مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

على كفايتها في التطهير ، وعدم تحقّق مفهوم الغسل عرفا بمجرّد الإصابة.

فما عن بعض ـ من عدم كفاية الصبّ على بول الرضيع في ثبوت الرخصة وإن أثّر في تطهير الثوب ، لكونها معلّقة في النصّ على الغسل دون التطهير (١) ـ ضعيف ، خصوصا مع إمكان أن يقال : إنّه يستكشف من بيان الشارع طهارته بالصبّ أنّ غسله يتحقّق بذلك ، لأنّ الغسل عرفا ليس إلّا تنظيفه بالماء وقد حصل.

وكيف كان فالمربّية التي يشقّ عليها التحرّز عن بول المولود وإيقاع صلاتها في ثوب طاهر ، لانحصار ثوبها في الواحد لم يوجب الشارع عليها في مقام تحصيل الطهارة المعتبرة في الصلاة أزيد من غسل ثوبها في كلّ يوم مرّة ، فإن أفادها ذلك بالنسبة إلى جميع صلواتها الخمس بأن لم يتّفق ـ مثلا ـ بعد الغسل إصابة البول لثوبها إلى الغد ، فهو ، وإلّا فهي معذورة قد عفاها الشارع عن ذلك ، فيكون البول الذي يصيب ثوبها بعد الغسل إلى الغد ـ كبول المسلوس الذي يخرج بعد الوضوء ، ودم المستحاضة ، الذي يخرج بعد وضوئها وغسلها ـ معفوّا عنه شرعا غير مناف للصلاة.

وهل يبقى أثر الغسلة الصادرة منها في اليوم ـ أي العفو عن النجاسة المتجدّدة ـ إلى ذلك الوقت من غده ، مثلا : لو وقعت في اليوم قبل طلوع الشمس لصلاة الصبح ، فلها تقديم صلاة الصبح في الغد على ذلك الوقت في ثوب نجس ، أم يجب عليها في كلّ يوم ملاحظة تكليفها في ذلك اليوم من حيث هو ، فإن وجدت في الصبح ثوبها نجسا ، وجب عليها تطهيره قبل صلاة الصبح من غير فرق

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٤٨ عن العلّامة الحلّي في نهاية الإحكام ١ : ٢٨٨.

٢٤١

بين كون الغسل الواقع في اليوم السابق قبل هذا الوقت أو بعده ، أو أنّه لا يجب عليها في كلّ يوم إلّا إيجاد الغسلة الواجبة عليها لشي‌ء من صلواتها ، فلها تأخيرها إلى آخر اليوم الثاني لآخر فرائضها؟ وجوه : من إطلاق الدليل المقتضي لجواز إيجادها في أيّ جزء من أجزاء اليوم ، لكن لمّا ثبت كون وجوبها مقدّميّا وجب تقديمها على شي‌ء من صلواتها حتّى تتّصف بالمقدّميّة ، لا على جميعها ، ومن أنّ الأمر إنّما تعلّق بالغسل بلحاظ كون الطهارة الحاصلة منه شرطا في الصلاة ، فلا يتبادر من الأمر به في كلّ يوم إلّا إرادة إيجاده قبل الأخذ في الصلاة مطلقا ، فكما أنّ شرطيّة الطهارة للصلاة اقتضت صرف الإطلاق إلى إرادة إيجاد الغسل قبل شي‌ء من صلواتها ، كذلك شرطيّتها لمطلق الصلاة مقتضية لصرفه إلى إرادة إيجاده في كلّ يوم مقدّمة لمطلق الصلوات الواقعة في ذلك اليوم ، فيجب تقديمها على الجميع.

وهذا الوجه هو الأظهر خصوصا مع أنّه ليس لقوله عليه‌السلام : «تغسل القميص في اليوم مرّة» (١) قوّة ظهور في الإطلاق ، بل الظاهر وروده لبيان حكم آخر ، وهو :عدم وجوب غسل ثوبها في كلّ يوم أزيد من مرّة. ولكنّ الأوفق بظواهر الفتاوى جواز التأخير ، فليتأمّل.

وأمّا الاحتمال الأوّل فمنشؤه دعوى أنّ المتبادر من قوله عليه‌السلام : «تغسل القميص في اليوم مرّة» أنّ أثر الغسل الواقع في كلّ يوم باق (٢) إلى ذلك الوقت من غده. وفيها منع ظاهر.

__________________

(١) راجع : الهامش (٢) من ص ٢٣٧.

(٢) في «ض ١١» : «يبقى».

٢٤٢

ويتفرّع على القول بجواز التأخير أنّها لو أخلّت بالغسل لا تبطل من صلواتها الخمس إلّا الأخيرة إن قلنا بأنّ المراد باليوم أعمّ منه ومن الليل ، كما سيأتي الكلام فيه ، وهو فرض العشاء أو الصبح على احتمال ، أو صلاة العصر وما بعدها بناء على أنّ المراد به خصوص اليوم ، أو صلاة المغرب وما بعدها على احتمال.

وأمّا على ما هو الأظهر من وجوب إيقاع الغسلة قبل الأخذ في الصلاة فتبطل جميع الفرائض الخمس ، كما هو واضح.

وربّما ذهب بعض إلى جواز التأخير حتّى في اليوم الأوّل الذي اتّصفت المربّية فيه بكونها مربية ، ولكنّه مع ذلك التزم ببطلان جميع فرائضها الخمس ، نظرا إلى أنّ الغسل ليس واجبا نفسيّا ، وإنّما وجب لكونه شرطا لصلاتها ، لكن يجوز لها التأخير بمقتضى إطلاق الدليل ، فيكون بالنسبة إلى الصلوات المتقدّمة عليه من قبيل الشرط المتأخّر ، ومقتضاه جواز التأخير عن جميع الفرائض ، لكنّه لم يصرّح بذلك.

وكيف كان فيتوجّه عليه أنّ الشرط المتأخّر لو تعقّلناه فهو محتاج إلى دليل ، وإطلاق الرواية ـ بعد الغضّ عمّا سمعته من وروده لبيان حكم آخر ـ لا يصلح دليلا لذلك ، إذ ليس في الرواية تصريح بكون الغسل شرطا في صلاتها ، وإنّما جزمنا بذلك حيث علمنا أنّ الغسل ليس واجبا نفسيّا ، بل هو واجب مقدّميّ للصلاة ، وإنّما أوجبه الشارع على المربّية ـ التي لم تجد ثوبا آخر ـ في كلّ يوم مرّة ، لكونه ميسور المتعسّر ، لا لكونه شرطا آخر تعبّديّا مخصوصا بالمربّية ، ومن

٢٤٣

المعلوم أنّ الغسل المعروف مقدّميّته للصلاة هو الغسل المتقدّم عليها ، المؤثّر في طهارة الثوب ، المعتبرة حال الصلاة ، فالذي يفهم من الرواية أنّ الشارع وسّع الأمر على المربّية ، ولم يوجب عليها إلّا إيجاد هذه المقدّمة في الجملة ، لا أنّه جعل لصلاتها شرطا آخر مغايرا لهذا الشرط.

هذا ، مع أنّ الشرط المتأخّر على تقدير إمكانه خلاف المتعارف لا ينسبق إلى الذهن إرادته من الإطلاق.

ألا ترى هل يحتمل أحد ممّن سمع بهذه الرواية أنّه يجب على المربّية لو حاضت في الظهر أن تغسل ثوبها لتحصيل شرط صلاة صبحها؟نعم ، قد يقال : إنّ مقتضى إطلاق الأمر بغسل ثوبها كلّ يوم مرّة : جواز الإتيان به لأيّ فرض من فرائضها الخمس ، فلها تخصيصه بالفرض الأخير ولو في اليوم الأوّل الذي اتّصفت فيه بكونها مربّية ، ومقتضاه إهمال شرطيّة الطهارة بالنسبة إلى الفرائض المتقدّمة ، لا جعل تعقّبها بتطهير الثوب شرطا ، كما توهم.

وكيف كان فهل يجتزأ بغسل ثوبها في الليل عن الغسل في يومه كما يجتزأ بعكسه؟ فيه تردّد ينشأ من أنّ المراد باليوم أعمّ منه ومن ليلته ، ولذا لا يجب غسل الثوب في الليل لصلاتها ، مع أنّ الحكم ليس تعبّديّا محضا حتّى يكون لخصوصيّة وقوع الغسل في اليوم دخل فيه ، ومن أنّ الظاهر أنّ اليوم في الرواية استعمل في حقيقته ، وإنّما استفيد منها الاجتزاء بالغسل في اليوم عن الغسل في الليل من عدم وجوب الغسل عليها إلّا مرّة في كلّ يوم ، لا أنّ اليوم في الرواية مستعمل في الملفّق منه ومن ليلته حتّى يكون مقتضاه كفاية الغسل الواقع في أيّ جزء منهما ، وليس

٢٤٤

الحكم اعتباريّا محضا حتّى نعلم بعدم مدخليّة الخصوصيّة رأسا.

هذا ، مع أنّ الاعتبار ربما يساعد الاجتزاء عن غسل الليل بغسل اليوم في مقام التسهيل من غير عكس ، فالوقوف على مورد النصّ أشبه بالقواعد.

وعلى هذا فإن اتّصفت بكونها مربّية في الليل وبال المولود على ثوبها قبل صلاة المغرب ، غسلت ثوبها لصلاة المغرب ، ولو بال أيضا قبل فرض العشاء ، غسلت أيضا لفرض العشاء ، إلّا إذا استلزم الغسل مشقّة رافعة للتكليف بمقتضى أدلّة نفي الحرج.

وكذلك يجب عليها الغسل لصلاة الغداة لو فرض تنجس ثوبها أيضا في الصبح ، ومتى غسلته لفرض الصبح أغناها عن الغسل لسائر صلواتها إلى الغد إن قلنا بأنّ المتبادر من اليوم في الرواية هو يوم الصوم ، كما هو الأظهر ، لا يوم الأجير ، وإلّا فالغسل الواقع قبل طلوع الشمس بمنزلة الغسل الواقع في الليل في عدم الاجتزاء به عن غسل اليوم.

نعم ، لا يبعد أن يقال : إنّه يفهم من الرواية أنّ غسلها لصلاة المغرب يغنيها عن الغسل لسائر صلواتها الواقعة في تلك الليلة بالفحوى والأولويّة القطعية.

وكيف كان ، فلو بال الصبي على ثوبها قبل الظهر أو قبل الصبح أيضا (و) قلنا بجواز تأخير الغسل عن صلاة الصبح (إن جعلت تلك الغسلة) الواجبة عليها في كلّ يوم في (آخر النهار أمام صلاة الظهر) برجاء أن تقع الصلوات الأربع مع الطهارة (كان حسنا).

وعن العلّامة في التذكرة احتمال وجوبه ، فإنّه ـ بعد أن ذكر أفضليّة التأخير ـ

٢٤٥

قال : وفي وجوبه إشكال ينشأ من الإطلاق ، ومن أولويّة طهارة أربع على طهارة واحدة (١). انتهى.

ولكنّك خبير بأنّ الأولويّة الاعتباريّة لا تصلح دليلا لإثبات الوجوب خصوصا مع الاعتراف بالإطلاق.

نعم ، لا ريب في أولويّة التأخير وكونه أحوط ، لكن لو لم تكن النجاسة من أوّل الصبح ، وإلّا فالأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ غسلها لصلاته خصوصا مع احتمال بقاء الثوب على طهارته إلى العصر ، كما لعلّه الغالب.

وحكي عن بعض القول بوجوب كون الغسل بعد دخول وقت الصلاة ، لأنّ الأمر للوجوب ، ولا وجوب قبل الوقت (٢).

وفيه : أنّ الأمر بغسل الثوب في هذا المورد كغيره من الموارد التي لا تحصى ممّا ورد فيها الأمر بغسل الثوب والبدن إنّما هو أمر غيريّ مسوق لبيان الاشتراط.

هذا ، مع أنّ في ما قيل من أنّه لا وجوب قبل الوقت كلاما قد تقدّم تحقيقه في صدر الكتاب ، فالأقوى جواز إيجاده قبل الوقت أيضا.

نعم ، لو علمت من عادتها بأنّها لو غسلته في سعة الوقت فضلا عمّا قبله طرأ عليه النجاسة قبل فعل الصلاة ، لا يبعد الالتزام بوجوب التأخير حينئذ ، لأنّ معروفيّة مناط الغسل لدى النفس مانعة من فهم إرادة مثل الفرض من الإطلاق ،

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٤٩ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٩٤ ، الفرع «ه» من المسألة ١٣١.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٣٦ عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٧٦.

٢٤٦

خصوصا مع ما عرفت آنفا من إمكان المناقشة في الإطلاق ، والله العالم.

تذنيب : ذهب جمع من الأصحاب (١) ـ على ما حكي (٢) عنهم ـ إلى العفو عن نجاسة ثوب الخصيّ الذي يتواتر بوله إذا غسله في النهار مرّة.

واحتجّوا لذلك : بالحرج والمشقّة.

ورواية عبد الرحيم القصير ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام ، أسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدّة ويرى البلل بعد البلل ، فقال : «يتوضّأ وينضح ثوبه في النهار مرّة واحدة» (٣).

وفيه : أنّ الرواية ضعيفة السند ، متروكة الظاهر ، منافية للقواعد الشرعيّة المقرّرة في باب النجاسات ، فيجب ردّ علمها إلى أهله.

نعم ، لو أريد من نضح الثوب غسله على وجه الإجمال بحيث لا ينافي اعتبار العدد في غسل البول ، اتّجه الاستدلال بها للمدّعى على تقدير الإغماض عن سندها ، لكنّه لا شاهد على ذلك ، فالاستدلال بها ضعيف.

وأضعف منه التمسّك بأدلّة نفي الحرج ، فإنّ مقتضاها دوران العفو مدار الحرج والمشقّة الرافعة للتكليف ، لا الغسل في كلّ يوم مرّة.

وقد ظهر بما تقدّم في مبحث المسلوس والمبطون : ما تقتضيه أدلّة نفي الحرج في مثل المقام ، فراجع.

(وإن كان مع المصلّي ثوبان وأحدهما نجس) و (لا يعلمه بعينه) وتعذّر غسل أحدهما ليقطع بطهارته ، أو تحصيل ثوب آخر طاهر يستر به عورته

__________________

(١) منهم الشهيد في الدروس ١ : ١٢٧ ، والذكرى ١ : ١٣٩.

(٢) الحاكي عنهم هو السبزواري في ذخيرة المعاد : ١٦٥.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢٥ ـ ٤٢٦ / ١٣٤٩ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٨.

٢٤٧

(صلى الصلاة الواحدة في كلّ واحد منهما منفردا على الأظهر) تحصيلا للقطع بفراغ الذمّة ممّا اشتغلت به ، وهو الصلاة في ثوب طاهر.

ويدلّ عليه أيضا : حسنة صفوان بن يحيى عن أبي الحسن عليه‌السلام : أنّه كتب إليه يسأله عن الرجل كان معه ثوبان ، فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو وقد حضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : «يصلّي فيهما جميعا» (١).

خلافا للحلّي (٢) وابن سعيد ـ على ما حكي (٣) عنه ـ فأوجبا عليه طرحهما والصلاة عاريا.

وعن الشيخ في الخلاف نسبة هذا القول إلى بعض علمائنا (٤).

وفي محكيّ المبسوط جعله رواية (٥).

قال الحلّي في السرائر : وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ولم يتميّز له الطاهر ولا يتمكّن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا : يصلّي في كلّ واحد منهما على الانفراد وجوبا. وقال بعض منهم : نزعهما ويصلّي عريانا.

وهذا الذي يقوى في نفسي ، وبه أفتي ، لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف ، ودليل الإجماع فيها مفقود ، فإذا كان كذلك ، فالاحتياط يوجب ما قلناه.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧ ، التهذيب ٢ : ٢٢٥ / ٨٨٧ ، الوسائل ، الباب ٦٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٢٤٩.

(٣) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٤١ ، وانظر : الجامع للشرائع : ٢٤.

(٤) حكاها عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٥٦ ، وانظر : الخلاف ١ : ٤٨١ ، المسألة ٢٢٤.

(٥) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٥٦ ، وانظر : المبسوط ١ : ٣٩.

٢٤٨

فإن قال قائل : بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، لأنّه إذا صلّى فيهما جميعا تبيّن وتيقّن بعد فراغه من الصلاتين معا أنّه قد صلّى في ثوب طاهر.

قلنا : المؤثّرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها ، والواجب عليه عند افتتاح كلّ فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، وهذا يجوّز عند افتتاح كلّ صلاة من الصلاتين أنّه نجس ، ولا يعلم أنّه طاهر عند افتتاح كلّ صلاة ، فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلّا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة وهو شاكّ في طهارة ثوبه ، ولا يجوز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد.

وأيضا كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة ، فكيف يؤثّر في هذا الوجه ما يأتي بعدها ومن شأن المؤثّر في وجوه الأفعال أن يكون مقارنا لها لا يتأخّر عنها على ما بيّنّاه! إلى أن قال : وليس لأحد أن يقول : إنّه بعد الفراغ من الصلاتين يقطع على براءة ذمّته ، وأنّ العبادة مجزئة.

قلنا : لا يصحّ ذلك ، لأنّ بعد الفراغ قد سقط عنه التكليف ، وينبغي أن يحصل له اليقين في حال ما وجب عليه ، وينبغي أن يتميّز له في حال ما وجب عليه حتّى يصحّ منه الإقدام عليه ، ويميّزه له ، وذلك يكون قبل فراغه من الصلاة (١). انتهى.

أقول : قد تقدّم الكلام في تحقيق النيّة ـ المعتبرة في صحّة العبادة ـ في نيّة

__________________

(١) السرائر ١ : ١٨٤ ـ ١٨٦.

٢٤٩

الوضوء ، وعرفت فيما تقدّم أنّه لا دليل على اعتبار المعرفة التفصيليّة والجزم في النيّة وتعيين وجه الفعل من الوجوب والاستحباب في صحّة العبادة ، بل الأدلّة على خلافه خصوصا في حال عدم التمكّن ، كما هو المفروض في المقام ، فقوله : «المؤثّرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها» فيه : أنّ هذا مسلّم ، لكن كون العلم بأنّ الثوب طاهر منها غير مسلّم ، بل هو طريق للقطع بحصول الفعل واجدا لشرطه الذي هو طهارة الثوب ، لا العلم بها.

وقوله : «لا يجوز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد» ففيه : أنّ الممتنع كونها موقوفة على أمر يوجد فيما بعد ، وأمّا كونها موقوفة على طهارة الثوب ، التي تقارنها وتظهر فيما بعد فلا مانع منه.

وقوله : «كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة» إلى آخره ، ففيه : أنّه متى احتمل طهارة ثوبه وصلّى فيه ناويا بفعله الصلاة الواجبة على تقدير طهارة الثوب فقد صدر منه الفعل بعنوان كونه صلاة واجبة عن قصد وإرادة ، فالصلاة وقعت على وجهها ، لكن الآتي بها لم يكن عارفا بوجهها على سبيل الجزم ، وهو غير ضائر خصوصا مع عدم التمكّن من تحصيل الجزم ، فما فرّعه على وجوب إيقاع الصلاة على وجهها من امتناع تأخّر ما يؤثّر فيه عنها بظاهره غير مستقيم.

اللهمّ إلّا أن يريد إيقاعها على وجهها على سبيل الجزم.

وكيف كان فقد اتّضح فيما تقدّم في محلّه ضعف المبنى ، وعدم استقامة البناء ، حيث تبيّن عدم اشتراط الجزم في النيّة ، وغيره من التفاصيل التي التزم بها القدماء ـ على ما اشتهر بينهم ـ في صحّة العبادة ، وعلى تقدير الاشتراط لو دار

٢٥٠

الأمر بين سقوط هذا الشرط وغيره من الأمور المعتبرة في الماهيّة ، لتعيّن سقوط هذا الشرط المتأخّر عن غيره في الرتبة ، فراجع ، فالقول بوجوب الصلاة عاريا رعاية لحصول هذا الشرط فاسد.

نعم ، لو قلنا بحرمة الصلاة في النجس ذاتا لا تشريعا ، تعذّر الاحتياط حيث يدور أمر الصلاة الواقعة في كلّ من الثوبين بين الحرمة والوجوب ، ومقتضى الأصل فيه : التخيير.

وقيل : بتغليب جانب الحرمة ، فيتعيّن في الفرض وجوب الصلاة عاريا.

لكنّه ليس بشي‌ء ، كما تقرّر في محلّه.

هذا إذا لم يكن أحد التكليفين ـ أي وجوب إيقاع الصلاة في الثوب الطاهر الساتر للعورة ، وحرمة إيقاعها في الثوب النجس ـ أهمّ لدى الشارع ، وإلّا فهو أحقّ بالرعاية ، فلو كان التكليف الوجوبي أهمّ ، وجب الصلاة في كلّ من الثوبين حتّى يحصل القطع بفراغ الذمّة منه.

وقد اندفع بما أشرنا إليه ـ من أنّ الصلاة في كلّ من الثوبين في حدّ ذاتها موضوع مستقلّ لدى العقل مردّد أمره بين الوجوب والحرمة ـ ما قد يتوهّم من أنّ الصلاة في الثوبين لتحصيل القطع بفراغ الذمّة من الواجب تستلزم ارتكاب الحرام اليقيني لأجل الاحتياط في الواجب ، وهذا لا يستقلّ به العقل وإن كان الواجب في حد ذاته أهمّ.

توضيح الاندفاع : أنّ القطع بارتكاب المحرّم في الفرض إنّما نشأ من الإتيان بالصلاة في كلّ من المحتملين لا من أحدهما المعيّن المعلوم نجاسته

٢٥١

تفصيلا حتّى يقال : إنّ ارتكاب هذا الحرام اليقيني لأجل الاحتياط في الواجب لا يجوز ، فالمكلّف قبل شروعه في الصلاة يعلم إجمالا بأنّه يجب عليه أن يصلّي في الثوب الطاهر ، ويجتنب عن الصلاة في الثوب النجس ، لكن التكليف الوجوبي أولى بالرعاية عند الدوران ، فلا يجوز ترك الصلاة في كلّ من الثوبين لأجل الاحتياط في الحرام ، فمتى صلّى في أحد الثوبين لاحتمال وجوبه احتمل كونه في الواقع هو الفرد المحرّم ، وأنّ الواجب عليه أن يصلّي في الثوب الآخر ، فيجب عليه الإتيان به ترجيحا لاحتمال الوجوب ، كما أنّه وجب عليه الإتيان بالفرد الأوّل لذلك.

لا يقال : إنّ مقتضى القاعدة في مثل المقام هو الاقتصار على الصلاة في ثوب واحد ، لأنه الموافقة الاحتماليّة في كلا التكليفين أولى بنظر العقل في مقام الإطاعة من الموافقة القطعيّة في أحدهما والمخالفة القطعيّة في الآخر.

لأنّا نقول : الموافقة الاحتماليّة في كلا التكليفين يعارضها احتمال المخالفة في كليهما ، المستلزمة لفوت الأهمّ وحصول نقيضه ، فلا يستقلّ العقل بالأولويّة ، بل يحكم بترجيح جانب الأهمّ.

والحاصل : أنّ كلّ فرد فرد في مسألة دوران الأمر بين المحذورين بنظر العقل موضوع مستقلّ للحكم بالتخيير أو وجوب ترجيح الأهمّ.

وكون الإتيان بالفرد الثاني موجبا للقطع بحصول مخالفة في أحد الفردين لا يوجب توقّف العقل عن حكمه بالنسبة إليه مع كونه لديه كالفرد الأوّل في كون احتمال حرمته معارضا باحتمال الوجوب الذي هو أحقّ بالرعاية على ما هو المفروض.

٢٥٢

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول : أمّا الحرمة الذاتيّة فلم تثبت للصلاة مع النجس ، ومقتضى الأصل عدمها ، فلا يجوز رفع اليد عمّا تقتضيه قاعدة الاشتغال من تكرير الصلاة في الثوبين لاحتمال الحرمة الذاتيّة ، والأخبار الناهية عن الصلاة في النجس قاصرة عن إثباتها ، فإنّ المتبادر منها إرادة المانعيّة من الصلاة ، لا الحرمة الذاتيّة ، وعلى تقدير القول بها فمقتضى الأصل وإن كان التخيير ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ لكن الحسنة المتقدّمة (١) واردة عليه.

ولو لم نقل بحجّيّة الحسنة أيضا ، أمكن الالتزام بمفادها بدعوى : أنّ وجودها مانع من استقلال العقل بالتخيير حيث يدور الأمر بواسطتها بين التخيير أو تغليب جانب الوجوب ، فليتأمّل.

ولتمام الكلام في ذلك وفي أنّ مقتضى الأصل الأولي في اشتباه الواجب بالحرام ، الناشئ من اشتباه الشرط بالمانع المحرّم ـ كما هو المفروض في المقام ـ : هو التخيير المقتضي لارتفاع الشرطيّة أو المانعيّة بالنسبة إلى الصلاة التي لا تسقط بحال ، مع أنّ الصلاة عاريا ـ التي هي أحد طرفي التخيير ـ معلوم بالتفصيل كونها فاقدة للشرط ، دون الصلاة في أحد الثوبين الذي يتحقّق به الستر يقينا ويحتمل طهارته ولم يتنجّز التكليف بالاجتناب عنه على تقدير النجاسة مقام (٢) آخر ، ولكن فيما أشرنا إليه في المقام غنى وكفاية لمن تدبّر.

(وفي الثياب الكثيرة) التي بعضها طاهر وبعضها نجس ولم يعرف الطاهر منها بعينه ولم تكن الشبهة غير محصورة أو بعض أطرافها خارجا من

__________________

(١) في ص ٢٤٨.

(٢) قوله : «مقام ..» جواب لقوله : «ولتمام الكلام ..».

٢٥٣

مورد ابتلاء المكلّف بحيث لم يكن للعلم الإجمالي بوجود النجس أثر في تنجيز الخطاب بالاجتناب عنه على التفصيل الذي عرفته في مسألة الإناءين اللّذين اشتبه طاهر هما بنجسهما أيضا (كذلك) يصلّي في كلّ منها منفردا إلى أن يحصل له القطع بوقوع الصلاة في ثوب محكوم بطهارته ولو بحسب الظاهر بمقتضى أصالة الطهارة ، فلو علم إجمالا بنجاسة ثلاثة منها لا أزيد ، صلّى أربع صلوات في أربعة منها منفردة ، فيعلم إجمالا بصحّة إحدى صلواته من غير فرق بين ما لو علم بانحصار النجس في الثلاثة التي علمها بالإجمال أو احتمل نجاسة ما عداها ، فإنّ الزائد عن القدر المتيقّن نجاسة محكوم شرعا بطهارته.

وأمّا إذا كانت الشبهة غير محصورة ، أو كانت محصورة ولكن لم يكن بعض أطرافها على وجه يتنجّز التكليف بالاجتناب عنه على تقدير حصول العلم بنجاسته تفصيلا بأن كان خارجا من مورد ابتلاء المكلّف ، أو كان واجب الاجتناب بسبب سابق على العلم بنجاسته ، أو غير ذلك من الأمور التي تقدّمت الإشارة إليها في مبحث الإناءين ، أجزأته صلاة واحدة في بعض أطراف الشبهة ، لما عرفت في محلّه من سلامة أصالة الطهارة ـ الجارية فيها ـ في هذه الفروض عن المعارض.

وإذا كانت الشبهة محصورة جامعة لشرائط وجوب الاجتناب (إلّا) أنّه تعذّر أو تعسّر في حقّه الاحتياط بتكرير الصلاة ، الموجب للقطع ببراءة الذمّة بـ (أن يتضيّق الوقت) أو يخاف التخلّف عن الرفقة في سفره أو غير ذلك من الأعذار المبيحة للمحظورات (ف) قيل : ينزع الثوبين و (يصلّي عريانا).

وهذا إنّما هو بعد البناء على عدم جواز الصلاة في الثوب النجس لدى

٢٥٤

الضرورة مع التمكّن من الصلاة عاريا ، كما هو أحد القولين في المسألة ، وستعرف تحقيقهما إن شاء الله ، وإلّا فمشكوك النجاسة أولى بالجواز ، كما هو واضح.

وأمّا على القول بالمنع : فوجه إلحاق المشتبه بالمتيقّن : أنّه لا يتمكّن في الفرض من إيقاع صلاته في ثوب طاهر على وجه يقطع ببراءة ذمّته ، فلا يتنجّز عليه التكليف به ، ولكنّه متمكّن من إيقاع صلاته خالية عن المانع على وجه يقطع به ، فيجب عليه ذلك.

ويتوجّه عليه : أنّ تعذّر تحصيل القطع بحصول الشرط لا يقتضي إلغاءه رأسا ، وإنّما يقتضي عدم وجوب الموافقة القطعيّة ، لا جواز المخالفة القطعيّة حتّى تجوز الصلاة عريانا ، فمقتضى القاعدة : وجوب الصلاة في الثوب المشتبه ، فرارا من المخالفة القطعيّة ، لكن لمّا كان احتمال طهارته المقتضية للوجوب معارضا باحتمال نجاسته المقتضية للمنع يدور الأمر بين المحذورين ، وقد أشرنا في الفرع السابق أنّ مقتضى الأصل في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير ، ولكنّه إن قلنا بوجوب رعاية الجزم في النيّة مهما أمكن ـ كما هو المشهور ـ تعيّن عليه الصلاة عريانا ، لأنّه على تقدير اختياره هذا الطرف من التخيير جزم بخلوّها عن المانع ، فيجب عليه ذلك تحصيلا لهذا الشرط ، فالقول بوجوب الصلاة عاريا لو لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط لكن بناء على المنع من الصلاة في النجس.

وأمّا على القول بجواز الصلاة فيه وكون المكلّف مخيّرا في مقام الضرورة بين الصلاة في الثوب النجس والصلاة عريانا ، فالأحوط بل الأقوى هو الصلاة في

٢٥٥

الثوب المشتبه ، فرارا من المخالفة القطعيّة ، وعدم صلاحيّة احتمال النجاسة في الفرض للمزاحمة.

وهل يجزئه صلاة واحدة في ثوب واحد من أطراف الشبهة وإن تمكّن من غيرها أيضا ، أم يجب عليه الإتيان بما تيسّر؟ وجهان ، بل قولان : من أنّه لمّا تعذّر تحصيل القطع بالموافقة يحكم العقل بوجوب الإتيان ببعض المحتملات ، فرارا من المخالفة القطعيّة ، وهو يحصل بإيجاد فرد منها ، فلا مقتضي لوجوب الأزيد ، لأنّ وجوب الإتيان بكلّ فرد لم يكن إلّا لكونه مقدّمة علميّة ، والمفروض تعذّر تحصيل العلم ، فلا تجب مقدّمته. ومن أنّ مقتضى كون الشي‌ء واجبا وجوب إيجاده في ضمن محتملاته بحيث يحصل القطع بفراغ الذمّة ، وتعذّر تحصيل القطع بالفراغ ، لعدم القدرة على الاحتياط بإتيان جميع المحتملات إنّما يقتضي معذوريّة المكلّف في المخالفة إذا تحقّقت في ضمن ما تعذّر عليه أو تعسّر لا غير.

وهذا هو الأقوى ، فيجب عليه تكرير الصلاة في الثياب المشتبهة إلى أن يقطع بسقوط التكليف إمّا للحرج والضرورة الرافعة له ، أو لحصول الامتثال ، وليس المقتضي لوجوب الإتيان بكلّ فرد فرد من المحتملات مجرد كونه مقدّمة علميّة حتّى يسقط وجوبه بتعذّر العلم ، بل المقتضي له احتمال حصول الواجب به ، وعدم كون جهله التفصيلي مانعا من حسن عقابه على المخالفة ما لم يكن له عذر مقبول ، فيجب على القول بالمنع من الصلاة في النجس أيضا تكريرها في الثياب التي يحتمل طهارتها مع الإمكان ، لكن الأحوط على هذا القول إن لم يكن أقوى هو الصلاة عاريا ، ثمّ الإتيان بما تيسّر من الصلاة في الثياب المشتبهة.

٢٥٦

هذا إذا لم نقل بحرمتها ذاتا ، وإلّا فلا يخلو الإتيان بما تيسّر عن إشكال.

(ويجب) على المكلّف (أن يلقي الثوب النجس ويصلّي عريانا إذا) لم يتمكّن من غيره و (لم يكن) مضطرّا إلى لبس النجس ضرورة شرعيّة أو عرفيّة ولو بأن يكون معه (هناك) شخص (غيره) ممّن يشقّ عليه الصلاة بمحضره عاريا أو يجب عليه التستّر منه ، لكونه غير مماثل أو ممن يطّلع على عورته ، أو غير ذلك من الضرورات المانعة منه على المشهور ، كما ادّعاه غير واحد ، بل عن الخلاف (١) دعوى الإجماع عليه ، لإطلاق النهي عن الصلاة في النجس.

ومضمرة سماعة ، قال : سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض وليس عليه إلّا ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : «يتيمّم ويصلّي عريانا قاعدا يومئ إيماء» هكذا رواها في محكي التهذيب (٢).

وعن الاستبصار روايتها نحوها ، إلّا أنّ فيه : «ويصلّي عريانا قائما يومئ إيماء» (٣).

وخبر الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلّا ثوب واحد وأصاب ثوبه منيّ ، قال : «يتيمّم ويطرح ثوبه فيجلس مجتمعا فيصلّي فيومئ إيماء» (٤).

__________________

(١) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٤٨ ، وانظر : الخلاف ١ : ٣٩٨ ، المسألة ١٥٠.

(٢) حكاها عنه وعن الكافي البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٠ ، وانظر : التهذيب ٢ : ٢٢٣ / ٨٨١ ، والكافي ٣ : ٣٩٦ / ١٥ ، والوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب النجاسات ، ح ١ و ٣.

(٣) حكاها عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٠ ، وانظر : الاستبصار ١ : ١٦٨ / ٥٨٢.

(٤) التهذيب ١ : ٤٠٦ / ١٢٧٨ ، و ٢ : ٢٢٣ / ٨٨٢ ، الاستبصار ١ : ١٦٨ / ٥٨٣ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٢٥٧

ونوقش في التمسّك بإطلاق النهي عن الصلاة في النجس : بانصرافه عن مثل الفرض ، ومعارضته بإطلاق أدلّة اعتبار الستر والمنع من الصلاة عاريا المعتضد بالاعتبار حيث إنّ فوات الساتر أسوأ من فوات صفته ، وبإطلاقات أدلّة الركوع والسجود.

وأجيب عن المعارضة : بأنّ أدلّة الستر قد قيّدت بالساتر الطاهر ، والمفروض أنّه غير متمكّن منه ، فيسقط ، ولا معنى لمراعاة المطلق بعد العجز عن المقيّد إلا إذا اختصّت الشرطيّة والتقييد بحال الاختيار ، وهو ممنوع في المقام ، لإطلاق أدلّة طهارة الساتر وغيره من لباس المصلّي.

مع أنّ وجود إطلاق في أدلّة الستر بحيث ينفع في المقام ممنوع ، والإجماع على اعتباره كبعض الأخبار مختصّ بما إذا تمكّن من الطاهر.

وأمّا أدلّة الركوع والسجود : فهي مختصّة بالمستور دون العاري ، فالركوع الحقيقي مشروط بعدم العراء.

وفيه : أنّه يفهم من النصّ والإجماع اعتبار الستر في الصلاة ، إلّا أن يمنع منه مانع عقليّ أو شرعيّ ، والطهارة ليست شرطا في الساتر من حيث كونه ساترا حتّى يتقيّد به إطلاق دليله ، بل هو شرط في مطلق لباس المصلّي إذا كان ممّا تتمّ فيه الصلاة منفردا ، فتتحقّق المعارضة في مثل المقام الذي يدور الأمر بين اعتبار أحد الأمرين ، كما لا يخفى.

وإن شئت قلت : إنّ معروفيّة اعتبار الستر في الصلاة ولو في الجملة بل وكذا الركوع والسجود ووضوح أنّ الشارع لم يلغ اعتبارها إلّا في مقام الضرورة

٢٥٨

مانعة من انصراف إطلاق النهي عن الصلاة في النجس إلى إرادة مثل الفرض ، كما لا يخفى على من راجع عوام المتشرّعة الذين ألقي إليهم مثل هذه المطلقات.

والحاصل : أنّ التمسّك بالإطلاقات لإثبات جواز الصلاة عاريا ضعيف.

وأمّا الأخبار فهي مع ضعف أسنادها وما في الأوّلين منها من الإضمار معارضة بما هو أقوى منها سندا وأكثر عددا.

منها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كلّه دم يصلّي فيه أو يصلي عريانا؟ قال : «إن وجد ماء غسله ، وإن لم يجد ماء صلى فيه ولم يصل عريانا» (١).

وصحيحة محمّد بن علي الحلبي أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله ، قال : «يصلّي فيه» (٢).

وصحيحته الأخرى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره ، قال : «يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله» (٣).

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا يقدر على غسله ، قال : «يصلّي فيه» (٤).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٠ / ٧٥٦ ، التهذيب ٢ : ٢٢٤ / ٨٨٤ ، الاستبصار ١ : ١٦٩ / ٥٨٥ ، قرب الإسناد :١٩١ / ٧١٨ ، الوسائل ، الباب ٤٥ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٢) الفقيه ١ : ١٦٠ / ٧٥٣ ، الوسائل ، الباب ٤٥ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) الفقيه ١ : ٤٠ / ١٥٥ ، التهذيب ١ : ٢٧١ / ٧٩٩ ، الإستبصار ١ : ١٨٧ / ٦٥٥ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب النجاسات ، ح ١١ ، وكذا الباب ٤٥ من تلك الأبواب ، ح ١.

(٤) الفقيه ١ : ١٦٠ / ٧٥٤ ، التهذيب ٢ : ٢٢٤ / ٨٨٥ ، الوسائل ، الباب ٤٥ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

٢٥٩

وقد حمل الشيخ هذه الأخبار ـ على ما حكي (١) عنه ـ على الضرورة من برد ونحوه ، أو على صلاة الجنازة ، وخبر عليّ بن جعفر على الدم المعفوّ عنه ، كدم السمك ونحوه.

ولا يخفى ما في الأخيرين من البعد.

وأمّا حملها على الضرورة وإن أمكن ارتكابه في بعض لكن بعضها كصحيحة عليّ بن جعفر آبية عن ذلك.

وربما يستشهد للجمع بين الأخبار بحمل هذه الروايات على الضرورة :برواية الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره ، قال : «يصلّي فيه إذا اضطرّ إليه» (٢) بدعوى ظهورها في إرادة الاضطرار إلى لبس الثوب.

وفيه : منع ظهورها في ذلك ، بل المتبادر من الشرطيّة كونها مسوقة لتحقيق مورد السؤال.

وحاصل الجواب : أنّه تجوز الصلاة في الصورة المفروضة : لمكان الضرورة.

هذا ، مع ما عرفت من إباء صحيحة عليّ بن جعفر عن ذلك.

وعن جملة من الأصحاب الجمع بين الأخبار بالتخيير.

وعن غير واحد منهم التصريح بأفضليّة الصلاة في الثوب النجس.

__________________

(١) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٦١ ، وانظر : التهذيب ٢ : ٢٢٤ ، ذيل ح ٨٨٥ ، وذيل ح ٨٨٦.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٢٤ / ٨٨٣ ، الإستبصار ١ : ١٦٩ / ٥٨٤ ، الوسائل ، الباب ٤٥ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

٢٦٠