعضا» (٢) بدعوى : أنّ إطلاق التشبيه يقتضي عمومه ، وما نحن فيه من وجوه الشبه.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا مرّ في محلّه.

نعم ، الرواية التي نزّل فيها منزلة الجاري لا بأس بإيرادها في مقام التأييد.

وقد يقال : إنّ ماء الحمّام حال جريانه بل كلّ ماء جار وإن لم يكن عن مادّة مندرج في موضوع قوله عليه‌السلام : «فإن غسلته في ماء جار فمرّة» (٣).

وفيه : أنّ المتبادر منه إرادة الماء الجاري بمعناه المعروف ، دون مطلق الماء الذي يجري ، كما هو واضح.

وماء المطر أيضا بمنزلة الجاري لا يعتبر في الغسل به التعدّد ، لقوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (٤) والله العالم.

الثاني : لا يعتبر وقوع الغسلتين بعد إزالة العين ، بل لو زالت العين بالأولى كفى ضمّ الثانية إليها ، كما يشهد له إطلاق الأخبار المتقدّمة الدالّة على الغسل مرّتين ، بل القدر المتيقّن من تلك الأخبار إنّما هو إرادة الغسل مرّتين لدى وجود عين البول في الثوب والجسد ، وإنّما حكمنا باعتبار هما مع الجفاف وزوال العين بواسطة أصالة الإطلاق.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٠ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ١٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، ح ٧.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٧٤ ، الهامش (٣).

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٢٨ ، الهامش (١).

١٨١

ويشهد لذلك ـ مضافا إلى أنّ فرض وجود العين هو القدر المتيقّن إرادته من موارد النصوص ـ ما في بعضها (١) من تعليل كفاية صبّ الماء على الجسد مرّتين : بأنّه ماء ، فإنّه صريح في المدّعي.

وربما يستشهد بإطلاق الأخبار لكفاية المرّتين وإن تحقّقت الإزالة بالأخيرة.

وفيه أوّلا : أنّ البول الذي هو ماء لا تبقى عادة عينه في الثوب والجسد بعد غسله مرّة حتّى تتحقق إزالته بالغسلة الثانية ، ففرض كونه كذلك فرض نادر بل غير واقع ينصرف عنه الإطلاقات.

وثانيا : أنّ وجود البول في الثوب بنفسه علّة لوجوب غسله مرّتين ، فما دام العين باقية في الثوب أو الجسد صدق عليه أنّه شي‌ء أصابه البول ، فيندرج في موضوع الأخبار الآمرة بغسله مرّتين ، ومجرّد إيصال الماء إليه ما لم يؤثّر في إزالة عينه لا يخرجه من موضوع تلك الأخبار ، بل لا يصدق عليه اسم الغسل ، فالقول بكفاية حصول الإزالة بمجموع الغسلتين ضعيف.

وأضعف منه القول بعدم احتساب الغسلة المزيلة للعين من العدد ، مستندا إلى أنّها لو احتسبت من العدد ، فلا معنى حينئذ لتعيين العدد في المرّتين ، لأنّ إزالة عين النجاسة قد لا تحصل بهما ، ولا يعقل الحكم بالكفاية مع بقاء العين ، فلا بدّ من الإزالة بغير هما ، فلا يمكن جعل المرّتين ضابطا للتطهير.

وفيه أوّلا : ما أشرنا إليه من أنّ غسل الثوب أو البدن من البول لا يتحقّق

__________________

(١) وهي رواية الحسين بن أبي العلاء والمروي في مستطرفات السرائر ، المتقدّمتان في ص ١٧٣ ـ ١٧٤.

١٨٢

عرفا إلّا بإذهاب عينه بالماء ، وليس مطلق إجراء الماء على الشي‌ء القذر مع بقاء القذارة فيه مصداقا للغسل.

وثانيا : أنّ تعيين العدد في المرّتين إنّما هو بلحاظ الغالب ، دون الفرض الذي فرضه القائل ، وهو ما لا تحصل الإزالة بهما ، فإنّه في مثل البول ـ الذي هو مورد النصوص ـ مجرّد فرض لا وقوع له.

الثالث : لا يكفي التقدير في الغسلتين ، بل يعتبر تحقّقهما بالفعل وانفصال كلّ منهما عن الآخر

بحيث ينفرد كلّ منهما بالفرديّة لدى العرف ، فإنّ هذا هو المتبادر من النصوص والفتاوى.

فما عن الذكرى من كفاية صبّ الماء عليه بقدر الغسلتين (١) ضعيف.

وربما استحسنه بعض (٢) فيما لو امتدّ زمان الصبّ بقدر انقضاء زمان الغسلتين والفصل بينهما ، نظرا إلى أنّ وصل الماء لو لم يكن أقوى في التأثير فليس بأقلّ من القطع والفصل.

وفيه نظر ، لأنّ سماع مثل هذه الدعاوي في الأحكام التعبّدية التوقيفيّة مشكل ، خصوصا مع ما نرى من أنّ للتكرير تأثيرا في النفس في رفع القذارة المتوهّمة لا يحصل مثله مع اتّحاد الغسلة وإن استمرّت بقدر انقضاء زمان الغسلتين وما بينهما من الفصل.

وقد يقال بناء على اعتبار العدد في الجاري والكثير : إنّ تعاقب جريات الجاري والتحريك في الماء الكثير بمنزلة التكرير.

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٩ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٢٨.

(٢) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٧٠ عن صاحب الدلائل.

١٨٣

وفيه أيضا على إطلاقه تأمّل.

نعم ، لو كانت الجريات والتحريكات ممتازا بعضها عن بعض بحيث تكرّر بواسطتها صدق الغسل (١) لدى العرف ، أو استعمل في الماء بعض المعالجات من الفرك والدلك ونحوهما بحيث أثّر في صدق التكرير ، اتّجه الاكتفاء به ، وإلّا فلا ، ولا يكفي في الصدق مجرّد مغايرة الماء الذي يلاقيه في الزمان الثاني للماء الذي أصابه أوّلا ، كما هو واضح.

الرابع : هل يختصّ وجوب العدد بغسل البول ، فيكفي في غيره غسله مرّة واحدة ، أم يجري في سائر النجاسات؟ قولان ، نسب أوّلهما إلى الأكثر ، بل المشهور (٢) ، لكن قيّده بعضهم (٣) بوقوع الغسلة بعد إزالة العين.

وحكي عن الشهيد وغيره اعتبار المرّتين في سائر النجاسات (٤).

وعن العلّامة في التحرير : المرّتين فيما له قوام وثخن كالمنيّ ، دون غيره (٥).

وعن المنتهى أنّه قال : النجاسات التي لها قوام وثخن أولى بالتعدّد في الغسلات (٦). انتهى.

حجّة المشهور : إطلاق الأمر بالغسل في كثير من الأخبار الواردة في أبواب النجاسات.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : «بحيث صدق بواسطتها تكرّر الغسل.

(٢) راجع : مستند الشيعة ١ : ٢٨٦ ، والحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٦.

(٣) المحقّق الحلي في المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٤) حكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٨ ، وانظر : اللمعة الدمشقيّة : ١٧ ، والألفيّة :٤٩ ، وجامع المقاصد ١ : ١٧٣.

(٥) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٧ ، وانظر : تحرير الأحكام ١ : ٢٤.

(٦) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٧ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٢٦٤ ، الفرع الأوّل.

١٨٤

مثل : قوله عليه‌السلام : «إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله» (١).

وقوله عليه‌السلام في جسد الرجل الذي يصيبه الكلب : «يغسل المكان الذي أصابه» (٢).

وفي الثوب الذي أصابه خمر أو نبيذ : «اغسله» (٣).

وفي الثوب الذي أصاب جسد الميّت «يغسل ما أصاب الثوب» (٤) أو : «فاغسل ما أصاب ثوبك منه» (٥).

وفي المنيّ يصيب الثوب : «إن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كلّه» (٦).

وفي الثوب الذي يعرق فيه الجنب : «فليغسل ما أصاب من ذلك» (٧).

وفي الدم : «إن اجتمع قدر حمّصة فاغسله» (٨).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يقف عليها المتتبّع ممّا ورد فيها الأمر

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣ / ٦١ ، و ٢٦٠ ـ ٢٦١ / ٧٥٨ ، الاستبصار ١ : ٩٠ / ٢٨٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ / ٨١٨ ، الإستبصار ١ : ١٨٩ / ٦٦١ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ١٦١ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١٢ ، الإستبصار ١ : ١٩٢ / ٦٧١ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ١٦١ / ٧ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١١ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٦) التهذيب ١ : ٢٦٧ / ٧٨٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، بتفاوت.

(٧) مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٩ / ٢٣٨ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب النجاسات ، ح ١٠.

(٨) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤١ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١٣ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

١٨٥

بغسل ما لاقى شيئا من النجاسات على الإطلاق ، وقد تقدّم جلّها في طيّ المباحث المتقدّمة ، فراجع.

ودعوى أنّ مثل هذه الأخبار المطلقة إنّما سيقت لبيان أصل النجاسة بذكر بعض آثارها ، وهو : وجوب غسل الملاقي ، وأمّا كيفيّة الغسل فلم يقصد بيانها بهذه الروايات ، مدفوعة : بأنّ حمل الأخبار المتكاثرة المتظافرة على كونها بأسرها من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم تأويل بلا مقتض ، بل الظاهر كونها مسوقة لبيان نفس اللازم ، فيستفاد منه الملزوم ـ أعني النجاسة ـ بالالتزام.

بل كيف تسمع دعوى الإهمال في جميع هذه الأخبار! مع أنّ الأسئلة الواقعة في أغلبها ليست إلّا كالأسئلة الواقعة في الأخبار المتقدّمة التي وردت في البول ، فالأجوبة الواردة فيها ـ على الظاهر ـ ليست إلّا كالأجوبة الواردة في البول مسوقة لبيان ما هو حكمه الفعليّ في مقام العمل.

نعم ، قد تتطرّق الخدشة في كثير من الإطلاقات الواردة في الباب : بورودها لبيان أحكام أخر ، كحكم المتنجّس لدى الاشتباه ، ونحو ذلك ، لكن فيما عداها ممّا لا تتطرّق فيه هذه الخدشة غنى وكفاية.

ولا يخفى على المتتبّع أنّه قد ورد في جلّ النجاسات العينيّة بل كلّها الأمر بغسل ما تنجّس بها على الإطلاق ، فلا يبقى معه مجال للرجوع إلى الأصول العمليّة ، ولو فرض عدم وجوده في بعضها ، أمكن تتميم القول فيه بعدم القول بالفصل ، كما أنّه يمكن ذلك بالنسبة إلى المتنجّسات الخالية من أعيان النجاسات على تقدير قصور الأخبار عن شمولها ، وكذلك بالنسبة إلى ما تنجّس بالمتنجّس

١٨٦

بغير البول.

هذا ، مع إمكان الاستدلال لكفاية مطلق الغسل في المتنجّسات الخالية من العين : بالفحوى ، وفي ما تنجّس بالمتنجّس : بالأولويّة ، فإنّ الفرع لا يزيد على أصله ، مع أنّه قد ورد في بعضه الأمر بغسله على الإطلاق ، كما في موثّقة عمّار ، الواردة في من وجد في إنائه فأرة ميتة «فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء» (١).

ولو نوقش في الفحوى والأولويّة وعدم القول بالفصل : بإنكار الفحوى ومنع كون الأولويّة قطعيّة ، وعدم ثبوت الأخير وإن كانت منافية للإنصاف ، وجب الرجوع فيما لم يرد فيه دليل لفظيّ دالّ على كفاية مطلق الغسل إلى استصحاب النجاسة حتّى يعلم المزيل.

ومن هنا اتّجه القول بوجوب غسل ما تنجّس بالمتنجّس بالبول مرّتين ، إذ لا دليل على كفاية الواحدة فيه.

اللهمّ إلّا أن يمنع جريان الاستصحاب في النجاسة الحكميّة بدعوى كونها منتزعة من أحكام تكليفيّة تعبّديّة لا نعرف جهتها ، فمرجع الشكّ في زوالها بالغسل مرّة إلى الشكّ في أنّه هل يجب غسله مقدّمة للصلاة الواجبة ونحوها مرّة أو أزيد؟ فينفى الزائد بأصل البراءة ، كما تقرّر في محلّه.

ودعوى أنّ النجاسة الحكميّة قذارة معنويّة بيّنها الشارع بحكمه بوجوب غسلها ومانعيتها من الصلاة وغير ذلك من آثارها ، فهي كالقذارة الحسّيّة من

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٦ ، التهذيب ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

١٨٧

الأمور القارّة التي لا ترتفع إلّا برافع ، فما لم يثبت الرافع يجب الحكم ببقائها ، قابلة للمنع ، لإمكان أن يكون منشؤ حكم الشارع بوجوب الغسل وغير ذلك من أحكامها أمورا أخر ، كشدّة الاهتمام بالتجنّب عن النجاسات العينيّة ، وتنفّر الطبع عنها بالتنزّه عمّا يلاقيها ، أو نحو ذلك من الحكم الخفيّة التي لا إحاطة لنا بها ، خصوصا مع أنّه لم يرد في شي‌ء من الأدلّة الشرعيّة التصريح بنجاستها حتّى يقال :إنّ مقتضى ظاهر اللفظ كونها قذرا في الواقع ، فليتأمّل.

واستدلّ للمشهور أيضا : بأصل البراءة.

وقد عرفت أنّه لا يخلو عن وجه صالح لأن يتأمّل فيه.

واستدلّ القائل باعتبار المرّتين : باستصحاب النجاسة ، الحاكم على أصل البراءة.

وبما يفهم من بعض الأخبار المتقدّمة (١) الواردة في البول الذي أصاب الجسد ، الذي ورد فيه تعليل الاكتفاء بصبّ الماء عليه مرّتين : بأنّه ماء ، حيث يفهم منه أنّ غسل البول أهون من سائر النجاسات ، فيكون غيره أولى بالتعدّد.

وبصحيحة محمّد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام أنّه ذكر المنيّ فشدّده وجعله أشدّ من البول (٢) ، الحديث ، فيقيّد بهاتين الروايتين إطلاق الأمر بالغسل الوارد في سائر الأخبار.

والجواب : أمّا عن الاستصحاب : فبما عرفت من أنّه لا يرجع إليه مع وجود الإطلاقات ،

__________________

(١) في ص ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٣٠ ، و ٢ : ٢٢٣ / ٨٨٠ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

١٨٨

مع إمكان الخدشة فيه بما عرفت.

وأمّا عن الخبرين : فبمنع دلالتهما على المدّعى ، لأنّ كون المنيّ أشدّ من البول من حيث القذارة ـ كما هو مفاد الرواية الثانية ـ لا يستلزم كونه أحوج من البول أو مثله في العدد في مقام التطهير ، إذ لا استحالة في أن يزول ما كان في غاية القذارة بغسله مرّة ، ولا يزول شي‌ء آخر في أوّل مرتبة القذارة إلّا بغسلة مرارا عديدة.

وأمّا تعليل الاكتفاء بالصبّ بأنّه ماء : فإنّه لا يدلّ إلّا على عدم كفاية الصبّ في سائر النجاسات التي لها ثخن وقوام ، وهذا مسلّم ، فإنّها لا تزول بذلك ، بل لا بدّ فيها من استعمال بعض المعالجات الموجبة لإزالة العين ، فلا إشعار في هذا التعليل أصلا بأنّه يعتبر العدد في سائر النجاسات.

فظهر لك أنّ الأقوى ما هو المشهور من كفاية غسلة واحدة في سائر النجاسات في غير ما ستعرفه من الأواني وإن تحقّقت الإزالة بها ، للإطلاقات السالمة ممّا يصلح لتقييدها ، والله العالم.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الفتاوى والنصوص عدم الفرق بين بول الإنسان وبول غيره ممّا لا يؤكل لحمه في وجوب غسله مرّتين ، لكن لا يبعد دعوى انصراف الأخبار إلى الأوّل ، كما يؤيّده ترك الاستفصال عن كونه من المأكول أو غيره ، وليس ذلك على الظاهر إلّا بواسطة انسباق بول الإنسان إلى الذهن من السؤالات الواردة في الأخبار ، فيشكل ارتكاب التقييد في قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال

١٨٩

ما لا يؤكل لحمه» (١) بالنسبة إلى غير الإنسان ، خصوصا مع إمكان دعوى انصراف هذه الرواية إلى غير الإنسان ، فلو أمكن التفصيل ، لا يبعد الالتزام بعدم اعتبار العدد في بول غير الإنسان وإن كان الأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ خلافه ، والله العالم.

تنبيه : لا عبرة بأثر النجس بعد إزالة عينه بالغسل ـ كلون الدم ، ورائحة الجيفة ، إذا لم يكن الأثر كاشفا عن بقاء عين النجس لدى العرف.

وما يقال من أنّ بقاء الأثر كاشف عن وجود العين ، لاستحالة انتقال العرض ، فلا تتحقّق إزالة العين مع بقاء لونها أو ريحها ، مدفوع ـ بعد الغضّ عن أنّ الشي‌ء قد يتأثّر بالمجاورة ـ بأنّه لا عبرة بالأجزاء اللطيفة العقليّة المستكشفة بالدقّة الحكميّة ، فإنّ الأحكام الشرعيّة تدور مدار عناوين موضوعاتها العرفيّة ، فما يصدق عليه عرفا اسم العذرة أو الدم أو غيرهما من عناوين النجاسات يتبعه حكمه ، دون ما لا يصدق عليه الاسم ، وهذا ممّا لا إشكال فيه بل ولا خلاف.

وقد حكي عن المعتبر دعوى الإجماع على عدم وجوب إزالة اللون والرائحة (٢).

وما حكي عن بعض من إيجاب إزالة اللون مع الإمكان (٣) ، فلا يبعد أن يكون نزاعا في الصغرى بدعوى : أنّ إزالة العين لا تتحقّق عرفا مع بقاء اللون القابل للإزالة. وفيها منع ظاهر.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٧٨ ، الهامش (٢).

(٢) حكاه عنه الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٦٣٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٣٦.

(٣) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٠ عن العلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٣ : ٢٤٣ ، الفرع الأوّل.

١٩٠

وكيف كان فالمدار على إزالة العين دون ما يعدّ أثرا مجرّدا في العرف ، ولا شبهة في أنّ الرائحة المجردة وبعض مراتب اللون خصوصا اللون المخالف للون النجس الذي ربما يكتسبه المتنجّس بالخاصيّة ـ كالصفرة الحاصلة في الجسم الملاقي للميتة ـ بل وكذا بعض مراتب الخشونة الحاصلة في الثوب بعد إزالة العين تعدّ لدى العرف أثرا محضا ، فلا تجب إزالته.

ويشهد له ـ مضافا إلى ما عرفت ـ حسنة ابن المغيرة عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : قلت له : هل للاستنجاء حدّ؟ قال : «لا ، حتّى ينقى ما ثمّة» قلت : ينقى ما ثمّة ويبقى الريح ، قال : «الريح لا ينظر إليها» (١).

وخبر عليّ بن حمزة عن العبد الصالح ، قال : سألته أمّ ولد لأبيه ـ إلى أن قال ـ : قالت : أصاب ثوبي دم الحيض فغسلته فلم يذهب أثره ، فقال : «اصبغيه بمشق حتّى يختلط ويذهب» (٢).

وخبر عيسى بن أبي منصور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة أصاب ثوبها من دم الحيض فغسلته فبقي أثر الدم في ثوبها ، قال : «قل لها : تصبغه بمشق حتّى يختلط» (٣).

تقريب الاستدلال بهما : أنّه لو كان بقاء اللون كاشفا عن وجود العين المانع من تحقّق الإزالة المعتبرة في التطهير ، لم يكن صبغه بمشق مجديا ، فالأمر به ليس إلّا للاستحباب رفعا للنفرة الحاصلة من بقاء اللون الغير المنافي لطهارة الثوب ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٧ / ٩ ، التهذيب ١ : ٢٨ ـ ٢٩ / ٧٥ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٥٩ / ٦ ، التهذيب ١ : ٢٧٢ / ٨٠٠ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) التهذيب ١ : ٢٧٢ / ٨٠١ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

١٩١

فليتأمّل.

ومرسلة الصدوق ، قال : سئل الرضا عليه‌السلام عن الرجل يطأ في الحمّام وفي رجله الشقاق فيطأ البول والنورة فيدخل الشقاق أثر أسود ممّا وطئ من القذر وقد غسله كيف يصنع به وبرجله التي وطئ بها ، أيجزئه الغسل ، أم يخلّل أظفاره بأظفاره ويستنجي فيجد الريح من أظفاره ولا يرى شيئا؟ فقال : «لا شي‌ء عليه من الريح والشقاق بعد غسله» (١).

ثمّ إنّا قد أشرنا إلى أنّه لا أثر للأجزاء اللطيفة المتخلّفة من أعيان النجاسات التي تعدّ لدى العرف من الأعراض ، لكن لو استخرج تلك الأجزاء ببعض المعالجات بحيث صدق عليه الاسم ، لحقها حكمها ، فلو أغلى الثوب المغسول الذي أزيل عنه الدم عرفا في ماء إلى أن ظهر في الماء لون الدم ، نجس الماء ، وتنجّس به الثوب على الأظهر ، فإنّه يصدق عليه أنّه ماء متغيّر بعين الدم ، ولا منافاة بينه وبين استهلاك الدم وانتفاء موضوعه عرفا قبل ظهور وصفه في الماء ، نظير الدم المستهلك في ماء كرّ ، فإنّه لا أثر له ما دام استهلاكه ، فلو نقص الماء عن الكرّيّة ، يبقى على طهارته ، لكن لو اجتمع حينئذ أجزاؤه المستهلكة أو ظهر وصفة في الماء بواسطة جذب الهواء للأجزاء المائيّة ، الموجب لقلّة الماء وظهور وصف الدم فيه ، تنجّس.

والحاصل : أنّه ربما ترتفع النجاسة عن موضوعها بواسطة استهلاك الموضوع واضمحلاله ، فمتى عاد على ما كان عليه بأن صار موضوعا عرفيّا لذلك

__________________

(١) الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٥ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

١٩٢

النجس ، عاد حكمه.

ومن هذا القبيل حكم البخار المتصاعد من النجس إذا تقاطر ، فإنّه إن صدق على القطرات المجتمعة منه اسم ذلك النجس ، تنجّس ، لا مثل المتقاطر من بخار البول أو العذرة ، الذي لا يصدق عليه اسمهما ، ولا المتقاطر من المتنجّس الذي لا يصدق عليه عرفا كونه ذلك المتنجّس بعينه.

وكذلك الدخان المتصاعد من الدهن النجس الذي يستصبح به ، المشتمل على أجزاء دهنيّة إذا تكاثف الدخان وظهر عليه ما اشتمله من الأجزاء الدسمة ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ولا مجال لاستصحاب الطهارة في مثل الفرض ، إذ لم يكن للأجزاء حين الحكم بطهارتها بعناوينها الخاصّة وجود محقّق لدى العرف ، وإلّا لكانت محكومة بالنجاسة ، لأنّ المفروض كونها نجس العين ، فلا تطهر ما دامت معنونة بتلك العناوين ، وقد تقدّم في مبحث التيمّم ما له ربط بالمقام.

(وإذا لاقى الكلب أو الخنزير أو الكافر ثوب الإنسان) وكان الثوب أو ما لاقاه (رطبا) رطوبة مسرية (غسل موضع الملاقاة) من الثوب (واجبا) مقدّمة للواجبات المشروطة بطهارة الثوب ، كما عرفته فيما سبق.

(وإن كان) الثوب كالملاقي له (يابسا) أي : لا مع رطوبة مسرية (رشّه بالماء استحبابا) بلا خلاف يعتدّ به ، بل عن المعتبر أنّه ـ أي استحباب الرشّ مع اليبوسة ـ مذهب علمائنا أجمع (١).

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٤١ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

١٩٣

ويشهد له في الأوّلين منها جملة من الأخبار :

منها : مرسلة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا مسّ ثوبك كلب فإن كان جافّا فانضحه ، وإن كان رطبا فاغسله» (١).

وخبر عليّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الكلب يصيب الثوب ، قال : «انضحه ، وإن كان رطبا فاغسله» (٢).

وصحيحة أبي العبّاس ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسّه جافا فاصبب عليه الماء» (٣).

وعن الخصال عن عليّ عليه‌السلام في حديث الأربعمائة قال : «تنزّهوا عن قرب الكلاب ، فمن أصاب الكلب وهو رطب فليغسله ، وإن كان جافّا فلينضح ثوبه بالماء» (٤).

وخبر عليّ بن محمّد ـ المضمر ـ قال : سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جافّ هل تصلح الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال : «نعم ينضحه بالماء ثمّ يصلّي فيه» (٥).

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال : «إن كان دخل في صلاته فليمض ، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصابه من ثوبه

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٠ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٦٠ / ٧٥٦ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢٦٠ / ٧٥٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٣) التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٤) الخصال : ٦٢٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب النجاسات ، ح ١١.

(٥) التهذيب ١ : ٤٢٤ / ١٣٤٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

١٩٤

إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله» (١).

واستدلّ لاستحباب الرشّ في الأخير : بصحيحة الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب المجوسيّ ، فقال : «يرشّ بالماء» (٢) الحديث.

وفيه نظر ، إذ لم يعلم أنّ الأمر بالرشّ فيما هو مفروض السائل مسبّب عن ملاقاة المجوسي لثوبه مع الجفاف حتّى يتعدّى عن مورده إلى ثوب الغير الذي لاقاه المجوسيّ أو غيره من الكفّار مع الجفاف ، فلعلّ حكمة الحكم كون ثوبه مظنّة للنجاسة.

وقد ورد الأمر بالنضح في موارد كثيرة ممّا ظنّ أو شكّ فيه النجاسة من الثوب والبدن.

مثل : قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن الحجّاج ، الواردة في رجل يبول بالليل ويحسب أنّ البول أصابه : «يغسل ما استبان أنّه أصابه ، وينضح ما يشكّ فيه من جسده وثيابه» (٣).

وفي حسنة الحلبي ، الواردة في المنيّ : «فإن ظنّ أنّه أصابه منيّ ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء» (٤).

وفي خبر عبد الله بن سنان ، الوارد في رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم : «وإن كان يرى أنّه أصابه شي‌ء فنظر ولم ير شيئا أجزأه أن ينضحه بالماء» (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦١ / ٦ ، التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦٠ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٢ / ١٤٩٨ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٤ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٤) الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٥) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٩ ، التهذيب ٢ : ٣٥٩ / ١٤٨٨ ، الوسائل ، الباب ٤٠ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

١٩٥

وقد حكي عن العلّامة الجزم باستحباب النضح مع الشكّ في النجاسة مطلقا (١).

وكيف كان فلا يمكن استفادة المدّعى من الأمر بالرشّ في الصحيحة المتقدّمة (٢) ، فعمدة مستند الحكم في الكافر هو الإجماع المحكيّ عن المعتبر (٣) ، وكفى به دليلا لإثبات الحكم بعد البناء على المسامحة.

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر الأمر بالنضح في الأخبار المتقدّمة هو الوجوب ، لكن لما ثبت «أنّ كلّ يابس زكيّ» ـ كما في الموثّق (٤) ـ وانعقد الإجماع عليه فيما عدا ميّت الإنسان أو مطلق الميتة ـ كما عرفته فيما سبق ـ تعيّن حمله على الاستحباب ، كما في سائر الموارد التي ورد فيها الأمر بالنضح من مظانّ النجاسة وغيرها.

وحمله على الوجوب النفسي التعبّدي مناف لظاهر الأخبار بل صريحها ، فإنّها تدلّ على أنّ الأمر بالنضح إنّما هو لأجل الصلاة ونحوها.

وحمله على كونه شرطا تعبّديّا محضا لا من حيث النجاسة ـ مع بعده في حدّ ذاته حيث لا ينسبق إلى الذهن من الأمر برشّ الثوب أو غسله للصلاة إرادة كونه شرطا تعبّديّا من غير جهة النظافة ـ ينافيه سياق الأخبار ، فإنّها تشهد بأنّ الأمر بالنضح مع الجفاف كالأمر بالغسل مع الرطوبة إنّما هو لإزالة الأثر الشرعيّ الحاصل بالملاقاة ، فحيث علم أنّ الأثر الحاصل بالملاقاة مع الجفاف لم يبلغ

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٢ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٢٩٢.

(٢) في ص ١٩٥.

(٣) راجع الهامش (١) من ص ١٩٣.

(٤) التهذيب ١ : ٤٩ / ١٤١ ، الإستبصار ١ : ٥٧ / ١٦٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب أحكام الخلوة ، ح ٥.

١٩٦

مرتبة يجب التنزّه عنه في الأشياء المشروطة بالطهور فهم من ذلك أنّ الأمر بإزالته بالنضح ليس إلّا للاستحباب ، ولذا لم يفهم المشهور من هذه الأخبار ونظائرها ممّا ورد فيه الأمر بالنضح إلّا ذلك.

وإن شئت قلت : إنّ إعراض المشهور عن هذا الظاهر وحملهم للأمر على الاستحباب يكشف عن عثورهم على قرينة داخليّة أو خارجيّة أرشدتهم إلى ذلك.

فما في الحدائق ـ من الالتزام بوجوبه تعبّدا (١) ـ ضعيف.

وقد ظهر بما أشرنا إليه من أنّ النضح ليس شرطا تعبديّا محضا ، بل لإزالة نحو من القذارة التي لم تجب إزالتها : أنّ الأمر بنضح الثوب إنّما هو لكونه أقل المجزي ، وإلّا فالغسل أو صبّ الماء عليه أبلغ في تنظيفه ، فيغنيه ذلك عن النضح بلا تأمّل.

وقد ورد الأمر بصبّ الماء على الثوب الذي أصابه الكلب في صحيحة (٢) أبي العبّاس ، فهو بحسب الظاهر لبيان الاجتزاء بالصبّ وعدم الحاجة إلى الغسل ، فلم يقصد بها إرادته بالخصوص بحيث ينافيه الأخبار الدالّة على كفاية النضح.

ويحتمل إرادته بالخصوص ، لكونه أولى وأفضل.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد بالصبّ ما يعمّ النضح توسّعا.

وكيف كان فالظاهر أنّه يكفي مطلق النضح ، ولا يعتبر فيه الاستيعاب ،

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٩١.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ١٩٤ ، الهامش (٣).

١٩٧

لإطلاق النصوص والفتاوى.

وما يظهر من بعض من اعتبار الاستيعاب ليكون بمنزلة الصبّ حتّى لا يتحقّق التنافي بين الأخبار الآمرة به وبين ما ورد فيه الأمر بالصبّ ، ضعيف ، لاستلزامه ارتكاب خلاف الظاهر في جميع الأخبار.

نعم ، لو قيل بأنّه يتحقّق بالنضح المستوعب مفهوم الصبّ ، أمكن أن يقال بأنّ تقييد إطلاق النضح بالرواية التي ورد فيها الأمر بالصبّ أولى من ارتكاب مخالفة الظاهر في هذه الرواية بحمل الصبّ على المعنى الأعمّ أو غيره من المحامل ، فإنّ التقييد أهون من سائر التصرّفات.

ولا ينافيه كون الصبّ أعمّ من النضح من وجه حيث لا يصدق على الماء المتّصل أجزاؤه الملقى على الثوب دفعة اسم النضح ، ويصدق عليه اسم الصبّ ، لما عرفت من أنّ الأمر بالنضح لكونه أقلّ المجزئ ، لا لكونه متعيّنا.

لكن يتوجّه على ذلك ـ مضافا إلى منع الصغرى ـ ما مرّ مرارا من أنّه لا مقتضي لحمل المطلق على المقيّد في المستحبّات ، بل مقتضى الأصل إبقاء كلّ من المطلق والمقيّد على ظاهره ، ولا منافاة ، فإنّ المانع من إبقاء المطلق على إطلاقه إنّما هو الإلزام بخصوص المقيّد دون مجرّد محبوبيّته التي ينبعث منها الأمر الاستحبابي ، فإذا ورد مثلا : إن أفطرت فأعتق رقبة ، وورد أيضا : إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة ، وكان التكليف إلزاميّا ، نقول : إذا تعيّن الإتيان بالمقيّد في مقام الخروج من عهدة هذا التكليف الوجوبي ـ أعني كفّارة الإفطار ـ كما هو مقتضى ظاهر الأمر بالمقيّد ، امتنع الاجتزاء بأيّ فرد يكون من أفراد المطلق ، كما تقتضيه أصالة

١٩٨

الإطلاق في المطلق ، فيكشف ذلك عن أنّ مراد الآمر بقوله : «أعتق رقبة» لم يكن إلّا بيان أصل الحكم في الجملة على سبيل الإهمال ، وقد بيّن تمام مراده بذكر المقيّد ، فيكون المقيّد قرينة كاشفة عمّا أريد بالمطلق.

هذا إذا أريد من المقيّد ظاهره ، وهو الوجوب التعييني ، وأمّا إن لم تكن الخصوصيّة المتقيّد بها المطلوب مقصودة بالإلزام بأن كان الأمر المتعلّق به بالخصوص ندبيّا بلحاظ كونه أفضل الأفراد ، أو وجوبيّا تخييريّا ، فلا يتحقّق التنافي بينه وبين إرادة الإطلاق من المطلق ، فيدور الأمر في الفرض بين رفع اليد عن أصالة الإطلاق وبين التصرّف في ظاهر المقيّد ، والأوّل أولى ، لا لمجرّد كونه أشيع ، بل لأن ظهور المطلق في الإطلاق موقوف على عدم بيان إرادة المقيّد حتّى يتمشى فيه دليل الحكمة المقتضي لحمل المطلق على الإطلاق ، والمقيّد بظاهره بيان لما أريد من المطلق ، فيكون ظهور المقيّد في الوجوب التعييني حاكما على ظهور المطلق في الإطلاق.

هذا إذا كان التكليف من أصله إلزاميّا ، وأمّا إذا كان ندبيّا ، فالطلب المتعلّق بالمقيّد على تقدير كون الخصوصيّة مقصودة بالطلب لا يقتضي إلّا كون هذا الفرد بالخصوص مستحبّا ، ولا منافاة بينه وبين إرادة الإطلاق من المطلق ، لجواز أن يكون للطبيعة بلحاظ تحقّقها في ضمن أيّ فرد تكون مرتبة من المحبوبيّة مقتضية للأمر بها أمرا ندبيّا أو إلزاميّا ، وأن يكون لبعض أفرادها مزيّة مقتضية للأمر بإيجاده في مقام الامتثال أمرا ندبيّا ، فيكون هذا الفرد أفضل الأفراد ، فلا يستكشف من الأمر الندبي المتعلّق بالمقيّد أنّ مراد الآمر بأمره المطلق هو هذا المقيّد

١٩٩

بالخصوص ، فلا يصلح أن يكون هذا الأمر الندبي لأن يكون بيانا للمطلق حتّى يكون ظهوره حاكما على أصالة الإطلاق ، كما لا يخفى على المتأمّل.

(و) أمّا البحث (في البدن) إذا كان ملاقيا للكافر وأخويه : فـ (يغسل) من ملاقاتها إذا كان أحد المتلاقيين (رطبا) رطوبة مسرية ، كما هو واضح.

(وقيل : يمسح) بالتراب إن كان كلّ من المتلاقيين (يابسا) وجوبا كما عن ظاهر بعض القدماء (١) ، أو استحبابا كما يظهر من بعضهم على ما حكي (٢).

ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد الجميع وإن عبّروا بما يشعر بالوجوب.

وربما ألحق بعضهم (٣) بها الفأرة والوزغة والأرنب.

وعن المبسوط استحباب ذلك من كلّ نجاسة (٤).

(ولم يثبت) ذلك في شي‌ء منها لا وجوبا ولا استحبابا حيث لم نقف على ما يدلّ عليه في شي‌ء منها عدا ما ستسمعه في الكافر ، ولكن مع ذلك لا يبعد الالتزام باستحبابه مسامحة اعتمادا على فتوى هؤلاء الأعاظم الذين لا يظنّ بهم صدور مثل هذا الحكم عنهم لا عن مستند.

وربما يستدلّ عليه في خصوص الكافر بخبر القلانسي : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى الذمّي فيصافحني ، قال : «امسحها بالتراب وبالحائط» قلت :

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٠٦ عن ظاهر النهاية ـ للشيخ الطوسي ـ : ٥٢ ـ ٥٣ ، والمقنعة : ٧٠ ـ ٧١.

(٢) راجع : الحدائق الناضرة ٥ : ٣٩١.

(٣) الشيخ الطوسي في النهاية : ٥٢ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٧٧.

(٤) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٣ ، وانظر : المبسوط ١ : ٣٨.

٢٠٠