مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وقال في آخر كلامه ـ على ما حكي عنه ـ : الشهرة بل الإجماعات المنقولة معلنة باعتبار دوام السيلان على وجه تحصل به المشقّة ، وكلامهم بعد إمعان النظر لا اختلاف فيه ، وكلمتهم في ذلك واحدة ، ولا يضرّ خلاف من شذّ ممّن تأخّر (١). انتهى.

وعن مفتاح الكرامة أيضا ما يقرب من ذلك.

قال ـ فيما حكي عنه ـ : إنّ الظاهر من كلام الأكثر أنّ المدار على المشقّة والحرج ، وكلامهم يعطي لزوم الاستمرار على وجه لا تتيسّر الصلاة بدون الدم ، فيكون حالهما حال صاحب السلس والمبطون والمستحاضة ودائم النجاسة (٢). انتهى.

أقول : فحينئذ لا مقتضي لإفراد هذا الدم بالذكر عدا متابعة النصوص ، مع أنّ الذي يظهر بالتأمّل في كلماتهم أنّ الأمر في هذا الدم لديهم أوسع من سائر النجاسات.

ومن هنا قد يغلب على الظنّ أنّ مرادهم بالمشقّة هي المشقّة العرفيّة الحاصلة باحتياجه في أغلب أوقات صلاته إلى التطهير ، دون الحرج الرافع للتكليف بمقتضى أدلّة نفي الحرج. ومرادهم بعدم رقإ الدم أو كون الجروح والقروح دامية ، أو غير ذلك ممّا وقع في عبائرهم ليس إلّا ما ينطبق على المصاديق الخارجيّة الغالبية ، دون الأفراد النادرة أو الفرضيّة ، وهي ما كان لها استعداد الجريان على وجه يكثر في الخارج ، ويتكرّر تلبّسه بالجريان الفعلي ، لا ما كان

__________________

(١) شرح القواعد ـ لكاشف الغطاء ـ غير مطبوع.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٧١ ، وانظر : مفتاح الكرامة ١ : ١٦٢.

٦١

جاريا بالفعل.

نعم ، قد يأبى عن هذا الحمل عبائر جملة منهم ممّن صرّح باستمرار الجريان في جميع الوقت أو تعاقب الجريات على وجه لا تسع فتراتها للإزالة وأداء الفريضة.

وكيف كان فالمتّبع هو ما يفهم من أخبار الباب.

فمنها : صحيحة ليث المرادي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوءة دما وقيحا وثيابه بمنزلة جلده ، فقال : «يصلّي في ثيابه ولا يغسلها» (١).

وفي الحسن عن ليث المرادي نحوه (٢) إلّا أنّه لم يذكر في متنه «وثيابه بمنزلة جلده».

ومقتضى إطلاق الجواب من غير استفصال : عدم وجوب الغسل ما دام الصدق العرفي ، وهو ما لم يتحقّق البرء ، فتدلّ على عدم اعتبار السيلان ، بل ولا كون الإزالة تكليفا حرجيّا.

ونحوها صحيحة عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الجرح يكون في مكان لا يقدر (٣) على ربطه فيسيل منه الدم والقيح ، فيصيب ثوبي ، فقال : «دعه فلا يضرّك أن لا تغسله» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٤٩ / ١٠٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ / ٧٥٠ ، الوسائل ٣ : ٣٤٣ ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، الهامش (١) من ح ٥.

(٣) في التهذيب : «لا نقدر».

(٤) التهذيب ١ : ٢٥٩ / ٧٥١ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

٦٢

وموثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم» (١).

وقد يتوهّم إمكان الاستشهاد بهذه الموثّقة لمذهب القائلين باعتبار السيلان بحمل البرء ـ الذي جعل غاية لعدم الغسل ـ على إرادة إمساك الدم ووقوفه عن السيلان ، كما يشهد له عطف انقطاع الدم عليه الذي هو ـ بحسب الظاهر ـ من قبيل عطف الخاصّ على العامّ.

وفيه : أنّ المتبادر من عطف الانقطاع على البرء إرادة الانقطاع من أصله المساوق للبرء ، لا مجرّد إمساك الدم ووقوفه عن الجريان الصادق على الفترات الحاصلة في الأثناء.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن الرجل تخرج به القروح فلا تزال تدمي كيف يصلّي؟ فقال : «يصلي وإن كانت الدماء تسيل» (٢).

وقضيّة كلمة «إن» الوصليّة كونه على تقدير عدم السيلان أولى بالعفو.

ولا ينافيه كون المفروض في كلام السائل أنّها لا تزال تدمي ، لأنّ المتبادر منه إرادة تكرّر الخروج وشيوعه ، لا استمراره.

وخبر أبي بصير قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو يصلّي ، فقال لي قائدي : إنّ في ثوبه دما ، فلمّا انصرف قلت له : إنّ قائدي أخبرني أنّ بثوبك دما ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٥٩ / ٧٥٢ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥٦ / ٧٤٤ ، الإستبصار ١ : ١٧٧ / ٦١٥ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٦٣

فقال لي : «إنّ بي دماميل ، ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ» (١).

وموثّقة عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الدّمّل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة ، قال : «يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ، ولا يقطع الصلاة» (٢).

ورواية الجعفي ، قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام يصلّي والدم يسيل من ساقه (٣).

وهذه الروايات بأسرها ما عدا الأخيرة منها تدلّ على العفو مطلقا ما لم يتحقّق البرء من غير اعتبار استمرار الجريان ، بل ولا المشقّة الرافعة للتكليف ، لقضاء العادة بعدم كون إزالة الدم وتطهير الثوب أو تبديله قبل تحقّق البرء على إطلاقه تكليفا حرجيّا ، إذ ربما يتيسّر ذلك خصوصا عند إشراف الجرح على الاندمال ، فلم يحسن جعل البرء غاية لعدم الغسل ـ كما في هذه الروايات ـ لو كان الاستمرار أو المشقّة شرطا في العفو ، كما لا يخفى.

وأمّا الرواية الأخيرة : فهي حكاية فعل لا دلالة فيه على إطلاق العفو ، كما هو واضح.

واستدلّ للقول باعتبار المشقّة والاستمرار : بلزوم الاقتصار على القدر المتيقّن من مورد العفو ، وهو مع ثبوت القيدين.

وفيه ما لا يخفى بعد ما سمعت من النصوص الدالّة على الإطلاق.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٨ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٥٨ / ٧٤٧ ، الإستبصار ١ : ١٧٧ / ٦١٦ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) تقدم تخريجها في ص ٥١ ، الهامش (٢).

(٣) التهذيب ١ : ٢٥٦ / ٧٤٣ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١٤ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

٦٤

وبموثّقة سماعة ، المضمرة ، قال : سألته عن الرجل به الجرح والقرح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه ، قال : «يصلّي ولا يغسل ثوبه كلّ يوم إلّا مرّة ، فإنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة» (١).

والمضمر المرويّ في مستطرفات السرائر عن البزنطي عن العلاء عن محمّد بن مسلم ، قال : قال : «إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع ربطها ولا حبس دمها يصلّي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرّة» (٢).

دلّت المضمرة الأولى ـ بمقتضى تعليلها ـ على أنّ الوجه في عدم وجوب غسل الثوب أزيد من المرّة هو المشقّة الناشئة من استمرار الجريان المحوج إلى الغسل كلّ ساعة ، والثانية ـ بمفهوم قيدها ـ على اعتبار الأمرين.

وفيه : مع قصور الروايتين بالإضمار ضعف دلالتهما على المفهوم ، خصوصا الثانية منهما التي لو أريد بها المفهوم ، لدلّت على اشتراط عدم القدرة على ربط الجرح وحبس دمه ، مع أنّه غير معتبر جزما ، لعدم إمكان تنزيل الأخبار المتقدّمة على خصوص هذه الصورة وقد حكي عن الشيخ رحمه‌الله دعوى الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح وتقليل الدم (٣) ، فلا يصحّ استناد القائلين باعتبار السيلان بهذه الرواية مع عدم التزامهم بوجوب ربط الجرح وحبس دمه.

وأمّا الرواية الأولى : فسوقها يشهد بأنّ ما فيها من التعليل لبيان حكمة

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٨ / ٢ ، التهذيب ١ : ٢٥٨ / ٧٤٨ ، الإستبصار ١ : ١٧٧ / ٦١٧ ، الوسائل ، الباب ٢٢ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) السرائر ٣ : ٥٥٨.

(٣) حكاه عنه الفاضل الشيخ عليّ في بعض مصنّفاته كما في المعالم (قسم الفقه) : ٥٩٠.

٦٥

الحكم تقريبا إلى الذهن ، لا لبيان ما هو مناط الحكم وجودا وعدما ، مع أنّه لو كان تعليلا حقيقيّا ، لدلّ على وجوب تطهير الثوب مع التمكّن منه ، سواء كان الدم سائلا متعذّرا إزالته عن البدن أم لا.

وهذا بحسب الظاهر خلاف المشهور ، فإنّهم لا يوجبون ذلك ، بل ولا غسله في كلّ يوم مرّة مع كونه ميسورا له ومصرّحا به في الرواية ، وقد حملوه على الاستحباب.

ومن هنا قد يقال : إنّ قضيّة التعليل كون مطلوبيّة غسله أزيد من المرّة ـ على تقدير كونه ميسورا ـ على نحو مطلوبيّته في اليوم مرّة ، فلا يدلّ على الوجوب.

وعلى تقدير تسليم كونه تعليلا حقيقيّا دالّا على وجوب الغسل مع الاستطاعة فمقتضاه إناطة العفو عن الدم الواصل إلى الثوب بالمشقّة الحاصلة من الالتزام بغسله أو تبديله الذي هو بمنزلة الغسل في أوقات الصلاة ، التي هي الساعات التي يحتاج فيها إلى تطهير ثوبه ، سواء كان الجرح دائم السيلان أم لا ، فيكفي في تحقّق هذا المناط كونه بحيث يخرج منه الدم دفعات على وجه يحوجه إلى تطهير ثوبه عند كلّ صلاة ، فلا يدلّ على اشتراط دوام السيلان ، بل يدلّ على عدمه.

هذا كلّه ، مع أنّ المراد بعدم استطاعته من الغسل في كلّ ساعة على الظاهر كونه شاقّا عليه في العرف والعادة ، لا كونه غير مقدور له ، أو كونه تكليفا حرجيّا على وجه ينافيه أدلّة نفي الحرج ، إذ الغالب عدم كون الالتزام بتطهير مكان من الثوب أو تبديله في أوقات الصلاة بهذه المرتبة من المشقّة ، ولذا لو أصابته

٦٦

نجاسة خارجيّة كذلك لا نقول بالعفو عنها ، ولا ضير في الالتزام باعتبار المشقّة العرفيّة ، إذ لا ينافيه شي‌ء من أخبار الباب ، فالقول به لا يخلو عن وجه.

وكيف كان فالأقوى عدم اعتبار شي‌ء من القيدين ، لكن هذا على تقدير أن يكون المراد بهما السيلان الفعلي والمشقّة الرافعة للتكليف ، وإلّا فالأظهر اشتراط كون القروح والجروح دامية بالمعنى الذي تقدّمت الإشارة إليه ، بأن يكون لها استعداد السيلان على وجه يتكرّر منها خروج الدم ، لأنّ هذا هو المفروض في مورد الروايات ، كما أنّ المشقّة العرفيّة أيضا ممّا لا تتخلّف غالبا عن مواردها ، فلا يفهم منها العفو عن دم قروح أو جروح يكون خروج الدم منها اتّفاقيّا لا عن مادّة مقتضية له.

نعم ، ربما نلتزم بالعفو في مثل هذه الموارد أيضا ، خصوصا في الجروح اللّازمة التي يطول برؤها ممّا يكون في تطهيرها مشقّة لا تتحمّل في العادة أو مظنّة الضرر بل خوفه ، لا لأجل هذه الأخبار ، بل لغيرها من القواعد الشرعيّة.

وكيف كان فمتى تحقّق مناط العفو فيما نحن فيه دون سائر الموارد التي نقول به ، لأدلّة نفي الحرج ونحوها ، ثبت العفو عنه مطلقا في الثوب والبدن ما لم يكن على وجه عدّ أجنبيّا ، كما لو أصاب دم القرحة التي في رجله رأسه أو عمامته.

ولا يجب عليه تخفيف الدم وإزالته عن البعض أو تبديل الثوب وغسله وإن تيسّر له ذلك ، لإطلاق الأخبار المتقدّمة التي جعل فيها البرء غاية لغسل الثوب ، التي كادت تكون صريحة في المدّعى ، حيث إنّ الغالب حصول التمكّن من غسل

٦٧

الثوب أو تبديله قبل البرء ولو مرّة واحدة. وقد سمعت (١) تصريح الإمام عليه‌السلام في خبر أبي بصير بأنّي لست أغسل ثوبي حتّى تبرأ ، مع أنّه عليه‌السلام بحسب الظاهر كان متمكّنا من تبديل ثوبه أو غسله ولو في الجملة.

نعم ، يستحبّ غسل الثوب في كلّ يوم مرّة ، كما عن جماعة التصريح به ، للمضمرتين المتقدّمتين (٢) ، وظاهرهما وإن كان الوجوب لكن مقتضى الجمع بينهما وبين الأخبار المتقدّمة الآبية عن هذا النحو من التقييد : حملهما على الاستحباب.

هذا ، مع ما فيهما من الضعف والمخالفة للمشهور ، بل لم ينقل القول به صريحا عن أحد.

نعم ، يظهر من الحدائق (٣) الميل إليه.

وفيه ما لا يخفى.

ولو أصاب هذا الدم نجاسة أخرى ، فلا عفو على الظاهر ، كما عن بعض التصريح به (٤) ، ووجهه ظاهر.

ولو أصابه جسم طاهر من ماء ونحوه فتنجّس به ، فالظاهر تبعيّته له في العفو ما لم ينفصل عنه ، خصوصا إذا كان من قبيل الفضلات التي لا تنفكّ عن الجرح غالبا ، كالقيح والعرق ، أو الأجسام التي يتداوى بها ، والله العالم.

__________________

(١) في ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) في ص ٦٥.

(٣) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٠٤.

(٤) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٧٣.

٦٨

(و) عفي أيضا (عمّا دون الدرهم) وقيّده بعضهم بالوافي ، وآخر بـ (البغلي) ولعلّهما بمعنى ، كما ستعرف (سعة) لا وزنا (من الدم المسفوح الذي ليس أحد الدماء الثلاثة) : الحيض والاستحاضة والنفاس ، في الثوب والبدن بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل إجماعا كما عن جمع من الأصحاب دعواه بالنسبة إلى الثوب.

وعن جملة منهم ادّعاؤه صريحا وظاهرا في البدن أيضا.

وعن غير واحد دعوى الإجماع على العفو عن هذا المقدار من الدم على الإطلاق من غير تعرّض لذكر المتعلّق. وظاهره إرادة العفو عن الثوب والبدن.

وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف في مشاركة البدن مع الثوب في العفو ، وإن كان ربما يشعر بذلك تخصيص بعضهم الثوب بالذكر في فتواه ومعقد إجماعه المحكي ، ولكنّه على الظاهر لم يقصد الاختصاص ، كما يشهد بذلك عدم نقل خلاف في المسألة.

نعم ، ربما استظهر من العماني الخلاف في أصل المسألة ، حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : إذا أصاب ثوبه دم فلم يره حتّى صلّى فيه ثمّ رآه بعد الصلاة وكان الدم على قدر الدينار ، غسل ثوبه ، ولم يعد الصلاة ، وإن كان أكثر من ذلك ، أعاد الصلاة ، ولو رآه قبل صلاته أو علم أنّ في ثوبه دما ولم يغسله حتّى صلّى ، غسل ثوبه ، قليلا كان الدم أو كثيرا ، وقد روي أنّه لا إعادة عليه إلّا أن يكون أكثر من مقدار الدينار (١). انتهى.

وفي الاستظهار ما لا يخفى ، فإنّ قوله : «غسل ثوبه ، قليلا كان الدم أو كثيرا»

__________________

(١) حكاه عنه العلّامة الحلي في مختلف الشيعة ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩ ، المسألة ٢٣٥.

٦٩

لبيان عدم الفرق بين الدم القليل والكثير من حيث النجاسة ، كما ربما يوهمه بعض الأخبار ، فقوله : «وقد روي» إلى آخره ـ على الظاهر ـ مسوق لإعطاء حكم من رأى دما في ثوبه قبل الصلاة من حيث الإعادة وعدمها ، فإنّ هذا النحو من التعبير إذا وقع في كلمات أرباب الحديث يظهر منه كون المرويّ مختارا له ، بخلاف ما لو وقع في عبارة مثل المصنّف وغيره من أرباب الفتاوى ممّن ليس من عادته إعطاء الحكم بنقل الرواية ، فإنّه يشعر بضعف الرواية لديه وتردّده في المسألة.

ثمّ على تقدير كونه مخالفا فلا يخفى ما فيه بعد مخالفته لإجماع الأصحاب وأخبارهم الآتية.

وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في مشاركة الثوب والبدن في هذا الحكم وإن كانت الأخبار الدالّة عليه مختصّة بالثوب ، لورودها فيه ، عدا رواية مثنى بن عبد السلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : «إذا اجتمع منه قدر حمّصة فاغسله ، وإلّا فلا» (١).

وهذه الرواية وإن كانت صريحة في العفو عن البدن في الجملة إلّا أنّ ما فيها من التحديد بالحمّصة مخالف للفتاوى والنصوص الآتية ، ولذا قد يناقش فيها بأنّها من الشواذّ التي لا يصحّ الاعتماد عليها.

ويمكن التفصّي عن ذلك : بأنّ مخالفة الرواية للفتاوى والنصوص من جهة لا توجب اطّراحها بالمرّة حتّى بالنسبة إلى الحكم الذي لا معارض له ، أعني أصل العفو ، فإنّ هذا النحو من المخالفة في الأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام فوق حدّ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤١ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١٣ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

٧٠

الإحصاء ، ومقتضاها ليس إلّا ارتكاب التأويل في مورد التنافي بما لا ينافي سائر الأخبار إن أمكن ، وإلّا يردّ علمه من هذه الجهة إلى أهله.

ويحتمل أن يكون الأمر بغسل مقدار الحمّصة منزلا على الرجحان المجامع للاستحباب ، وقد حكي عن الشيخ تنزيله على الاستحباب (١) ، أو يكون مقدار الحمّصة حدّا في الواقع للدم المجتمع المتراكم بعضه على بعض بناء على خروج هذا الفرض من منصرف الفتاوى والأخبار الآتية المحددة بالدرهم ، كما ليس بالبعيد ، أو يكون التحديد بالحمّصة جاريا مجرى الغالب من انتشار هذا المقدار من الدم وتلوّث مقدار الدرهم من الثوب والبدن به ، دون ما لم يبلغ هذا المقدار ، إلى غير ذلك من المحامل المحتملة الغير المنافية للنصوص والفتاوى.

واحتمل بعض (٢) أن تكون الحمصة بالخاء المعجمة من : أخمص الراحة.

ولم تتحقّق صحّته.

وممّا يؤكّد الوثوق بصدور هذه الرواية وقوع التعبير بهذه الكلمة في مقام التحديد في عبارة الفقه الرضوي بعد أن حدّده أوّلا بالدرهم الوافي ، قال : «إن أصابك دم فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف ، والوافي ما يكون وزنه درهما وثلثا ، وما كان دون الدرهم الوافي فلا يجب عليك غسله ، ولا بأس بالصلاة فيه ، وإن كان الدم حمّصة ، فلا بأس بأن لا تغسله إلّا أن يكون دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمنيّ ، قلّ أم كثر ، وأعد منه صلاتك ، علمت به أو

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في الوسائل ، ذيل ح ٥ من الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، وانظر :التهذيب ١ : ٢٥٦ ، ذيل ح ٧٤١ ، والاستبصار ١ : ١٧٦ ، ذيل ح ٦١٣.

(٢) راجع : رياض المسائل ٢ : ٩٦.

٧١

لم تعلم» (١). انتهى.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب ـ بعد ما سمعت من الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة وعدم نقل الخلاف في المسألة ـ في عدم الفرق بين الثوب والبدن ، وعدم مدخليّة خصوصيّة الثوب ـ الذي ورد فيه النصوص ـ في الحكم ، كما يؤيّده بل يشهد له إطلاق عبارة الفقه الرضوي ، المتقدّمة (٢) ، فإنّ كتاب الفقه وإن لم يحصل لنا الوثوق بكونه من مصنّفات الإمام عليه‌السلام لكن مضامينه متون روايات موثوق بها ، فهي لا تقصر عن المراسيل القابلة للانجبار بالفتاوى ، فليتأمّل.

وأمّا ما يدلّ على العفو عمّا دون الدرهم من الثوب ، فمنها : صحيحة عبد الله بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : «ليس به بأس» قال : قلت : إنّه يكثر ويتفاحش ، قال : «وإن كثر» قلت : فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلّى ، أيعيد صلاته؟ قال : «يغسله ولا يعيد صلاته إلّا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة» (٣).

ورواية إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «في الدم يكون في الثوب إن كان أقلّ من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه ، ولم يغسله حتّى صلّى فليعد صلاته» (٤).

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٥.

(٢) آنفا.

(٣) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤٠ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١١ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، وكذا الباب ٢٣ من تلك الأبواب ، ح ١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٣٩ ، الإستبصار ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦ / ٦١٠ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

٧٢

ومرسلة جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام أنّهما قالا : «لا بأس بأن يصلّي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرّقا شبه النضح ، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم» (١).

وحسنة محمّد بن مسلم ـ مضمرة في الكافي ، ومسندة في الفقيه ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ، قال : «إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقلّ من ذلك فليس بشي‌ء ، رأيته قبل أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صلّيت فيه» (٢).

وعن التهذيب روايتها نحوها ، إلّا أنّه قال : «وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء» بزيادة الواو ، وحذف «وما كان أقلّ» (٣).

وعن الإستبصار (٤) أيضا نحو ما في التهذيب ، ولكن بلا زيادة الواو.

والظاهر أنّ ما في الكافي والفقيه هو الصواب.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٥٦ / ٧٤٢ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١٢ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٢) الكافي ٣ : ٥٩ / ٣ ، الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٨ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٦ بتفاوت.

(٣) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٠٧ ، وانظر : التهذيب ١ : ٢٥٤ / ٧٣٦.

(٤) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٠٧ ، وانظر : الاستبصار ١ : ١٧٥ / ٦٠٩.

٧٣

وكيف كان فالرواية صريحة في العفو عمّا كان أقلّ من الدرهم رأيته أو لم تره (وما زاد عن ذلك) بأن كان مقدار درهم فما زاد (تجب إزالته إن كان مجتمعا).

أمّا ما زاد عن الدرهم فممّا لا شبهة ولا خلاف فيه ، لدلالة الأخبار المتقدّمة عليه ، مضافا إلى جميع ما دلّ على نجاسة الدم ووجوب التطهير منه.

وأمّا ما كان مقدار الدرهم من غير زيادة ونقيصة : فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه.

حكي عن الأكثر بل المشهور القول بوجوب إزالته (١).

ونسب إلى بعض القول بالعفو عنه (٢).

واستشهد للأوّل : بصحيحة ابن أبي يعفور ومرسلة جميل ، المتقدّمتين (٣) الدالّتين على وجوب غسل مقدار الدرهم مجتمعا ، ومفهوم الفقرة الأولى من خبر (٤) الجعفي ، مع اعتضادها بالشهرة ، وبما سمعت (٥) من الفقه الرضوي من تحديده بما دون الدرهم الوافي.

والمرويّ عن كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : «وإن أصاب ثوبك قدر دينار من الدم فاغسله ولا تصلّ فيه حتّى تغسله» (٦) إلى آخره.

__________________

(١) حكاه عن الأكثر البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٠٦ ، وعن المشهور الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ١٢٥.

(٢) نسبه إلى سلّار صاحب الجواهر فيها ٦ : ١١٠ ، وانظر : المراسم : ٥٥.

(٣) في ص ٧٢ و ٧٣.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٧٢ ، الهامش (٤).

(٥) في ص ٧١.

(٦) مسائل عليّ بن جعفر : ١٧٣ / ٣٠٥ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٨.

٧٤

والدينار ـ على ما عن الوسائل (١) ـ بسعة الدرهم تقريبا.

واستدلّ للعفو عنه : بالأصل ، وبمفهوم الفقرة الثانية من خبر (٢) الجعفي ، وظاهر حسنة (٣) ابن مسلم خصوصا ما رواه الشيخ (٤) من حذف قوله : «وما كان أقلّ».

وفيه : أمّا الأصل : فلا مجرى له بعد ورود الأخبار الخاصّة ، وعلى تقدير معارضة بعضها ببعض وعدم إمكان الجمع بينها بارتكاب التأويل في بعضها المعيّن لمزيّة في صاحبه موجبة لترجيحه ، فالمرجع هو الأدلّة الدالّة على وجوب الاجتناب عن الدم وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن ، المقتصر في تخصيصها على القدر المتيقّن ، أو المرجّحات السنديّة ، ثمّ التخيير على أضعف الاحتمالين.

وكيف كان فلا مسرح للأصل في مثل المقام.

وأمّا خبر الجعفي : فهو إمّا ساكت عن حكم مقدار الدرهم ، أو ظاهر في اندراجه في موضوع الفقرة الثانية ، لأنّ الشرطيّتين إمّا مسوقتان لبيان الحكمين على تقدير تحقّق موضوعيهما من غير إرادة التعليق الحقيقي المستلزم للانتفاء عند الانتفاء بأن يكون المقصود بهما مجرّد العقد الإثباتي بمنزلة ما لو قيل : الدم الذي هو أقلّ من الدرهم معفوّ عنه ، والدم الذي أكثر من الدرهم غير معفوّ عنه ، فلا يفهم منهما حكم الدرهم. أو أنّ المراد بالشرطيّة الأولى التعليق الحقيقي الدالّ

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ١١٠ ، وانظر : الوسائل ، ذيل ح ٨ من الباب ٢٠ من أبواب النجاسات.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٧٢ ، الهامش (٤).

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٧٣ ، الهامش (٢).

(٤) راجع الهامش (٣) من ص ٧٣.

٧٥

على الانتفاء عند الانتفاء ، فلا يعقل حينئذ أن يراد بالثانية أيضا هذا المعنى.

وبعبارة أخرى : لا يعقل أن يراد بالشرطيّتين المفهوم ، وإلّا لتناقض مفهوماهما في مورد الاجتماع ، فالقضيّة الثانية ـ بحسب الظاهر ـ معرّاة عن المفهوم سيقت لتأكيد ما يفهم من الشرطيّة الأولى ، فموضوعها في الواقع أعمّ ممّا هو مذكور في القضيّة ، وإنّما خصّ بعض أفراده بالذكر ، لنكتة الغلبة ، أو المقابلة بين الأقلّ والأكثر ، والالتزام بعكس ما ذكر بإلغاء الشرطيّة الأولى عن المفهوم وإن أمكن لكنّه خلاف الظاهر.

فتلخّص لك أنّ هذه الرواية إمّا ساكتة عن حكم مقدار الدرهم ، أو دالّة على عدم العفو عنه.

وأمّا خبر محمّد بن مسلم : فهو وإن كان ظاهرا في إناطة عدم العفو بالزيادة عن الدرهم لكنّ ارتكاب التأويل فيه ـ بحمله على إرادة الدرهم فما زاد ـ أقرب إلى الذهن من ارتكاب التأويل في الخبرين المتقدّمين الظاهرين في عدم العفو عن مقدار الدرهم مجتمعا بحملهما على إرادة ما تجاوز عن هذا المقدار ، فإنّ هذا أيضا وإن كان تأويلا قريبا لكنّ الأوّل أقرب ، كما يشهد بذلك من له أنس بالمحاورات العرفيّة.

وعلى تقدير تكافؤ الاحتمالين ، الموجب لإجمال الروايات بالنسبة إلى حكم مقدار الدرهم يتعيّن الرجوع في حكمه إلى ما دلّ ـ بإطلاقه أو عمومه ـ على وجوب إزالة الدم أو مطلق النجاسات عن الثوب والبدن ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

ولو نوقش في عمومات الأدلّة الصالحة للرجوع إليها ، فلا أقلّ من كون ما

٧٦

ذكر قاعدة كلّيّة متلقاة من الشرع ثابتة بالإجماع وغيره من الأخبار الجزئيّة الواردة في باب النجاسات ، كما لا يخفى على المتأمّل.

فظهر بما ذكرنا أنّ الأظهر عدم العفو عن مقدار الدرهم.

ثمّ لو قلنا بالعفو عن مقدار الدرهم وكانت الدراهم المتعارفة مختلفة المقدار ، فالعبرة في عدم العفو بالزيادة عن جنسها على الإطلاق ، فلا تضرّ زيادته عن بعض المصاديق دون بعض ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بالعفو عمّا دون الدرهم لا مقداره ، فإنّه يعتبر على هذا التقدير نقصانه عن مطلقه ، فلا يجدي نقصانه عن بعض مصاديقه ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ المراد بالدرهم على الظاهر غير الدرهم الإسلامي الذي حدّد وزنه بستّة دوانيق ، فإنّ الأصحاب بين من قيّده بالوافي الذي وزنه درهم وثلث ، كما في السرائر (١) ، والمحكيّ عن الفقيه والهداية والمقنعة والانتصار والخلاف والغنية (٢) ، بل قيل (٣) : إنّه معقد الإجماع في الثلاثة الأخيرة وقد سمعت (٤) من الفقه الرضوي التصريح به وبحدّه. وبين من قيّده بالبغليّ ، كالفاضلين (٥) ومن تأخّر عنهما ، وعن كشف الحقّ أنّه مذهب الإماميّة (٦).

__________________

(١) السرائر ١ : ١٧٧.

(٢) الحاكي عنها هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ١١٣ ، وانظر : الفقيه ١ : ٤٢ ، ذيل ح ١٦٥ ، والهداية : ٧٢ ، والمقنعة : ٦٩ ، والانتصار : ١٣ ، والخلاف ١ : ٤٧٧ ، المسألة ٢٢٠ ، والغنية : ٤١.

(٣) القائل هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ١١٣.

(٤) في ص ٧١.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ٥٣ ، تحرير الأحكام ١ : ٢٤ ، تذكرة الفقهاء ١ : ٧٣ ، ضمن المسألة ٢٣ ، مختلف الشيعة ١ : ٣١٨ ، المسألة ٢٣٥ ، منتهى المطلب ٣ : ٢٤٩.

(٦) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ١١٣ ، وانظر : نهج الحقّ وكشف الصدق : ٤١٩ / ٢٧.

٧٧

والظاهر اتّحاد المراد بالعبارتين ، كما هو قضيّة الجمع بين الإجماع المتقدّم المحكيّ عن الانتصار والخلاف والغنية وبين نسبة البغليّ في كشف الحقّ إلى مذهب الإماميّة.

ويشهد له أيضا تصريح غير واحد بذلك : فعن المصنّف في المعتبر : والدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث ، ويسمّى البغليّ نسبة إلى قرية بالجامعين (١).

وعن الشهيد في الذكرى أنّه قال : إنّ الدرهم الوافي هو البغليّ بإسكان الغين ، منسوب إلى رأس البغل ، ضربه الثاني في خلافته بسكّة كسرويّة وزنه ثمانية دوانيق ، والبغليّة تسمّى قبل الإسلام بالكسرويّة ، فحدث لها هذا الاسم في الإسلام ، والوزن بحاله ، وجرت في المعاملة مع الطبريّة ، وهي أربعة دوانيق ، فلمّا كان زمان عبد الملك جمع بينهما واتّخذ درهما منهما واستقرّ أمر الإسلام على ستّة دوانيق ، وهذه التسمية ذكرها ابن دريد.

وقيل : منسوب إلى «بغل» قرية بالجامعين كان يوجد فيها دراهم تقرب سعتها من أخمص الراحة ، لتقدّم الدراهم على الإسلام.

قلنا : لا ريب في تقدّمها وإنّما التسمية حادثة ، فالرجوع إلى المنقول أولى (٢). انتهى.

ولعلّ مراده بالقول الذي أشار إليه في ذيل كلامه ما ذكره الحلّي في السرائر حيث قال ـ بعد أن أفتى بالعفو عمّا دون الدرهم الوافي الذي هو المضروب من

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٩ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٣٦.

٧٨

درهم وثلث ـ : وبعضهم يقولون : دون الدرهم البغليّ ، وهو منسوب إلى مدينة قديمة يقال لها : «بغل» قريبة من «بابل» بينها وبينها قريب من فرسخ ، متّصلة ببلدة «الجامعين» تجد فيها الحفرة والغسالون (١) دراهم واسعة شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام ، المعتاد تقرب سعته من سعة أخمص الراحة.

وقال (٢) بعض من عاصرته ممّن له علم بأخبار الناس والأنساب : إنّ المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي البغل رجل من كبار أهل الكوفة اتّخذ هذا الموضع قديما ، وضرب هذا الدرهم الواسع ، فنسب إليه الدرهم البغليّ.

وهذا غير صحيح ، لأنّ الدراهم البغليّة كانت في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الكوفة (٣). انتهى.

وقوله : «بعضهم يقولون» إلى آخره ، على الظاهر لبيان مجرّد اختلاف التعبير ، لا المخالفة في الرأي ، وإلّا لبيّن ما فيه من الضعف الموجب لاختياره القول الآخر.

وكيف كان فإن اتّحد الدرهم الوافي والبغلي معنى ـ كما هو الظاهر ـ فلا بحث ، وإلّا فالأظهر هو العفو عمّا دون الدرهم الوافي ، كما وقع التصريح به في الفقه الرضوي (٤) ومعاقد الإجماعات المتقدّمة المعتضدة بشهرته بين القدماء ،

__________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة والمصدر والحدائق. وفي الجواهر : «والنبّاشون» بدل «والغسالون». وفي كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٧٤ : «والغسالون والنبّاشون».

(٢) في «ض ١٠» والطبعة الحجريّة : «وقال لي».

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٢٩ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ١١٥ ـ ١١٦ ، وانظر : السرائر ١ : ١٧٧.

(٤) راجع ص ٧١.

٧٩

خصوصا مثل الصدوق ونظرائه الذين من عادتهم التعبير بمتون الروايات ، وكفى بذلك دليلا لتعيّن المراد بالدرهم من أخبار الباب.

ولا ينبغي الالتفات إلى ما في المدارك من الاستشكال في أصل التقييد حيث قال : إنّ البغليّ ترك في زمن عبد الملك ، وهو متقدّم على زمن الصادق عليه‌السلام قطعا ، فيشكل حمل النصوص الواردة منه عليه ، والمسألة قويّة الإشكال (١). انتهى.

لا لمجرّد ما قد يقال من صدور جلّ أخبار الباب من أبي جعفر عليه‌السلام وهو في زمن عبد الملك ، مع أنّ ترك استعماله في المعاملات في عصر الصادق عليه‌السلام لا ينافي بقاءه فيما بأيديهم في الجملة ، ومعروفيّة التحديد به.

بل لأنّ اشتهار تفسير الدرهم بالوافي أو البغليّ من الصدر الأوّل ووقوعه في الفقه الرضوي كاشف قطعيّ عن المراد ، إذ كيف يعقل أن يصدر منهم هذا التفسير من غير أن يرشدهم إليه قرينة معينة!؟ فهل يظنّ بأحد من العلماء أن يستند في مثل المقام إلى الحدس والاجتهاد القابل للخطإ فضلا عن أن ينعقد إجماعهم عليه؟ مع أنّ من المعلوم عند كلّ أحد وجوب حمل المطلق على معناه المتعارف ، فلو لم يكن هذا الدرهم متعارفا في زمان صدور الأخبار لم يكن عدول العلماء عن حمل الدرهم على المتعارف في ذلك الزمان إلّا لدليل.

ثمّ إنّ المراد بمقدار الدرهم ـ على الظاهر ـ سعته ، لا وزنه ولا حجمه ، لأنّ هذا هو المتبادر من تقدير الدم بالدرهم في مثل مورد الروايات ، كتحديده بمقدار إصبع أو إصبعين ، كما يشهد بذلك ويؤيّده فهم الأصحاب.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣١٥.

٨٠