مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وربما يظهر من المدارك القول بتعيّنه حيث قال : ويمكن الجمع بينهما ـ أي بين الطائفتين من الأخبار ـ بالتخيير بين الأمرين وأفضليّة الصلاة في الثوب ، كما اختاره ابن الجنيد ، إلّا أنّ ذلك موقوف على تكافؤ السند ، وهو خلاف الواقع ، وكيف كان فلا ريب أنّ الصلاة في الثوب أولى (١). انتهى.

أقول : الجمع بين الأخبار بهذا النحو وإن أمكن بحمل الأمر الوارد فيها على الوجوب التخييري ، أو كونها مسوقة لإرادة الجواز في مقام توهّم الحظر وحمل بعضها ـ ممّا يأبى عن ذلك ـ على الأفضليّة ، لكن لا شاهد له ، والأخبار بظاهرها متناقضة ، وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ المتعيّن في مثل المقام إنّما هو الترجيح أو التخيير على ما تقتضيه قاعدة التعارض ، لا الجمع المستلزم لتأويل كلّ من المتعارضين من غير شاهد.

اللهمّ إلّا أن يجعل صحّة الأخبار الآمرة بالصلاة في الثوب النجس واستفاضتها شاهدة له حيث لا يتطرّق في مثل هذه الأخبار المستفيضة احتمال عدم الصدور احتمالا يعتد به ، فهي في قوّة المتواتر ، ومع ذلك لا يمكن ترجيحها على ما يعارضها ، أي الأخبار الآمرة بالصلاة عاريا ، لاشتهار العمل بهذه الأخبار قديما وحديثا بحيث لم نجد من الأصحاب من طرحها رأسا ، فإنّهم على الظاهر بين من أوجب العمل بمضمون هذه الروايات عينا ، وبين من حملها على التخيير ، جمعا بينها وبين ما يعارضها ، حتّى أنّ بعض المتأخرين ـ الذين استقرّت سيرتهم على عدم العمل إلّا بالروايات الصحيحة ـ لم يتجرّؤوا في المقام على طرح هذه

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣٦١.

٢٦١

الروايات مع تصريحهم بضعفها ، فيكون حال الطائفتين من الأخبار حال المتواترين المتعارضين ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الجمع بين المتواترين ونحوهما ممّا كان قطعيّا مهما أمكن ـ ولو بتأويل ظاهريهما ـ أولى من الطرح.

وإن أبيت عن ذلك ، فالمرجّح الداخلي مع أخبار الصلاة في الثوب ، والخارجي مع ما يعارضها ، فيتكافئان بحيث يشكل الترجيح ، فالأقوى في المسألة هو التخيير إمّا لكونه أقرب المحتملات في مقام الجمع ، أو لكونه حكما ظاهريّا ناشئا من التعارض والتكافؤ.

هذا إذا أمكنه إلقاء الثوب (فإن لم يمكنه) ذلك ولو لمشقّة البرد أو نحوه (صلّى فيه) قولا واحدا ، لعدم سقوط الصلاة بحال ، ودلالة الصحاح المتقدّمة عليه.

(و) لكن حكي عن الشيخ (١) في جملة من كتبه أنّه (أعاد) الصلاة بعد ارتفاع الضرورة.

وحكي هذا القول عن ابن الجنيد أيضا ، لكنّه لم يقيّد جواز الصلاة في الثوب باضطراره إلى لبسه.

قال في محكيّ مختصره : لو كان مع الرجل ثوب فيه نجاسة لا يقدر على غسلها ، كانت صلاته فيه أحبّ إليّ من صلاته عريانا (٢).

__________________

(١) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٦٢ ، وانظر : النهاية : ٥٥ ، والمبسوط ١ : ٣٩ ، والخلاف ١ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦ ، ذيل المسألة ٢١٨ ، والتهذيب ١ : ٤٠٧ ، ذيل ح ١٢٧٩ ، و ٢ : ٢٢٤ ، ذيل ح ٨٨٥ ، والاستبصار ١ : ١٦٩ ، ذيل ح ٥٨٦.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٣٠ ، ذيل (تذنيب) من المسألة ٢٤٥ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٠.

٢٦٢

وقال في موضع آخر من الكتاب : والذي ليس معه إلّا ثوب واحد نجس يصلّي فيه ، ويعيد في الوقت إذا وجد غيره ، ولو أعاد إذا خرج الوقت كان أحبّ إليّ (١). انتهى.

ومستنده موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه سئل عن رجل ليس معه إلّا ثوب ولا تحلّ الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال : «يتيمّم ويصلّي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة» (٢).

(وقيل : لا يعيد) كما هو المشهور (وهو الأشبه) لعدم صلاحيّة الموثّقة لإثبات هذا الحكم المخالف لقاعدة الإجزاء ، المعتضدة بظواهر الصحاح المتقدّمة ، مع تضمّن بعضها الأمر بغسل الثوب خاصّة ، خصوصا مع إعراض المشهور عن ظاهر الموثّقة ، وعدم كونها نصّا في الوجوب ، بل ليس التصرّف فيها بالحمل على الاستحباب أبعد من رفع اليد عن ظواهر الأخبار المتقدّمة ، فإنّها وإن كانت دلالتها على الاجتزاء بالصلاة في الثوب النجس من حيث السكوت في مقام البيان وهي من أضعف الدلالات ، لكنّها لموافقتها للقاعدة المغروسة في النفوس واعتضاد دلالة بعض الروايات ببعض لا تقصر عن دلالة الموثّقة على الوجوب ، بل تترجّح عليها خصوصا مع قوّة احتمال أن يكون الأمر بالإعادة بلحاظ وقوع الصلاة مع التيمّم أو اجتماع الأمرين.

وقد استشهد بها بعض لإعادة الصلاة الواقعة مع التيمّم بعد صيرورته

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٠.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٧ / ١٢٧٩ ، و ٢ : ٢٢٤ / ٨٨٦ ، الاستبصار ١ : ١٦٩ / ٥٨٧ ، الوسائل ، الباب ٤٥ من أبواب النجاسات ، ح ٨.

٢٦٣

واجد للماء ، كما عرفته في محلّه (١).

فالإنصاف عدم صلاحيّة الموثّقة لإثبات استحباب الإعادة على إطلاقه فيما هو محلّ الكلام فضلا عن وجوبها ، فالأولى حملها على الاستحباب في خصوص موردها ، والله العالم.

(والشمس إذا جفّفت البول وغيره من النجاسات) والمتنجّسات التي لا يبقى جرمها بعد الجفاف (عن الأرض والبواري والحصر طهر موضعه) على الأشهر بل المشهور.

(و [كذا] (٢)) الحق بالأرض (كلّ ما لا يمكن نقله كالنباتات) القائمة على أصولها ، والأشجار ، بل وأثمارها ما دامت موصولة بأصولها (والأبنية) وما يتعلّق بها من الأبواب والأخشاب والمسامير المركوزة فيها ، بل لا يبعد اندراج المذكورات عرفا في موضوع الأرض بالتبع.

وحكي عن بعض قصر الحكم على البول خاصّة ، دون سائر النجاسات التي تشابهه (٣).

وعن بعض آخر تخصيص الموضوع ـ الذي تطهّره الشمس ـ بالأرض (٤).

وحكي عن المفيد وجماعة من القدماء والمتأخّرين القول بالعفو عن

__________________

(١) راجع : ج ٦ ، ص ٣٣١.

(٢) ما بين المعقوفين من كتاب الشرائع.

(٣) حكاه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٥٩ عن المقنعة : ٧١ ، والخلاف ١ : ٤٩٥ ، المسألة ٢٣٦ ، والنهاية : ٥٣ ، والمراسم : ٥٦ ، وإصباح الشيعة : ٥٥.

(٤) لم نعثر ـ فيما بين أيدينا من المصادر ـ على من حكاه أو قال به ، عدا ما حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٨٤ عن المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٤٧ من التردّد فيما عدا الأرض ممّا لا ينقل.

٢٦٤

التيمم والسجود على الموضع الذي جفّفته الشمس من الأرض والحصر والبواري ، لا الطهارة ، فلا يترتّب عليه سائر أحكام الطاهر (١).

واستجوده المصنّف رحمه‌الله في محكيّ المعتبر (٢).

وحكي عن الشيخ في موضع من الخلاف إلحاق الريح بالشمس في المطهّريّة حيث قال : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس أو هبّت عليها الريح حتّى زالت عين النجاسة ، طهرت (٣). انتهى.

لكن لأجل مخالفته للإجماع حمل على إرادة ما لو كان لهبوب الريح دخل في التجفيف بحيث لا ينافي نسبته إلى الشمس ، أو غير ذلك من المحامل.

وكيف كان فالخلاف في المسألة يقع في موارد ثلاثة :

الأوّل : أنّ الشمس هل هي كالماء من المطهّرات ، أو أنّها لا تؤثّر إلّا في العفو عن النجاسة في بعض آثارها؟

الثاني : في أنّه هل يختصّ الحكم بالبول ، أم يعمّ كلّ ما يشبهه من النجاسات والمتنجّسات التي لا تبقى عينها بعد الجفاف؟

الثالث : في أنّ موضوعه هل هو خصوص الأرض ، أو أعمّ منها ومن غيرها من المذكورات؟ وأمّا كون التجفيف بالشمس في الجملة موجبا لارتفاع حكم المتنجّس في

__________________

(١) حكاه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٤٦ عن الراوندي وصاحب الوسيلة فيها : ٧٩ ـ ٨٠ ، ولم نعثر على ما نسب إلى المفيد في مقنعته ولا على من حكاه عنه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٢) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٦١ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٤٦.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٣٧ ، وانظر : الخلاف ١ : ٢١٨ ، المسألة ١٨٦.

٢٦٥

الجملة على سبيل الإجمال فممّا لا خلاف فيه على الظاهر ، لكن بناه بعضهم على دوران النجاسة في الأرض ونحوها ممّا لم يرد فيه دليل تعبّديّ مدار عينها ، فالتزم بطهارة الأرض ـ كبدن الحيوانات ـ بزوال العين ، بدعوى : أنّه لا دليل على بقاء أثر النجاسة بعد زوال عينها في غير الموارد الخاصّة التي ورد فيها دليل تعبّديّ.

وكيف كان فمدرك المسألة أخبار مستفيضة.

منها : صحيحة زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلّى فيه ، فقال : «إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر» (١).

والمناقشة فيها بعدم ثبوت كون الطهارة حقيقة ـ في عرفهم ـ في المعنى المصطلح ممّا لا ينبغي الالتفات إليها.

وهذه الصحيحة كما تراها نصّ في السطح الذي هو من جملة الأبنية ، وظاهر في مطلق المكان الذي يصلّي فيه أرضا كان أو بناء ، لكنّ موردها البول ، فلا يستفاد منها حكم سائر النجاسات المشابهة له.

ويمكن الاستدلال بهذه الصحيحة لطهارة الحصر والبواري أيضا ، بدعوى أنّ المكان الذي يصلّى فيه يطلق على المكان المفروش والخالي عن الفراش إطلاقا حقيقيّا.

ودعوى انصرافه إلى الأرض المجرّدة من الفراش ممنوعة.

لكن ثبت بالإجماع وغيره أنّ الفراش إذا كان ثوبا أو شيئا متّخذا من

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٥٧ / ٧٣٢ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٢٦٦

الصوف أو القطن أو الكتّان أو أشباهها لا يطهّر إلّا بالماء ، فيتقيّد بذلك إطلاق الرواية بما إذا كان المكان الذي يصلّى فيه خاليا عن الفراش ، أو مفروشا بالحصر والبواري ونحوها ممّا لم يعلم عدم طهارته بالشمس ، كما هو الغالب في فرش المصلّي ، كما أنّه يجب صرفها عن السرير ونحوه ـ ممّا من شأنه أن يصلّى فيه ـ بغيرها من الأدلّة لو لم نقل بانصرافها بنفسها عن المنقول.

ومنها : صحيحة أخرى عن زرارة وحديد بن حكيم (١) الأزدي جميعا قالا :قلنا لأبي عبد الله عليه‌السلام : السطح يصيبه البول أو يبال عليه يصلّى في ذلك المكان؟ فقال : «إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافّا فلا بأس به إلّا أن يكون يتّخذ مبالا» (٢).

وهذه الصحيحة لا يستفاد منها أزيد من اشتراط نفي البأس بإصابة الشمس والجفاف ، وعدم كفاية مجرّد الجفاف فيه ، وأمّا الطهارة فلا ، لجواز كونه نجسا معفوّا عنه ، كما هو أحد القولين في المسألة.

وما في الرواية من اعتبار إصابة الريح أيضا ـ مع عدم مدخليّتها في الحكم نصّا وإجماعا ، وعدم كونها بنفسها سببا مستقلّا حتّى تكون من قبيل عطف أحد السببين على الآخر ـ فلعلّه لكونها مؤثّرة في النقاء بجذب الهواء للبول مع ما فيه من الأجرام التي ربما تبقى عند جفافه بنفسه أو بالشمس.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «حكم». وما أثبتناه من التهذيب والوسائل ، وكما في كتب الرجال.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٢ / ٢٣ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ / ١٥٦٧ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

٢٦٧

ومنها : رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر» (١).

وقد يناقش فيها : بأنّها ضعيفة السند ، ومتروكة الظاهر.

ويمكن دفعها : بأنّها بحسب الظاهر من الروايات المشهورة المأخوذة عن الأصول الموثوق بها ، وأمّا ظاهرها فيتعيّن صرفه ـ بشهادة الإجماع وغيره لو لم نقل بانصرافه بنفسه بواسطة معروفيّة الحكم في الثياب ونحوها من المنقولات ـ إلى ما من شأنه أن تشرق عليه الشمس من الأرض وما جرى مجراها من الحصر والبواري وغيرها من الأشياء المطروحة في الأرض أو المبسوطة عليها ممّا من شأنه ذلك ، خرج منها ما دلّ الدليل على عدم طهارته بالشمس ، كالأواني والأشياء المتّخذة من الصوف ونحوها ، وبقي الباقي.

ويعضدها الفقه الرضوي قال : «وما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شي‌ء من النجاسات مثل البول وغيره طهّرتها ، وأمّا الثياب فإنّها لا تطهر إلّا بالغسل» (٢).

لكنّ المتبادر من الأماكن في عبارة الفقه هي الأراضي وما عليها من الأبنية ، لا الحصر والبواري ، فلا يبعد أن يكون المراد بعموم «ما أشرقت عليه الشمس» في الرواية المتقدّمة (٣) أيضا ذلك ، وحيث إنّ عمومها بإطلاقه غير مراد يشكل

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٧٣ / ٨٠٤ ، الإستبصار ١ : ١٩٣ / ٦٧٧ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٣٠٣.

(٣) آنفا.

٢٦٨

استفادة حكم الحصر والبواري منه بعد قيام هذا الاحتمال.

اللهم إلّا أن يجعل فتوى الأصحاب وعملهم جابرة لوهنه.

ومنها : موثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنّه قد يبس الموضع القذر ، قال : «لا يصلّى عليه وأعلم موضعه حتّى تغسله» وعن الشمس هل تطهّر الأرض؟ قال : «إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة ، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطبا فلا تجوز الصلاة حتّى ييبس ، وإن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع حتّى ييبس ، وإن كان غير الشمس أصابه (١) حتّى ييبس فإنّه لا يجوز ذلك» (٢).

وهذه الموثّقة لا يستفاد منها أزيد من سببيّة تجفيف الشمس لجواز الصلاة ، فلا تدلّ على الطهارة ، بل ربما يستشعر من عدول الإمام عليه‌السلام إلى الجواب بجواز الصلاة عدمها ، فتكون حينئذ شاهدة للقائلين بالعفو ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : «وإن كانت رجلك رطبة» إلى آخره ، ظاهر في ذلك بناء على رجوع ضمير «حتّى ييبس» إلى ما كان منك رطبا ، لا إلى «الموضع».

ويؤكّده ما عن بعض نسخ التهذيب من قوله عليه‌السلام : «وإن كان عين الشمس»

__________________

(١) في الموضع الأوّل من المصدر : «وإن كان عين الشمس أصابه». وهي ساقطة في الموضع الثاني منه.

(٢) التهذيب ١ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ / ٨٠٢ ، و ٢ : ٣٧٢ / ١٥٤٨ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٢٦٩

بالعين المهملة والنون ، بدل «غير الشمس».

لكنّها لا تصلح لمعارضة صحيحة زرارة وغيرها ممّا دلّ على أنّ الأرض تطهر بجفافها بالشمس ، لقصورها عن المكافئة ، خصوصا مع ما في هذه الموثّقة من اضطراب المتن.

واستدلّ لهذا القول أيضا بصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال :سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه هل تطهّره الشمس من غير ماء؟ قال : «كيف تطهر من غير ماء!؟» (١).

وفيه : أنّه يستشعر من السؤال معروفيّة مطهّريّة الشمس إجمالا لدى السائل ، ولكنّه احتمل كون إشراق الشمس عليه ولو بعد الجفاف موجبا لطهارته ، كما هو المغروس في أذهان كثير من العوام ، فسأل عن أنّه هل تطهّره الشمس من غير ماء؟ أي مع جفافه ، فتعجّب منه الإمام عليه‌السلام.

ولو سلّم ظهورها في المدّعى ، فحالها حال الموثّقة المتقدّمة (٢) في عدم صلاحيتها لمعارضة ما عرفت ، فإنّها ـ مع ما فيها من الإضمار وموافقتها لمذهب جماعة من العامّة على ما قيل (٣) ، وقبولها للتوجيهات القريبة التي منها ما تقدّمت الإشارة إليه ـ قاصرة عن مكافئة صحيحة زرارة ورواية أبي بكر المتقدّمتين (٤) المصرّحتين بسببيّة إشراق الشمس للطهارة ، المعتضدتين بالشهرة والفقه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٧٣ / ٨٠٥ ، الإستبصار ١ : ١٩٣ / ٦٧٨ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

(٢) في ص ٢٦٩.

(٣) القائل هو الشيخ الحر العاملي في ذيل ح ٧ من الباب ٢٩ من أبواب النجاسات.

(٤) في ص ٢٦٦ و ٢٦٨.

٢٧٠

الرضوي (١) ، والله العالم.

واستدلّ لطهارة الحصر والبواري أيضا بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن البواري يصيبها البول هل تصحّ الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال : «نعم لا بأس» (٢).

وصحيحته الأخرى عنه أيضا ، قال : سألته عن البواري يبلّ قصبها بماء قذر أيصلّى عليه؟ قال : «إذا يبست فلا بأس» (٣) نظرا إلى اشتراط طهارة موضع السجود في جواز الصلاة عليها ، فلا بدّ من تنزيل إطلاق الرواية على ما لو حصل الجفاف بالشمس.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ كون الرواية بظاهرها مخالفة للإجماع أو غيره من الأدلّة لا تعيّن إرادة الجفاف بالشمس حتّى تنهض دليلا لإثبات مطهّريّة الشمس ، وقد ورد نفي البأس عن الصلاة في الموضع النجس في صحيحة أخرى له أيضا عن أخيه موسى عليه‌السلام : سأله عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال : «نعم» (٤) فكلّ ما يقال في توجيه هذه الصحيحة يقال في توجيه الأوليين.

نعم ، ربما يستشعر من كلام السائل في هذه الصحيحة ـ ككلمات السائلين في بعض الأخبار المتقدّمة ـ معروفيّة كون إشراق الشمس مؤثّرا في التطهير أو في

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٦٨.

(٢) التهذيب ١ : ٢٧٣ / ٨٠٣ ، و ٢ : ٣٧٣ / ١٥٥١ ، الاستبصار ١ : ١٩٣ / ٦٧٦ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ / ١٥٥٣ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٤) الفقيه ١ : ١٥٨ / ٣٣٦ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٢٧١

إزالة المنع عن الصلاة إجمالا لديهم ، فهذا ممّا يؤكّد الوثوق باستكشاف رأي المعصوم من فتاوى الأصحاب.

وكيف كان فعمدة مستند الحكم بطهارة الحصر والبواري عموم رواية (١) أبي بكر ، المنجبر وهنه بفتوى الأصحاب ، وصحيحة زرارة ـ المتقدّمة (٢) ـ بالتقريب المتقدّم.

ولا يخفى عليك أنّه لو لا اشتهار الحكم فيما بين الأصحاب لأشكل استفادته بالنسبة إليهما من الروايتين بعد عدم مشاركة شي‌ء من المنقولات لهما في الحكم ، فإنّه ربما يغلب على الظنّ أنّ المراد بعموم «ما أشرقت عليه الشمس» في رواية (٣) أبي بكر هو الأرض وتوابعها من الأبنية والأشجار ونحوها ممّا جرى مجراها.

وأمّا الصحيحة فربّما يدّعى انصرافها إلى الأمكنة الخالية عن الفراش خصوصا بعد التفات الذهن إلى عدم طهارة الفرش ـ ما عدا الحصر والبواري ـ بغير الشمس ، كما تقدّمت الإشارة إليه وإلى منعه ، فالقول بطهارتهما بالشمس وإن لا يخلو عن قوّة إلّا أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

تنبيهات :

الأوّل : صرّح غير واحد بكون السفن ونحوها ممّا يجري في الماء ولا يتحوّل من مكان إلى مكان في خارجه بحكم الأرض. وهو لا يخلو عن تأمّل ، والله العالم.

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٦٨.

(٢) في ص ٢٦٦.

(٣) تقدّمت في ص ٢٦٨.

٢٧٢

الثاني : يكفي في مطهّريّة الشمس استناد الجفاف إليها عرفا ، فلا يقدح مدخليّة الريح أو حرارة الهواء فيه على وجه لا ينافي الصدق العرفي.

وفي صحيحة زرارة ، المتقدّمة (١) شهادة عليه ، بل ظاهرها كفاية حصول الجفاف بها وبالريح على وجه يستند التأثير إليهما على سبيل المشاركة.

وهو غير بعيد ، فإنّ مشاركة الريح غير مانعة عرفا من استناد الأثر إلى الشمس ، إلّا أن تكون الريح شديدة في الغاية بحيث لا يطلق عليه عرفا أنّه جفّ بالشمس ، ولعلّها منصرفة عن مثل الفرض ، والله العالم.

الثالث : إذا سرت النجاسة إلى الباطن ، كما هو الغالب عند إصابة البول للسطح أو الأرض ـ كما هو مورد الأخبار ـ فأشرقت عليها الشمس وجفّفتها ، طهر الظاهر والباطن ، إلّا أن يكون الباطن بنظر العرف موضوعا مغايرا للموضوع الذي جفّفته الشمس ، كما لو وصلت النجاسة إلى الجانب الآخر من السطح ، فإنّ جفاف هذا الطرف غير مستند عرفا إلى إشراق الشمس ، فتختصّ الطهارة حينئذ بالسطح الظاهر وما يتبعه في النسبة ، دون الطرف الآخر وما يلحقه.

ولو أشرقت الشمس على حصر متعدّدة ملقى بعضها على بعض فجفّفتها.

اختصّت الطهارة بالأعلى ، فإنّ كلّا منها بحسب الظاهر لدى العرف موضوع مستقلّ يراعى فيه حكمه ، فما عدا الأعلى جفافه مستند إلى الحرارة الحادثة بإشراق الشمس لا إلى نفسها.

الرابع : أجزاء الأرض وتوابعها [بحكم الأرض] من الرمل والحصى والحجارة والتراب و

__________________

(١) في ص ٢٦٧.

٢٧٣

المعادن وما جرى مجراها كلّها بحكم الأرض وإن كانت بنفسها لو لوحظت مستقلة قابلة للنقل ، لكنّها ما دامت تابعة للأرض محكومة بحكمها ، ومتى استقلّت بأن أخذت الحجارة أو التراب ـ مثلا ـ لغرض ، كالسجود عليه أو التيمّم به ، خرجت من حدّ التبعيّة ، فحينئذ يراعى فيها حكمها من حيث هي ، وإذا عادت على حالتها الاولى لحقها حكمها.

الخامس : لو كانت النجاسة ذات جرم ، اعتبر زوال جرمها في التطهير بالشمس كالتطهير بالماء بلا خلاف فيه على الظاهر ، كما صرّح به في الحدائق (١).

لكن قد يتوهّم أنّ مقتضى عموم قوله عليه‌السلام : «كل ما أشرقت عليه الشمس فهو طاهر» (٢) عدم اعتبار هذا الشرط ، فيكون اتّفاق كلمة الأصحاب على اعتباره من موهنات هذه الرواية.

ويدفعه : أنّ المتبادر من مثل هذه العمومات بواسطة المناسبات المغروسة في الذهن ليس إلّا إرادة الطهارة على تقدير زوال العين ، فليس عموم هذه الرواية إلّا كعموم قوله عليه‌السلام : «كلّ ما يراه ماء المطر فقد طهر» (٣) فكما لا يفهم من تلك الرواية طهارة ما يراه ماء المطر إلّا على تقدير استهلاك النجاسة وزوال عينها ، فكذلك هذه الرواية.

وكيف كان فلا شبهة في اعتبار هذه الشرط ، ولعلّه لذا فصّل بعض (٤) ـ على

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٤٥١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٧٧ / ١٥٧٢ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٢٨ ، الهامش (١).

(٤) هو الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٩٣ على ما حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٤٧.

٢٧٤

ما حكي عنه ـ بين الخمر وسائر النجاسات التي لا تبقى عينها بعد الجفاف ، فقال بطهارة الأرض من سائر النجاسات بتجفيفها بالشمس ، دون الخمر ، فكأنّه رأى أنّ الخمر لا تزول عينها بالجفاف ، والله العالم.

السادس : مقتضى إطلاق رواية الحضرمي وموثّقة عمّار ، المعتضدتين بالفقه الرضوي : اطّراد الحكم في سائر النجاسات والمتنجّسات من غير فرق بين البول وغيره ، كما لعلّه المشهور ، لكن يعتبر في سائر النجاسات والمتنجّسات التي لها جرم عدم بقاء جرمها بعد الجفاف ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

وهل تكفي إزالة جرمها قبل الجفاف مطلقا ، أم يعتبر بعد زوال الجرم بقاء الأرض رطبة رطوبة يعتدّ بها بحيث يتحقّق جفافها عرفا بعد زوال الجرم؟ فيه تردّد.

وكيف كان فمتى حصل الجفاف لا على الوجه المعتبر إمّا لكونه بغير الشمس أو لبقاء الجرم ، فأزيل الجرم ثمّ صبّ عليه الماء وجفّفته الشمس ، طهر ، لإطلاق الدليل.

نعم ، لو قلنا باختصاص الحكم بالبول ، اتّجه إلحاق المتنجّس بالبول بسائر النجاسات ، وإلحاق الأرض الجافة المتنجّسة بالبول عند صبّ الماء عليها بالأرض المتنجّسة بالمتنجّس بالبول ، لخروجها من منصرف الدليل ، إلّا أن يدّعى الأولويّة القطعيّة ، وعهدتها على مدّعيها.

(وتطهّر النار) كلّ (ما أحالته) دخانا أو رمادا من النجاسات والمتنجّسات على المشهور ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع على طهارة دخان

٢٧٥

الأعيان النجسة ورمادها.

وما عن الشيخ في المبسوط ـ من الحكم بنجاسة دخان الدهن النجس ـ ليس خلافا في المسألة ، فإنّه علّله بأنّه يتصاعد بواسطة السخونة من أجزائه شي‌ء قبل الاستحالة (١).

وقد حكي عنه في الخلاف دعوى الإجماع على طهارة الأعيان النجسة بصيرورتها رمادا (٢).

وعن ظاهر بعض دعوى الإجماع على طهارة كلّ ما أحالته النار من غير فرق بين النجاسات والمتنجّسات (٣).

وعن المحقّق البهبهاني دعوى الإجماع على إلحاق المتنجّس بالنجس في هذا الحكم (٤).

لكن يظهر من بعض المتأخّرين التردّد في طهارة ما استحيل إليه المتنجس أو الجزم بعدم الإلحاق ، لشبهة حصلت له ، كما سيأتي التنبيه عليها وعلى دفعها.

وكيف كان فعمدة مستند الحكم عدم تعدّي الأحكام الثابتة للموضوعات النجسة عن موضوعاتها ، فمتى صارت العذرة رمادا ، لحقها حكم الرماد ، وارتفع حكم العذرة ، إذ لا يعقل بقاء الحكم بعد ارتفاع موضوعه ، وقد دلّ الدليل على نجاسة العذرة ، والرماد ليس بعذرة ، فلا يعمّه الدليل.

__________________

(١) كما في المعالم (قسم الفقه) : ٧٧٦ ، والحدائق الناضرة ٥ : ٤٥٩ ، وانظر : المبسوط ٦ : ٢٨٣.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٤٥٩ ، وانظر : الخلاف ١ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ، المسألة ٢٣٩.

(٣) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٧٠ عن ظاهر التذكرة ١ : ٧٤ ـ ٧٥ ، المسألة ٢٤.

(٤) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٨٧.

٢٧٦

ولو شكّ في نجاسته ولم يكن لنا دليل يدلّ على طهارة الرماد مطلقا بحيث يعمّ الفرض ، حكم بطهارته ، للأصل ، ولا يجري استصحاب النجاسة بعد فرض الاستحالة ، لأنّ بقاء الموضوع شرط في الاستصحاب.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الاستحالة موجبة للطهارة ولو بغير النار ، وهذا إجمالا ممّا لا ريب فيه بل في أغلب الموارد من الضروريّات ، وإنّما الإشكال في مقامات :

الأول : أنّه ربما يستشعر من كلمات الأصحاب حيث أفردوا النار بالذكر وعدّوها من المطهّرات كالشمس ، ولم يستغنوا عنها بعدّهم الاستحالة من المطهّرات : أنّ لخصوصيّتها دخلا في ذلك.

وربما يظهر من جملة من الأخبار كونها في حدّ ذاتها من المطهّرات.

ولا يبعد أن يكون تخصيصها بالذكر في كلمات الأصحاب ، لوقوع التعرّض لها في الأخبار ، فلا عبرة بما يستشعر من كلماتهم بعد أن علّقوا مطهّريّتها بالإحالة ، واستدلالهم لها بخروج ما أحيل إليه من مسمّى العين النجسة ، فلا تشمله أدلّة نجاستها.

وأمّا الأخبار :

فمنها : صحيحة الحسن بن محبوب ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثمّ يجصّص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطّه «إنّ الماء والنار قد طهّراه» (١).

ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عمّن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ١٤٧ ، الهامش (١).

٢٧٧

في عجين وخبز ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة ، قال : «لا بأس أكلت النار ما فيه» (١).

ورواية عبد الله بن زبير عن جدّه (٢) ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البئر تقع فيها الفأرة وغيرها من الدوابّ فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال : «إذا أصابته النار فلا بأس بأكله» (٣).

وخبر زكريّا بن آدم ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير ومرق كثير ، قال : «يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمّة أو الكلب ، واللّحم اغسله وكله» قلت : فإنّه قطر فيه الدم ، قال : «الدم تأكله النار إن شاء الله» قلت : فخمر أو نبيذ قطرت في عجين ، أو دم ، قال : فقال : «فسد» قلت : أبيعه من اليهود والنصارى وأبيّن لهم؟ قال : «نعم ، فإنّهم يستحلّون شربه» (٤) الحديث.

ولا يخفى عليك أنّ هذه الأخبار بعد إعراض الأصحاب عنها ومعارضتها بغيرها من الأدلّة ممّا يجب ردّ علمه إلى أهله ، خصوصا الرواية الأخيرة التي يستشعر منها دوران نجاسة الدم مدار عينه ، وعدم كون الدم الواقع في المرق مؤثّرا في تنجيس المرق ، والتفصيل بين الدم وبين غيره من النجاسات ، والفرق

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٤ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، ح ١٨.

(٢) كذا ، وفي المصدر : «.. عن أحمد بن محمّد بن عبد الله بن الزبير عن جدّه».

(٣) التهذيب ١ : ٤١٣ ـ ٤١٤ / ١٣٠٣ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، ح ١٧.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٤٢ ، الهامش (٢).

٢٧٨

بين وقوع الدم في المرق أو في العجين ، وشي‌ء منها لا ينطبق على القواعد الشرعيّة.

وأمّا رواية ابن زبير : فلا مانع من الالتزام بمفادها ، إذ لم نقل بنجاسة ماء البئر بموت الفأرة وغيرها من الدوابّ ، وإنّما التزمنا بحدوث مرتبة من القذارة لا يجب التنزّه عنها ويزيلها نزح المقدّر ، فمن الجائز أن تكون إصابة النار أيضا كالنزح رافعة لتلك القذارة.

ويحتمل أن يكون المراد بالماء الذي كانت فيه ميتة ـ في مرسلة (١) ابن أبي عمير ـ أيضا ماء البئر ، وإلّا يعارضها مرسلته الأخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : «يباع ممّن يستحلّ أكل الميتة» (٢) وفي مرسلته الأخرى أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «يدفن ولا يباع» (٣) ، إذ لو كانت إصابة النار إليه عند صيرورته خبزا مطهّرة له لم يكن يأمره بالبيع من مستحلّ الميتة ، أو الدفن.

وأمّا صحيحة الحسن (٤) : فلا تدلّ إلّا على أنّ للنار دخلا في طهارة الجصّ ، فلعلّه لكونها مؤثّرة في احتراق الأجزاء الدهنيّة والأجرام الواصلة إليه حال إيقاد العذرة ، المانعة من تأثير الماء في تطهيره ، وقد تقدّم بعض الكلام في توجيه هذه الصحيحة في مبحث التطهير بالماء القليل ، فراجع (٥).

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٥ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٦ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الأسئار ، ح ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٦ ، الإستبصار ١ : ٢٩ / ٧٧ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الأسئار ، ح ٢.

(٤) أي : صحيحة الحسن بن محبوب ، المتقدّمة في ص ٢٧٧.

(٥) ص ١٤٧.

٢٧٩

وربما يستدلّ بهذه الصحيحة لإثبات طهارة ما أحالته النار رمادا أو دخانا ، نظرا إلى أنّ مثل هذا الجصّ لا ينفكّ من أن يتخلّف فيه شي‌ء من رماد ما أوقد عليه ، فلو لم يطهّر بالاستحالة لزمه نجاسة الجصّ عند إيصال الماء إليه ، وكذا لا ينفكّ من أن يصيبه الدخان حال الإيقاد ، والماء الذي يصل إليه لا يصلح لتطهيره على تقدير نجاسته ، إذ لا يتحقّق به الغسل المعتبر شرعا ، فجواز السجود عليه دليل على عدم انفعاله بالدخان ، ولازمه أن لا يكون الدخان نجسا ، فعلى هذا تكون نسبة الطهارة إلى الماء لكونه مؤثّرا في رفع القذارة الحكميّة الناشئة من ملاقاة نجس العين مع الجفاف ، المقتضية لاستحباب الرشّ في بعض المقامات ، كما عرفته فيما سبق.

الثاني : قال شيخنا المرتضى رحمه‌الله في مبحث الاستصحاب من أصوله : إنّ بعض المتأخّرين فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل ، لزوال الموضوع ، دون الثاني : لأنّ موضوع النجاسة فيه ليس عنوان الخشب مثلا ، وإنّما هو الجسم ، ولم يزل بالاستحالة.

وهو حسن في بادئ الرأي إلّا أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ، إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام من حيث سببيّة الملاقاة.

وبتقرير آخر : الحكم ثابت لأشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد

٢٨٠