مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

فليس لأحد إلزام المحدّث الكاشاني وغيره ـ ممّن أنكر السراية ـ بمخالفته للإجماع ، ضرورة أنّه لم يحصل له القطع بالحكم من اتّفاق العلماء ، وإلّا لتبعهم ، فإنّ القاطع مجبول على اتّباع قطعه ، كما هو واضح.

نعم ، قد يتوجّه على من يخالف الإجماع ويتفرّد بالقول : الطعن باعوجاج السليقة وانحراف الطريقة.

لكنّه غير مجد في جواز اتباعهم ما لم يعتقد المخالف انحرافه عن الطريقة في خصوص المورد.

هذا ، مع أنّ الطعن في غير محلّه إذا كان تردّده في الحكم ناشئا عن التفاته إلى أسباب عقلائيّة موجبة للتشكيك ، كما فيما نحن فيه ، فإنّ في المقام شبهات لا بدّ إمّا من حلّها أو الالتزام بعدم السراية.

الأولى (١) : أنّه لو كان المتنجّس منجّسا مطلقا ـ كما هو معقد إجماعاتهم المحكيّة ـ للزم نجاسة جميع ما في أيدي المسلمين وأسواقهم ، ولتعذّر الخروج من عهدة التكليف بالتجنّب عن النجس ، والتالي باطل بشهادة العقل والنقل ، فكذا المقدّم.

بيان الملازمة : أنّا نعلم أنّ أغلب الناس لا يتحرّزون عن النجاسات ، ويخالطون غيرهم ، فيستوي حال الجميع ، لقضاء العادة بأنّه لو لم يتحرز شخص ولو في أقصى بلاد الهند من نجاسة في قضيّة واحدة وخالط الناس ، لسرت النجاسة إلى جميع البلاد بمرور الدهور إلى أن استوعبت ووصلت إلى بيوتنا

__________________

(١) أي الأولى من الشبهات المشار إليها آنفا.

٢١

فضلا عن أنّ جميع من في العالم ـ عدا من شذ منهم ـ لا يتحرّزون عن النجاسات ، فمقتضاه أن يكون لكلّ شي‌ء ممّا في أسواق المسلمين من مثل الدهن والسمن ممّا نبتلي به بل لكلّ شي‌ء ممّا بأيدينا من أثاث بيوتنا أسباب لا تتناهى لنجاسته.

وربما اعترف جملة من الناس بعلمه بنجاسة جميع ما يصنع من المطعوم والمشروب ونحوهما في أسواق مثل بغداد من البلاد التي يختلط فيها الخاصّة والعامّة واليهود والنصارى وغيرهم ، ولا يتحرّز بعضهم عن مساورة بعض ، وغفل عن أنّه إذا أمعن النظر لرأي عدم الفرق بينه وبين أثاث بيته ، ولذا ترى جلّ الأشخاص الملتفتين إلى بعض هذه المقدّمات لا زال يصرّحون بأنّه لو لا البناء على الإغماض والمسامحة في أمر النجاسة ، لتعذّر الخروج من عهدة التكليف بالاجتناب عنها ، ومن ابتلى بتربية طفل غير مميّز أو ابتلى في واقعة بنجاسة غفل عن تطهيرها ولم يفطّن إلّا بعد أن خالط الناس ، لأذعن بذلك من غير أن يحتاج إلى تمهيد مقدّمات بعيدة.

ومن زعم أنّ هذه الأسباب لا تؤثّر في حصول القطع لكلّ أحد بابتلائه في طول عمره بنجاسة موجبة لتنجيس ما في بيته من الأثاث مع إذعانه بأنّ إجماع العلماء على حكم يوجب القطع بمقالة المعصوم ، لكونه سببا عاديّا لذلك ، فلا أراه إلّا مقلّدا محضا لا يقوى على استنتاج المطالب من المبادئ المحسوسة فضلا عن أن يكون من أهل الاستدلال.

فلا ينبغي الارتياب في أنّه لو سرت النجاسة بالوسائط لعمّت على وجه يتعذّر التجنّب عنها فضلا عن أن يكون منافيا لعمومات نفي الحرج ، والتوسعة في

٢٢

الدين.

ودعوى أنّ أدلة نفي الحرج ونحوها لا تنفي السراية في الفرض ، وإنّما تنفي التكليف بالاجتناب عن النجس في مواقع الحرج ، فلا مانع من الالتزام بكون ما بأيدينا نجسا معفوّا عنه ، فاسدة جدّا لا يهمّنا الإطالة في إبطالها ، فالحقّ أنّ هذه المرتبة من السراية ممّا لا يمكن الالتزام به.

ويشهد لبطلانه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ رواية أبي الجارود ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟ فما علمت فيه ميتة فلا تأكله» (١) الحديث ، فإنّه لو كانت النجاسة مسرية بالوسائط ، لكان جعل الميتة في الجبن في مكان واحد سببا عاديّا لتحريم جميع ما في الأرض ، فلم يكن وقع لاستيحاش الإمام عليه‌السلام من ذلك.

الثانية (٢) : استقرار سيرة المتشرّعة خلفا عن سلف على المسامحة في الاجتناب عن ملاقيات المتنجّس في مقام العمل بحيث لو تعدّى أحد عن الطريقة المألوفة عندهم في اجتناب النجاسات ـ بأن اجتنب مثلا عن أبنية البلاد ، معلّلا بأنّ من عمّرها استعمل في تعميرها الآلات والأدوات التي لا زال يستعملها في تعمير الكنيف من غير أن يطهّرها ، أو اجتنب عن مساورة شخص ، معتذرا بأنّ هذا الشخص يساور أشخاصا لا يزالون يساورون الكفّار ويباشرون الأنجاس ـ يطعنه جميع المتشرّعة بالوسواس ، ويرونه منحرفا عن الطريقة المعروفة عندهم في

__________________

(١) المحاسن : ٤٩٥ / ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥.

(٢) أي الشبهة الثانية.

٢٣

اجتناب النجاسات.

مع أنّه ربما يتشبّث في إثبات مطلبه بمقدّمات محسوسة لا ينكرها عليه أحد ، ولو أرادوا إنكار شي‌ء من مقدّمات يتشبّثون باحتمالات سوفسطائيّة ممّا لا يعتني به عاقل في شي‌ء من حركاته وسكناته.

وربما ينقضون عليه بما هو أبده نجاسة من ذلك ، ويقولون : إذا تجتنب عن ذلك لم لا تجتنب عن الأجناس المنقولة من بلاد الكفر من المائعات والجوامد المصنوعة فيها ، أو لا تجتنب عن الدهن المشتري من أهل السواد الذين لا يتحرّزون عن النجاسات ، أو نحو ذلك؟ فهذه السيرة العملية تكشف عن عدم معهوديّة الاجتناب عن مثل هذه الأمور في الشريعة من صدر الإسلام ، بل المتأمّل في الأخبار وغيرها من الأمارات لا يكاد يرتاب في ذلك ولو مع قطع النظر عن السيرة ، بل لا مجال للتشكيك في أنّ أمر النجاسة لو لم يكن في عصر الأئمة عليهم‌السلام أوسع ممّا بأيدينا لم يكن أضيق من ذلك.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : هذا النحو من المسامحة وعدم الاعتناء بالمقدّمات البديهيّة الإنتاج ينافي إطلاق السراية وعموم وجوب الاجتناب عن كلّ نجس ، إذ لا يعقل أن يجعل الشارع ملاقاة المتنجّس سببا للتنجيس مطلقا ، وأوجب الاجتناب عن كلّ نجس ، ثمّ رخّص في ارتكاب مثل هذه الأمور التي لا زال يتوارد عليها أسباب النجاسة على وجه لا يشتبه على أحد لو لم يكن بناؤه على الإغماض والمسامحة.

اللهمّ إلّا أن تكون المسامحة في تشخيص الموضوع مأخوذة في

٢٤

موضوعيّته للحكم ، بأن أوجب الشارع ـ مثلا ـ الاجتناب عن النجس المعلوم بالمشاهدة أو بمقدّمات قريبة ، لا مطلق النجس ، أو جعل النجاسة اسما للأشياء المعهودة مقيّدة بكونها معلومة بالمشاهدة ونحوها ، أو غير ذلك من التوجيهات التي ليس الالتزام بشي‌ء منها أهون من إنكار السراية ، مع اشتراك الكلّ في مخالفته للإجماع.

وقد زعم صاحب الحدائق أنّ العلم بالنجاسة من مقوّمات موضوعها ، بمعنى أنّ النجس الشرعي اسم للنجس المعلوم ، وتخيّل أنّ هذا يجديه في حلّ بعض الإشكالات الواردة على السراية من نظائر ما عرفت.

واستشهد لذلك ببعض الأخبار المسوقة لبيان الحكم الظاهري.

مثل قوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (١) ونحو ذلك من الأخبار الدالّة عليه.

وأطال الكلام في إثبات مرامه ، إلى أن قال في آخر كلامه : ولم أقف على من تنبه لما ذكرناه من التحقيق في المقام من علمائنا الأعلام إلّا السيّد الفاضل المحقق السيّد نعمة الله الجزائري في رسالة التحفة حيث قال ـ بعد أن نقل عن بعض معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السؤر عن الناس ـ : ونقل عنهم أنّ من أعظم أدلّتهم قولهم : إنّا قاطعون أنّ في الدنيا نجاسات ، وقاطعون أيضا بأنّ في الناس من لا يتجنّبها ، والبعض الآخر لا يتجنّب ذلك البعض ، فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد باشرنا المظنون النجاسة أو مقطوعها ، إلى أن قال : فقلنا لهم : يا معشر

__________________

(١) الكافي ٣ : ١ / ٢ و ٣ ، التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، ح ٥.

٢٥

الإخوان إنّ الذي يظهر من أخبار الأئمّة الهادين التسامح في أمر الطهارات ، وإنّ الطاهر والنجس هو ما حكم الشارع بنجاسته وطهارته ، لا ما باشرته النجاسة والطهارة ، فالظاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر ، بل ما حكم الشارع بطهارته ، وكذا النجس ، وليس له واقع سوى حكم الشارع بنجاسته ، وقد حكم الشارع بطهارة المسلمين ، فصاروا طاهرين ، إلى أن قال : وبهذا التحقيق .. إلى آخر ما سيأتي نقله في المقام إن شاء الله (١). انتهى كلام صاحب الحدائق.

ثمّ ذكر تتمّة كلام المحدّث المتقدّم ، التي أشار إليها بعيد ذلك ، وهي هذه : وبهذا التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من أنّ من تطهّر بماء نجس ، فاستمرّ الجهل به حتّى مات فصلاته باطلة ، غايته عدم المؤاخذة عليها ، لامتناع تكليف الغافل ، ولو صحّ هذا الكلام ، لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة ، لكثرة النجاسة في نفس الأمر (٢). انتهى.

أقول : أمّا ما حقّقه المحدّث الجزائري فممّا لا أرى له محصّلا ، فإنّ أحدا لا ينكر توقّف النجاسة الشرعيّة على التوقيف الشرعي ، لكنّ الخصم يدّعي أنّه ثبت بالإجماع وغيره من الأدلّة أنّ الشارع حكم بنجاسة كلّ ما باشرته النجاسة ، فمتى أحرز موضوعه ـ كما في الفرض ـ يجب ترتيب حكمه عليه.

وهذا المحدّث بحسب الظاهر ليس منكرا للسراية رأسا حتّى يطالب خصمه بدليلها ، ولذا جعله صاحب الحدائق موافقا لنفسه ، فاعتراضه على الخصم لا يبعد أن يكون مبنيّا على توهّم كون العلم بالنجاسة من مقوّمات ماهيّتها ، كما

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٤٥ ـ ٢٥١.

(٢) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٦٣.

٢٦

توهّمه صاحب الحدائق ، لكن لم يقتصر هذا المحدّث على مجرّد ذلك حيث لم ينكر على خصمه ما ادّعاه من العلم بالسبب ، بل قرّره على ذلك ، واعترف في آخر كلامه باقتضاء إطلاق سببيّة الملاقاة للتنجيس بطلان جميع العبادات ، فكأنّه زعم أنّ العلم المأخوذ في الموضوع هو العلم الحاصل من الطرق المعتبرة شرعا لا مطلقا ، فهذا النحو من التقييد ـ أي تقييد العلم بحصوله من أسباب مخصوصة ـ وإن كان نافعا في التفصّي عن الإشكال ، دون ما زعمه صاحب الحدائق من تقييد الموضوع بمطلق العلم ، لحصول مطلقه في الفرض بمقدّمات غير قابلة للإنكار ، لكنّه أوضح بطلانا وأكثر مئونة من قول صاحب الحدائق ، الذي يتوجّه عليه ـ بعد الغضّ عن بعض ما فيه ، الذي من جملته مخالفته للإجماع ، كما اعترف هو بنفسه في آخر كلامه المتقدّم (١) حيث قال : ولم أقف على من تنبّه لما ذكرناه من التحقيق ، إلى آخره ـ :

أوّلا : أنّ تقييد موضوع النجاسة بالعلم بها ـ كما يظهر من عبارته ويقتضيه استدلاله بالأخبار التي تقدّمت الإشارة إليها ـ غير معقول ، فإنّه دور صريح ، وإنّما المعقول أخذ العلم بالموضوع الخارجي ـ كالملاقاة مثلا ـ إمّا مطلقا أو إذا كان حاصلا من سبب خاصّ ـ كالمشاهدة ونحوها ـ شرطا في تأثيره ، ودخيلا في موضوعيّته للحكم الشرعي ، بأن يقول الشارع مثلا : الملاقاة المعلومة بالمشاهدة أو مطلقا توجب نجاسة الملاقي ، كما أنّ من المعقول أن يجعل العلم بالنجاسة إمّا مطلقا أو إذا كان حاصلا من سبب خاصّ شرطا شرعيّا واقعيّا لترتّب الأحكام

__________________

(١) في ص ٢٥.

٢٧

الشرعيّة المجعولة لها من حرمة الأكل والشرب وتنجيس الملاقي وبطلان الصلاة الواقعة معها ووجوب إعادتها ، إلى غير ذلك من الآثار الشرعيّة ، فتنتفي الآثار واقعا عند انتفاء العلم.

وهذا بخلاف ما لو أطلق الشارع حكمه بسببيّة الملاقاة للتنجيس ووجوب الاجتناب عن كلّ نجس ، فإنّه وإن لم يجب على المكلّف على هذا التقدير أيضا الخروج من عهدة هذا الواجب ما لم يحرز موضوعه ، لكون العلم بالتكليف شرطا عقليّا في وجوب الامتثال ، لكنّ الجهل بالتكليف على هذا التقدير لا ينفي واقعة ، بل يجعل المكلّف معذورا في مقام الامتثال ، ولا يعقل أن يتصرّف الشارع في موضع هذا الحكم العقلي بأن يجعل العلم الحاصل من سبب خاصّ شرطا في وجوب الامتثال بعد فرض إطلاق حكمه الشرعي ، لرجوعه إلى التناقض ، كما تقرّر جميع ذلك في محلّه.

فملخّص الكلام : أنّ كون العلم بالنجاسة من مقوّمات موضوعها ـ كما التزم به صاحب الحدائق ـ أمر غير معقول ، إلّا أن يتكلف في تأويل كلامه بما يؤول إلى أحد التوجيهين المتقدّمين.

وثانيا : أنّ أخذ العلم قيدا في موضوع النجاسة مخالف لظاهر (١) جميع الأدلّة الدالّة عليها حتّى الأخبار التي تمسّك بها لمدّعاه من مثل قوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) فإنّ ظاهرها كونها مسوقة لبيان الحكم الظاهري ، وكون العلم بالموضوع طريقا لإحرازه ، لا شرطا في موضوعيّته.

__________________

(١) في «ض ١٠» : «لظواهر».

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٥ ، الهامش (١).

٢٨

وثالثا : أنّ هذا التكلّف ممّا لا يجديه في حلّ الإشكال المقتضي لوجوب التحرّز عن مساورة الناس ولزوم بطلان جلّ العبادات المشروطة بالطهور أو كلّها ، لأنّ الإشكال إنّما نشأ من فرض العلم بتحقّق النجاسة ، كما يدّعيه الخصم ، لا من شيوع الابتلاء بها في الواقع مع الجهل ، كغيره من المحرّمات التي نعلم إجمالا بابتلاء غالب المكلّفين بها ، ونحتمل كون ما نبتلي به من جملتها ، فإنّه لا يجب التجنّب عمّا نبتلي به ما لم يكن في خصوصه علم تفصيليّ أو إجماليّ بلا شبهة ، كما هو واضح.

فظهر بما ذكرنا أنّه لا يمكن التخلّص عن الإشكال بمثل هذه التوجيهات ، كما أنّه لا يمكن التفصّي عنه بإنكار حصول العلم لآحاد المكلّفين في موارد ابتلائهم ، لكونه مجازفة محضة لو لا ابتناؤه على الإغماض والمسامحة.

وقد أشرنا آنفا إلى عدم إمكان الالتزام بثبوت النجاسة واقعا في مثل هذه الموارد التي جرت السيرة على عدم التجنّب عنها ، وارتفاع التكليف عنها لمكان الحرج ، لاستلزامه مفاسد كثيرة لا يمكن الالتزام بشي‌ء منها ، كتجويز الوضوء والغسل بالماء النجس أو مع نجاسة البدن مع التمكّن من التيمّم أو تطهير البدن وغير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل.

وغاية ما يمكن أن يقال في التفصّي عن هذه الشبهة وسابقتها هو أنّ الموارد التي استقرّت فيها سيرة المتشرّعة على عدم التجنّب عن ملاقيات المتنجّس بالوسائط والمسامحة في أمرها ليست إلّا الموارد التي يكون الاجتناب عنها نوعا موجبا للحرج ، بل مؤدّيا إلى اختلال النظام ، ولا مانع من الالتزام بنفي

٢٩

الأثر للملاقاة في مثل هذه الموارد وثبوت العفو عنه وضعا وتكليفا ، لمكان الحرج ، وشهادة السيرة بذلك.

ولا يبعد أن يكون إطلاق كلمات الأصحاب ـ القائلين بكون المتنجّس منجّسا ـ منزّلا على غير هذه الموارد ، فليتأمّل.

الشبهة الثالثة : دلالة الأخبار المعتبرة ـ التي أشار إليها المحدّث الكاشاني في عبارته المتقدّمة (١) ـ على عدم السراية.

منها : موثّقة حنّان بن سدير ، قال : سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقال : إنّي ربما بلت فلا أقدر على الماء ويشتدّ

ذلك عليّ ، فقال : «إذا بلت وتمسّحت فامسح ذكرك بريقك ، فإن وجدت شيئا فقل : هذا من ذاك» (٢).

ورواية حكم بن حكيم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شي‌ء من البول فأمسحه بالحائط أو التراب ثمّ تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي ، قال : «لا بأس» (٣).

ورواية سماعة ، قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجي‌ء منّي البلل ما يفسد سراويلي ، قال : «لا بأس» (٤).

__________________

(١) في ص ١١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٠ / ٤ ، التهذيب ١ : ٣٤٨ / ١٠٢٢ ، و ٣٥٣ / ١٠٥٠ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٧.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥ ـ ٥٦ / ٤ ، الفقيه ١ : ٤٠ ـ ٤١ / ١٥٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧٢٠ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٤) التهذيب ١ : ٥١ / ١٥٠ ، الإستبصار ١ : ٥٦ / ١٦٥ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٤.

٣٠

ويحتمل قويّا جري هذه الرواية الأخيرة مجرى التقيّة.

وصحيحة العيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء ، فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه ، قال : «يغسل ذكره وفخذيه» وسألته عمّن مسح ذكره بيده ثمّ عرقت يده فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال : «لا» (١).

وربما يستدلّ بصدر هذه الصحيحة على القول المشهور.

وفيه ما لا يخفى بعد التصريح بعدم غسل الثوب في ذيلها ، واحتمال كون الواو في صدرها حاليّة ، أو كون الأمر بغسل الفخذين لرعاية الاحتياط بملاحظة غلبة بقاء جزء من البول على رأس الحشفة ، أو خروجه بعد المسح ، وغير ذلك من الاحتمالات المانعة من صلاحيّة معارضة الصدر لظهور الذيل في نفي الوجوب.

ويمكن الاستدلال له أيضا بجملة من الأخبار التي لا يهمّنا الإطالة في إيرادها.

وما يظهر من بعض من إنكار ظهور هذه الأخبار في المدّعى بإبداء احتمالات بعيدة مجازفة محضة.

نعم ، يتوجّه على الاستدلال بمثل هذه الروايات أنّها أخبار آحاد قابلة للطرح والتأويل ، وقد أعرض الأصحاب عن ظاهرها ، فيجب ردّ علمها إلى أهله ، ولا يجوز رفع اليد بواسطتها عن الحكم الذي انعقد الإجماع عليه ، كما هو واضح.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٣ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، والباب ٦ من تلك الأبواب ، ح ٢.

٣١

وممّا يقرّر الشبهات ويؤكّدها : خلوّ الأخبار عن التعرض لهذا الحكم ، مع قضاء العادة بأنّه لو كان المتنجّس منجّسا على الإطلاق ، لشاع التصريح به وبلوازمه في الأخبار ، ولكان من أهم المسائل التي يسأل عنها الرواة ما يتفرع على هذه المسألة ، مع أنّا لم نجد في الأخبار ما وقع فيها السؤال عن حكم ملاقيات المتنجّس ، عدا الأخبار ـ التي تقدّم بعضها ـ الدالّة على نفي البأس عنها.

ودعوى أنّ مغروسيّة الحكم في أذهانهم أغنتهم عن المسألة عن فروعها ، مدفوعة : بما نشاهد من حال العوام من أنّهم مع مغروسيّة السراية في أذهانهم لا زالوا يسألون عن فروعها التي يبتلون بها ، وكيف لا! مع أنّ كثيرا من فروعها العامّة الابتلاء ممّا يتحيّر فيها العقول ، فخلو الأخبار عن التصريح بهذا الحكم وعدم تعرّض السائلين للسؤال عن فروعها التي يعمّ الابتلاء بها ربما يورث القطع بعدم تحقّقه وعدم كون أمر النجاسة لديهم بهذه المرتبة من الضيق ، المعروفة عندنا.

والإنصاف أنّ ما قرّرناه من الشبهات وإن أمكن التفصّي عنها في الجملة ببعض التقريبات التي تقدّمت الإشارة إليها لكنّها مانعة من حصول القطع بمقالة المعصوم واستكشاف رأيه من اتّفاق العلماء بطريق الحدس خصوصا مع وهن الإجماع بمخالفة السيّد والحلّي ، فإنّه قد تمنع مخالفتهما من حصول الوثوق بمعروفيّة الحكم في عصرهم كمعروفيّته في هذه الأعصار ، فيغلب على الظنّ استقرار المذهب عليه في الأعصار المتأخّرة عن عصر الشيخ ، فلا يلزمه عادة وصول الحكم إليهم يدا بيد عن المعصوم ، أو عثورهم على دليل معتبر غير ما

٣٢

بأيدينا من الأدلّة ، لإمكان اتّكال جلّهم على قاعدة اللّطف ، التي لا نقول بها.

وكيف كان فقد أشرنا في صدر العنوان إلى أنّا لا نقول بحجّيّة اتّفاق العلماء من باب السببيّة أو الطريقيّة التعبّديّة ، وإنّما نقول بحجّيّته ، لكونه موجبا للقطع بمقالة المعصوم ، فمن حصل له القطع بذلك فلا اعتراض عليه ، ومن لم يحصل له القطع به فليس له اتّباع المجمعين.

وكون إجماعهم سببا عاديّا للقطع غير مجد بعد فرض التخلّف في خصوص المورد.

نعم ، لو اعتمدنا على قاعدة اللّطف أو قلنا بحجّيّة نقل الإجماع تعبّدا ، لم يكن مناص عن الالتزام بكون المتنجّس منجّسا فيما لم يكن منافيا لما استقرّت عليه السيرة العمليّة ، ومؤدّيا إلى الحرج الموجب لاختلال النظام ، لكنّا لا نقول بشي‌ء منهما ، ولم نجد من أنفسنا الجزم بمقالة المعصوم ، ولذا أشكل علينا تأويل الأخبار المتقدّمة أو طرحها من غير معارض مكافئ.

ومع ذلك لا نقوى على مخالفة الأصحاب والاستبداد بما نراه في مثل هذا الحكم الذي ربما يدّعى كونه ضروريّ المذهب ، فالحكم عندي موقع تحيّر وتردّد ، ولا جرأة لي في التخطّي عن الطريقة المعهودة لدى المتشرّعة المعتدلي الطريقة الذين لا يعدّون من أهل الوسواس وإن صعب عليّ تصوّر مناطه والإذعان به ، ولم يترجّح بنظري بالنظر إلى ما تقتضيه القواعد الاجتهاديّة إلّا ما تقدّمت (١) حكايته عن الحلّي.

__________________

(١) في ص ٧ وما بعدها.

٣٣

ولو سبقنا بعض مشايخنا المتأخّرين (١) إلى إنكار إطلاق كون المتنجّس منجّسا ، لجزمت بذلك ، إذ ليست مخالفة الأصحاب في هذه المسألة بأشكل من مخالفتهم في مسألة نجاسة البئر ، بل كانت مخالفتهم في تلك المسألة أشكل بمراتب ، لوضوح معروفيّة نجاسة البئر لدى المخالف والمؤالف من عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، ومغروسيتها في أذهان الرواة وغيرهم من العلماء ومقلّديهم ، دائرة على ألسنتهم وفي جميع كتبهم الفقهيّة حتّى ارتكزت في نفوس العوام على وجه لم يذهب أثرها إلى الآن ، ولذا كثيرا ما يسألون في موارد ابتلائهم عن حكم بئر ماتت فيها فأرة أو دجاجة أو غيرهما ، زاعمين نجاستها بذلك ، مع أنّ القول بها ـ على ما يظهر من بعض ـ قد نسخ منذ سنين متطاولة ربما تزيد عن ثلاثمائة سنة.

وأمّا هذه المسألة فلم نعثر على ما يشهد بمعروفيّتها على الإطلاق لدى

__________________

(١) قوله : «ولو سبقنا بعض مشايخنا المتأخّرين» إلى آخره.

أقول وأنا المصنّف لهذا الكتاب : ولقد عثرت بعد حين على كلام طويل للسيّد صدر الدين طاب ثراه ـ في حاشيته على المختلف ـ صريح في إنكار السراية من المتنجّسات مطلقا ، ونسبه كذلك إلى الحلّي وغيره ، ونقل عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس [مشارق الشموس : ٢٥٥] في مسألة الغسالة التأمّل في إثبات أن كلّ نجس منجّس بحيث يعمّ المتنجّسات ، وأطال الكلام في النقض والإبرام في إثبات مرامه ، من أراده فليراجع.

ولو تأمّلت فيما حرّرناه في تحقيق المقام ، لظهر لك أنّ ما ذهب إليه من إنكار السراية مطلقا حتى من المائعات الملاقية لأعيان النجاسات غير سديد ، وأنّ نسبته كذلك إلى الحلّي محلّ نظر.

ولكنّه قدس‌سره بعد أن ذكر حجج القائلين بالسراية قال ما لفظه : أقول : ما ذكرناه من حجج هذا القول من الأخبار إن سلّم دلالتها على تنجيس الملاقي للنجاسة لشي‌ء آخر ، فلا يمكن دعوى دلالتها على المراتب الأخر وإن ذهب لا إلى نهاية ، وإنّما التعويل فيها على الإجماع ، فتأمّل ولا تقلّد ، فإن اطمأنّت نفسك به فاحكم واعمل بمقتضاه ، وأمّا الاحتياط فحديث آخر. انتهى. (منه رحمه‌الله).

٣٤

المتشرّعة في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، بل ولا بين العلماء في الطبقة الأولى ، بل قد أشرنا فيما تقدّم (١) إلى أنّه ربما يشهد خلوّ الأخبار ـ سؤالا وجوابا ـ عن التعرّض لهذا الحكم ولفروعه بعدم معروفيّته لدى الرواة ، كما يشعر تعرّض الحلّي لتفصيل مواقع السراية وإنكار السيّد لها رأسا ـ على ما يقتضيه ظاهر عبارته المتقدّمة (٢) ـ بعدم كونها في عصرهم ـ كما نراها في هذه الأعصار ـ من المسلّمات ، وربما يستشمّ ذلك أيضا من عبارة الإسكافي ، الآتية (٣) في الفرع الآتي ، فمخالفتهم في هذه المسألة أهون ، ولكن منعتنا من ذلك وحشة الانفراد وكثرة عثرات المستبدّين بآرائهم ، ولنعم ما قيل : إنّ مخالفة المشهور مشكل ، وموافقتهم من غير دليل أشكل ، والله العالم بحقائق أحكامه.

و (تجب) بالوجوب الشرطي الذي يتبعه الوجوب الشرعي المقدّمي عند وجوب ذيها أصلا أو عارضا ، لا الوجوب النفسي ، كما لا يخفى على المتأمّل في أدلّته من النصوص والفتاوى (إزالة النجاسات) ) العينيّة والحكميّة مع الإمكان (عن الثياب) عدا ما ستعرف استثناءه من القلنسوة ونحوها (و) عن ظاهر (البدن للصلاة) الواجبة والمندوبة بلا خلاف فيه في الجملة.

والأخبار الدالّة عليه في غاية الكثرة ، فإنّ من أظهر أحكام النجاسات الشائعة في النصوص والفتاوى هو هذا الحكم.

__________________

(١) في ص ٣٢.

(٢) في ص ٨.

(٣) في ص ٣٦.

(٤) في الشرائع : «النجاسة».

٣٥

ولو كانت النجاسة ملاصقة لها مع عدم تأثّرها ، لم تجب الإزالة ، إلّا إذا منعنا من حمل النجاسة ، كما سيأتي (١).

وقليل النجاسة ككثيرها ـ عدا الدم الذي ستعرف العفو عمّا دون الدرهم منه ـ بلا خلاف فيه على الظاهر ، عدا ما حكي عن الإسكافي من أنّه قال : كلّ نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها مجتمعة أو متفرّقة دون سعة الدرهم الذي تكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك ، إلّا أن تكون النجاسة دم حيض أو منيّا ، فإنّ قليلهما وكثيرهما واحد (٢). انتهى.

وظاهره عدم حصول النجاسة بالمقدار المذكور لا العفو.

وعلى أيّ تقدير فلا يبعد أن يكون مستنده دعوى استفادته ممّا ورد في الدم ، نظرا إلى ما جرت سيرة الأصحاب ـ بواسطة معروفيّة المناط لديهم ـ على استفادة أحكام مطلق النجاسات من الأخبار الخاصّة الواردة في بعضها ، وإلّا فلم يعرف له مستند ، كما اعترف به غير واحد.

وكيف كان فهو ضعيف جدّا محجوج بإطلاق النصوص والفتاوى بل صريحهما.

ففي خبر الحسن بن زياد ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبول فيصيب بعض جسده قدر نكتة من بوله ، فيصلّي ثمّ يذكر بعد أنّه لم يغسله ، قال : «يغسله ويعيد صلاته» (٣).

__________________

(١) في ص ٣٩ وما بعدها.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلي في مختلف الشيعة ١ : ٣١٧ ، المسألة ٢٣٣.

(٣) الكافي ٣ : ١٧ ـ ١٨ / ١٠ ، التهذيب ١ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ / ٧٨٩ ، الإستبصار ١ : ١٨١ / ٦٣٢ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب النجاسات ، ح ٢ بتفاوت يسير.

٣٦

وخبر ابن مسكان ، قال : بعثت بمسألة إلى أبي عبد الله عليه‌السلام مع إبراهيم بن ميمون ، قلت : سله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلي ويذكر بعد ذلك أنّه لم يغسلها ، قال : «يغسلها ويعيد صلاته» (١).

ويدلّ عليه أيضا في بول الإنسان وفي بول غيره وفي غير البول أيضا ـ كالملاقي للكلب والميتة والخمر والفقّاع وغيرها ـ جملة من الأخبار المطلقة.

وأمّا المني : فيدلّ على عدم الفرق بين قليله وكثيرة ـ مضافا إلى إطلاقات الأدلّة ، وعدم الخلاف فيه حتّى من الإسكافي ـ خصوص خبر سماعة ، قال : سألته عن المني يصيب الثوب ، قال : «اغسل الثوب كلّه إذا خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا» (٢).

ويدلّ عليه بالخصوص في دم الحيض : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أو أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض ، فإنّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء» (٣).

ونظير قول الإسكافي في الضعف : ما حكي عن السيّد من العفو عن البول إذا ترشّش عند الاستنجاء مثل رؤوس الإبر (٤) ، فإنّه أيضا مع مخالفته للإطلاقات يردّه خصوص صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٥٤ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٢٧ ، الوسائل ، الباب ١٩ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٥٧ / ٧٤٥ ، الوسائل ، الباب ٢١ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٤) حكاه عنه العلامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٣٢ ، ذيل المسألة ٢٤٧ ، وانظر : رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٨٨.

٣٧

رجل يبول بالليل فيحسب أنّ البول أصابه ولا يستيقن فهل يجزئه أن يصبّ على ذكره إذا بال ولا يتنشّف؟ قال : «يغسل ما استبان أنّه قد أصابه ، وينضح ما يشكّ فيه من جسده وثيابه ، ويتنشّف قبل أن يتوضّأ» (١).

وخبري الحسن وابن مسكان ، المتقدّمين (٢) ، إلّا أن يدّعى انصراف الخبرين عن مثل الفرض ، فليتأمّل.

والمراد بالثياب التي تجب إزالة النجاسات عنها : مطلق ما يلبسه المصلّي ، وعدا ما ستعرف استثناءه وإن لم يندرج في مسمّاها ، بل ولا في مسمّى الملبوس عرفا ، فتشمل مثل قطعة كرباس أو جلد حصير ونحوها إذا تلبّس بها المصلّي وتستّر بها.

وكيف كان فالمعتبر في الصلاة إنّما هو طهارة ما يصلّى فيه ممّا يلبسه المصلّي ، سواء صدق عليه عرفا اسم اللباس والثوب أم لا.

ووقوع التعبير بالثوب في معظم النصوص والفتاوى المانعة من الصلاة في النجس بحسب الظاهر إمّا من باب التمثيل ، أو للجري مجرى العادة في مقام التعبير ، فإنّ من تدبّر في النصوص والفتاوى لا يكاد يرتاب في عدم مدخليّة خصوصيّة الثوب في الحكم ، وكون المناط كون ما تلبّس به في صلاته طاهرا وإن كان قطنا أو صوفا غير منسوج ملفوفا على جسده.

كما يشهد لذلك المستفيضة الآتية النافية للبأس عن الصلاة فيما لا تتمّ الصلاة فيه ، كالخفّ والجورب والتكّة والقلنسوة والكمرة والنعل وما أشبه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٤ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب أحكام الخلوة ، ح ١.

(٢) في ص ٣٦ و ٣٧.

٣٨

ذلك ، وقد عدّ الأصحاب منها الخاتم والدملج والخلخال والسيف والسكّين ، فإنّه يستفاد من تلك الأخبار كون ذلك من قبيل الاستثناء من كلّيّة المنع من الصلاة في النجس ، حيث يظهر منها أنّ وجه نفي البأس عن مثل هذه الأمور كونها ممّا لا تتمّ الصلاة فيها وحدها ، وإلّا لكان مقتضى المنع فيها موجودا مع عدم كون مثل هذه الأشياء خصوصا ما عدّه الأصحاب منها مندرجا في مسمّى الثوب عرفا.

ويؤيّده بل يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية [موسى بن أكيل النميري] (١) ، المتقدّمة (٢) الواردة في الحديد : «لا تصلّ في شي‌ء من الحديد فإنّه نجس ممسوخ» فإنّها تدلّ على عدم جواز الصلاة في النجس ، وأنّ مناط المنع هو صدق الصلاة في النجس.

ولا ينافيه ما عرفته في ما تقدّم من كون النهي في الرواية محمولا على التنزيه ، وكون المراد بالنجاسة مرتبة من الخباثة التي لا تبلغ حدّا يجب التنزّه عنه ، فإنّ ظاهرها سببيّة نجاسة الشي‌ء للنهي عن الصلاة فيه مطلقا ، لكن لمّا ثبت بدليل خارجي عدم بلوغ نجاسة الحديد حدّا يجب التجنّب عنه فهم من ذلك جواز مخالفة النهي في خصوص المورد ، فليتأمّل.

والحاصل : أنّ مناط المنع بحسب الظاهر صدق الصلاة في النجس بإرادة التلبّس به ، لا الظرفيّة الحقيقيّة.

ومن هنا قد يتخيّل مانعيّة الثوب الملفوف الكائن مع المصلّي ، وعدم جواز حمل النجس في الصلاة ، لصحة إطلاق الصلاة في النجس في الفرض ، كما

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجرية : «أبي بصير». والصواب ما أثبتناه.

(٢) في ج ٧ ، ص ٣٢٠.

٣٩

يشهد بذلك التتبع في موارد استعمال هذه الكلمة في الأخبار.

مثل : قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن بكير ـ الواردة في باب لباس المصلّي ـ : «فالصلاة في بوله وروثه وألبانه» (١) إلى آخره.

وقوله عليه‌السلام في خبر آخر : «لا تصلّ في منديل غيرك ، وصلّ في منديلك» (٢) وغير ذلك.

ويدفعه : أنّ الاستعمال مبنيّ على التوسعة والتجوز ، والمتبادر من الصلاة في الشي‌ء إمّا إرادة كون الشي‌ء مكانا للمصلّي ، أو إرادة ما يتلبّس به ، لا مطلق ما يصاحبه ، فلا يمكن استفادة حكم المحمول ممّا دلّ على المنع من الصلاة في النجس.

مع أنه ليس لنا إطلاق لفظيّ سالم من المناقشة فيه يدلّ على هذا المضمون ، فإنّ أظهر ما يدلّ عليه على الإطلاق إنّما هو رواية [موسى بن أكيل] (٣) المتقدّمة (٤) التي لا يخلو الاستدلال بها للمدّعى عن تأمّل.

وربما يستدلّ للمنع من حمل النجس : برواية قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العذرة فتهبّ الريح فتسفي (٥) [عليه من العذرة] فتصيب ثوبه ورأسه أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال :

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٧ / ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ / ٨١٨ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٢ / ٢٣ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٢.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «أبي بصير». والصواب ما أثبتناه.

(٤) في ج ٧ ، ص ٣٢٠.

(٥) سفت الريح التراب : إذا أذرته. الصحاح ٦ : ٢٣٧٧ «سفي».

٤٠