مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وأمّا صحيحة ابن أبي يعفور : فقد عرفت أنّها على خلاف المطلوب أدلّ ، ولا أقلّ من إجمالها.

وأمّا الخبران : فيتوجّه على الاستدلال بهما : أنّ المتبادر من تعليق الحكم على الطبيعة إنّما هو بملاحظة كلّ فرد فرد ، لا مجموع الأفراد ، ففيما نحن فيه يصدق على كلّ فرد فرد أنّه أقلّ من مقدار الدرهم.

ثم لو سلّم ظهورهما في ملاحظة التقدير بالنسبة إلى مطلق الدم الواصل إلى الثوب أعمّ من أن يكون واحدا أو متعدّدا ، تعيّن صرفهما إلى إرادة الدم المجتمع ، جمعا بينهما وبين مرسلة جميل ، الحاكمة على مثل هذه الظواهر لو لم نقل بانصرافهما في حدّ ذاتهما إلى إرادة الدم الواحد المجتمع.

ثمّ لو أغمض عن جميع ذلك ، فنقول : إنّ المتبادر من مرسلة جميل وخبر الجعفي كونهما مسوقتين لبيان عدم كون هذا المقدار من الدم في الثوب مانعا من الصلاة فيه ، فكلّ ثوب يكون فيه دم أقلّ من الدرهم تجوز الصلاة فيه ، فلو كان على المصلّي أثواب متعدّدة يصدق على كلّ منها أنّ الدم الكائن فيه أقلّ من الدرهم ، فلا بأس بالصلاة فيه بمقتضى إطلاق الروايتين ، فضمّ بعض الأثواب إلى بعض وملاحظة التقدير بالنسبة إلى الجميع ـ كما صرّح به بعض القائلين بهذا القول ـ ممّا لا وجه له.

ودعوى إرادة جنس الثوب ـ الشامل لمطلق الثياب ـ الذي لبسه المصلّي عارية عن الشاهد ، كما أنّ مقتضى ظاهر رواية [مثنى بن عبد السلام] (١) المتقدّمة (٢)

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أبي بصير». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في ص ٧٠.

١٠١

في صدر المبحث ، الواردة في دم حكّة الجلد : كون البدن في حدّ ذاته موضوعا مستقلّا للحكم ، فيستفاد العفو عنه من تلك الرواية ، ويستفاد العفو عمّا في ثوبه إذا كان أقلّ من الدرهم من هذه الروايات ، فلا وجه لانضمام أحدهما إلى الآخر ، كما هو صريح بعضهم.

اللهمّ إلّا أن يناقش في تلك الرواية ببعض ما عرفت في محلّه ، ويقال : إنّ العفو عن البدن إنّما استفيد من أخبار الثوب بمعونة الإجماع.

(و) كيف كان فقد ظهر أنّ القول (الأوّل أظهر).

ويشهد له أيضا كما يؤيّد إرادة الاجتماع الفعلي من الخبرين (١) المتقدّمين :خبر الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه سئل عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال : «لا وإن كثر ، ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله» (٢).

قوله عليه‌السلام : «ينضحه ولا يغسله» راجع إلى دم البراغيث ، الذي سيق الكلام لبيان حكمه ، فقوله عليه‌السلام : «ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف» جملة معترضة سيقت للتنبيه على مساواة دم الرعاف لدم البراغيث في عدم مانعيّته من الصلاة إذا كان شبيها به في كونه شبه النضح متفرّقا غير مجتمع.

فما يظهر من صاحب الحدائق (٣) ـ من الميل إلى طهارة دم الرعاف في مثل

__________________

(١) أي : خبر الجعفي ومحمّد بن مسلم ، المتقدّمان في ص ١٠٠.

(٢) الكافي ٣ : ٥٩ ـ ٦٠ / ٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٩ / ٧٥٣ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

(٣) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٠٩.

١٠٢

الفرض ، حيث إنّه لو لم يكن طاهرا لكان الأمر بنضحه موجبا لتكثير نجاسته ـ ضعيف ، فإنّه وإن كان قد يتراءى من الرواية ذلك لكن يتعيّن صرفها إلى ما ذكرنا ، جمعا بينها وبين صحيحة ابن أبي يعفور ، المتقدمة (١) وغيرها من الأخبار الدالّة على نجاسته.

وكيف كان فالرواية صريحة في العفو عن دم الرعاف الذي يشبه دم البراغيث ، ومقتضى إطلاقها : عدم الفرق بين ما لو كان مجموعه أقلّ من الدرهم أو أكثر.

نعم ، لا يبعد دعوى انصراف الإطلاق عمّا لو تفاحش الدم ، نظرا إلى ندرة فرض بلوغ ما يصيب الثوب من دم الرعاف شبه النضح الموجب لشباهته بدم البراغيث مرتبة التفاحش ، وكون العفو عنه دون مقدار الدرهم إذا كان مجتمعا مستبعدا ، فيكون الاستبعاد المغروس في الذهن بضميمة ندرة الفرض منشأ لصرف الإطلاق ، وليس تنظيره بدم البراغيث ـ الذي ورد التصريح بنفي البأس عن كثيره ـ منافيا لذلك ، لأنّ التشبيه إنّما وقع بين حكميهما ، لا بين الموضوعين حتّى يقتضي إطلاق التشبيه عموم المنزلة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

والحاصل : أنّ دعوى خروج فرض التفاحش من منصرف هذه الرواية فضلا عن غيرها من الأخبار المتقدّمة غير بعيدة ، فيشكل بالنسبة إليه رفع اليد عن عمومات الإزالة ، فيتّجه بذلك اختيار القول الثالث ، وإلّا فلا دليل عليه بالخصوص ، عدا المرسل المحكيّ عن دعائم الإسلام عن الباقر والصادق عليهما‌السلام

__________________

(١) في ص ٧٢ و ٩٧.

١٠٣

أنّهما قالا : «في الدم يصيب الثوب يغسل كما تغسل النجاسات» ورخّصا في النضح اليسير منه ومن سائر النجاسات مثل دم البراغيث وأشباهه ، قالا : «فإذا تفاحش غسل» (١). وهو مع ضعف سنده لا يصلح إلّا للتأييد.

وكيف كان فالقول باعتبار عدم التفاحش لو لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط ، بل لا ينبغي ترك الاحتياط بإزالة ما زاد عن المقدار المعفوّ عنه في الدم المتفرّق أيضا خصوصا إذا كان في ثوب واحد ، فإنّ القول بوجوبها في الفرض لا يخلو عن وجه ، وإن كان الأوجه ما عرفت ، والله العالم.

فروع :

الأوّل : لو أزيل عين الدم المعفوّ عنه من الثوب بفرك ونحوه ، فالظاهر بقاء حكمه ، أي العفو عنه ، فإنّ الأصل بقاء الثوب على ما كان عليه من جواز الصلاة فيه.

ويدلّ عليه أيضا الأخبار المتقدّمة بالفحوى.

الثاني : لا يلحق بالدم المائع المتنجّس به ، لعدم الدليل عليه.

ودعوى عدم زيادة حكم الفرع عن أصله ، غير مسموعة في الأحكام التعبّدية.

نعم ، لو وقع مائع طاهر في الدم واستهلك فيه بحيث لم يخرج الدم من مسمّاه ، لم يتغيّر حكمه.

وكذا لو أصاب الثوب المتنجّس بالدم المعفوّ عنه مائع طاهر فتنجّس ،

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١١٧ ، وعنه في البحار ٧٧ : ٩٢ / ٩.

١٠٤

ولم يكن مؤثّرا في زيادة نجاسة الثوب على وجه يستند إليه عرفا انفعاله بالمتنجّس ، كما لو وقع قطرة ماء على المكان النجس ولم يتعدّ إلى ما حوله بمقدار يعتدّ به عرفا ، أو القي الثوب المتنجّس بالدم في ماء كرّ واخرج مع بقاء عين الدم فيه ، أو أصابه المطر كذلك ، فالظاهر بقاؤه على ما كان ، إذ لم يتغيّر الموضوع عرفا ، فليستصحب حكمه ، والله العالم.

الثالث : لو تردّد الدم الذي رؤي في الثوب بين كونه ممّا عفي عنه أو من دم الحيض ونحوه ، استصحب جواز الصلاة في الثوب.

ولا يصحّ في مثل المقام من الشبهات الموضوعيّة ـ التي لم يكن الشكّ فيها ناشئا من إجمال المخصّص ـ التمسّك بعمومات الإزالة ، كما تقرّر في محلّه.

وكذا لو تردّد بين كونه أقلّ من الدرهم أو أكثر ، لا لأجل الجهل بمقدار الدرهم ، الذي عرفت فيما سبق حكمه ، بل لعوارض خارجيّة ، كما لو كان كخطّ مستطيل ، أو كان متفرّقا وقلنا باعتبار التقدير في الدم المتفرّق أيضا ، فتردّد بواسطة استطالته أو تفرّقه بين الأقلّ والأكثر ، فلا يمكن إحراز أحد الوصفين بالأصل ، لأنّ الأصل لا يجدي في تشخيص مقدار الحوادث ، فالمرجع استصحاب جواز الصلاة في الثوب إن كان مسبوقا بالعلم ، واستصحاب المنع إن كان مسبوقا بالمنع ، كما لو كان في السابق مشتملا على دم كثير ، فأزيل عنه وبقي مقدار يسير منه مردّد بين كونه أقلّ من الدرهم أو أكثر.

ولو لم يكن له حالة سابقه معلومة أو منع من استصحابها مانع ، كما لو كان من أطراف الشبهة المحصورة ، وجبت إزالته ، لقاعدة الاشتغال.

١٠٥

وكذا الكلام في الفرض السابق لو فرض تعذّر استصحاب جواز الصلاة في الثوب بواسطة العلم الإجمالي أو غيره من الموانع.

وقد يقال في مثل المقام بابتنائه على أنّ طهارة الثوب هل هي شرط في الصلاة أو أنّ نجاسته مانعة منها؟ فعلى الأوّل يجب إحرازها ، وعلى الثاني لم يجب ، لأصالة عدم المانع.

وفيه : ما تقرّر في محلّه من أنّه لم يتحقّق لهذا الأصل مستند ، عدا الاستصحاب ، والمفروض عدم جريانه في المقام ، لعدم العلم بالحالة السابقة ، أو لكونه من أطراف العلم الإجمالي.

واستصحاب عدم حدوث ما يمنع المكلّف من الدخول في الصلاة لا يجدي في إثبات عدم مانعيّة النجاسة الموجودة ، إذ لا اعتداد بالأصول المثبتة ، كما تقدّم تحقيقه في باب الوضوء في مسألة ما لو شكّ في وجود الحاجب أو حاجبيّة الموجود عن وصول الماء إلى البشرة ، فراجع (١).

ولكنّك ستعرف في كتاب الصلاة في مسألة الصلاة فيما يشكّ في كونه ممّا يؤكل لحمه أنّه على القول بالمانعيّة لا حاجة إلى إحراز عدم مانعيّة الموجود ، كي يكون من الأصول المثبتة ، فبناء المسألة على ذلك لا يخلو من قوّة.

الرابع : لو اجتمع الدم وتراكم بعضه على بعض ، أشكل استفادة العفو عمّا دون الدرهم منه من النصوص والفتاوى ، لإمكان دعوى انصرافها عن ذلك ، فالأحوط التجنّب عنه إذا اجتمع بقدر الحمّصة وما زاد ، كما نبّهنا عليه في توجيه

__________________

(١) ج ٣ ، ص ٦٢ وما بعدها.

١٠٦

رواية (١) مثنى بن عبد السلام ، الواردة في دم حكّة الجلد.

الخامس : لو تفشّي الدم من أحد جانبي الثوب إلى الآخر ، فدم واحد على الظاهر بنظر العرف.

نعم ، لا يبعد صدق الدم المتعدّد في بعض فروضه ، فحينئذ يراعى التقدير بالنسبة إلى مجموع الجانبين بناء على فرض الانضمام ، وإلّا فكلّ منهما دم مستقلّ يراعى حكمه ، والله العالم.

(وتجوز الصلاة فيما لا تتمّ الصلاة فيه منفردا وإن كان فيه نجاسة لم يعف عنها في غيره) ممّا تتمّ الصلاة فيه منفردا بلا خلاف فيه في الجملة ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له جملة من الأخبار.

منها : موثّقة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «كلّ ما كان لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن بكون عليه الشي‌ء مثل القلنسوة والتكّة والجورب» (٢).

وعن عبد الله بن سنان عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : «كلّ ما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصلاة فيه فلا بأس أن يصلّى فيه وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكّة والكمرة (٣) والنعل والخفّين وما أشبه ذلك» (٤).

ومرسلة حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يصلّي في الخفّ

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٧٠ ، الهامش (١).

(٢) التهذيب ٢ : ٣٥٨ / ١٤٨٢ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) الكمرة : الحفاظ ، أو كيس يأخذها صاحب السلس. مجمع البحرين ٣ : ٤٧٧ «كمر».

(٤) التهذيب ١ : ٢٧٥ / ٨١٠ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

١٠٧

الذي قد أصابه قذر ، قال : «إذا كان ممّا لا تتمّ الصلاة فيه فلا بأس» (١).

ومرسلة ابن أبي البلاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا بأس بالصلاة في الشي‌ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيبه القذر مثل القلنسوة والتكّة والجورب» (٢).

وخبر زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ قلنسوتي وقعت في بول فأخذتها ووضعتها على رأسي ثمّ صلّيت ، فقال : «لا بأس» (٣).

وعن الفقه الرضوي : «إن أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التكّة أو الجورب أو الخفّ منيّ أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه ، وذلك إنّ الصلاة لا تتمّ في شي‌ء من هذه» (٤).

وربما استشعر من عبائر بعض القدماء ـ كالراوندي وأبي الصلاح وسلّار حيث اقتصروا على القلنسوة والتكّة والجورب والخفّ والنعل (٥) ـ الخلاف في الكلّيّة المزبورة.

ولعلّ مرادهم التمثيل ، وإلّا فلفظة : «كلّ ما» و «مثل» وما أشبه ذلك ، الواردة في النصوص حجّة عليهم.

ثمّ إنّه قد حكي عن الصدوق أنّه عدّ العمامة من جملة ما لا تتمّ فيه الصلاة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٧٤ / ٨٠٧ ، و ٢ : ٣٥٧ / ١٤٧٩ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٥٨ / ١٤٨١ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ / ١٤٨٠ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٥ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٣٥.

(٥) الكافي في الفقه : ١٤٠ ، المراسم : ٥٥ ـ ٥٦ ، وحكى عبارة الراوندي العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ ، المسألة ٢٤٢.

١٠٨

وحده (١) ، كما في الفقه الرضوي (٢).

وحمله بعض على إرادة العمامة الصغيرة التي لا يمكن التستّر بها (٣).

وفيه ما لا يخفى ، إذ كيف يمكن تنزيل الإطلاق على إرادة مثل هذا الفرد الذي لم يعلم كونه مصداقا حقيقيّا للمطلق! وربما قيل في توجيهه : بأنّ العمامة ما دامت باقية على هيئتها لا يمكن التستّر بها ، ولا عبرة بإمكانه على تقدير تغيير الهيئة وخروجها من مصداق العمامة ، وإلّا فيمكن فرضه بالنسبة إلى القلنسوة ونحوها أيضا.

وفيه ما لا يخفى من الفرق بين الإمكانين ، فإنّ تغيير هيئة العمامة والاتّزار بها ليس أمرا خلاف المتعارف ، بخلاف القلنسوة ، بل لنا أن نقول : إنّ المتبادر من النصوص والفتاوى إنّما هو جواز الصلاة في كلّ ثوب لا تتمّ الصلاة فيه وحده ، والعمامة في حدّ ذاتها ثوب قابل لأن يلفّ على الرأس ، فيصدق عليه اسم العمامة ، أو يشدّ على الوسط ويتستّر به ، فيطلق عليه اسم المئزر ، فهو في حدّ ذاته ثوب تجوز الصلاة فيه وحده.

ويحتمل قويّا أنّ الصدوق استظهر من الروايات دوران الجواز والمنع مدار ساتريّة الثوب بالفعل وعدمها ، فكلّ ثوب لبسه المصلّي إن كان ساترا لعورته بحيث جاز له الصلاة فيه وحده ، وجبت إزالة النجاسة عنه ، وإلّا لم تجب ،

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ١٢٩ ، وانظر : الفقيه ١ : ٤٢ ، ذيل ح ١٦٧.

(٢) راجع ص ١٠٨.

(٣) حكاه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٣٥ عن الراوندي ، وتبعه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٢٢.

١٠٩

فلا تجب إزالتها عن العمامة ، بل وكذا القميص القصير الغير الساتر للعورة وإن أمكن التستّر به بشدّة على الوسط ، فالمدار على جواز الصلاة فيه وحده بالفعل لا بالفرض.

كما أنّه يحتمل أن يكون عدّ العمامة في الرضوي ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده بهذه الملاحظة.

وهذا المعنى وإن لم تكن إرادته من مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يكون عليه الشي‌ء» بعيدا لكنّ المتبادر منه ـ خصوصا بملاحظة ما في الروايات من التمثيل بالتكّة والقلنسوة ونحوهما المشعر بكون وجه عدم الجواز صغر الثوب لا عدم التستّر به بالفعل ـ إنّما هو إرادة التوصيف بالنظر إلى نفس الثوب من حيث هو ، لا بملاحظة كونه بالفعل ساترا أو غير ساتر ، ولا سيّما بعد اعتضاده بفهم الأصحاب وفتواهم ، فتوهّم إرادة المعنى الأوّل من أخبار الباب ضعيف ، فعدّ العمامة ونحوها ممّا لا تتمّ الصلاة فيه منفردا في غير محلّه.

والرضويّ بنفسه لا يصلح دليلا لإثبات ذلك ، خصوصا مع مخالفته لفتوى الأصحاب ، مع أنّ في العدول من التمثيل بالعمامة إلى التمثيل بالقلنسوة في الأخبار السابقة تنبيها على عدم العفو عن العمامة ، كما لا يخفى.

تنبيهات :

الأوّل : مقتضى إطلاق المتن وغيره : عدم الفرق فيما لا تتمّ الصلاة فيه وحده بين كونه ملبوسا أو محمولا ، بل قضيّة تخصيصهم الحكم بوجوب الإزالة

١١٠

ـ في صدر المبحث ـ بالثوب والبدن : خروج المحمول من موضوع هذا الحكم ، وعدم وجوب الإزالة عنه مطلقا ، سواء كان ممّا تتمّ الصلاة فيه أم لا ، وقد عرفت فيما سبق أنّه لا يخلو عن قوّة.

ثمّ إن قلنا بعدم جواز حمل المتنجّس يمكن التفصيل فيه أيضا ـ كالثوب ـ بين ما لا تتمّ فيه الصلاة وبين غيره ، لقوله عليه‌السلام في مرسلة ابن سنان ، المتقدّمة (١) : «كلّ ما كان على الإنسان أو معه» إلى آخره ، فإنّ ظاهره إرادة المحمول بما معه.

وربما يستدلّ له أيضا بالأولويّة.

وفيها تأمّل.

وحكي عن غير واحد من الأصحاب المنع من حمل المتنجّس مطلقا ، وتخصيص التفصيل بين ما تتمّ فيه الصلاة وما لا تتمّ بالملابس (٢).

وربما تكلّفوا في توجيه المرسلة بما لا ينافي مذهبهم ، أو أجابوا عنها بضعف السند.

وعن بعضهم تقييد الملابس أيضا بما إذا كانت في محالّها (٣) ، فلو لبس القلنسوة في رجله والجورب في يده ، لم يعف عنه ، بدعوى أنّ هذا هو المتبادر من أدلّته.

__________________

(١) في ص ١٠٧.

(٢) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٣٥ عن ابن إدريس في السرائر ١ : ١٨٤ ، و ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٣ : ٢٦٠ ، الفرع الأوّل ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٨٣ ، والشهيد في البيان : ٤٢.

(٣) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٣٥ عن العلّامة الحلّي في قواعد الأحكام ١ : ٨ ، ومنتهى المطلب ٣ : ٢٦٠ ، الفرع الثاني ، والشهيد في البيان : ٤٢.

١١١

وفيه : أنّ هذه الدعوى إنّما تتّجه لو كان الوارد في الأخبار نفي البأس عن القلنسوة ونحوها من حيث هي ، لكنّه ليس كذلك ، فإنّ ذكر القلنسوة وغيرها في الروايات من باب المثال ، فالمدار على كون ما لبسه المصلّي شيئا لا تتمّ فيه الصلاة ، سواء كان لبسه لذلك الشي‌ء على النحو المتعارف فيه أم لا ، غاية الأمر أنّه متى لبس الجورب ـ مثلا ـ في يده يكون كثوب جديد مخترع لليد بهذه الكيفيّة ، ولا ضير فيه ، كما هو واضح.

الثاني مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى ـ كما هو صريح بعضهم (١) ـ عدم الفرق في النجاسة الكائنة في الثوب الذي لا تتمّ الصلاة فيه وحده بين أن تكون من فضلات غير المأكول كبوله وروثه مع بقاء عينها فيه ، وبين غيرها من النجاسات والمتنجّسات.

وهو لا يخلو عن إشكال ، لمعارضة إطلاق أخبار الباب لإطلاق موثّقة ابن بكير ، المتقدّمة (٢) في المسألة السابقة ، التي وقع فيها التصريح بعدم جواز الصلاة في بول غير المأكول وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه ، وليس تقييد تلك الموثّقة بما إذا كانت الفضلات في الثوب الذي تتمّ فيه الصلاة بأهون من حمل هذه الروايات على إرادة بيان عدم مانعيّة النجاسة من حيث هي في الثوب الذي لا تتمّ الصلاة فيه.

اللهمّ إلّا أن يقال باعتضاد إطلاق هذه الروايات بفهم الأصحاب وفتواهم.

هذا ، مع إمكان أن يدّعى أنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام في موثّقة زرارة ،

__________________

(١) راجع : جواهر الكلام ٦ : ١٣٠.

(٢) في ص ٩٤.

١١٢

المتقدّمة (١) : «فلا بأس أن يكون عليه الشي‌ء» مطلق الشي‌ء الذي لا تجوز مصاحبته في الصلاة أعمّ من النجاسة ومن فضلات غير المأكول.

كما يؤيّد ذلك بل يشهد له : رواية الحلبي ، الآتية (٢) الدالّة على جواز الصلاة فيما لا تتمّ فيه الصلاة وحده ، فتكون هذه الموثّقة بل وكذا الرواية الآتية بإطلاقها حاكمة على الروايات الدالّة على اشتراط طهارة الثوب وخلوّه عن فضلات غير المأكول ، لكونها ناظرة إليها.

وكيف كان فالاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

الثالث يظهر من بعض بل ربما يستظهر من المشهور إطلاق العفو عمّا لا تتمّ الصلاة فيه وإن كان متّخذا من أعيان النجاسات ، كالخفّ المتّخذ من جلد الميتة ، والقلنسوة المنسوجة من شعر الكلب والخنزير.

ويشكل ذلك بما دلّ على عدم جواز الصلاة في الميتة مطلقا حتّى في شسع (٣) النعل.

مثل : ما رواه ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الميتة ، قال : «لا تصلّ في شي‌ء منه ولا في شسع» (٤).

وما رواه الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في

__________________

(١) في ص ١٠٧.

(٢) في ص ١١٦.

(٣) الشسع : أحد سيور النعل. لسان العرب ٨ : ١٨٠ «شسع».

(٤) التهذيب ٢ : ٢٠٣ / ٧٩٣ ، الوسائل ، الباب ١ و ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢ و ٦.

١١٣

السوق ، فقال : «اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميّت (١) بعينه» (٢).

وخبر عليّ بن [أبي] حمزة أنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه ، قال : «نعم» فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت ، قال : «وما الكيمخت؟» فقال : جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّا ومنه ما يكون ميتة ، فقال : «ما علمت أنّه ميتة فلا تصلّ فيه» (٣).

وموثّقة سماعة بن مهران ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام [عن] (٤) تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت ، فقال : «لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة» (٥).

ومكاتبة عبد الله بن جعفر إلى أبي محمّد عليه‌السلام : يجوز للرجل أن يصلّي ومعه فأرة المسك؟ فكتب عليه‌السلام «لا بأس به إذا كان ذكيّا» (٦).

ولا تعارض هذه الروايات الأخبار المتقدّمة النافية للبأس عن الصلاة فيما لا تتمّ فيه الصلاة إذا كان عليه شي‌ء من القذر ، لا لمجرّد كون هذه الأخبار أخصّ من تلك الروايات ، بل لظهور تلك الأخبار في إرادة المتنجّس ، وانصرافها عمّا إذا كان الثوب بنفسه متّخذا من نجس العين.

فمن هنا قد يقوى في النظر عدم العفو عن أجزاء الميتة من غير فرق بين

__________________

(١) في «ض ١١» : «ميتة».

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٤ / ٩٢٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ٢ ، وكذا الباب ٣٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ٤ ، وكذا الباب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «في». وما أثبتناه من المصدر.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٢ / ٨١١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٥ / ٨٠٠ ، الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ١٢.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٦٢ / ١٥٠٠ ، الوسائل ، الباب ٤١ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

١١٤

حملها ولبسها أو جعلها جزءا من الملبوس ، بل ولا العفو عن الثوب المتّخذ من نجس العين ، كالكلب والخنزير ، فإنّه ـ مع ما عرفت ممّا فيه من الإشكال من حيث كونه من فضلات غير المأكول ـ خارج من منصرف الأخبار الدالّة على الجواز.

لكنّ الأخبار المانعة من استصحاب أجزاء الميّت ربما يعارضها موثّقة إسماعيل بن الفضل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن لباس الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلّين ، فقال : «النعال والخفاف فلا بأس بها» (١).

ولا يخفى عليك أنّ النعل (٢) والخفاف المصنوعة في غير أرض المصلّين محكومة بكونها ميتة ، لأصالة عدم التذكية ، فالرواية بضميمة هذا الأصل كادت تكون صريحة في الجواز من غير فرق بين أن يكون مقصود السائل هو السؤال عن حكمها بلحاظ كونها ميتة ، أو احتمال كونها من غير المأكول ، وقيام احتمال كون ما يؤتى به من أرض الكفّار من جلد غير المأكول يصحّح الاستدلال بالرواية للعفو عن أجزاء غير المأكول فيما لا تتمّ فيه الصلاة بواسطة ترك الاستفصال مع إطلاق نفي البأس عن النعل (٣) والخفاف.

اللهم إلّا أن يكون اتخاذهما من جلد غير المأكول خلاف المتعارف.

وكيف كان فالقدر المتيقّن إنّما هو دلالة الرواية على جواز الصلاة في النعل المتّخذ ممّن لا يعتدّ بتذكيته ولا يحلّ أكل ما في يده من اللحوم وإن احتمل كونه

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٣٤ / ٩٢٢ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٣ ، وفي النسخ الخطّيّة والحجريّة : «النعل والخفاف فلا بأس بهما». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) الظاهر : «النعال».

(٣) الظاهر : «النعال».

١١٥

مذكّى ، لأصالة عدم التذكية.

نعم ، لو منعنا جريان أصالة عدم التذكية وقلنا بأنّ محتمل التذكية بحكم المذكّى ، أشكل الاستدلال بالرواية للمدّعى ، لإمكان تنزيل إطلاق نفي البأس على صورة الشكّ في التذكية ، وكون التفصيل بين النعل والخفاف وغيرهما من لباس الجلود بواسطة احتمال كونها من غير المأكول ، فليتأمّل.

ويدلّ على نفي البأس عنه أيضا : رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكّة الإبريسم والقلنسوة والخفّ والزنّار (١) يكون في السراويل ، ويصلّى فيه» (٢) فإنّ الجمع بين التمثيل ـ للقاعدة المذكورة في الرواية ـ بالخفّ وغيره مع أنّ احتمال مانعيّة الخفّ من الصلاة بحسب الظاهر إنّما هو بلحاظ كونه جلد الميتة أو متنجّسا أو من غير المأكول ، فذكره في عداد الأمثلة يكشف عن أنّ المقصود بالكلّيّة ليس بيان ضابطة في خصوص الحرير ، بل هي قاعدة مسوقة لبيان اختصاص الشرائط التي اعتبرها الشارع في لباس المصلّي بما تتمّ فيه الصلاة دون غيره.

وإن شئت قلت : إنّ مقتضى عموم قوله : «كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه» إنّما هو جواز الصلاة في كلّ شي‌ء من شأنه عدم جوازها فيه لو كان ممّا تتمّ فيه الصلاة ، وذكر الأمثلة مع اختلاف جهات المنع فيها يؤكّد هذا العموم.

ولا يعارضه شي‌ء من الأخبار الدالّة على اشتراط الطهارة أو كونه غير ميتة ،

__________________

(١) الزّنّار : ما يلبسه الذمّي يشدّه على وسطه. لسان العرب ٤ : ٣٣٠ «زنر».

(٢) التهذيب ٢ : ٣٥٧ / ١٤٧٨ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

١١٦

أو غير مأكول ، لحكومة مثل هذا العموم على مثل هذه الأدلّة ، لكونه بمدلوله اللفظي ناظرا إليها ، كما لا يخفى.

نعم ، إنّما يعارضه ـ كالموثّقة المتقدّمة ـ الأخبار الخاصّة المتقدّمة الدالّة على عدم جواز الصلاة في أجزاء الميتة ولو في شسع نعل أو قلادة سيف أو نحوهما ممّا لا تتمّ فيه الصلاة.

وربما يجمع بين هاتين الروايتين وبين أخبار المنع بحمل تلك الأخبار على الكراهة.

وهو لا يخلو عن إشكال ، فإن رفع اليد عن ظواهر تلك الأخبار بهاتين الروايتين مشكل.

أمّا رواية الحلبي : فواضحة ، فإنّ التصرّف فيها بحملها على ما لا ينافي تلك الأخبار أهون من عكسه ، فإنّ تلك الأخبار أخصّ من هذه الرواية ، فيخصّص بها عمومها ، ولا ينافيه التمثيل بالخفّ ، حيث إنّ الغالب أخذه من سوق المسلمين ويدهم التي هي أمارة التذكية ، فالشكّ في مانعيّته من الصلاة غالبا لا يكون إلّا لاشتماله على النجاسة العرضيّة ، أو كونه من غير المأكول ، فليتأمّل.

وأمّا الموثّقة : فهي وإن كانت قويّة الدلالة على الجواز ، لكنّها مع معارضتها بأخبار المنع قد يعارضها ما دلّ على عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة ، فمن هنا قد يغلب على الظنّ إرادة نفي البأس عن النعل والخفاف لدى عدم العلم بكونهما من الميتة ، فكأنّ الشارع ألغى في المورد اعتبار أصالة عدم التذكية ، لا أنّه أباح الصلاة فيما علم كونه ميّتا حتّى يعارض الأخبار المتقدّمة.

١١٧

ولا ينافيه التفصيل بين النعل والخفّ وبين لباس الجلود ، لإمكان أن يكون المنع من لباس الجلود بلحاظ احتمال كونها من غير المأكول ، وهذا الاحتمال بالنسبة إلى النعل والخفّ إمّا غير معتنى به ، لضعفه ، أو غير مضرّ ، لكونه ممّا لا تتمّ فيه الصلاة ، كما هو أحد القولين في المسألة.

وكيف كان فرفع اليد عن ظواهر تلك الأخبار بهذين الخبرين في غاية الإشكال.

اللهمّ إلّا يعضدهما فهم الأصحاب وفتواهم ، لكنّ الشأن إنّما هو في استكشاف فتواهم من كلماتهم بالنسبة إلى هذه الفروع ، فإنّها لا تخلو عن اضطراب ، فلا بدّ فيه من مزيد تتبّع وتأمّل ، فالمسألة موقع تردّد ، والله العالم بحقائق أحكامه.

(وتعصر الثياب) ونحوها ممّا يرسب فيه الماء ويقبل العصر (من النجاسات كلّها) على المشهور شهرة قويّة ، كما عن بعض دعواها (١) ، بل عن ظاهر المنتهى دعوى إجماعنا عليه حيث نسب الخلاف فيه إلى ابن سيرين (٢).

وعن جماعة من المتأخّرين التردّد فيه (٣).

وعن بعضهم الجزم بالعدم (٤).

واحتجّ عليه في محكيّ المعتبر : بأنّ النجاسة ترسخ في الثوب ، فلا تزول

__________________

(١) حكاها النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٦٦ عن والده في المعتمد.

(٢) حكاه عنه النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٦٦ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٢٦٧ ، الفرع الخامس.

(٣) حكاه عنهم النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٦٦ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٣٣٥ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٣٢٧ ، وذخيرة المعاد : ١٦٢.

(٤) حكاه النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٦٦ عن والده في المعتمد.

١١٨

إلّا بالعصر ، وبأنّ الغسل إنّما يتحقّق في الثوب ونحوه بعصره ، وبدونه يكون صبّا لا غسلا (١).

واستدلّ عليه أيضا في محكيّ المنتهى : بأنّ الماء ينجس بملاقاة الثوب ، فتجب إزالته بقدر الإمكان (٢).

وبرواية أبي العبّاس ـ الصحيحة ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسّه جافّا فاصبب عليه الماء» (٣).

ورواية الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : «اغسله مرّتين» وسألته عن الصبي يبول على الثوب ، قال : «تصبّ عليه الماء قليلا ثمّ تعصره» (٤).

قال صاحب المدارك ـ بعد نقل ما سمعته من المعتبر والمنتهى ـ : هذا نهاية ما استدلّوا به على هذا الحكم. وفي الجميع نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّه إنّما يقتضي وجوب العصر إذا توقّف عليه إخراج عين النجاسة ، ولا ريب فيه ، لكنّ المدّعى أعمّ من ذلك ، فلا يصلح مستندا لإيجاب العصر على وجه العموم.

وأمّا الثاني : فلأنّا لا نسلّم دخول العصر في مفهوم الغسل لغة أو عرفا ، بل

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٢٥ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٢٥ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٢٦٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ / ٧١٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب النجاسات ، ح ٤ ، والباب ٣ من تلك الأبواب ، ح ١.

١١٩

الظاهر تحقّقه بالصبّ المشتمل على الاستيلاء والجريان والانفصال ، سواء عصر أم لا.

وأمّا الثالث : فلأنّا نمنع نجاسة الماء مع وروده على النجاسة ، لانتفاء الدليل عليها ، كما بيّنّاه فيما سبق.

سلّمنا النجاسة لكن اللّازم من ذلك الاكتفاء بما تحصل به الإزالة ، وإن كان بمجرّد الجفاف فلا يتعيّن العصر.

وما قيل من أنّا نظنّ انفصال أجزاء النجاسة مع الماء بالعصر ، بخلاف الجفاف المجرّد ، فدعوى مجرّدة عن الدليل.

على أنّه يمكن أن يقال بطهارة المتخلّف من الماء على المحلّ المغسول مع العصر وبدونه ، لعموم الأدلّة على طهارته بالغسل المتحقّق بصبّ الماء على المحلّ مع استيلائه عليه وانفصاله عنه ، وقد اعترف الأصحاب بطهارة المتخلّف في المحلّ المغسول بعد العصر وإن أمكن إخراجه بعصر ثان أقوى من الأوّل ، والحكم واحد عند التأمّل.

وأمّا الروايتان : فلا دلالة لهما على المدّعى بوجه.

أمّا الأولى : فلأنّها إنّما تدلّ على مغايرة الغسل للصبّ ، ولا كلام فيه خصوصا مع تصريحهم بأنّ المراد بالصبّ الرشّ ، وإثبات المغايرة بينهما لا يتوقّف على اعتبار العصر في الغسل ، كما بيّنّاه.

وأمّا الثانية : فلأنّها إنّما تضمّنت الأمر بالعصر في بول الصبي ، والظاهر أنّ المراد به الرضيع ، كما يدلّ عليه الاكتفاء في طهارته بصبّ الماء القليل عليه مع

١٢٠