مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

ومضمرة سماعة ، قال : سألته عن المنيّ يصيب الثوب ، قال : «اغسل الثوب كلّه إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا» (١).

وحسنة الحلبي أو صحيحته : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه منيّ فليغسل الذي أصابه ، وإن ظنّ أنّه أصابه منيّ ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء ، وإن استيقن أنّه قد أصابه ولم ير مكانه فليغسل الثوب كلّه فإنّه أحسن» (٢).

وما في التعليل الوارد في هذه الرواية من الإشعار باستحبابه ممّا لا يلتفت إليه في مقابلة ما عرفت.

ولعلّ النكتة فيه : عدم كون جميع أجزاء الثوب غالبا من أطراف الشبهة ، أو كون الاحتمال في بعض الأطراف غير معتنى به لدى العقلاء ، فالأمر بغسل الثوب كلّه غالبا ليس إلّا لكونه أشدّ تأثيرا في قلع ما يجده الإنسان في نفسه من الريبة والوسوسة ، أو غيره من الأمور الغير اللازمة المراعاة ، وإلّا فقلّما يتّفق كون جميع أجزاء الثوب من أطراف الشبهة ، والله العالم.

تنبيه : لا تثبت النجاسة بل وكذا الطهارة وغيرها من الموضوعات الخارجيّة إلّا بالعلم أو ما قام مقامه من الأصول والأمارات التي ثبت اعتبارها شرعا ، كالاستصحاب والبيّنة ونحوهما ممّا سنشير إليه.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٢٧ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب النجاسات ، ح ٨.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨ ، الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، وفيه : «شي‌ء» بدل «مني» في الموضعين من الرواية. وقطعة منها في الوسائل ، الباب ٧ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

١٦١

وحكي عن أبي الصلاح الحلبي القول بثبوت النجاسة بمطلق الظنّ سواء حصل من أمارة شرعيّة أم لا ، محتجّا عليه بأنّ الشرعيّات كلّها ظنّيّة ، وأنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح قبيح (١).

وحكي عن ابن البرّاج أنّه اقتصر في طريق إثباتها على العلم ، وأنكر ثبوتها بالبيّنة التي هي أقوى الأمارات ، محتجّا عليه بأنّ الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين لا تفيد إلّا الظنّ ، فلا يترك لأجله المعلوم (٢).

أقول : الطهارة المعلومة بالأصل ، التي جعلها معارضة للظنّ الحاصل من البينة عبارة أخرى عن استصحابها ، وأنت خبير بأنّه إن ثبتت حجّيّة البينة لا يعارضها الاستصحاب وإن لم تفد الظن ، وإلّا فلا تقابل بشي‌ء من الأصول والأدلّة ، لا لأنّها لا تفيد إلّا الظنّ ، بل لأجل أنها ليست بحجّة.

وقد يستدلّ لهذا القول : بمثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٣).

وقوله عليه‌السلام : الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٤).

ورواية حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه‌السلام ، قال : «ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم» (٥).

__________________

(١) كما في المعالم (قسم الفقه) : ٣٨١ و ٣٨٣ ، وحكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٥٣ ، وانظر : الكافي في الفقه : ١٤٠.

(٢) كما في المعالم (قسم الفقه) : ٣٨١ و ٣٨٣ ، وحكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٥٣ ، وانظر : جواهر الفقه : ٩ ، المسألة ٧.

(٣) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٥ ، الهامش (١).

(٥) التهذيب ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ / ٧٣٥ ، الإستبصار ١ : ١٨٠ / ٦٢٩ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

١٦٢

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ـ التي سيأتي بعضها ـ الدالّة على عدم تنجّز التكليف بالنجس ما لم يعلم.

وفيه : أنّ ما دلّ على حجّيّة البيّنة أو غيرها من الأمارات المعتبرة شرعا ، بل وكذا ما دلّ على حجّيّة الاستصحاب حاكمة على مثل هذه الأخبار ، يعرف بها أنّ المراد بالعلم في مثل هذه الروايات أعمّ من العلم الحقيقي وممّا قام مقامه شرعا ، كما تقرّر ذلك في الأصول ، وفي بعض الأخبار الآتية أيضا تنبيه على ذلك.

وبهذا ظهر لك أنّه لا يصحّ التشبّث في إبطال مذهب الحلبي ـ القائل بالاكتفاء بمطلق الظنّ في إثبات النجاسة ـ بمثل هذه الأخبار ، فإنّه إن صدق في دعواه من أنّ الشرعيّات كلّها ظنّيّة ، لكان ما دلّ على اعتبار الظنّ في الشرعيّات حاكما على مثل هذه الأدلّة ، لكنّ الشأن في إثبات هذه الدعوى ، فإنّه لم يدلّ دليل على جواز العمل بمطلق الظنّ في الشرعيّات لا في الأحكام ولا في موضوعاتها ، عدا دليل الانسداد الذي ركن إليه بعض متأخري المتأخّرين ، وهو على تقدير تماميّته لا يقتضي إلّا جواز العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة الكلّيّة التي انسدّ فيها باب العلم ، لا في موضوعاتها ، كما تقرّر في محلّه ، فقياس الموضوعات على الأحكام في غير محلّه.

وأمّا الاحتجاج عليه بقبح العمل بالمرجوح مع قيام الراجح : فقد تبيّن ضعفه في الأصول ، فالقول بالاكتفاء بالظنّ ضعيف.

ويضعّفه أيضا الأخبار الكثيرة التي يستفاد منها عدم ثبوت النجاسة بالظنّ.

١٦٣

مثل حسنة الحلبي ، المتقدّمة (١).

وصحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا حاضر ـ إنّي أعير الذميّ ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه» (٢).

وقول أبي جعفر عليه‌السلام ـ في خبر أبي الجارود ، الوارد في الجبن ـ : «ما علمت فيه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري اللّحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان» (٣).

وموثّقة عمّار : في الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا واغتسل وغسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلّخة ، فقال : «إن كان رآها قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ثمّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه» ثمّ قال : «لعلّه إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها» (٤).

__________________

(١) في ص ١٦١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥ ، الإستبصار ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ / ١٤٩٧ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) المحاسن : ٤٩٥ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٦ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الماء المطلق ، ح ١.

١٦٤

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يقف عليها المتتبّع ، الواردة في الموارد التي لو كان الظنّ حجّة لكان الحكم في جميع تلك الموارد النجاسة.

وما يتراءى من بعض الأخبار من وجوب الاجتناب عن بعض الأشياء التي يظنّ بنجاستها ـ كالأخبار الناهية عن الاغتسال بغسالة الحمّام (١) ، أو الأخبار (٢) الآمرة بغسل الثوب المشتري من النصراني والنهي عن الصلاة فيه حتّى يغسل ـ إمّا جار مجرى الغالب من حصول العلم بالنجاسة ، أو أنّها محمولة على الاستحباب وكراهة الاستعمال ، لمعارضتها في خصوص مواردها بالروايات المعتبرة المعمول بها لدى الأصحاب ، التي هي صريحة في نفي البأس عن الثوب الذي يعمله النصراني والمجوسي و [غيرهما] (٣) ممّن يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، كما في صحيحة ابن سنان ، المتقدّمة (٤) المصرّحة بنفي البأس عن الثوب الذي أعاره الذمّي ، وجواز الصلاة فيه ما لم يستيقن أنّه نجّسه ، كما أنّ بعض ما ورد في غسالة الحمّام صريح في نفي البأس عنها ، بل في بعض التعليلات الواردة في أخبار الغسالة إشعار بالكراهة ، وبعض ما ورد في ثوب أهل الكتاب نصّ في الاستحباب ، فهو بنفسه شاهد للجمع بين الروايات.

مثل : رواية أبي عليّ البزّاز عن أبيه قال : سألت جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن الثوب يعمله أهل الكتاب أصلّي فيه قبل أن أغسله (٥)؟ قال : «لا بأس ، وإن يغسل

__________________

(١) راجع : الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢) منها ما في التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٦ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «غيرهم». والصحيح ما أثبتناه.

(٤) في ص ١٦٤.

(٥) في المصدر : «أن يغسل».

١٦٥

أحبّ إليّ» (١).

وكيف كان فلا شبهة في عدم الاكتفاء بمطلق الظنّ في إثبات النجاسة ، كما أنّه لا ينبغي الارتياب في عدم انحصار طريقه بالعلم ، بل تثبت بالاستصحاب ، لعموم أدلّته ، وحكومتها على الأدلّة المتقدّمة الدالّة على طهارة كلّ ما لا يعلم نجاسته ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

وحكي عن بعض الأخباريّين المنكرين لحجّيّة الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة الاعتراف بحجّيّة في مثل هذه الموارد ، وادّعاء كونه من ضروريّات الدين (٢).

وكذا تثبت بالبيّنة ، كما هو المشهور.

خلافا للمحكيّ عن ابن البرّاج في عبارته المتقدّمة (٣).

وحكي عن بعض المتأخّرين أيضا موافقته (٤).

ولا ريب في ضعفه ، فإنّ المتتبّع فيما دلّ على اعتبار البيّنة إذا أمعن النظر لا يكاد يرتاب في عدم مدخليّة خصوصيّات الموارد ـ التي ثبت اعتبار البيّنة فيها ـ في ذلك ، بل هي طريق شرعيّ تعبّديّ لم يلغها الشارع في شي‌ء من مواردها.

نعم ، اعتبر في بعض المقامات شهادة الأربعة ، أو كون الشاهدين رجلين ، وأمّا نفي اعتبارها رأسا فلم يعهد في الشرعيّات.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٩ / ٨٦٢ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول : ٥٥٧ عن المحدّث الأسترآبادي ، وانظر : الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

(٣) في ص ١٦٢.

(٤) حكاها عنه النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٤٧ ، وانظر : مفاتيح الشرائع ١ : ٧٨.

١٦٦

وما يقال من أنّه ليس فيما دلّ على حجّيّة البيّنة عموم يقتضي حجّيّتها في غير مورد الخصومات بحيث يعمّ مورد الكلام ، مدفوع : بأنّ اعتبارها في مورد الخصومات مع مقابلتها بقول ذي اليد ويده يدلّ على حجّيّتها في الموارد السالمة من المعارض بالأولويّة القطعيّة.

مضافا إلى ما أشرنا إليه من أنّ سوق الأدلّة يشهد بكون طريقيّة البيّنة لإثبات الموضوعات الخارجيّة من الأمور المسلّمة في الشريعة.

كما يرشدك إلى ذلك : ما رواه الكليني والشيخ (١) ـ عطّر الله مرقديهما ـ في الكافي والتهذيب بسنديهما عن الصادق عليه‌السلام في الجبن ، قال : «كلّ شي‌ء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» (٢).

أقول : قوله عليه‌السلام : «حتّى يجيئك شاهدان» إلى آخره ، كناية عن إحراز حرمة الشي‌ء بطريق معتبر.

وتخصيص الشاهدين بالذكر ـ مع أنّ حرمة الأشياء ربما تستكشف بالعلم وقد تثبت بالاستصحاب أو بإخبار ذي اليد أو غير ذلك ـ إنّما هو بلحاظ المورد الذي ينحصر طريق إحراز حرمته غالبا في البينة ، لكونها منافية لفعل صاحب اليد ، الذي يشترى منه الجبن ، وسنشير إلى أنّ حرمة مثل ذلك لا تثبت بغير البيّنة.

وفرض استكشاف حرمة الجبن الذي يباع في السوق ـ كما هو ملحوظ

__________________

(١) لا يخفي أنّ البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٢٤٦ ، والنراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٥٠ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ١٧٣ قد نسبوا الرواية إلى الشيخ ، ولم نعثر عليها في التهذيب ، كما أنّ الشيخ الحرّ العاملي نقلها أيضا في الوسائل عن الكافي فقط ، فلاحظ.

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٢.

١٦٧

السائل على الظاهر ـ بطريق علميّ فرض نادر ، ولذا خصّ البيّنة بالذكر ، كما أنّ تخصيص المشهود به بأنّ فيه ميتة ـ مع كون الكلام مسوقا لإعطاء ضابطة كلّيّة ـ إنّما هو بهذه الملاحظة ، فليتأمّل.

وكيف كان فالرواية تدلّ على أنّ حرمة الجبن ، المسبّبة عن نجاستها المكتسبة بطرح الميتة فيه تثبت بشهادة الشاهدين.

ويدلّ عليه أيضا ما رواه الكليني والشيخ قدس‌سرهما في الكتابين أيضا بسنديهما عن الصادق عليه‌السلام قال : «كلّ شي‌ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والعبد يكون عبدك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» (١).

وهذه الرواية بنفسها تشهد بصدق ما ادّعيناه آنفا من حكومة أدلّة الأمارات على الأدلّة الدالّة على أنّ العلم بنجاسة كلّ شي‌ء غاية للحكم بطهارته ، كما لا يخفى.

وهل تثبت النجاسة بإخبار عدل واحد أم لا؟ قولان ، حكي عن المشهور :العدم (٢).

وحكي عن بعض القول بالثبوت (٣).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٣١٤ / ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٩ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٢) نسبه إلى المشهور الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٣٨٢.

(٣) حكاه الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٣٨١ ـ ٣٨٢ عن العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠ ، الفرع الأوّل من المسألة ٢٦.

١٦٨

وهذا هو الأقوى ، بل الأظهر عدم اشتراط العدالة المصطلحة ، وكفاية كون المخبر ثقة مأمونا محترزا عن الكذب ، لاستقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقات في الحسّيّات التي لا يتطرّق فيها احتمال الخطأ احتمالا يعتدّ به لديهم ممّا يتعلّق بمعاشهم ومعادهم ، وليست حجّيّة خبر الثقة لدى العقلاء إلّا كحجّيّة ظواهر الألفاظ.

ومن هنا استقرّت سيرة المتشرّعة على أخذ معالم دينهم من الثقات ، ولم يثبت من الشارع ردعهم عن ذلك ، بل ثبت تقريرهم على ذلك ، كما تقرّر ذلك في الأصول عند البحث عن حجّيّة خبر الواحد.

ويشهد لذلك أيضا كثير من الأخبار الواردة في الأبواب المتفرّقة يقف عليها المتتبّع.

مثل : ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال فيه : «إنّ الوكيل إذا وكل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبدا ، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة أو يشافهه العزل عن الوكالة» (١).

وخبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، الدالّ على ثبوت الوصيّة بخبر الثقة.

قال : سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا ، فقال لي : إن حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقيّة الدنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق ، فقال : إنّه أمرني أن أقول لك : انظر الدنانير التي

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٤٩ ـ ٥٠ / ١٧٠ ، التهذيب ٦ : ٢١٣ / ٥٠٣ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب كتاب الوكالة ، ح ١.

١٦٩

أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدّق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين ، ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئا ، فقال : «أرى لك أن تصدّق منها بعشرة دنانير» (١).

والأخبار (٢) الدالّة على جواز الاعتماد في دخول الوقت على أذان الثقة العارف بالوقت.

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها كون العمل بقول الثقات أمرا مغروسا في الأذهان ممضى في الشريعة.

وهل تشترط حجّيّة قول الثقة بإفادته الوثوق بالفعل؟فيه وجهان ، لا يخلو ثانيهما عن وجه.

ثمّ إنّ اعتبار قول الثقة إنّما هو في غير مورد الخصومات ونظائرها ممّا كان معارضا بقول صاحب اليد أو منافيا لظاهر فعله ، فإنّه لا يعتبر في مثل هذه الموارد إلّا البيّنة ، ولذا لا يصحّ الاستشهاد بمفهوم الغاية في الروايتين المتقدّمتين (٣) اللّتين جعل فيهما قيام البيّنة على الحرمة غاية للحكم بحلّيّة الأشياء ، لما أشرنا إليه آنفا من أنّ تخصيص البيّنة بالذكر إنّما هو بلحاظ الأمثلة المذكورة فيهما ، فلم يقصد به الاحتراز عن سائر الأمارات المثبتة للحكم ، كإخبار ذي اليد ، أو الاستصحاب ونحوه.

هذا ، مع أنّ المراد بالاستبانة في الرواية الثانية ـ بحسب الظاهر ـ أعمّ من

__________________

(١) الكافي ٧ : ٦٤ ـ ٦٥ / ٢٧ ، التهذيب ٩ : ٢٣٧ / ٩٢٣ ، الوسائل ، الباب ٩٧ من أبواب كتاب الوصايا ، ح ١.

(٢) راجع : الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة.

(٣) في ص ١٦٧ و ١٦٨.

١٧٠

الاستكشاف العلمي أو بحجّة معتبرة ، وجعل البيّنة قسيما لها بلحاظ كونها طريقا تعبّديّا شرعيّا ، كما يشهد لذلك الأمثلة المذكورة في الرواية ، فإنّه لو لم تكن الاستبانة أعمّ ممّا يعمّ الاستصحاب ونحوه ، للزم بمقتضى الكلّية المذكورة في الرواية جواز تملّك العبد الذي يشكّ في رقّيّته ، وجواز التصرّف في الثوب المشكوك ملكيّته ، مع أنّ الأصل في الإنسان الحرّيّة وفي الأملاك حرمة التصرّف ، فالحلّيّة فيما هو مفروض الرواية نشأت من ادّعاء ذي اليد الذي انتقل منه العبد والثوب بعقد محكوم بصحّته بمقتضى الأصل ، لكن لمّا لم تكن يد المسلم ولا أصالة الصحّة موجبة للقطع بالحلّيّة الواقعيّة طرّد الإمام عليه‌السلام وأطلق كلامه بأنّ كلّ شي‌ء من الموضوعات الخارجيّة التي يبتلى به المكلّف ويتناوله من أيادي المسلمين وأسواقهم بحسب الغالب إذا تدبّر فيه الإنسان وجده مشتبه الحال بالنظر إلى حكمه الواقعي ، فبهذه الملاحظة يندرج في موضوع الكلّيّة المذكورة في صدر الرواية ، التي معناها أنّ كلّ شي‌ء محتمل الحرمة في الواقع محكوم بالحلّيّة في مرحلة الظاهر ما لم تثبت حرمته بحجّة معتبرة لدى الشارع ، فما كان من الأشياء مقتضى الأصل الأوّلي فيه الحرمة كالأموال ونحوها ، فما لم يقم على حلّيّته أمارة معتبرة ـ كالبيّنة ويد المسلم أو إخبار ذي اليد ونحوها ـ فهو ممّا ثبتت حرمته في مرحلة الظاهر بحكم الأصل ، وبعد قيام الأمارة المعتبرة على حلّيّته إن لم تكن الأمارة موجبة للقطع بالحلّيّة الواقعيّة ـ كما هو الغالب ـ اندرج في موضوع هذه الكلّيّة.

وكون الحلّيّة في هذه الموارد مستندة إلى الأمارة غير مناف لصدق الكلّيّة عليها بعد فرض تحقّق موضوعها ، وهو كونها محتملة الحرمة في الواقع ، فإنّ

١٧١

المقصود بالكلّيّة بيان أنّ الله تعالى منّ على عباده بأن وسّع عليهم الأمر ، ولم يوجب الاحتياط ، بل جعل كلّ شي‌ء حلالا حتّى تثبت حرمته بدليل معتبر.

وهذه قاعدة كلّيّة غير منتقضة في شي‌ء من مواردها ، غاية الأمر أنّ مستند الحكم بالحلّيّة في بعض مصاديقها نفس الشكّ ، وفي بعضها الآخر قيام الأمارة المقتضية للحلّيّة ، فليتأمّل.

وتثبت النجاسة أيضا بإخبار صاحب اليد على المشهور ، كما ادّعاه بعض (١) ، بل يظهر من غير واحد ـ على ما حكي (٢) عنهم ـ عدم الخلاف فيه.

وعمدة المستند في اعتبار قول ذي اليد هي السيرة القطعيّة ، واستقرار طريقة العقلاء على استكشاف حال الأشياء وتمييز موضوعاتها بالرجوع إلى من كان مستوليا عليها متصرّفا فيها.

وفي جملة من الأخبار إيماء إليه.

ولا يبعد أن يكون هذا مدرك القاعدة المعروفة التي ادّعي عليها الإجماع من أنّ «من ملك شيئا ملك الإقرار به» إذا الظاهر أنّ المراد بهذه القاعدة أنّ من كان مستوليا على شي‌ء ومتصرّفا فيه قوله نافذ بالنسبة إليه.

وكيف كان فربما يظهر من بعض الأخبار الواردة في العصير ـ المتقدّمة (٣) في محلّها ـ : عدم الاعتماد على قول صاحب اليد ، الذي يستحلّ العصير بذهاب نصفه عند إخباره بذهاب ثلثيه.

ولعلّه محمول على الاستحباب.

__________________

(١) كما في ذخيرة المعاد : ١٣٩ ، وعنها في مفتاح الكرامة ١ : ١٣١.

(٢) راجع : الحدائق الناضرة ٥ : ٢٥٢.

(٣) في ج ٧ ، ص ٢٠٠ ، وهي موثّقة معاوية بن عمّار.

١٧٢

ولا يبعد الالتزام به في خصوص مورده ، بل في كلّ مورد يكون ظاهر حال المخبر مكذّبا لقوله ، والله العالم.

(ويغسل الثوب والبدن) عدا محلّ الاستنجاء الذي تقدّم الكلام فيه في محلّه ، بالماء القليل (من البول مرّتين) إلّا من بول الرضيع الذي عرفت حاله ، وفاقا للمشهور ، كما في المدارك والحدائق (١) ، بل عن المعتبر نسبته إلى علمائنا (٢).

وحكي عن الشهيد في البيان الاكتفاء بمرّة ، فقال : ولا يجب التعدّد إلّا في إناء الولوغ (٣).

وعنه في الذكرى أنّه بعد أن اختار التثنية نسب إلى الشيخ في المبسوط عدم مراعاة العدد في غير الولوغ (٤).

وحكي عن العلّامة أنّه اكتفى في غسل البول بالمرّة إن كان جافّا (٥).

وربما استظهر (٦) من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها مطلقا.

حجّة المشهور : أخبار مستفيضة :

منها : رواية الحسين بن أبي العلاء ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٦ ، الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٦ و ٣٥٧.

(٢) حكاها عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٦ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ١٨٥ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٣) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٧ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ١٨٦ ، وانظر :البيان : ٤٠.

(٤) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٧ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٢٤ ، والمبسوط ١ : ٣٧.

(٥) حكاه عنه الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٦٤١ ، وانظر : قواعد الأحكام ١ : ٨ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٧٧.

(٦) المستظهر هو الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٦٤١.

١٧٣

يصيب الجسد ، قال : «صبّ عليه الماء مرّتين فإنّما هو ماء» وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : «اغسله مرّتين» وسألته عن الصبي يبول على الثوب ، قال : «تصبّ عليه الماء قليلا ثمّ تعصره» (١).

وصحيحة ابن أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الثوب ، قال : «اغسله مرّتين» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول ، قال : «اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» (٣).

وصحيحة محمّد بن مسلم أيضا عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن البول يصيب الثوب ، قال : «اغسله مرّتين» (٤).

ورواية أبي إسحاق النحوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن البول يصيب الجسد ، قال : «صبّ عليه الماء مرّتين» (٥).

والمرويّ في مستطرفات السرائر من جامع البزنطي ، قال : سألته عن البول يصيب الجسد ، قال : «صبّ عليه الماء مرّتين فإنّما هو ماء» وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : «اغسله مرّتين» (٦).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥ / ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ / ٧١٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب النجاسات ، ح ٤ ، والباب ٣ من تلك الأبواب ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٥١ / ٧٢٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٥١ / ٧٢١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٩ / ٧١٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٦) السرائر ٣ : ٥٥٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

١٧٤

وعن الفقه الرضوي : «وإن أصابك بول في ثوبك فاغسله في ماء جار مرّة ، ومن ماء راكد مرّتين ثمّ أعصره» (١).

ولا يعارضها ما في بعض (٢) الأخبار من إطلاق الأمر بغسل البول ، لوجوب تقييد الإطلاق بهذه الأخبار المقيّدة ، فالقول بكفاية الواحدة ضعيف.

وما يظهر من بعض (٣) الأخبار ـ الواردة في باب الاستنجاء ـ من كفاية الواحدة لا ينهض حجّة لإثبات هذا القول ، فإنّه على تقدير الالتزام بهذا الظاهر ـ كما هو الأظهر ـ وجب الاقتصار على مورده ، وتخصيص هذه الأخبار به ، لكونه أخصّ منها.

هذا ، مع إمكان دعوى انصراف هذه الروايات بنفسها عن غسل موضع النجو من النجاسة الخارجة منه ، فإنّ المتبادر منها إرادة النجاسة الخارجيّة الواصلة إلى الثوب والبدن.

وكيف كان فلم يعرف مستند يعتدّ به لهذا القول صالح لمعارضة ما سمعت.

ومن هنا قد يغلب على الظنّ أنّ مراد القائل بكفاية المرّة كفايتها بعد إزالة العين ، فيتّحد حينئذ مع القول الآخر المحكيّ عن العلّامة من التفصيل بين الجافّ وغيره (٤) ، بناء على أن يكون اعتبار التعدّد في غير الجافّ بلحاظ كون الغسلة

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٨ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام :٩٥.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٤ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٢٠ ، ذيل ح ٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب أحكام الخلوة ، ح ٢.

(٤) راجع الهامش (٥) من ص ١٧٣.

١٧٥

الأولى لمجرّد الإنقاء وإزالة العين من دون أن يكون لها دخل في التطهير الشرعيّ ، فلا يعتبر فيها شرائط التطهير ، بل ولا كونها بالماء المطلق.

وكيف كان فالذي يصلح أن يكون مستندا لذلك دعوى أنّ المنساق إلى الذهن من الأمر بصبّ الماء على البول وغسله مرّتين كون أولاهما للإزالة من دون أن يكون لها دخل في التطهير ، فالغسلة المطهّرة إنّما هي الغسلة الأخيرة.

كما يشهد لذلك رواية الحسين بن أبي العلاء ، المتقدّمة (١) على ما رواه في محكيّ المعتبر والذكرى (٢) بزيادة قوله : «مرّة للإزالة ، والثانية للإنقاء» بعد قوله عليه‌السلام : «اغسله مرّتين» فعلى هذا تكون هذه الرواية مفسّرة للأخبار الآمرة بالغسلتين ، ويتجه حينئذ اختيار القول الثالث.

لكن صرّح غير واحد بخلوّ كتب الأخبار من هذه الزيادة ، كصاحب الحدائق وغيره (٣).

ففي الحدائق قال : وهذه الزيادة لا وجود لها في شي‌ء من كتب الأخبار ، وقد صرّح أيضا بذلك الشيخ حسن في المعالم ، فقال ـ بعد نقل ذلك من الذكرى والمعتبر ـ : ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث ، الموجودة الآن بعد التصفّح بقدر الوسع (٤) ، انتهى.

فيحتمل قويّا كونها من كلام صاحب المعتبر ذكرها تفسيرا للرواية بحسب

__________________

(١) في ص ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٢) الحاكي عنهما هو الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٦٤٣ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٩ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ١٨٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ٤٣٥ ، والذكرى ١ : ١٢٤.

(٣) كالسبزواري في ذخيرة المعاد : ١٦١ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٤) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، وانظر : المعالم (قسم الفقه) : ٦٤٣.

١٧٦

اجتهاده.

لا يقال : إنّ ظاهر ما حكي عن الكتابين كونها من تتمّة الرواية ، فلا يرفع اليد عن هذا الظاهر بمجرّد عدم وجدانها فيما بأيدينا من الكتب.

لأنّا نقول : لا نلتزم بهذه المرتبة من الاعتبار للظواهر القابلة للخلاف ، بل ولا لقول الثقة بعد شهادة الأمارات بخطئه.

والحاصل : أنّه لا وثوق بهذه الفقرة ، بل المظنون عدم كونها من الرواية ، فيشكل الاعتماد عليها.

وأمّا دعوى أنّ المنساق إلى الذهن كون الغسلة الأولى لمجرد الإزالة ، ففيها : إنّها ناشئة من الحدس والتخمين ، إذ لا شاهد عليها من ألفاظ الرواية ، فهي غير مسموعة ، خصوصا مع أنّ غسل الثوب والبدن كثيرا مّا يقع بعد الجفاف وزوال العين ، فكيف تقبل دعوى من يدّعي انصراف إطلاقات الأخبار الآمرة بالغسل مرّتين عنه من غير شاهد ، فالأظهر ما هو المشهور من اعتبار المرّتين مطلقا.

وهل يختصّ ذلك بخصوص الثوب والبدن اللّذين ورد فيهما النصّ ، أم يعمّ مطلق ما أصابه البول؟

وجهان بل قولان ، اختار أوّلهما في الحدائق (١) ومحكيّ الذخيرة (٢) ، اقتصارا على مورد النصّ ، وأخذا بإطلاق الأمر بالغسل فيما عداه.

وحكي عن ظاهر جمع (٣) وصريح بعض التعميم (٤). ولا يبعد أن يكون

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٣٦٤.

(٢) حكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٦٣ ، وانظر : ذخيرة المعاد : ١٦٢.

(٣) الحاكي عن ظاهر هم هو الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٦٥٣.

(٤) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٦٣ ، وانظر : اللمعة الدمشقيّة : ١٧ ، والألفيّة : ٤٩ ، وجامع المقاصد ١ : ١٧٣.

١٧٧

هذا هو المشهور بين الأصحاب.

وتخصيص بعض الثوب والبدن بالذكر ـ كما في المتن ـ أو خصوص الثوب ـ كما عن المنتهى (١) ـ لا يدلّ على إرادة الاختصاص ، بل الظاهر جريه مجرى التمثيل.

وكيف كان فهذا هو الأظهر ، فإنّ الأحكام الشرعيّة لا تتقيّد بمواردها المنصوصة ، فكما يفهم من قوله عليه‌السلام : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (٢) نجاسة البول وانفعال كلّ شي‌ء به ، فكذلك يفهم من قوله عليه‌السلام : «اغسله مرّتين» أنّ نجاسته لا تزول إلّا بالغسل مرّتين.

نعم ، لو كان النصّ مخصوصا بالثوب ، لم يكن احتمال مدخليّة كونه ممّا يرسب فيه البول في اشتراط التعدّد بعيدا.

لكن لا يبقى مجال لهذا الاحتمال بعد ورود الأمر بغسل الجسد أيضا مرّتين ، فيستفاد من ذلك أنّ الأجسام الصلبة التي لا يرسب فيها البول أيضا يتوقّف تطهيرها منه على غسلها مرّتين.

واحتمال مدخليّة صدق اسم البدن أو الثوب في اشتراط العدد ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، إذ ليس كون الشي‌ء مصداقا للثوب أو البدن ـ على ما هو المغروس في أذهان المتشرّعة ـ من الخصوصيّات التي لها دخل في قبوله للانفعال أو التطهير ، ولذا استقرّت سيرتهم على استفادة الأحكام الكلّيّة من القضايا الشخصيّة الواردة فيهما ، ولا يتوهّم أحد فرقا في كيفيّة التطهير أو الانفعال بين الثوب أو

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ حسن في المعالم (قسم الفقه) : ٦٤٥ ، وانظر : منتهى المطلب ٣ : ٢٦٣.

(٢) الكافي ٣ : ٥٧ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

١٧٨

قطعة كرباس لا يندرج في مسمّاه عرفا ، فالقول بالاختصاص ضعيف.

وأضعف منه ما في المدارك (١) ومحكيّ المعالم (٢) من الاختصاص بخصوص الثوب ، وكفاية المرّة في غيره ولو في البدن بدعوى ضعف سند الروايات الآمرة بغسل البدن مرّتين ، وعدم اتّصافها بالصحّة.

ويدفعها ـ بعد تسليم ضعف السند والغضّ عن استفاضتها واعتضاد بعضها ببعض وتوصيف بعض لبعضها بالصحّة ـ أنّ ضعفها مجبور بعمل الأصحاب ، فلا ينبغي الارتياب في الحكم مع أنّه أحوط.

تنبيهات :

الأوّل : أنّ الغسل مرّتين إنّما هو فيما إذا كان بالماء القليل ، دون الكرّ والجاري ، فإنّه يكفي فيهما الغسل مرّة ، كما عن المشهور (٣) ، بل بلا خلاف فيه في الأخير ، كما يظهر من بعض (٤).

ويدلّ على كفاية المرّة في الجاري قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن مسلم ، المتقدّمة (٥) : «فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة».

وربما يستظهر من ذلك كفاية المرّة في الكرّ أيضا بدعوى أنّ المنساق إلى الذهن كون هذه القضيّة بمنزلة التصريح بما أريد الاحتراز منه بالتقييد الواقع في القضيّة الأولى ، أعني قوله : «اغسله في المركن مرّتين» والمتبادر من هذه القضيّة

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٢) الحاكي عنه هو البحراني في الحدائق الناضرة ٥ : ٣٥٨ ، وانظر : المعالم (قسم الفقه) : ٦٤٦.

(٣) نسبه إلى المشهور السبزواري في ذخيرة المعاد : ١٧٨.

(٤) راجع : جواهر الكلام ٦ : ١٩٥.

(٥) في ص ١٧٤.

١٧٩

بقرينة المقابلة ليس إلّا إرادة المرّتين عند غسله بالماء القليل ، كما هو لازم كونه في المركن عادة ، فمفهومه كفاية المرّة عند غسله بغير الماء القليل ، سواء كان جاريا أو كرّا ، وتخصيص الجاري بالذكر لنكتة الغلبة أو نحوها.

وفيه نظر ، بل الظاهر كون الشرطيّة بمنزلة الاستدراك لا التصريح بمفهوم القيد ، فالرواية ساكتة عن حكم الغسل بالكرّ. ولعلّ النكتة فيه ندرة الابتلاء به في محلّ صدور الأخبار.

نعم ، المناسبة بين الكرّ والجاري توجب استشعار كفاية الواحدة في الكرّ من مثل هذه العبارة ، لا ظهورها فيها.

ويشهد للمدّعى أيضا عبارة الرضوي ، المتقدّمة (١).

ويدلّ على كفاية المرّة في الكرّ : المرسل المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام مشيرا إلى غدير ماء : «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا وطهّره» (٢) المجبور ضعفه بالعمل.

والنسبة بينه وبين ما دلّ على اعتبار المرّتين في البول وإن كان عموما من وجه لكن ظهور المرسل بالنسبة إلى مورد الاجتماع أقوى ، لدلالته عليه بالعموم.

وأمّا أخبار المرّتين : فأغلبها بنفسها منصرفة إلى إرادة الغسل بالماء القليل ، وبعضها ـ كصحيحة (٣) ابن أبي يعفور ـ وإن كان ظاهرا في الإطلاق لكن لا يكافئ ظهورها في الإطلاق ، لأصالة العموم ، خصوصا مع تطرّق الوهن إليها بالنسبة إلى الجاري الذي علم عدم اعتبار العدد فيه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في ص ١٧٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٢٨ ، الهامش (٢).

(٣) تقدّم تخريجها في ص ١٧٤ ، الهامش (٢).

١٨٠