مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

عرفا ، كما في المثال الأخير ، إذ المراد به صيرورة الماء النجس جزءا من النبات والشجر ، لا مجرّد رسوبه فيهما بحيث أمكن إخراجه بعصر ونحوه باقيا على حقيقته الأولى.

ومن هذا القبيل ما إذا صار دم ذي النفس أو غيره من النجاسات جزءا من غير ذي النفس من لحمه أو عظمه أو دمه الطبيعي. وهذا النحو من الانتقال من أقسام الاستحالة ، فلا وجه لجعله قسيما لها.

وقد عرفت حكمها من أنّها توجب الحكم بطهارة المستحيل مطلقا من غير فرق بين مواردها ، ولا بين كون ما أحيل نجسا أو متنجّسا.

وقد لا يكون الانتقال موجبا للاستحالة ، بل الموضوع بنظر العرف باق على حقيقته الأصليّة ، ولكنّه موجب لانقلاب النسبة وإضافة الشي‌ء المنتقل إلى المحلّ المنتقل إليه مسلوبا إضافته عمّا كان مضافا إليه قبل الانتقال ، كدم الإنسان ، المنتقل إلى جوف البقّ والبرغوث ونحوهما قبل أن يستحيل ، فإنّه بمجرّد الانتقال يسمّى عرفا دم البق ، ولا يسمّى دم الإنسان إلّا بعلاقة ما كان.

ويحتمل أن تكون إضافته إلى الإنسان أيضا كإضافة ما في المحجمة إليه على سبيل الحقيقة ، إذ لا تنافي بين الإضافتين ، فما في جوف البقّ بمنزلة ما لو جعل عظم إنسان جزءا من حائط ، فإنّه يصدق عليه أنّه عظم إنسان ، ويصدق عليه أنّه جزء من الحائط ، فهذا الدم أيضا يصدق عليه أنّه دم إنسان بلحاظ أصله ، ويصدق عليه دم البقّ بلحاظ صيرورته جزءا منه بنظر العرف.

لكنّ الأظهر كون إضافته إلى الأوّل مجازا ، وإلى الثاني حقيقة ، لصحّة

٣٠١

السلب في الأوّل ، وعدمها في الثاني بشهادة العرف.

وكيف كان فنقول في توضيح المقام ، إنّه إذا تغذّى حيوان ممّا لا نفس له بدم إنسان ، أو غيره من النجاسات ، واستقرّ في جوفه قبل أن تتصرّف فيه معدته وتحيله إلى أجزائه وفضلاته على وجه عد عرفا شيئا آخر غير ذلك الدم الذي دخل في جوفه ، فإن لم يوجب الانتقال إضافته إلى ذلك الحيوان إضافة حقيقيّة بأن يعدّ عرفا من دمه ، كما لو شرب سمكة أو نحوها من دم إنسان وبقي ذلك الدم بعينه في جوفه ، فإنّه لا يطلق عليه دم السمك ، بل يصحّ السلب عنه ، وإضافته إلى الإنسان ، ففي مثل الفرض لا أثر للانتقال ، بل الدم باق على ما كان عليه من النجاسة ، لا لأجل الاستصحاب ، بل لعموم ما دلّ على نجاسة دم الإنسان ، الشامل بإطلاقه لمثل الفرض.

وكذلك الكلام فيما لو شكّ في تحقّق الإضافة إلى المنتقل إليه مع القطع بصحّة إضافته إلى الإنسان.

ومع الشكّ فيها أيضا حكم بنجاسته لأجل الإطلاق ، لكن بعد إحراز موضوعه بالاستصحاب ، فالمرجع على تقدير الشكّ في بقاء إضافته إلى الإنسان هو استصحاب إضافته ، فيفرّع عليه حكمه.

وإن أوجب الانتقال صحّة إضافته إلى المنتقل إليه ، فإمّا أن تصحّ إضافته إلى الإنسان أيضا ، أو يشكّ في ذلك ، أو يعلم بعدمه.

فإن علم عدمه وكان لنا دليل مطلق دالّ على طهارة دم ذلك الحيوان أو مطلق أجزائه بحيث عمّ مثل هذا الدم الغير الطبيعي الموجود في جوفه ، يرجع إلى

٣٠٢

ذلك الدليل.

وإن علم بصحّة الإضافة وبقاء صفته السابقة أيضا ، وقعت المعارضة بين هذا الدليل وبين ما دلّ على نجاسة دم الإنسان ، فحينئذ يعمل على ما تقتضيه قاعدة المعارضة من تقديم ما هو الأظهر دلالة بالنسبة إلى مورد الاجتماع ، وعلى تقدير المكافئة من حيث الدلالة ، فالمرجع ـ على ما هو التحقيق في مثل المقام الذي تكون المعارضة بالعموم من وجه ـ هو الأصول العمليّة التي ستعرفها.

وكذلك الكلام مع الشكّ في بقاء الصفة ، لما عرفت من جريان الأصل الموضوعي ، فيكون مشكوك البقاء بمنزلة معلومه ، ولا يستلزم ذلك جعل الاستصحاب معارضا للدليل ، كما قد يتوهّم ، فإنّ المعارضة لم تتحقّق إلّا بين الدليلين ، ولكن موضوع أحدهما أحرز بالأصل ، ولا ضير فيه.

وإن لم يكن لنا دليل اجتهاديّ مطلق ، وقلنا بأنّ ما دلّ على طهارة دم غير ذي النفس وأجزائه ينصرف عن ذلك ، فمع العلم ببقاء إضافته السابقة حكم بنجاسته ، لإطلاق ما دلّ على نجاسة دم الإنسان ، ولو نوقش في الإطلاق ، جرى استصحابها ، ومع الشكّ في بقاء الإضافة استصحبت ، وحكم أيضا بنجاسته ، للإطلاق بعد إحراز موضوعه بالاستصحاب.

وعلى تقدير الخدشة في الإطلاق أو فرض الكلام في مورد لم يكن لنا دليل لفظيّ مطلق أشكل الحكم بنجاسته لو احتملنا اختصاصها بما إذا لم ينتقل الدم إلى جوف حيوان ، فإنّ استصحاب بقاء الإضافة لا يكفي في الحكم بالنجاسة في الفرض ، إذ المفروض أنّ النجاسة لم تثبت لدم الإنسان على الإطلاق ، بل ثبتت

٣٠٣

له في الجملة ، واستصحاب نجاسته السابقة فرع إحراز كونه دم الإنسان ، واستصحاب الموضوع ـ أعني كونه دم الإنسان ـ لا ينفع في جريان استصحاب الحكم ، كما تقرّر في محلّه.

لكنّ الإشكال مبنيّ على القول بعدم الرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الاستصحاب ، وإلّا فلا شبهة في مساعدة العرف على بقاء الموضوع في الفرض ، فلا مانع من جريان استصحاب الحكم ، كما في الفرض الآتي ، وهو ما لو أضيف إلى ما انتقل إليه حقيقة ، وصحّ سلب إضافته عن الإنسان ، لكن لم يكن دليل اجتهاديّ دالّ على طهارة دم الحيوان الذي أضيف إليه إمّا لانصراف ما دلّ على طهارة دم ما لا نفس له أو مطلق أجزائه عن مثل هذا الدم الغير الطبيعي المستقرّ في جوفه ، أو لكونه من الشبهات المصداقيّة التي لا يتمسّك فيها بالعمومات ، كالحيّة التي وقع الكلام في أنّ لها نفسا سائلة أم لا.

فإن قلنا بالرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الاستصحاب ـ كما هو التحقيق ـ جرى الاستصحاب ، وحكم بنجاسته ، إذ المفروض كونه بعد الانتقال لدى العرف بعينه ذلك الدم الذي حكم بنجاسته عند إضافته إلى الإنسان ، فيقال عرفا : إنّ هذا الدم حين إضافته إلى الإنسان كان نجسا ، وبعد سلب الإضافة عنه شكّ في بقاء حكمه ، فليستصحب.

وإن قلنا بأنّ المرجع في تشخيص الموضوع هو العقل أو عناوين الأدلّة المتلقّاة من الشرع ، لم يجر ، لتبدّل الموضوع ، فيحكم حينئذ بطهارته ، لقاعدتها.

فظهر لك بما ذكرنا حكم جميع صور الانتقال ، واتّضح أنّ مقتضى القاعدة

٣٠٤

بقاء المنتقل على ما كان من الطهارة والنجاسة والحلّيّة والحرمة ما لم تتحقّق الاستحالة ، إلّا أن يدلّ دليل اجتهاديّ سالم من المعارض على خلافه ، وقد نفي البأس عن دم البراغيث والبقّ وأشباههما في جملة من الأخبار :

منها : مكاتبة محمّد بن الريّان ، قال : كتبت إلى الرجل عليه‌السلام : هل يجري دم البقّ مجرى دم البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس دم البقّ على البراغيث فيصلّي فيه وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقّع عليه‌السلام «تجوز الصلاة ، والطهر [منه] أفضل» (١).

وخبر غياث عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام ، قال : «لا بأس بدم البراغيث والبقّ وبول الخشاشيف» (٢).

وصحيحة ابن أبي يعفور ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : «ليس به بأس» قلت : إنّه يكثر ويتفاحش ، قال : «وإن كثر» (٣).

ورواية الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن دم البراغيث في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال : «لا» (٤).

ولا ريب في شمول دم البقّ والبراغيث وأشباههما للدم المجتمع في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٠ / ٩ ، التهذيب ١ : ٢٦٠ / ٧٥٤ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب النجاسات ، ح ٣ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) التهذيب ١ : ٢٦٦ / ٧٧٨ ، الإستبصار ١ : ١٨٨ / ٦٥٩ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب النجاسات ، ح ٥ ، وكذا الباب ٢٣ من تلك الأبواب ، ح ٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤٠ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١١ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٥٩ ـ ٦٠ / ٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٩ / ٧٥٣ ، الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب النجاسات ، ح ٧ ، وكذا الباب ٢٣ من تلك الأبواب ، ح ٤.

٣٠٥

جوفها الذي كثيرا ما يصيب الثوب أو البدن عند قتلها أو قذفها له ، بل هذا هو القدر المتيقّن الذي ينسبق إلى الذهن إرادته من الروايات ، دون دمها الأصلي ويدلّ على طهارة ما انتقل إلى جوف البقّ والبرغوث ونحوهما من دم الإنسان ونحوه : استقرار السيرة على عدم التجنّب عنه ، فلا ريب فيه ، والله العالم.

وأمّا الإسلام : فلا شبهة في كونه موجبا لارتفاع نجاسة الكفر. وهل يقبل الإسلام من المرتدّ الفطريّ ) أم لا يقبل؟ فيه خلاف ، نسب إلى ظاهر المشهور وصريح جملة منهم : العدم (٢).

وعن جماعة من المتأخّرين القبول مطلقا (٣).

وقيل : يقبل باطنا لا ظاهرا (٤).

وعن ظاهر بعض (٥) : التفصيل بين إنكار الشهادتين أو إحداهما ، وبين إنكار شي‌ء من الضروريّات ، فلا يقبل في الأوّل ، ويقبل في الثاني.

وعن آخر التفصيل بين ما يتعلّق بعمل نفسه وبالنسبة إلى ما يتعلّق بالغير ، فبالنسبة إلى نفسه يعامل معاملة المسلم ، فيبني على طهارة بدنه وصحّة وضوئه وغسله ، فيصلّي ويصوم ، وبالنسبة إلى الغير فهو نجس العين (٦) ، بل لا يظنّ بأحد

__________________

(١) في «ض ١٠ ، ١١» زيادة : «الذّكر».

(٢) نسبه إلى المشهور الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١٣ : ٣٥ ، وكذا السبزواري في ذخيرة المعاد : ٣٨٣.

(٣) نقل القول المذكور عن ابن الجنيد ، كما في الحدائق الناضرة ١١ : ١٥.

(٤) مسالك الافهام ١٣ : ٣٥ ، الحدائق الناضرة ١١ : ١٥.

(٥) لم نتحقّقه ، وانظر : كشف الغطاء : ١٨٣.

(٦) لم نعثر على قائله ، وقوّاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٢٩٨.

٣٠٦

من القائلين بعدم القبول الالتزام بجواز تركه للصلاة والصوم وغيرهما من الأشياء المشروطة بالطهور ، التي تعذّرت في حقّه بناء على كفره ونجاسته ، ولذا جعل القائلون بالقبول كونه مكلّفا بالعبادات المشروطة بالطهور من أقوى أدلّتهم عليه.

والحقّ : قبول إسلامه ظاهرا وباطنا بلا شائبة ارتياب فيه.

والدليل عليه أمران :

الأوّل : صدق المؤمن عليه بعد أن آمن بالله وبرسوله ، وصدّق رسوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ما أنزله الله تعالى عليه ، واعترف بذلك وتديّن به ، لغة وعرفا وشرعا.

أمّا الأوّلان : فواضح.

وأمّا شرعا : فلما عرفت عند التكلّم في كفر منكر الضروريّ من تحديد الإيمان في الأخبار المعتبرة بذلك.

ولا ينافيه ما في جملة من الأخبار من أنّ المرتد الفطريّ يقتل ولا يستتاب.

كصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المرتدّ ، فقال : «من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إسلامه فلا توبة له ، وقد وجب قتله ، وبانت منه امرأته ، ويقسم ما ترك على ولده» (٢).

ورواية عمّار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّدا نبوّته وكذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلك منه ، و

__________________

(١) في «ض ١٠» : «رسول الله».

(٢) الكافي ٧ : ٢٥٦ / ١ ، التهذيب ١٠ : ١٣٦ / ٥٤٠ ، الإستبصار ٤ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ / ٩٥٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٢.

٣٠٧

امرأته بائنة منه يوم ارتدّ ، ويقسم ماله على ورثته ، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه» (١).

وخبر الحسين بن سعيد ، قال : قرأت بخطّ رجل إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : رجل ولد على الإسلام ثمّ كفر وأشرك وخرج من الإسلام هل يستتاب أو يقتل ولا يستتاب؟ فكتب «يقتل» (٢).

فإنّ المراد بهذه الروايات على الظاهر عدم قبول توبته بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة الدنيويّة المسبّبة عن كفره ، لا عدم قبولها في الواقع بينه وبين الله تعالى بالنسبة إلى ما يتعلّق بأمر الآخرة.

هذا ، مع أنّ عدم قبول توبته معناه أنّ ندامته على كفره الصادر منه غير موجبة لمحوه وصيرورته كالعدم ، وهذا لا يقتضي عدم قبول إسلامه الذي سيصدر منه فيما بعد ، غاية الأمر أنّ إسلامه اللاحق لا يوجب الجبّ عمّا سبقه ، كما يوجبه في غير المرتدّ.

نعم ، مقتضاه أن لا يكون مجرّد إظهاره للندامة والاستغفار الذي يتحقّق به التوبة كافيا في صيرورته مسلما ، بل عليه أن يجدّد إسلامه بإظهار الشهادتين بعد التوبة على تأمّل.

والحاصل : أنّ عدم قبول التوبة لا ينافي الإسلام.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ / ١١ ، التهذيب ١٠ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / ٥٤١ ، الإستبصار ٤ : ٢٥٣ / ٩٥٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٣.

(٢) التهذيب ١٠ : ١٣٩ / ٥٤٩ ، الإستبصار ٤ : ٢٥٤ / ٩٦٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب حدّ المرتدّ ، ح ٦.

٣٠٨

ودعوى استلزام عدم القبول للخلود في النار ، وهو ينافي الإسلام ، مدفوعة : بأنّ المسلّم إنّما هو خلود من مات كافرا ، لا مطلق من كفر بحيث عمّ مثل الفرض.

وبما ذكرنا ظهر أنّ نسبة القول بعدم قبول إسلام المرتدّ الفطري إلى المشهور لا تخلو عن نظر ، فإنّهم ـ على ما حكي (١) عنهم ـ لم يصرّحوا إلّا بعدم قبول توبته ، وهو لا يدلّ على المدّعى ، بل لا يبعد أن يكون مقصودهم عدم قبولها بالنسبة إلى بعض الآثار ـ التي تقدّم التنبيه عليها في النصوص المتقدّمة ـ في مقابل العامّة وابن الجنيد (٢) من الخاصّة حيث حكي عنهم القول بقبول توبته مطلقا ، وعدم الفرق بينه وبين المرتدّ الملّي ، والله العالم.

الثاني : ما تقدّمت الإشارة إليه من أنّه لا ينبغي الارتياب في كونه مكلّفا بالإسلام وبشرائعه ، وهذا يدلّ على كونه ممكنا في حقّه ومجزئا عنه.

ودعوى أنّ التكليف لا ينافيه الامتناع بالاختيار ، مدفوعة : بما تقرّر في محلّه من منافاة الامتناع للتكليف مطلقا وإن كان عن اختيار.

نعم ، الامتناع الاختياري لا ينافي اتّصاف الفعل الذي صيّره ممتنعا بكونه مقدورا ومتعلّقا للتكليف قبل أن يجعله ممتنعا ، وكون تركه تركا اختياريّا موجبا لاستحقاق العقاب عليه.

ودعوى سقوط التكليف عنه بصيرورته ممتنعا في حقّه ، فحاله بعد الارتداد كحاله بعد الموت ، مدفوعة ـ بعد الغضّ عن إمكان دعوى القطع بأنّ الله

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ٣ : ٣٨١.

(٢) لاحظ : الهامش (٣) من ص ٣٠٦.

٣٠٩

تعالى لم يرفع القلم عنه ـ : بأنّ مقتضى عموم أدلّة التكاليف المشروطة بالإسلام أو بالطهور ، ووجوب الإسلام على كلّ مكلّف : شمولها للمرتدّ ، فيجب أن يكون الإسلام في حقّه ممكنا ، والرواية الدالّة على أنّه لا توبة للمرتد (١) بعد تسليم ظهورها في المدّعى لا تصلح قرينة لصرف هذه الأدلّة ، وتخصيصها بغير المرتدّ ، فإنّ التصرّف فيها بحملها على المعنى الذي تقدّمت الإشارة إليه أهون من تخصيص هذه الأدلّة.

وقد يقال بشمول هذه الأدلّة للمرتدّ مع الالتزام بتعذّر إسلامه ، بدعوى أنّ توجيه الخطاب إليه من قبيل التكليف الصوري الذي أريد به التسجيل وإثبات العقاب عليه.

وفيه : مع أنّه من أبعد التصرّفات ، يرد عليه : أنّه لا يعقل التسجيل وإثبات العقاب بإيجاب الممتنع ، لكونه معذورا في الامتثال ، وإنّما يعقل ذلك فيما إذا كان المأمور به في حدّ ذاته مقدورا للمكلّف ولم يكن المكلّف ممتثلا ، فحينئذ قد يقصد الآمر بطلبه ـ مع علمه بأنّ المأمور لا يمتثل ـ إتمام الحجّة للتسجيل وإثبات العقاب ، فلا يقصد بطلبه في الفرض إلّا التكليف الحقيقي المقصود به الإلزام بالفعل ووجوب إيجاده ، ولا ينافيه علمه بأنّ العبد لا يمتثل ، فلو ندم العبد وعزم على الامتثال ، أو فرض كون المولى مخطئا في اعتقاده ، يأتي العبد بالفعل المأمور به بقصد امتثال أمره ، فليس التكليف في الفرض صوريّا ، كما لا يخفى على المتأمل.

__________________

(١) راجع المصادر في الهامش (٢) من ص ٣٠٧.

٣١٠

وقد يقال : إنّ مقتضى تكليفه بالعبادات تحقّق الإسلام منه بالنسبة إلى صحّة الصلاة ، وكذا طهارته بالنسبة إلى نفسه ، دون الإسلام المطلق الموجب للطهارة المطلقة.

وفيه : أنّ ما دلّ على اشتراط الصلاة والصوم بالإسلام والطهارة إنّما دلّ على اعتبار مطلقهما لا بالإضافة ، فإن كان ولا بدّ من الالتزام بصحّة عباداته مع بقائه كافرا ، فيلتزم بسقوط الاشتراط ، لا حصول الشرط بالإضافة.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في ضعف هذه الأقوال ، وعدم صلاحيّة الأخبار الدالّة على عدم قبول توبته لإثباتها.

ويدلّ عليه أيضا ، بل وعلى قبول توبته وصحّة عباداته : رواية [زرارة] (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام فيمن كان مؤمنا فحجّ وعمل في إيمانه ثمّ أصابته في إيمانه فتنة فكفر ثمّ تاب وآمن ، قال : «يحسب له كلّ عمل صالح [عمله] (٢) في إيمانه ، ولا يبطل منه شي‌ء» (٣) فإنّ المفروض في السؤال بحسب الظاهر أعمّ من المرتدّ الفطري ، وظاهر الجواب تقريره في قبول توبته.

هذا كلّه ، مضافا إلى الأدلّة الدالّة على محبوبيّة الإسلام والتوبة من كلّ أحد.

الآبية عن التخصيص ، المعتضدة ببعض المؤيّدات العقليّة والنقليّة.

كيف! مع أنّ من الأمور الواضحة أنّ من أكبر مقاصد الأمير والحسنين عليهم‌السلام

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «محمّد بن مسلم». وما أثبتناه كما في المصدر.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٥٩ ـ ٤٦٠ / ١٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٣٠ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ١.

٣١١

في حروبهم وغيرها استتابة المرتدّين من الخوارج والنواصب والغلاة الذين اعترفوا بإلهيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنّهم عليهم‌السلام كانوا يقبلون توبة من رجع منهم ، ويعاملون معه معاملة المسلم.

وتوهّم كون ذلك من باب المماشاة لبعض المصالح في غاية الضعف.

واستدلّ للتفصيل بين من أنكر الشهادتين وبين من أنكر ضروريّا بعدم القبول في الأوّل دون الثاني : بالشكّ في شمول الأدلّة النافية للتوبة لمنكري الضروري ، فتبقى عمومات التوبة بحالها.

وفيه نظر ، مع أنّك عرفت قصور الأدلّة النافية عن إثبات الجزء الأوّل من مدّعاه.

تنبيه : عدّ بعض الأصحاب من جملة المطهّرات غيبة الإنسان ، وزوال العين من باطنه ومن بدن الحيوان.

أقول : أمّا طهارة بدن الحيوان بعد زوال العين : فقد عرفت في مبحث الأسئار أنّه ممّا لا ينبغي الاستشكال فيه ، لكن لو منعنا سراية النجاسة من المتنجّسات الجامدة الخالية من العين ـ كما نفينا عنه البعد عند التكلّم في مسألة السراية ـ أشكل استفادة طهارة الحيوان من الأدلّة المتقدّمة في ذلك المبحث ، فإنّها لا تدلّ إلّا على طهارة السؤر ، التي لا ينافيها بقاء الحيوان على نجاسته على هذا التقدير ، فليس حكم الحيوان حينئذ مخالفا لحكم سائر المتنجّسات ، ومقتضى الأصل انفعاله بالملاقاة ، وبقاء نجاسته إلى أن يغسل ، فلا يجوز اتّخاذ جلده أو صوفه ثوبا للمصلّي ما لم يغسل.

٣١٢

وأمّا بواطن الإنسان : فلا ينبغي الارتياب في طهارتها بعد زوال العين وإن صحبتها رطوبات ملاقية للعين ، كما هو الغالب فيها ، لقضاء الضرورة به في الجملة فضلا عن انعقاد الإجماع عليه ، كما صرّح به غير واحد.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ ما رواه عبد الحميد بن أبي الديلم ، قال :قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يشرب الخمر فيبصق فأصاب ثوبي من بصاقه ، قال : «ليس بشي‌ء» (١).

ويؤيّده الأخبار المستفيضة الواردة في الاستنجاء ، وفي دم الرعاف ، المتقدّمة في محلّها ، التي وقع فيها التصريح بأنّه إنّما يغسل الظاهر لا الباطن ، فلا شبهة في أصل الحكم إجمالا ، وإنّما الإشكال في أنّه هل تنجس البواطن وكذا بدن الحيوانات بوصول النجاسة إليها ، فيكون زوالها مطهّرا لها ، أم لا تنجس من أصلها ، فيكون على هذا التقدير عدّه من جملة المطهّرات مبنيّا على المسامحة؟ لكن لا يترتّب على حلّ الإشكال فائدة مهمّة عدا استصحاب نجاسة المحلّ عند الشكّ في بقاء الحالّ للحكم بنجاسة ما يلاقيه ، كما تقدّم التنبيه عليه في مبحث الأسئار ، وعرفت في ذلك المبحث أنّ استصحاب نفس العين غير مجد في الحكم بنجاسة الملاقي ، فراجع.

نعم ، لو قلنا بأنّ طهارة الباطن أيضا كطهارة الظاهر شرط في صحّة الصلاة ونحوها ، ولم نقل بمانعيّة حمل النجس من حيث هو ، لترتّبت عليه ثمرة مهمّة ، لكنّ المبنى فاسد ، لعدم الدليل عليه.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٢ / ٨٢٧ ، الإستبصار ١ : ١٩١ / ٦٧٠ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب النجاسات ، ح ١ ، بتفاوت يسير.

٣١٣

وكيف كان فالإشكال إنّما هو فيما لو أصابت البواطن نجاسة خارجيّة ، وأمّا النجاسة الواصلة إليها من الجوف فضلا عن النجاسة المتكوّنة فيها فلا ينبغي الاستشكال في عدم كونها مؤثّرة في تنجيسها ، لعدم الدليل على ثبوت الآثار للنجاسات قبل بروزها في الخارج ، لانصراف ما دلّ عليها من النصّ والإجماع عمّا لم تخرج ، بل ربما يدّعى الإجماع على أنّه لا أثر لها ما دامت في الباطن ، ولذا حكم بطهارة ماء الحقنة أو الإبرة النافذة في الجوف ، ونحوها إذا خرجت نقيّة ، بل قد يقال بقصور ما دلّ على نجاسة ملاقيات النجس عن شمول البواطن الملاقية له وإن كانت النجاسة خارجيّة ، لأنّ مستند الحكم بالنجاسة إمّا النصّ أو الإجماع ، ولا يخفى أنّ النصوص الدالّة عليه موردها الثوب وظاهر البدن والأواني وأشباهها ، فلا يتخطّى عن موردها إلّا بالإجماع ، ولا إجماع في الفرض لو لم ندّع الإجماع على خلافه.

وفيه ما عرفته عند التكلّم في قبول بعض الأشياء ـ الغير القابلة للعصر ـ للتطهير من أنّ مقتضى الأصل الأوّلي المستفاد من تتبّع النصوص والفتاوى المعتضدة بمغروسيّته في أذهان المتشرّعة إنّما هو نجاسة الأجسام الملاقية للنجس مطلقا ، ولذا لا يتوهّم أحد فرقا في سائر الأشياء بين ظواهرها وبواطنها ، وإنّما نشأ الشكّ في خصوص المقام من العلم بأنّه لا أثر للنجاسات الملاقية للبواطن بعد زوال عينها ، فحيث لم يعهد كون زوال العين من المطهّرات في الشريعة يشكّ في كون الكلّيّة المستفادة من النصوص والفتاوى مخصّصة بالنسبة إليها ، فالأوفق بالقواعد إبقاء القاعدة على عمومها ، والالتزام بكون زوال العين من

٣١٤

المطهّرات.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ القاعدة وإن كانت في حدّ ذاتها مسلّمة ، لكن عمومها غير مجد في نظائر المقام ، لأنّ مستند العموم إمّا القطع بمناط الحكم ، المنافي للترديد في خصوص المورد ، أو الاستقراء ونحوه من الأدلّة اللّبّيّة الغير الراجعة إلى عموم لفظيّ حتّى يتمسّك في موارد الشكّ بأصالة عدم التخصيص ، أو وقوع التعبير به في فتوى الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة حيث عبّروا فيها بأنّ كلّ جسم لاقى نجسا ينجس ، فيستكشف من ذلك كون القاعدة بعمومها متلقّاة من الشرع على سبيل الكلّيّة.

وهذا بعد التسليم إنّما يجدي بالنسبة إلى الموارد التي عمّتها كلماتهم ، وأمّا البواطن فلم يعلم إرادتها منها ، بل الظاهر انصرافها عنها ، إذ المتبادر من حكمهم بنجاسة كلّ جسم لاقى نجسا إرادة النجاسة التي لا تدور مدار بقاء العين.

والحاصل : أنّ العلم بأنّ الأصحاب مجمعون على أنّه لا أثر للملاقاة بالنسبة إلى البواطن بعد زوال العين مانع من ظهور كلماتهم في إرادتها من العموم ، ولذا لا يستكشف رأيهم فيها على وجه يجوز استناده إليهم من عموم حكمهم بنجاسة ما يلاقي النجس.

هذا ، مع أنّ استكشاف صدور عموم لفظيّ من المعصوم عليه‌السلام من فتاوى الأصحاب بحيث يعامل معه بما تقتضيه قواعد الألفاظ ممنوع ، فالأشبه هو الحكم بعدم انفعال البواطن وبقائها على ما كان من الطهارة.

وكذلك الكلام في بدن الحيوان على المشهور من القول بطهارته بعد زوال

٣١٥

العين ، والله العالم.

ولو لاقى النجاسة الخارجيّة الواصلة إلى الجوف في الجوف جسما طاهرا خارجيّا ، كما لو شرب خمرا أو دما ثمّ ابتلع درهما فتلاقيا في الجوف ، نجس الدرهم ، ولا يطهر إلّا بغسلة ، كما لو تلاقيا في الخارج ، لإطلاقات الأدلّة الدالّة على نجاسة ما يلاقي الخمر أو الدم أو غيرهما من النجاسات ، وعدم انصرافها إلى وقوع الملاقاة في مكان دون مكان ، بل لو لاقى الجسم الخارجيّ نجاسة باطنيّة في بعض البواطن التي تظهر للحسّ ، كالفم ومقدّم الأنف وباطن الأذن ونحوها ، لا يبعد الالتزام بنجاسته ، فإنّ ما ادّعيناه آنفا ـ من انصراف ما دلّ على آثار النجاسات عن النجاسات الباطنيّة الكامنة في الجوف قبل بروزها بالنسبة إلى الدم الواصل إلى مقدّم الأنف أو المجتمع في الفم ونحوه ـ قابل للمنع ، فالقول بكون ملاقاة الدم ونحوه في الفم وأشباهه كالملاقاة في خارجه قويّ ، مع أنّه أحوط ، والله العالم.

وأمّا غيبة الإنسان فهي بنفسها ليست من المطهّرات جزما ، ولكنّها توجب الحكم بطهارته وطهارة ما يتعلّق به من الثياب ونحوها مع احتمال طروّ الطهارة ، لا مع القطع بعدمها ، بلا خلاف فيه في الجملة على الظاهر ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه (١).

ويشهد له استقرار السيرة عليه ، وكون اشتراط تحصيل العلم بطهارة من علم نجاسته أو نجاسة شي‌ء ممّا يتعلّق به من الثياب ونحوها في جواز مساورته أو

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٠١ عن بعض شرّاح منظومة الطباطبائي.

٣١٦

الصلاة خلفه أو نحوهما من الأشياء المشروطة بالطهارة موجبا للحرج.

ويؤيّده بل يشهد له : الأخبار الدالّة على كراهة سؤر الحائض والجنب المتّهمتين ، ونفي البأس عن سؤرهما إذا كانتا مأمونتين ، إلى غير ذلك من الشواهد والمؤيّدات.

وهل يكفي مجرّد احتمال الطهارة ، الناشئ من الغيبة ، أم يعتبر الظنّ بها ، أم لا يكفي مطلق الظنّ أيضا ،بل الظنّ الخاصّ الحاصل من شهادة حاله أو مقاله ، فيعتبر على هذا التقدير علمه بالنجاسة وإخباره بزوالها ، أو معاملته معاملة الطاهر بحيث يظهر منه ذلك؟ وجوه بل أقوال ، ذهب شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله إلى الأخير ، نظرا إلى أنّه هو القدر المتيقّن الذي يمكن إثباته بالإجماع والسيرة ودليل نفي الحرج وغيرها ، ولا يكاد يستفاد منها أزيد من ذلك ، وأنّه بحسب الظاهر من باب تقديم الظاهر على الأصل ، ولذا استشهد غير واحد بظهور حال المسلم في تنزّهه عن النجاسة ، وبالأخبار الدالّة على وجوب تصديق المسلم وعدم اتّهامه ، ولا يتمّ الظهور إلّا في الصورة المفروضة. فالظاهر أنّ كلّ من تمسّك له بظاهر الحال لا يقول إلّا بهذا القول ، بل هذا هو ظاهر كلّ من اشترط علمه بالنجاسة ، كما حكي (٢) عن صريح الشهيدين وظاهر غيرهما ، فإنّ من المستبعد اشتراطهم لعلمه بالنجاسة وعدم اعتبار تلبّسه بما يشترط بالطهارة.

والمراد بالظنّ الخاصّ بحسب الظاهر هو الظنّ الشأني الحاصل من الأمارة

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٣٨٩.

(٢) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٣٩٠ ، وانظر : الذكرى ١ : ١٣٢ ، والمقاصد العليّة : ١٥٦.

٣١٧

الخاصّة ، لا الظنّ الفعلي ، فإنّ من المستبعد التزام أحد بذلك.

وكيف كان فهذا الوجه وإن كان قويّا لكنّ الأقوى هو الوجه الأوّل ، أعني كفاية مجرّد الاحتمال الناشئ من الغيبة ، وعدم اشتراط علمه بالنجاسة ولا تلبّسه بما يشترط بالطهارة ، فإنّ عمدة مستند الحكم هو استقرار السيرة من صدر الشريعة على المعاملة مع المسلمين وما يتعلّق بهم معاملة الطاهر بمجرّد الاحتمال من غير فرق بين سبق علمهم بالنجاسة وعدمه ، ولا بين كون من يعامل معه معاملة الطاهر ممّن يظهر من حاله التجنّب عن النجاسة أو يظهر عدمه أو يشتبه حاله ، فإنّ الظاهر من حال العامّة وكثير من الخاصّة أنّهم لا يجتنبون عن كثير من النجاسات ، وربما يعتقدون طهارتها ، ويزعمون طهارة الميتة بالدباغة ، مع أنّه لم يعهد التجنّب عنهم ولا عمّا عليهم من اللباس ، كما أنّه لم يعهد التجنّب عمّا في أيديهم وأسواقهم من الجلود ونحوها من الأشياء التي مقتضى الأصل فيها النجاسة ، وبناؤهم على عدم التجنّب عنها مع حصول العلم غالبا إمّا تفصيلا أو إجمالا بمباشرتهم للنجاسات ومخالطتهم مع الكفّار وعدم التطهّر منها إلّا من باب الاتّفاق.

فالقول باشتراط الظنّ بالطهارة فضلا عن أن يكون من سبب خاصّ كأنّه نشأ من الغفلة عمّا عليه بناء عامّة الناس في معاملاتهم ومساوراتهم مع العامّة والخاصّة ، مع أنّ من المعلوم أنّه لو لم يكن الأمر في صدر الشريعة بأسوإ من ذلك لم يكن بأحسن منه ، بل لو لا البناء على الاكتفاء بالاحتمال لاختل نظم عيشهم.

فدعوى اندفاع الحرج لدى العمل بظاهر الحال غير مسموعة.

٣١٨

لكن لا يخفى عليك أنّه إنّما يتمّ الاستشهاد بالسيرة ونفي الحرج لإثبات المدّعى بناء على ما هو المشهور من كون المتنجّس منجّسا على الإطلاق ، وإلّا فلا يخلو الاستدلال بهما عن نظر ، فالمتّجه ـ بناء على ما نفينا عنه البعد من عدم السراية ـ هو القول الأخير ، والله العالم.

وهل يعتبر في الاعتماد على ظاهر الحال أو مطلق الاحتمال كون من يحكم بطهارته مكلّفا ، أي عاقلا بالغا ، كما يظهر من بعض ، أم لا؟ وجهان ، أظهر هما : العدم ، لعدم كون البلوغ ملحوظا فيما جرت عليه السيرة ، بل يكفي على الظاهر كونه ممّن من شأنه مراقبة أحواله في التطهّر ونحوه ، وأمّا غير المميّز فليس موردا لهذا الأصل ، فلو لم يجر عليه يد الغير لا يحكم بطهارته إلّا بعد العلم بارتفاع النجاسة السابقة ، وعند جريان يد الغير عليه هو بمنزلة سائر ما يتعلّق بذلك الغير ممّا ستعرف حكمه.

وهل يختصّ مورد الحكم بشخصه وثيابه وما هو بمنزلتها ، أو يعمّ مطلق ما يتعلّق به من أثاث بيته ونحوها؟ فيه تردّد ، لكن لو أخبر بطهارتها يقبل قوله على الأظهر ، لما عرفت عند التكلّم في إخبار ذي اليد بالنجاسة من أنّ الأقوى قبول قول صاحب اليد في مثل هذه الأمور ، والله العالم.

(و) يطهّر التراب أي (الأرض) كما وقع التعبير بها في النافع (١) ، فإنّ المطهّر هي الأرض التي وقع التعبير بها في أكثر الفتاوى ومعقد الإجماع المحكيّ عن غير واحد ، كما في الجواهر (٢).

__________________

(١) المختصر النافع : ٢٠.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٣٠٣.

٣١٩

ويشهد به النصوص المعتبرة الآتية.

فما في المتن ومحكيّ المقنعة والتحرير (١) من التعبير بالتراب ، بل وكذا في النبويّين الآتيين (٢) إمّا لشيوع التعبير عنها به ، أو لكون المقصود بيان مطهّريّته على سبيل الإجمال لـ (باطن الخفّ وأسفل القدم والنعل) بلا خلاف على الظاهر في أصل الحكم إجمالا ، عدا ما حكي عن الخلاف ممّا يظهر منه المخالفة حيث قال : إذا أصاب أسفل الخفّ نجاسة فدلكه في الأرض حتّى زالت ، تجوز الصلاة فيه عندنا. ثمّ قال : دليلنا إنّا بيّنّا فيما تقدّم أنّ ما لا تتمّ الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وإن كانت فيه نجاسة ، والخفّ لا تتمّ الصلاة فيه بانفراده ، وعليه إجماع الفرقة (٣). انتهى ، فإنّه يظهر منه القول ببقاء النجاسة والعفو عنها.

ولأجل مخالفة هذا الظاهر لظاهر أغلب النصوص وصريح الفتاوى لم يرض جملة من المتأخّرين ـ الذين تعرّضوا لنقل قوله ـ بنسبته إليه ، فأوّلوا كلامه إلى ما لا ينافي المشهور ، حتّى أنّ المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك تأمّل في ظهور كلامه فيما ذكر ، وقال : بل الظاهر أنّ استدلاله فيه غفلة منه (٤).

وكيف كان فالظاهر عدم خلاف يعتدّ به في المسألة ، كما أنّ الظاهر عدم خلاف يعتدّ به بالنسبة إلى المذكورات في المتن.

__________________

(١) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣٠٣ ، وانظر : المقنعة : ٧٢ ، وتحرير الأحكام ١ : ٢٥.

(٢) في ص ٣٢١.

(٣) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٧٢ ، وانظر : الخلاف ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ ، المسألة ١٨٥.

(٤) الحاشية على مدارك الأحكام ٢ : ٢٧٨.

٣٢٠