مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

اتّحاده مع الاستعمال للآنية حقيقة لا مسامحة ، واتّصاف مثل هذه الأفعال ـ التي لا تتحقّق ماهيّتها إلّا بعد تناول الشي‌ء من الآنية ـ بكونها استعمالا للآنية ليس إلّا من باب التوسعة والمسامحة العرفيّة ، وإلّا فنفس هذه الأفعال لو لوحظت بنفسها لا تتّصف عرفا بكونها استعمالا لها ، لكن الأخبار المستفيضة دلّت على حرمة الأكل والشرب ، فنلتزم بها ، وأمّا الوضوء ونحوه فلم يتعلّق به بعنوانه الخاصّ نهي شرعيّ ، وإنّما دلّ الدليل على حرمة استعمال الآنية ، فما لم يتحقّق الاستعمال بنفس الوضوء من حيث هو لا يحرم.

فما عن المشهور من الحكم بصحّة الوضوء لا يخلو عن قوّة ما لم تكن الآنية من المقدّمات المنحصرة المانعة من تنجّز التكليف ، وكان الوضوء بالاغتراف منها ، لا بالارتماس فيها.

وعن كاشف اللثام التصريح بصحّته في صورة الارتماس أيضا (١).

وهو ضعيف ، لاتّحاده حينئذ في الوجود مع الاستعمال المحرّم ، فلا يصحّ.

والمرجع في تشخيص الإناء والآنية والأواني هو العرف ، كما عن جماعة التصريح بذلك (٢).

وعن جلّ اللّغويّين إيكال معرفة الإناء إلى العرف ، فلم يذكروا في تفسيره

__________________

(١) لم نعثر على الحاكي عنه فيما بين أيدينا من المصادر ، ولا على المحكي في كشف اللثام ، بل فيه ـ ج ١ ، ص ٤٩٤ ـ هكذا : (لو تطهّر من آنية الذهب أو الفضة أو) الآنية (المغصوبة) بالاغتراف منها أو الصبّ منها في اليد ثمّ التطهير بما في اليد ، لا بوضع الأعضاء فيها للطهارة ، أو الصبّ منها على أعضاء الطهارة (أو جعلها مصبّا لماء الطهارة ، صحّت طهارته) كما في المبسوط .. إلى آخره.

(٢) حكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٣٤.

٣٦١

إلّا أنّه «معروف» عدا أنّه حكي عن المصباح المنير أنّه قال : الإناء والآنية كالوعاء والأوعية لفظا ومعنى (١).

وهو ممّا لا يساعد عليه العرف ، إذ الظاهر عدم ترادف الوعاء والإناء عرفا ، وقد ذكر بعض (٢) أنّ الظاهر أنّ ما في المصباح تفسير بالأعمّ ، لأنّ الإناء وعاء خاصّ لا مطلقه.

أقول : ولعلّه تفسير بالمباين ، فإنّ تسمية الإناء من حيث هو وعاء لا يخلو عن تأمّل ، إذ الغالب أنّه إنّما يطلق على الإناء الوعاء بالإضافة إلى ما يوضع فيه ، فيقال مثلا : وعاء السمن ، وأوعية الماء ، وغير ذلك ، كما يقال : موضع السمن ومقرّه ومكانه ، ولا يسمّى باسم الوعاء إذا لو حظ الظرف في حدّ ذاته شيئا مستقلّا كما يسمّى باسم الإناء.

وكيف كان فلا وثوق بهذا التفسير ، ولا نقول بحجّيّة قول اللغويّ من باب التعبّد.

هذا ، مع أنّا لم نعثر على ما يكون إطلاق اسم الوعاء عليه أوضح من إطلاق اسم الإناء ، لما أشرنا إليه من أنّه لا يكفي في تسمية الشي‌ء وعاء على الإطلاق إطلاق اسم الوعاء عليه بالإضافة إلى شي‌ء.

فما جزم به بعض (٣) ـ من صدق اسم الوعاء على بعض الأشياء ، الذي وقع الكلام والاشتباه في اندراجه في موضوع الآنية ، كالمكحلة ونحوها ـ كأنّه جزم

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٣٤ ، وانظر : المصباح المنير : ٣٦.

(٢) راجع : كشف الغطاء : ١٨٣ ، وجواهر الكلام ٦ : ٣٣٤.

(٣) كالبحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٥١٤.

٣٦٢

في غير محلّه ، فالمرجع في تشخيص ما يطلق عليه اسم الآنية ليس إلّا العرف ، وفي الموارد المشتبهة يرجع إلى أصالة الإباحة ، والقدر المتيقّن ممّا يصحّ إطلاق الاسم عليه هي الأدوات المعدّة شأنا لأن تستعمل ظرفا لدى الحاجة إليه وإن لم تكن بالفعل معدّة له ، بل مصنوعة لغرض آخر ، وما عداها إمّا مشتبه الحال أو معلوم العدم.

نعم ، لا فرق فيما كان من شأنه الاستعمال في الوعائيّة بين صغيره وكبيره ، فمكان النشوق (١) ونظائره بحسب الظاهر مندرجة في موضوعها ، بخلاف وعاء الحروز والتعويذات والرقى ونحوها ، فإنّها لا تعدّ آنية في العرف.

كما يؤيّده صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض ، فقال : «نعم ، إذا كان في جلد أو فضّة أو قصبة حديد» (٢).

وخبر حرز الجواد (٣).

ويظهر من بعض أنّها داخلة في موضوع الآنية ولكنّها خارجة من حكمها ، للصحيحة المتقدّمة (٤).

وفيه : أنّ جعل الصحيحة شاهدة لخروجها من الموضوع ـ كما يشعر به سوق الرواية ويشهد به العرف ـ أولى.

__________________

(١) النشوق : سعوط يجعل أو يصبّ في الأنف. لسان العرب ١٠ : ٣٥٣ «نشق».

(٢) الكافي ٣ : ١٠٦ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) مهج الدعوات : ٥٢ وما بعدها ، وعنه في بحار الأنوار : ٩٤ : ٣٥٤ ـ ٣٦١ / ١.

(٤) آنفا.

٣٦٣

وربما يستشهد بصحيحة محمّد بن إسماعيل ، المتقدّمة (١) المشتملة على قضيّة المرآة ، على أنّ الآنية أعمّ ممّا يطلق عليه اسمها بالتقريب الذي تقدّمت الإشارة إليه وإلى ضعفه.

وحكي عن كاشف الغطاء رحمه‌الله في تشخيص موضوع الإناء أنّه قال : يعتبر فيه اجتماع قيود أربعة :

الأوّل : الظرفيّة.

الثاني : أن يكون المظروف معرضا للرفع والوضع ، فموضع فصّ الخاتم وعكوز الرمح وضبّة السيف والمجوّف من حليّ المرأة المعدّ لوضع شي‌ء فيه للتلذّذ بصوته ، ومحلّ العوذة وقاب الساعة وآنية جعلت لظاهر أخرى بمنزلة الثوب مع الوضع على عدم الانفصال ليس منها.

الثالث : أن تكون موضوعة على صورة متاع البيت الذي يعتاد استعماله عند أهله من أكل أو شرب أو طبخ أو غسل أو نحوها ، فليس القليان ولا رأسها ورأس الشطب ولا ما يجعل موضعا له أو للقليان ولا قراب السيف والخنجر والسكّين وبيت السهام وبيت المكحلة والمرآة والصندوق والسّفط (٢) وقوطي النشوق والعطر ومحلّ القبلة والمباخر ونحوها منها.

الرابع : أن يكون له أسفل يمسك ما يوضع فيه وحواشي كذلك ، فلو خلا عن ذلك ـ كالقناديل والمشبّكات والمخرّمات والطبق ـ لم يكن منها ، والمدار

__________________

(١) في ص ٣٥١.

(٢) السّفط : ما يعبّى فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. لسان العرب ٧ : ٣١٥ «سفط».

٣٦٤

على الهيئة لا الفعليّة (١). انتهى.

أقول : في اعتبار بعض ما ذكره من القيود تأمّل ، وفي كثير من أمثلته التي جعلها خارجة من الموضوع نظر أو منع ، والله العالم.

(ويكره) الأكل والشرب في الإناء (المفضّض) بل مطلق استعماله على المشهور ، بل في الجواهر : لا أجد فيه خلافا إلّا ما يحكى عن الخلاف حيث سوّى بينه وبين أواني الذهب والفضّة في الكراهة التي صرّح غير واحد من الأصحاب بإرادته الحرمة منها هناك (٢). انتهى.

بل لا يبعد كراهة استعمال مطلق الآلات المفضّضة حتى مثل القضيب ولجام الفرس والمرآة الملبسة بالفضّة.

ومستند الحكم أخبار مستفيضة :

منها : قوله عليه‌السلام في رواية الحلبي ، المتقدّمة (٣) : «لا تأكل في آنية من فضّة ولا في آنية مفضّضة».

وخبر بريد ، المتقدّم (٤) : أنّه كره الشرب في الفضّة وفي القدح المفضّض ، وكذلك أن يدهن في مدهن مفضّض ، والمشطة كذلك.

وصحيحة محمّد بن إسماعيل ، المشتملة على قضيّة المرآة والقضيب الملبسين بالفضّة (٥).

__________________

(١) كشف الغطاء : ١٨٣ ، وحكاه عنه مختصرا صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٣٦.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٣٤٠ ، وانظر : الخلاف ١ : ٦٩ ، المسألة ١٥.

(٣) في ص ٣٥١.

(٤) في ص ٣٥٣.

(٥) تقدّم تخريجها في ص ٣٥١ ، الهامش (٤).

٣٦٥

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضّة؟ قال : «نعم ، إنّما يكره استعمال ما يشرب به» قال : وسألته عن السرج واللجام فيه الفضّة أيركب به؟ قال : «إن كان مموّها لا يقدر على نزعه منه فلا بأس ، وإلّا فلا يركب به» (١).

وعن مستطرفات السرائر نقلا من جامع البزنطي ، قال : سألته عن السرج واللجام (٢) ، وذكر مثله.

والظاهر أنّ الأواني والآلات التي لها حلقة فضّة غير مندرجة في موضوع المفضّض ، أو أنّ إطلاقه منصرف عنها ، وعلى تقدير الاندراج وعدم الانصراف فهي خارجة من الحكم ، كما تدلّ عليه صحيحتا (٣) ابن بزيع وعليّ بن جعفر ، الدالّتان على نفي البأس عن المرآة التي لها حلقة فضّة ، وأنّه كان لموسى بن جعفر عليهما‌السلام مرآة كذلك ، وما روي من أنّه كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قصعة فيها حلقة من فضّة (٤) ، ولدرعه صلى‌الله‌عليه‌وآله حلق من فضّة (٥).

ويحتمل قويّا اختصاص الكراهة بما إذا كانت الأواني والآلات ملبسة بها أو مشتملة على مقدار معتدّ به منها ، كما حكي عن المعتبر التصريح بنفي البأس

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٣٥٥ ، الهامش (١ و ٢).

(٢) السرائر ٣ : ٥٧٤ ، الوسائل ، الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ذيل ح ٥ و ٦.

(٣) تقدّمنا في ص ٣٥١ و ٣٥٥.

(٤) المعتبر ١ : ٤٥٧.

(٥) الكافي ٦ : ٤٥٧ / ٤ ، الفقيه ٤ : ١٣٠ ـ ١٣١ / ٤٥٤ ، الأمالي ـ للصدوق ـ : ٦٧ / ٢ (المجلس السابع عشر) الوسائل ، الباب ٦٤ من أبواب أحكام الملابس ، ح ٢ ، وكذا الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

٣٦٦

عن اليسير من الفضّة ، كالحلقة للسيف والقصعة ، أو كالضبّة والسلسلة التي تشعب بها الإناء (١).

ويشهد له صحيحة معاوية بن وهب قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الشرب في القدح فيه ضبّة من فضّة ، قال : «لا بأس إلّا أن تكره الفضّة فتنزعها» (٢).

وقد روي أنّه كان حلقة قصعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وضبّتها من الفضّة (٣).

ولا ينافيه رواية عمرو بن أبي المقدام ، قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام قد أتي بقدح من ماء فيه ضبّة من فضّة فرأيته ينزعها بأسنانه (٤) ، لأنّه حكاية فعل لم يعرف وجهه ، كما أنّ ما حكي من اشتمال قصعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ودرعه على حلق من فضّة أيضا لا يخلو عن إجمال من حيث الوجه ، بل قد أشرنا آنفا إلى عدم اندراج مثل هذه الأمور عرفا في موضوع المفضّض. والصحيحة المتقدّمة (٥) ـ النافية للبأس عن القدح الذي فيه ضبّة من فضّة ـ قابلة للحمل على إرادة نفي الحرمة وإن كان مخالفا للظاهر ، فتعميم الكراهة بالنسبة إلى مطلق ما يسمّى مفضّضا خصوصا بالنسبة إلى الآنية ـ كما يقتضيه إطلاق النصوص والفتاوى ـ أحوط وأنسب بالمسامحة في دليلها.

__________________

(١) حكاه عنه الصيمري في كشف الالتباس ١ : ٤٧١ ، وكذا السبزواري في ذخيرة المعاد : ١٧٤ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٥٧.

(٢) التهذيب ٩ : ٩١ / ٣٩١ ، الوسائل ، الباب ٦٦ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٣) راجع : المعتبر ١ : ٤٥٧.

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٧ / ٦ ، المحاسن : ٥٨٢ / ٦٤ ، التهذيب ٩ : ٩١ / ٣٨٨ ، الوسائل ، الباب ٦٦ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

(٥) آنفا.

٣٦٧

نعم ، ينبغي استثناء السيف من الآلات ، كما يدلّ عليه خبر ابن سنان «ليس بتحلية السيف بالذهب والفضّة بأس» (١) فإنّ لهذه الرواية نوع حكومة على الأخبار الناهية.

وما عن الفريقين (٢) روايته من أنّ قبضة سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبيعته (٣) وحلية ذات الفقار كانت من فضّة (٤).

وروي أيضا أنّه كان نعل (٥) سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقائمته (٦) فضّة ، وبين ذلك حلق من فضّة (٧). والله العالم.

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر رواية (٨) الحلبي : حرمة الأكل في آنية المفضّض كالفضّة ، ولكن مقتضى الجمع بينها وبين ما هو صريح في الجواز ـ كصحيحة ابن وهب ، المتقدّمة (٩) بناء على اطّراد حكم المفضّض بالنسبة إلى موردها ، وحسنة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٧٥ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٦٤ من أبواب أحكام الملابس ، ح ١.

(٢) الحاكي عن الفريقين هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٣٧.

(٣) قبيعة السيف : ما على مقبضه من فضّة أو حديد. مجمع البحرين ٤ : ٣٦٧ «قبع».

(٤) الكافي ١ : ٢٣٤ / ٥ ، و ٦ : ٤٧٥ / ٦ ، و ٨ : ٢٦٧ / ٣٩١ ، الأمالي ـ للصدوق ـ : ٢٣٨ / ١٠ (المجلس الثامن والأربعون) ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٥٠ ـ ٥١ / ١٩٥ ، وعنها في الوسائل ، الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ح ٣ و ٨ ، وكذا الباب ٦٤ من أبواب أحكام الملابس ، ح ٤ ، سنن أبي داود ٣ : ٣٠ ـ ٣١ / ٢٥٨٣ و ٢٥٨٤ ، سنن النسائي ٨ : ٢١٩ ، سنن الترمذي ٤ : ٢٠١ / ١٦٩١ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٢١.

(٥) نعل السيف : الحديدة التي تكون في أسفل القراب. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٥ : ٨٢ «نعل».

(٦) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «قوائمه» بدل «قائمته». وما أثبتناه من المصدر.

(٧) الكافي ٦ : ٤٧٥ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٦٤ من أبواب أحكام الملابس ، ح ٢ ، سنن النسائي ٨ : ٢١٩.

(٨) المتقدّمة في ص ٣٥١.

(٩) في ص ٣٦٧.

٣٦٨

ابن سنان أو صحيحته عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضّض ، واعزل فمك عن موضع الفضّة» (١) ـ هو حمل النهي على الكراهة ، كما يؤيّده بل يشهد له رواية بريد ، المتقدّمة (٢) المصرّحة بكراهة الشرب في القدح المفضّض على ما رواها الصدوق من زيادة قوله : «فإن لم يجد بدّا من الشرب في القدح المفضّض عدل بفمه عن موضع الفضّة» (٣) فإنّ المتبادر منها إرادة الضرورة العرفيّة ، لا الضرورة المبيحة للمحظورات ، كما لا يخفى.

وما تقدّم (٤) نقله من صاحب الحدائق من احتمال كون الزيادة من كلام الصدوق لا ينافي الاستشهاد ، فإنّه وإن كان احتمالا قويّا لكنّه مخالف للظاهر.

ولا يستلزم من حمل النهي على الكراهة بالنسبة إلى المفضّض دون آنية الفضّة استعمال المشترك في معنييه ، كما زعمه صاحب الحدائق ، واستشهد بهذه الرواية ونظائرها على جوازه (٥) ، لإمكان إرادة القدر المشترك من باب عموم المجاز الذي هو من أقرب المجازات. مع أنّ التحقيق أنّ جواز الترك الذي هو فصل الكراهة أمر خارج من ماهيّة النهي قد ثبت بدليل خارجيّ ، فلو خلّي النهي ونفسه لكان مقتضاه لزوم ترك الفعل ، وحيث دلّ الدليل على الرخصة في الفعل رفع اليد عمّا يقتضيه صرف النهي من حيث هو بمقدار دلالة الدليل ، فليتأمّل. ولتمام التحقيق مقام آخر.

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٩١ / ٣٩٢ ، الوسائل ، الباب ٦٦ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٢) في ص ٣٥٣.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣٥٣ ، الهامش (٤).

(٤) في ص ٣٥٣.

(٥) الحدائق الناضرة ٥ : ٥١٢.

٣٦٩

وكيف كان فلا إشكال في عدم الحرمة بعد عدم الخلاف فيه ، ودلالة الخبرين عليه.

(و) لكن مقتضى ظاهر الخبرين هو ما (قيل) بل نسب (١) إلى المشهور من أنّه (يجب اجتناب موضع الفضّة) بأن يعدل بفمه عنه ، بل في الجواهر : لم أجد فيه خلافا بين القدماء والمتأخّرين ، إلّا من معتبر المصنّف فاستحبّه ، وتبعه الطباطبائي في منظومته ، واستحسنه في المدارك والذخيرة ، لظاهر الأمر في الصحيح السابق وزيادة الصدوق في خبر بريد ، المتقدّم ، معتضدا بما عرفت من عدم الخلاف ، وسالما ممّا يصلح للمعارضة (٢). انتهى ، وهو حسن.

وهل يلحق بالمفضّض المذهّب في الكراهة ووجوب عزل الفم عن موضع الذهب؟ فيه تردّد : من غلبة الظنّ بمساواتهما في الحكم إن لم يكن أولى بالاجتناب ، ومن خروجه من مورد النصوص والفتاوى.

وقد حكي عن [العلّامة في المنتهى] (٣) أنّه قال : لم أعثر لأصحابنا فيه على قول. ثمّ ألحقه بالمفضّض في الكراهة ، معلّلا له : بأنّه لا ينزل عن درجة الفضّة (٤).

__________________

(١) الناسب هو السبزواري في كفاية الأحكام : ١٥.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٣٤١ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٥٥ ، والدرّة النجفيّة : ٦٢ ، ومدارك الأحكام ٢ : ٣٨٣ ، وذخيرة المعاد : ١٧٤.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «المصنّف في المعتبر». والصحيح ما أثبتناه ـ حيث لم نعثر على الحاكي عن المحقّق في المعتبر فيما بين أيدينا من المصادر ، ولا على المحكيّ عنه فيه ـ وفاقا لما في ذخيرة المعاد : ١٧٤ ، وكشف اللثام ١ : ٤٨٥ ، والحدائق الناضرة ٥ : ٥١٣ ، وكتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٩٢.

(٤) منتهى المطلب ٣ : ٣٢٩ ، الفرع الثاني.

٣٧٠

واستظهره في المدارك ـ تبعا لما حكي (١) عن شيخه الأردبيلي رحمه‌الله ـ فقال :والأظهر : أنّ الآنية المذهّبة كالمفضّضة في الحكم ، بل هي أولى بالمنع (٢).

وفي الحدائق ـ بعد أن صرّح باختصاص مورد الأخبار بالمفضّض ـ قال : وهل يكون الإناء المذهّب أيضا كذلك؟ الظاهر نعم إن لم يكن أولى بالمنع ، لاشتراكهما في أصل الحكم (٣). انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ الجزم بذلك في غير محلّه ، إذ لم يعلم أنّ مناط المنع لدى الشارع مجرّد علوّ درجة النقدين في أعين الناس حتّى يتّجه دعوى أنّ الذهب لا ينزل عن درجة الفضّة ، ولذا لا نقول بحرمة الأواني المتّخذة من الجواهرات التي هي أعلى درجة منهما ، فلعلّ المفسدة المقتضية للمنع من الفضّة لدى الشارع أقوى منها في الذهب ، فقياس المذهّب على المفضّض ، لاشتراك آنية الذهب والفضّة في الحكم قياس مستنبط العلّة لا نعوّل عليه في الشرعيّات ولا على الأولويّة الظنّيّة التي هي أيضا من مصاديق القياس المنهيّ عنه ، فالتسوية بينهما وإن كانت أحوط وأقرب إلى الاعتبار لكنّ الاقتصار على مورد النصّ والفتوى في الأحكام التعبّديّة أشبه بالقواعد ، وليس المقام مقام المسامحة في دليل الكراهة بعد وضوح المستند خصوصا مع الالتزام بوجوب عزل الفم الذي لا يتسامح في دليله ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٩٢ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٤.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٨٣.

(٣) الحدائق الناضرة ٥ : ٥١٣.

٣٧١

نعم ، لا يبعد دعوى استفادة كراهة مطلق الآلات المذهّبة من الإناء وغيره من رواية فضيل بن يسار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السرير فيه الذهب أيصلح إمساكه في البيت؟ فقال : «إن كان ذهبا فلا ، وإن كان ماء الذهب فلا بأس» (١) فإنّه يستشعر منها كون إمساك الأواني المذهبّة وما جرى مجراها مخالفا للصلاح أمرا مفروغا منه لديهم.

وكيف كان فسبيل الاحتياط غير خفيّ.

وبما ذكرنا ظهر ضعف ما حكي عن الموجز من القول بحرمة المذهّب مطلقا ولو في غير الأواني (٢) ، لما عرفت من أنّه لم يقم دليل ـ يعتدّ به ـ على الكراهة فضلا عن الحرمة.

واحتمل في محكيّ الذكرى حرمة الضبّة من الذهب في الإناء ، استنادا إلى عموم النبويّ : «هذان محرّمان على ذكور أمّتي» (٣) (٤) مشيرا إلى الذهب والحرير.

وفيه ـ بعد الغضّ عن أنّ المراد منه بحسب الظاهر هو التلبّس بهما ، لا مطلق استعمالهما ـ أنّ مقتضاه اختصاص المنع بالرجال لا مطلقا.

وأضعف منه الاستدلال له بكونه إسرافا وإضاعة للمال ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٧٦ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٢) حكاه عنه الصيمري في كشف الالتباس ١ : ٤٧٢ ، وانظر : الموجز (ضمن الرسائل العشر) : ٦٣.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ١١٨٩ / ٣٥٩٥ ، و ١١٩٠ / ٣٥٩٧ ، سنن أبي داود ٤ : ٥٠ / ٤٠٥٧ ، سنن النسائي ٨ : ١٦٠ ، سنن البيهقي ٢ : ٤٢٥ ، مسند أحمد ١ : ٩٦ و ١١٥ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٣٥ / ٢٧٢.

(٤) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٤٢ ، وكذا الصيمري في كشف الالتباس ١ : ٤٧١ ـ ٤٧٢ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٥١٣ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٤٩.

٣٧٢

تذنيب قال المحدّث المجلسي في محكيّ البحار : إنّ المفضّض أقسام :

الأوّل : الظروف التي يكون بعضها فضّة وبعضها نحاسا أو غيره متميّزا كلّ منهما عن الآخر ، كما تستعمل ظروف أصلها [من] (١) الخزف أو غيره وفمها (٢) من الفضّة.

الثاني : ما كان جميعه مموّها بالفضّة ، وهو قسمان.

أحدهما : ما طلي بماء الفضّة ، وإذا عرض على النار ، لا ينفصل عنه شي‌ء.

وثانيهما : ما تلبّس بالسبائك وشبهها بحيث إذا عرض على النار ، انفصلت الفضّة عن غيرها.

الثالث : ما علّق عليه حلقة أو قطعة من سلسلة (٣) من الفضّة.

الرابع : أن تخلط الفضّة بغيرها وتصنع منهما الآنية.

الخامس : ما نقش بالفضّة.

ثم قال : وظاهر أخبار المفضّض شمولها للأوّل والثالث.

وأمّا الثاني : فالظاهر في القسم الأوّل منه : الجواز. وفي الثاني : المنع ، لصدق الآنية على اللباس ، بل يمكن ادّعاء صدق آنية الفضّة [على الجميع عرفا ، وللأخبار السابقة وإن وردت في غير الأواني.

ويحتمل القول بالجواز فيه ، لأصل الإباحة وعدم صراحة الأخبار في

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) في «ض ١٠ ، ١١» وظاهر الطبعة الحجريّة : «وفيها» بدل «وفمها». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٣) كذا ، وفي المصدر : «ما علّق عليه قطعة أو حلقة أو سلسلة».

٣٧٣

المنع ..

وأمّا الرابع : فلا يبعد اعتبار صدق الاسم ، فإن صدق آنية الفضة عليه ، منع] (١) وإلّا فلا ، وكأنّه لا اعتبار للغلبة مع عدم صدق الاسم.

وأمّا الخامس : فلا يبعد التفصيل فيه كالثاني ، بأن يقال : إن حصل [منهما] (٢) بالعرض على النار شي‌ء ، كان في حكم المفضّض ، وإلّا فلا (٣). انتهى.

أقول : إطلاق اسم الإناء المفضّض على ما فيه حلقة من فضّة أو قطعة من سلسلة لا يخلو عن تأمّل ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا.

وكذا على الممتزج ، فإنّه مع استهلاك أحد الخليطين يسمّى باسم الآخر ، وإلّا فيطلق عليه اسم المغشوش ، لا المفضّض ، ولذا لا يطلق عرفا على الأثمان المغشوشة اسم المفضّض ، والله العالم (٤).

(ولا يحرم استعمال غير الذهب والفضّة من أنواع المعادن والجواهر ولو تضاعفت أثمانها) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن كشف اللثام الاتّفاق عليه (٥) ، لأصالة الإباحة السالمة من دليل حاكم عليها.

(وأواني المشركين) وغيرهم من أصناف الكفّار كأواني غيرهم

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في «ض ١٠ ، ١١» والطبعة الحجريّة : «لها». وما أثبتناه من المصدر. أو أنّ الصحيح : «منه» بدل «لها».

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٩٢ ، وانظر : بحار الأنوار ٦٦ : ٥٤٧ ـ ٥٤٨.

(٤) نلفت النظر إلى أنّه ليس في النسخ الخطّيّة والحجريّة التعرّض لقول المصنّف قدس سرّه : «وفي جواز اتّخاذها لغير الاستعمال تردّد ، والأظهر : المنع» وكذا شرحه.

(٥) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٤٤ ، وانظر : كشف اللثام ١ : ٤٨٦.

٣٧٤

(طاهرة) في مرحلة الظاهر (ما لم يعلم نجاستها) ولو بطريق شرعيّ أو أصل معتبر ، كأصالة عدم التذكية فيما كان متّخذا من الجلود ولم تجر عليه يد مسلم ، أو ما جرى مجراها من الأمارات الحاكمة على الأصل.

(ولا يجوز استعمال شي‌ء من الجلود) إذا كانت من ذوي الأنفس ـ في الأكل والشرب وغيرهما من الأشياء المشروطة بالطهارة بل مطلقا حتّى في إيقاد الحمّام وإطعام الكلب ونحوه على ما صرّح به بعض (١) ونسب إلى ظاهر المشهور وإن ناقشنا فيه في محلّه (إلّا ما كان طاهرا في حال الحياة ذكيّا) تذكية شرعيّة ، إذ هو بدون ذلك ميتة نجسة لا يجوز استعمال جلده ، سواء دبغ أم لم يدبغ ، لأنّ جلد الميتة لا يطهّر بالدباغ ، خلافا لما حكي عن العامّة (٢) وابن الجنيد (٣) من الخاصّة ، فزعموا أنّ ذكاة الجلد دباغه.

وقد حكي عن ابن الجنيد أنّه قال : إنّ جلد الميتة يطهّر بالدبغ إذا كان من حيوان طاهر في حال حياته ، فيجوز الانتفاع به بعد ذلك في كلّ شي‌ء عدا الصلاة (٤). انتهى.

وقد عرفت ضعفه في محلّه.

__________________

(١) صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٤٥.

(٢) الام ١ : ٩ ، حلية العلماء ١ : ١١٠ و ١١١ ، المجموع ١ : ٢١٥ و ٢١٧ ، العزيز شرح الوجيز ١ : ٨١ ، المغني ١ : ٨٤ ، الشرح الكبير ١ : ٩٥.

(٣) حكاه عنه المحقّق الحليّ في المعتبر ١ : ٤٦٣ ، والعلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٢ : ٢٢٣ ، المسألة ٣٢٨ ، ومختلف الشيعة ١ : ٣٤٢ ، المسألة ٢٦٢ ، والشهيد في الذكرى ١ : ١٣٤.

(٤) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٨٦ ، والشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٧٨٩.

٣٧٥

ويعتبر في جواز استعمال الجلود وكذا في إباحة أكل اللحوم إحراز التذكية بالعلم أو بأمارة معتبرة شرعا ، كالبيّنة وإخبار ذي اليد ويد المسلم وسوقه ، وإلّا فيحكم بنجاستها وحرمة الانتفاع بها ، لأصالة عدم التذكية.

ولا يعارضها أصالة عدم الموت حتف الأنف كما توهّم ، إذ لا يثبت بأصالة عدم الموت حتف الأنف كونه مذكّى حتّى تتحقّق المعارضة ، فإنّ نفي أحد الضدّين بالأصل لا يثبت الضدّ الآخر ، كما تقرّر في محلّه.

هذا ، مع أنّه لا مضادّة بين الأمرين ، لأنّ حرمة لحم الحيوان ونجاسته من آثار زهاق روحه بغير الوجه الذي اعتبره الشارع سببا للحلّيّة والطهارة ، سواء مات حتف أنفه أو قتل بغير ذلك الوجه.

وإن أريد بأصالة عدم الموت أصالة عدم زهاق روحه بغير ذلك الوجه ، فلا يتحقّق موضوع النجاسة والحرمة ، ففيه : أنّ عدم الموت بهذا المعنى ليس موافقا للأصل ، لأنّ وقوع زهاق الروح بذلك الوجه يحتاج إلى أسباب وجوديّة ، مثل : ذكر اسم الله عليه ، واستقبال القبلة ، وفري الأوداج ، فمتى شكّ في تحقّق شي‌ء من تلك الأسباب ، ينفي ذلك الشي‌ء بالأصل ، فيحرز بذلك موضوع الحرمة والنجاسة ، لأنّ الميتة ـ التي هي موضوع الحكمين في عرف الشارع والمتشرّعة ـ عبارة عمّا زهق روحه لا بشرائط التذكية ، لا خصوص ما مات حتف أنفه ، كما يشهد لذلك ـ مضافا إلى وضوحه ـ تعليق حلّيّة الأكل ـ في ظواهر الكتاب والسنّة ـ على كونه مذكّى ، وتعليق طهارة الجلود في مكاتبة الصيقل على كونها ذكيّة ، قال : كتب إلى الرضا عليه‌السلام إنّي أعمل أغماد السيوف عن جلود الحمر الميتة فتصيب

٣٧٦

ثيابي فأصلّي فيها [فكتب] (١) إليّ «اتّخذ ثوبا لصلاتك» فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : إنّي كتبت إلى أبيك عليه‌السلام بكذا وكذا ، فصعب ذلك عليّ ، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة ، فكتب عليه‌السلام إليّ «كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله ، فإن كان ما تعمل وحشيّا ذكيّا فلا بأس» (٢) فإنّ مقتضى التعليق كون موضوع الحرمة والنجاسة هو غير المذكّي.

ويؤيّده أيضا مفهوم التذكية ، إذا الظاهر أنّها كانت في الأصل بمعنى التطهير والتنزيه ، ثمّ غلب استعمالها في الذبح المعهود الذي جعله الشارع سببا لطهارة الميتة وزوال النفرة الحاصلة لها بالموت ، كما يرشدك إلى ذلك التتبع في موارد استعمالات مادّتها بصورها المختلفة.

مثل : «كلّ يابس ذكيّ» (٣) و «ذكاة الأرض يبسها» (٤) و «ذكاة الجلد دباغه» (٥) وفي الموثّقة الآتية : «إذا علمت أنّه ذكيّ وقد ذكّاه الذبح ـ إلى أن قال ـ وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرّم عليك أكله فالصلاة في كلّ شي‌ء منه فاسدة ذكّاه الذبح أو لم يذكّه» (٦) إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي تشهد على أنّ الذكاة في

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ / ١٦ ، التهذيب ٢ : ٣٥٨ / ١٤٨٣ ، الوسائل ، الباب ٣٤ من أبواب النجاسات ، ح ٤ ، وكذا الباب ٤٩ من تلك الأبواب ، ح ١.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٩٦ ، الهامش (٤).

(٤) كشف الخفاء ١ : ٥٠٢.

(٥) سنن النسائي ٧ : ١٧٤ نحوه.

(٦) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ / ٨١٨ ، الإستبصار ١ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ / ١٤٥٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١ ، ويأتي بعضها في ص ٣٨٤.

٣٧٧

أصلها هي النظافة والنزاهة ، فالمراد بالميتة في عرف الشارع ليس إلّا ما لم يذكّه الذبح من القذارة المسبّبة عن الموت.

ولا ينافي هذا ما تقدّم في مبحث الميتة من عدم تسليم كون مطلق غير المذكّى ميتة ، لأنّ الغرض في ذلك المبحث منع اطّراده بحيث يحكم على الأجزاء الصغار المنفصلة عن الحيّ بأنّها ميتة بواسطة صحّة إطلاق غير المذكّى عليها ، نظرا إلى صحّة إطلاق غير المذكّى على ما ليس من شأنه الموت أو الانفعال بالموت.

وكيف كان فالميتة من اللحم ليست إلّا عبارة عن اللحم الذي زهق روحه لا بشرائط التذكية ، فمتى أحرز زهاق روح لحم وشكّ في أنّه هل وجد شرائط التذكية حال زهاق روحه؟ مقتضى الأصل : عدمها ، فيرتّب عليه آثار عدم كونه مذكّى.

لكن لقائل أن يقول : إنّه لا يثبت بهذا الأصل كون اللحم غير مذكّى حتّى يحكم بحرمته ونجاسته ، كما أنّه لا يثبت بأصالة عدم صيرورة المرأة حائضا ، أو أصالة عدم رؤية المرأة دم الحيض كون الدم المرئي دم غير الحيض حتى يحكم بكونه استحاضة ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وهو خلاف التحقيق ، فمقتضى القاعدة هو التفكيك بين الآثار ، فما كان منها مرتّبا على عدم كون اللحم مذكّى ـ كعدم حلّيّته ، وعدم جواز الصلاة فيه ، وعدم طهارته ، وغير ذلك من الأحكام العدميّة المنتزعة من الوجوديّات التي تكون التذكية شرطا في ثبوتها ـ ترتّب عليه ، فيقال : الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه ، فلا يحلّ أكله ولا الصلاة فيه ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة ، وأمّا الآثار المترتبة على كونه

٣٧٨

غير مذكّى ـ كالأحكام الوجوديّة الملازمة لهذه العدميّات ، كحرمة أكله ونجاسته وتنجيس ملاقيه وحرمة الانتفاع به ببيعه أو استعماله في سائر الأشياء الغير المشروطة بالطهارة ، كسقي البساتين وإحراقه على القول بها وغير ذلك من الأحكام المعلّقة على عنوان الميتة أو غير المذكّى ـ فلا.

نعم ، لو قلنا بالرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة في تشخيص موضوع المستصحب ، اتّجه إلحاق بعض الوجوديّات ـ المعلّقة في الأدلّة الشرعيّة على فقد شرط من شرائط التذكية ـ بالعدميّات إذا كان الشكّ ناشئا من الشكّ في حصول ذلك الشرط ، مثل : ذكر اسم الله عليه ، حيث قال الله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (١) فكما يرتّب على استصحاب عدم ذكر اسم الله عليه عدم الحلّيّة ، كذلك يرتّب عليه حرمة الأكل ، التي علّقها الشارع في لسان الدليل على ذلك العدم.

وهذا بخلاف سائر الشرائط ، كفري الأوداج ونحوه ممّا لم يرد فيه مثل هذا الدليل ، بل ثبت بالنصّ والإجماع اشتراطه في الحلّيّة ، وكون الموت المقترن بفقده موجبا للحرمة ، فإنّه لا يثبت بأصالة عدم حصول ذلك السبب حين موته كون موته فاقدا لذلك الشرط ، إلّا أن نقول بالأصل المثبت ، فيتّجه حينئذ ترتيب جميع الآثار ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

كما أنّ المتّجه ذلك أيضا لو قلنا بقاعدة المقتضي ، لا للاعتماد على أصالة عدم التذكية ، بل لكفاية الشك فيها بناء على هذا القول ، لما أشرنا إليه من أنّ

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٢١.

٣٧٩

مقتضى جعل الشارع التذكية شرطا للحلّيّة والطهارة وتسميته الذبح الخاصّ تذكية : كون موت ذي النفس بنفسه مقتضيا لحرمته ونجاسته ، والتذكية مانعة منهما ، فمتى أحرز المقتضي وشكّ في المانع حكم بثبوت المقتضي.

لكن لا نقول بشي‌ء من المباني ، فالمتّجه حينئذ هو التفصيل بين الأحكام المترتّبة على عدم كونه مذكّى ، كالأحكام السلبيّة التي تقدّمت الإشارة إليها ، وبين الأحكام المترتّبة على كونه غير مذكّى ، كالأحكام الثبوتيّة الملازمة لهذه العدميّات ، مثل الحرمة والنجاسة.

إن قلت : لا يمكن التفكيك بين عدم الحلّيّة والطهارة وبين ما يلازمهما من الحرمة والنجاسة ، لا لمجرّد الملازمة العقليّة حتّى يتوجّه عليه أنّ التفكيك بين اللوازم والملزومات في مقتضيات الأصول غير عزيز ، بل لقوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» (١) و «كلّ شي‌ء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» (٢) والمفروض أنّه لم يحرز قذارته وحرمته بأصالة عدم التذكية حتّى يقال بحكومتها على أصالتي الحلّ والطهارة ، فالقول بأنّ هذا شي‌ء لم يعلم حرمته ونجاسته ولكنّه ليس بحلال ولا طاهر مناقض للخبرين.

قلت : الشي‌ء المأخوذ موضوعا للحكمين هو الشي‌ء المشكوك الحلّيّة والطهارة ، لا المقطوع بعدمهما ، كما هو الشأن في جميع الأحكام الظاهريّة المجعولة للشاكّ ، وحيث ألغى الشارع احتمال الحلّيّة والطهارة ، ونزّله منزلة العدم بواسطة

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٦٢ ، الهامش (٣).

٣٨٠