مصباح الفقيه - ج ٨

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ٨

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: منبع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢

وترك التقييد بكون الصب قبل انقطاع التقاطر مع كونه شرطا لعلّه لاستفادته من تعليق نفي البأس على الجريان في الجواب عن سؤاله الأوّل بالتقريب الذي عرفته آنفا من أنّ المراد بجريان المطر إمّا تقاطره من السماء في مقابل وقوفه ، أو جريانه الفعليّ الذي هو ملزوم عادي لكونه في حال التقاطر ، فأريد بالاشتراط التنبيه على شرطيّة التقاطر.

لكن قد يشكل ذلك فيما هو مفروض السائل بأنّ السطح الذي يبال عليه ويغتسل فيه من الجنابة يطهر بإصابة المطر له ، كما نطق به المستفيضة المتقدّمة التي منها صحيحة (١) هشام بن سالم ، الدالّة على إناطة طهارة السطح الذي يبال عليه بأكثريّة الماء من البول ، فإنّ من المعلوم حصول هذا المناط قبل وصول المطر حدّا يمكن الأخذ من مائه ، فيبقى ماؤه المجتمع على ظهره أو الجاري منه من ميزاب ونحوه على طهارته ، فلا مقتضي لاشتراط فعلية الجريان في جواز الأخذ منه ، إلّا أن يكون قول السائل : «البيت يبال على ظهره» إلى آخر كناية عن كون ظهره معدّا لقضاء الحاجة ، فلم يقصد بالبول خصوصه حتّى لا تبقى عينه بعد إصابة المطر الغزير الذي يمكن الأخذ من مائه للوضوء ، بل أعمّ منه ومن العذرة التي تبقى عينها بعد انقطاع المطر ، فيتّجه حينئذ اعتبار بقاء التقاطر في جواز الأخذ من مائه.

ويحتمل بعيدا أن يكون المقصود بالفقرة الاولى هو الأخذ من ماء المطر بعد الانقطاع ، فيكون المقصود بالشرطيّة الاحتراز عن الماء المجتمع على السطح حيث لا ينفكّ غالبا ـ في مفروض السائل ـ عن ملاقاة النجس ، فالمراد بقوله عليه‌السلام : «إذا جرى» أنّه إذا تحقّق له الجريان من ميزاب ونحوه بحيث انفصل الماء عن

__________________

(١) تقدّمت الصحيحة في ص ٣٣٨.

٣٤١

ذلك المكان القذر ، فلا بأس ، في مقابل ما لو بقي في ذلك المكان.

ويحتمل أيضا أن يكون المراد بالاشتراط بيان ما هو مناط الحكم بأن يكون المقصود أنّه إذا تحقّق الجريان لماء المطر ، فلا بأس به ، وما لم يتحقّق له هذه الصفة فهو ماء قليل لاقى نجسا فينجس ، فعلى هذا تنهض الرواية دليلا للقول المحكيّ عن الشيخ الذي ستسمعه (١).

وهذا الاحتمال وإن كان قريبا في حدّ ذاته بل هو أقرب الاحتمالات المتطرّقة في الرواية بالنظر إلى نفسها مع قطع النظر عن سائر الأخبار ، وأمّا بملاحظتها فلا بدّ من حملها على سائر المحامل ، أو ردّ علمها إلى أهله ، فإنّ ظاهر قوله : «إذا جرى» إرادة الجريان الفعليّ ، واختصاص الطهارة بالماء الذي حصل له صفة الجريان بالفعل.

وهذا ممّا ينافيه سائر الأخبار حتّى ما رواه عليّ بن جعفر [عن أخيه] (٢) عليه‌السلام في ذيل هذه الرواية من نفي البأس عن ماء المطر الذي صبّ فيه الخمر.

ولذا حملها بعض المتأخّرين على الجريان التقديريّ ، أي بلوغ المطر حدّا يكون من شأنه الجريان في الأماكن المعتدلة ، جمعا بينها وبين سائر الروايات.

وفيه ـ مع أنّه ليس بأولى من حملها على بعض المحامل الأخر التي منها حملها على اعتبار الجريان في خصوص المورد لخصوصيّة فيه ، ككونه ممّا لو استقرّ المطر فيه ، أو لم يبلغ من الكثرة حدّا يجري لتغيّر بمجاورته ، كما يشعر بذلك ظهور السؤال في كون السطح معدّا لتوارد النجاسات عليه ، فمثل هذا السطح لا يطهر عادة إلّا بالمطر الغزير الذي يجري ، أولا يعتصم ماؤه عن التغيّر والانفعال

__________________

(١) في ص ٣٤٣.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «عنه». والصحيح ما أثبتناه.

٣٤٢

إلّا على هذا التقدير ، أو غير ذلك من المحامل التي تقدّمت الإشارة إليها ـ أنّ هذا الحمل لا يجدي في رفع التنافي بين هذه الصحيحة وبين صحيحة هشام بن سالم ، الدالّة على إناطة طهارة الماء بأكثريّته من البول ، ضرورة أنّ البول الكائن على السطح إمّا مجرّد الأثر أو ما هو بمنزلته بحيث لا تكون إصابة أضعافه من المطر موجبة لجريانه خصوصا إذا كان المطر ناعما.

فما عن ظاهر ابن حمزة ـ من اشتراط اعتصام ماء المطر وكونه كالماء الجاري بجريانه بالفعل (١) ـ ضعيف.

وأضعف منه ما عن ظاهر الشيخ وابن سعيد من اشتراط جريانه من الميزاب (٢).

لكنّ الذي يغلب على الظنّ أنّ غرضهم التنبيه على الفرع الذي نبّهنا عليه من أنّ الماء الجاري من الميزاب ونحوه ما دام معتصما بالقطرات النازلة من السماء بحكم الماء الجاري ، لا أنّه يعتبر في مطهّريّة ماء المطر الجريان مطلقا أو من خصوص الميزاب ، كما نسب إلى ظاهر الأخيرين ، فلا بدّ في تحقيق حال النسبة من مراجعة كتبهم ، إذ الظاهر أنّه قد حصل الخلط بين المبحثين ، ولم يحضرني كتبهم حتّى اراجعها ، والعبارة المحكيّة عن ابن حمزة ليس فيها إشعار بالاشتراط ، فإنّه قال ـ على ما حكي عنه (٣) ـ : وحكم الماء الجاري من

__________________

(١) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٢٥٨ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣١٣ ، وانظر :الوسيلة : ٧٣.

(٢) حكاه عنهما صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٢٥٨ ، وانظر : التهذيب ١ : ٤١١ ، ذيل ح ١٢٩٦ ، والمبسوط ١ : ٦ ، والجامع للشرائع : ٢٠.

(٣) الحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٦ : ٣١٣ ، وانظر : الوسيلة : ٧٣.

٣٤٣

المشعب (١) من ماء المطر كذلك. أي كالجاري. والمشعب ـ كما في المجمع (٢) ـ :الطريق.

وهذه العبارة كما تراها عين ما نبّهنا عليه ، ولا منافاة بينها وبين مطهّريّة ماء المطر حال نزوله على الإطلاق.

نعم ، ربما يستشعر ذلك من العبارة المحكيّة عن الشيخ لكن لا على وجه يصحّ الاستناد إليه.

قال في التهذيب والاستبصار ـ على ما حكاه في المدارك (٣) ـ : ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الجاري (٤) ، مستشهدا عليه بخبر هشام بن الحكم ، المتقدّم (٥) الوارد في ميزابين سالا ، أحدهما بول ، إلى آخره.

وأمّا عبارة ابن سعيد فلم أظفر بنقلها تفصيلا فيما حضرني من الكتب.

وكيف كان فإن أرادوا بقولهم ما بيّنّاه ، فنعم الوفاق ، وإلّا فقد تبيّن ضعفه بما لا مزيد عليه.

ويتلوه في الضعف ما عن المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله من اشتراط الجريان التقديري (٦) ، كما تقدّمت الإشارة إلى وجهه مع ما فيه من النظر آنفا.

وربما يستدلّ للقول باشتراط الجريان ـ مضافا إلى الأخبار التي تقدّمت الإشارة إليها وإلى توجيهها ـ بخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن كتابه ـ عن أخيه

__________________

(١) في المصدر : «المثعب» بالثاء المثلّثة. والثعب : مسيل الوادي. لسان العرب ١ : ٢٣٦ «ثعب».

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٩٠ «شعب».

(٣) مدارك الأحكام ٢ : ٣٧٦.

(٤) التهذيب ١ : ٤١١ ، ذيل ح ١٢٩٦ ، ولم نجده في الاستبصار ، بل في المبسوط ١ : ٦.

(٥) في ص ٣٣٩.

(٦) كما في جواهر الكلام ٦ : ٣١٣ ، وانظر : مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٦.

٣٤٤

موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر فيكف فيصيب الثياب أيصلّى فيها قبل أن تغسل؟ قال : «إذا جرى من ماء المطر فلا بأس» (١).

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ الشرطيّة بحسب الظاهر مسوقة لبيان اشتراط كون ما يكف على الثياب من ماء المطر ، لا من ماء الكنيف.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الأقوى ما هو المشهور من أنّ ماء المطر لا ينجس حال نزوله مطلقا ، بل يطهّر كلّ ما يلاقيه بشرط قابليّة المحلّ ، كالماء الجاري.

لكن نسب إلى المشهور أنّهم اعتبروا فيه الكثرة والقوّة في الجملة ، احترازا عمّا لو تقاطرت قطرات يسيرة.

خلافا لما حكاه في الروض ـ على ما نقل عنه (٢) ـ عن بعض (٣) من القول بمطهّرية القطرات اليسيرة (٤).

ومستنده إطلاق مرسلة (٥) الكاهلي وغيرها من الأدلّة المتقدّمة الدالّة على سببيّة إصابة المطر للطهارة.

ومستند ما نسب إلى المشهور من اشتراط الغزارة والكثرة في الجملة منع صدق اسم المطر عرفا على القطرات اليسيرة.

وفيه تأمّل.

__________________

(١) مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٢ / ٣٩٨ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الماء المطلق ، ح ٣.

(٢) نقله عنه النراقي في مستند الشيعة ١ : ٢٨ ـ ٢٩ ، وصاحب الجواهر فيها ٦ : ٣١٣ و ٣١٩.

(٣) هو السيّد حسن ابن السيد جعفر ، كما في هامش بعض النسخ الخطّيّة لكتاب روض الجنان.

(٤) روض الجنان : ١٣٩.

(٥) تقدّمت المرسلة في ص ٣٣٧.

٣٤٥

وكيف كان فمرجع الخلاف في اعتبار هذا الشرط وعدمه بحسب الظاهر هو النزاع في الصغرى ، والمتّبع فيه حكم العرف ، فمتى صدق عليه اسم المطر عرفا لحقه حكمه ، والله العالم.

(والماء) القليل (الذي تغسل به النجاسة نجس ، سواء كان في الغسلة الأولى أو الثانية) فيما يحتاج إلى التعدّد (وسواء كان متلوّنا بالنجاسة أو لم يكن ، وسواء بقي على المغسول عين النجاسة أو نقي ، وكذلك القول في الإناء على الأظهر) كما تقدّم الكلام فيه مفصّلا في مبحث الغسالة.

وتبيّن فيما تقدّم ضعف القول بطهارتها مطلقا أو في خصوص الغسلة المطهّرة أو التفصيل بين الإناء وغيره ، فلا نطيل بالإعادة.

لكن مقتضى ما نفينا عنه البعد عند التكلّم في كون المتنجّس منجّسا من منعه بالنسبة إلى المتنجّسات الجامدة الخالية من عين النجاسة : هو التفصيل بين غسالة النجاسات الحكميّة المحضة وبين غيرها ، فلو غسل ثوب متنجّس بالبول بعد جفافه وزوال العين ، لا تنجس غسالته مطلقا ، ولو كان قبله ، نجست من غير فرق بين الغسلتين.

أمّا في الأولى : فلأنّها ماء قليل لاقى نجسا ، فينجس.

و [أمّا] في الثانية : فلملاقاتها للرطوبة المتخلّفة من الغسلة الأولى التي هي كعين النجس في كونها منجّسة لما يلاقيها.

نعم ، لو حصلت الغسلة الثانية بعد جفاف المحلّ وخلوصه من عين النجاسة وما بحكمها من الرطوبة المتنجّسة ، اتّجه حينئذ طهارتها بناء على إنكار السراية ، والله العالم.

٣٤٦

(وقيل في الذنوب) بفتح الذال ، وهو ـ كما في مجمع البحرين (١) ـ في الأصل : الدلو العظيم ، ولا يقال لها : ذنوب ، إلّا وفيها ماء (إذا القي على نجاسة) على (الأرض ، تطهر الأرض مع بقائه على الطهارة) بل في مطلق الماء القليل الملقى على الأرض النجسة.

والقائل بذلك الشيخ في محكيّ الخلاف.

قال في المدارك ناقلا عبارة الخلاف : إذا بال على موضع من الأرض ، فتطهيرها أن يصبّ الماء عليه حتّى يكاثره ويغمره [ويقهره] (٢) فيزيل لونه وطعمه وريحه ، فإذا زال ، حكمنا بطهارة المحلّ وطهارة الماء الوارد عليه ، ولا يحتاج إلى نقل التراب ولا قلع (٣) المكان.

ثمّ قال : دليلنا : قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) ونقل التراب [من الأرض] (٥) إلى موضع آخر يشقّ.

وروى أبو هريرة ، قال : دخل أعرابيّ المسجد فقال : اللهمّ ارحمني ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ترحم معنا أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عجزت واسعا» قال : فما لبث أن بال في ناحية المسجد وكأنّهم عجلوا إليه ، فنهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أمر بذنوب من ماء فأهريق [عليه] (٦) ثمّ قال : «علّموا (٧) ويسّروا ولا تعسّروا» (٨).

__________________

(١) مجمع البحرين ٢ : ٦٠ «ذنب».

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة والمدارك : «قطع» بدل «قطع». وما أثبتناه من الخلاف.

(٤) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٥) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٦) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٧) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «اعلموا». وما أثبتناه من المدارك والخلاف.

(٨) صحيح البخاري ٨ : ٣٧ ، سنن أبي داود ١ : ١٠٣ / ٣٨٠ ، مسند أحمد ٢ : ٢٣٩ بتفاوت.

٣٤٧

قال الشيخ رحمه‌الله : والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجّسا (١) ، فلزم أن يكون الماء أيضا على طهارته.

واستشكل المصنّف رحمه‌الله في المعتبر بضعف الخبر ، ومنافاته الأصل ، لأنّ الماء المنفصل عن محلّ النجاسة نجس ، تغيّر أو لم يتغيّر (٢). انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ أدلّة نفي الحرج على تقدير تحقّق موضوعها لا تقتضي إلّا العفو عن نجاسة المسجد ، لا طهارته بصبّ الماء عليه.

وأمّا الرواية فهي مع ضعف سندها لا تنهض حجّة لإثبات حكم مخالف للقواعد ، لكونها إخبارا عن قضيّة في واقعة مجملة الوجه ، فلعلّ المكان الذي أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بصبّ الماء عليه ممّا ينحدر عنه غسالته إلى خارج المسجد أو في بالوعة ونحوها ، أو كان رملا يطهّر ظاهره بإجراء الماء عليه ، ولم يكن الواجب إلّا تطهير ظاهر المسجد ، أو كان الأمر بالصبّ لتوفير البلّة واستهلاك العين لأن تجفّفها الشمس ، إلى غير ذلك من المحتملات.

فالأظهر أنّه لا فرق بين الأرض وبين غيرها ممّا شابهها ـ من الأشياء الغير القابلة للعصر ـ في كيفيّة التطهير ، ولا بين غسالتها وغسالة سائر الأشياء ، فإن كانت الأرض رخوة يرسب الماء فيها ولا تنفصل غسالته عنها ، أشكل تطهيرها بالماء القليل ، كما عرفته عند البحث عن أحكام النجاسات وكيفيّة تطهير المتنجّسات الغير القابلة للعصر ، والله العالم.

__________________

(١) في المصدر : «تنجيسا».

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، وانظر : الخلاف ١ : ٤٩٤ ـ ٤٩٥ ، المسألة ٢٣٥ ، والمعتبر ١ : ٤٤٩.

٣٤٨

(القول في) كيفيّة تطهير الأواني.

وقد جرت عادة الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ على التعرّض لما يتعلّق بـ (الآنية) من حيث الحرمة والكراهة في هذا المبحث استطرادا ، فنقتفي ـ تبعا للمصنّف رحمه‌الله ـ أثرهم (و) نقول : (لا يجوز الأكل والشرب في آنية من ذهب أو فضّة) بلا خلاف فيه على الظاهر عندنا ، بل في الجواهر : إجماعا منّا وعن كلّ من يحفظ عنه العلم ـ عدا داود ، فحرّم الشرب خاصّة (١) ـ محصّلا ومنقولا مستفيضا إن لم يكن متواترا (٢). انتهى.

وعن جماعة من الأصحاب التصريح باتّفاق المسلمين على حرمة الأكل والشرب فيها.

لكن في الوسائل حكى عن الأصحاب أنّهم نقلوا القول بعدم الحرمة عن جمع من العامّة ، ولذا احتمل جري بعض الأخبار الآتية ـ التي وقع فيها التعبير

__________________

(١) حلية العلماء ١ : ١٢١ ، المجموع ١ : ٢٤٩.

(٢) جواهر الكلام ٦ : ٣٢٨.

٣٤٩

بالكراهة ـ مجرى التقيّة (١).

(و) كيف كان فالظاهر ـ كما صرّح به غير واحد ـ عدم الخلاف فيه بيننا ،بل عن ظاهر جماعة من الأصحاب أو صريحهم دعوى الإجماع على أنّه (لا) يجوز (استعمالها) مطلقا ولو (في غير ذلك) ممّا لا يندرج في الأكل أو الشرب ، إلّا أنّه حكي عن الشيخ في الخلاف أنّه قال : يكره استعمال أواني الذهب والفضّة ، وكذا المفضّض منها (٢).

وظاهره إرادة الكراهة المصطلحة.

لكن عن جماعة من المتأخّرين التصريح بأنّ مراده الحرمة (٣).

ويؤيّده ما حكي عنه في زكاة الخلاف من التصريح بالحرمة (٤).

وكيف كان فمستند الحكم أخبار مستفيضة من طرق الخاصّة والعامّة :فعن الجمهور : أنّهم رووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا تشربوا في آنية الذهب والفضّة ، ولا تأكلوا في صحافها (٥) فإنّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (٦).

وربما يستشعر من التعليل الواقع في هذا الخبر أنّ المراد بالنهي المنع من

__________________

(١) الوسائل ، ذيل ح ١١ من الباب ٦٥ من أبواب النجاسات.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٩١ ، وانظر : الخلاف ١ : ٦٩ ، المسألة ١٥.

(٣) حكاه في كشف اللثام ١ : ٤٨٢ عن المعتبر ١ : ٤٥٤ ، ومختلف الشيعة ١ : ٣٣٥ ، المسألة ٢٥٣ ، والذكرى ١ : ١٤٥.

(٤) حكاه عنه صاحب كشف اللثام فيه ١ : ٤٨٢ ، الهامش (٧) وكما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٣٩١ ، وانظر : الخلاف ٢ : ٩٠ ، المسألة ١٠٤.

(٥) صحاف جمع ، مفردها : صحفة ، وهي إناء كالقصعة المبسوطة ونحوها. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٣ : ١٣ «صحف».

(٦) صحيح البخاري ٧ : ٩٩ ، صحيح مسلم ٣ : ١٦٣٨ / ٥ ، سنن البيهقي ١ : ٢٨.

٣٥٠

مطلق استعمالها ، وكون تخصيص الأكل والشرب بالذكر ، لعموم الابتلاء بهما ، كما يؤيّد ذلك تخصيص الشرب بالأواني والأكل بالصحاف ، مع أنّ الخصوصيّة بالنسبة إليها غير مقصودة بلا شبهة ، والتخصيص جار مجرى التعارف ، فليتأمّل.

وعن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «الذي يشرب في آنية الذهب والفضّة إنّما يجرجر (١) في بطنه نارا» (٢).

ومن طريق الخاصّة : صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضّة ، فكرههما ، فقلت : قد روى بعض أصحابنا أنّه كان لأبي الحسن عليه‌السلام مرآة ملبسة فضّة ، فقال : «لا والله ، إنّما كانت لها حلقة من فضّة وهي عندي» ثمّ قال : «إنّ العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضّة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضّته (٣) نحوا من عشرة دراهم» فأمر به أبو الحسن عليه‌السلام فكسر (٤).

في الحدائق : العذر بالعين المهملة ثمّ الذال المعجمة : بمعنى الاختتان (٥).

وحسنة الحلبي أو صحيحته عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تأكل في آنية من فضّة ولا في آنية مفضّضة» (٦).

__________________

(١) الجرجرة : صوت وقوع الماء في الجوف أو الحلق. الغريبين ـ للهروي ـ ١ : ٣٣٢ «جرر».

(٢) كما في الحدائق الناضرة ٥ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ، ولم نجده عن عليّ عليه‌السلام في المصادر الحديثيّة لأبناء العامّة ، ورواه البخاري في صحيحة ٧ : ١٤٦ ، وكذا مسلم في صحيحة ٣ : ١٦٣٤ / ٢٠٦٥ ، وأيضا ابن ماجة في سننه ٢ : ١١٣٠ / ٣٤١٣ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) في «ض ١٠ و ١١» والتهذيب : «فضّة».

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٧ / ٢ ، التهذيب ٩ : ٩١ / ٣٩٠ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ١.

(٥) الحدائق الناضرة ٥ : ٥٠٥ ، وانظر : مجمع البحرين ٣ : ٣٩٩ «عذر».

(٦) الكافي ٦ : ٢٦٧ / ٣ ، التهذيب ٩ : ٩٠ / ٣٨٦ ، الوسائل ، الباب ٦٦ من أبواب النجاسات ، ح ١.

٣٥١

وعن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا تأكل في آنية الذهب والفضّة» (١).

وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه نهى عن آنية الذهب والفضّة (٢).

وعن موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه‌السلام : قال : «آنية الذهب والفضّة متاع الذين لا يوقنون» (٣).

وعن الفقيه روايته مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

ورواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «لا تأكل من آنية الذهب والفضّة» (٥).

وموثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضّة» (٦).

ورواية يونس بن يعقوب عن أخيه يوسف ، قال : كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في الحجر فاستسقى ماء ، فأتي بقدح من صفر ، فقال رجل : إنّ عباد بن كثير يكره الشرب في الصفر ، فقال : «لا بأس» وقال عليه‌السلام للرجل : «إلا سألته أذهب هو أم فضّة؟» (٧).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٧ / ١ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦٧ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٨ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٢٢ / ١٠٣٣ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٨.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٢٢ / ١٠٣١ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٧.

(٦) الكافي ٦ : ٣٨٥ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٢٢٢ / ١٠٣٠ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٧) الكافي ٦ : ٣٨٥ / ٤ ، التهذيب ٩ : ٩٢ / ٣٩٣ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

٣٥٢

وخبر الحسين بن زيد عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم‌السلام في حديث المناهي قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الشرب في آنية الذهب والفضّة» (١).

ورواية قرب الإسناد عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما‌السلام «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهاهم عن سبع ، منها : الشرب في آنية الذهب والفضّة» (٢).

والمرويّ عن الكافي ـ في الموثّق ـ عن ثعلبة بن ميمون عن بريد عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كره الشرب في الفضّة وفي القدح المفضّض ، وكذلك أن يدهن في مدهن مفضّض ، والمشطة كذلك (٣).

وعن الصدوق بإسناده عن ثعلبة مثله ، وزاد «فإن لم يجد بدّا من الشرب في القدح المفضّض عدل بفمه عن موضع الفضّة» (٤).

في الحدائق : وهذه الزيادة محتملة لأن تكون من كلامه ، أو من أصل الخبر (٥).

هذه جملة ما وصل إلينا من الأخبار الواردة في الباب ، وهي بأسرها تدلّ على مرجوحيّة استعمال آنية الذهب والفضّة في الجملة ، أمّا بالنسبة إلى الأكل والشرب فهي نصّ فيهما ، وبالنسبة إلى ما عداهما من الاستعمالات فبعضها يدلّ عليه بالإطلاق ، وقد يدلّ عليه أيضا بعضها بالنصوصيّة ، كما سنشير إليه ، وهذه

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ٩.

(٢) قرب الإسناد : ٧١ / ٢٢٨ ، الوسائل ، الباب ٦٥ من أبواب النجاسات ، ح ١١.

(٣) الكافي ٦ : ٢٦٧ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٦٦ من أبواب النجاسات ، ح ٢.

(٤) الفقيه ٣ : ٢٢٢ / ١٠٣٢ ، الوسائل ، الباب ٦٦ من أبواب النجاسات ، ح ٣.

(٥) الحدائق الناضرة ٥ : ٥٠٦.

٣٥٣

الأخبار ما بين ما وقع فيه التعبير بصيغة النهي أو لفظ النهي أو التعبير بلفظ الكراهة ، وفي بعضها التعبير بلفظ «لا ينبغي».

أمّا الطائفة الأولى : فظاهرها الحرمة.

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي ما ورد فيها التعبير بلفظ الكراهة ـ فلا ظهور لها إلّا في المرجوحيّة المطلقة الغير المنافية للحرمة أو الكراهة ، فإنّ الكراهة المستعملة في كلمات الأئمّة عليهم‌السلام بحسب الظاهر ليست مستعملة إلّا في معناها اللغويّ والعرفيّ ، لا الكراهة المصطلحة عند المتشرّعة ، وهي بمقتضى معناها العرفيّ تجامع الحرمة والكراهة ، فلا منافاة بين هذه الأخبار وبين الأخبار الدالّة بظاهرها على الحرمة ، كما قد يتوهّم.

وأمّا ما وقع فيه التعبير بلفظ «لا ينبغي» وهو موثّقة (١) سماعة : فظاهره الكراهة ، فإنّ لفظة «لا ينبغي» وإن جاز استعمالها على سبيل الحقيقة في المحرّمات ، لكن الشائع المتعارف استعمالها في الأمور الغير المناسبة ، لا المحرّمة ، فلها ظهور عرفيّ في الكراهة ، كما أنّ رواية (٢) موسى بن بكر مشعرة بها أو ظاهرة فيها ، لكن لا على وجه يصلح لصرف الأخبار الدالّة على الحرمة عن ظاهرها ، خصوصا مع استفاضة تلك الأخبار ، واعتضاد بعضها ببعض ، وقوّة ظهور بعضها في الحرمة ، كالعامّي (٣) المرويّ عن عليّ عليه‌السلام ، وهو وإن كان عامّيّا لكنّه لمعروفيّته عند الأصحاب واشتهار مضمونها بين الخاصّة والعامّة ليس موقع ريبة ، فلا بأس بالعمل بمثلها.

__________________

(١) المتقدّمة في ص ٣٥٢.

(٢) المتقدّمة في ص ٣٥٢.

(٣) تقدّم في ص ٣٥١.

٣٥٤

هذا ، مع أنّ فيما عداها غنى وكفاية.

ولو سلّم صلاحيّة الخبر الظاهر في الكراهة في حدّ ذاته لصرف الأخبار الدالّة على الحرمة عن ظاهرها ، فلا ينبغي الالتفات إلى ظاهره بعد مخالفته لفتوى الأصحاب وإجماعهم ، فلا إشكال في أصل الحكم.

لكنّ مورد جلّ الأخبار الظاهرة في الحرمة خصوص الأكل والشرب ، بل ربما يظهر من بعض الأخبار اختصاصه بإناء الشرب : كصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضّة؟ قال : «نعم ، إنّما يكره استعمال ما يشرب به» (١).

وعن قرب الإسناد روايتها مثلها ، إلّا أنّه قال : وسألته عن المرآة هل وعن قرب الإسناد روايتها مثلها ، إلّا أنّه قال : وسألته عن المرآة هل يصلح العمل بها إذا كان لها حلقة فضّة؟ قال : «نعم ، إنّما كره ما يشرب فيه استعماله» (٢).

لكنّه لا بدّ من تأويلها بعد مخالفة ظاهرها لفتوى الأصحاب وللأخبار الناهية عن الأكل بجعل الحصر إضافيّا أريد به الاحتراز عمّا ليس بآنية ، كالمرآة ونحوها.

ويحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام : «ما يشرب به» كناية عن مطلق الآنية حيث إنّ من شأنها غالبا أن تستعمل في الشرب ، كما أنّه يحتمل أيضا بل لعلّه الظاهر من الرواية إرادة الإناء المفضّض ، لا الفضّة.

وكيف كان فما يصلح الاستناد إليه لتعميم الحكم بالنسبة إلى سائر

__________________

(١) المحاسن : ٥٨٣ / ٦٩ ، الوسائل ، الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ح ٥.

(٢) قرب الإسناد : ٢٩٣ / ١١٥٥ ، الوسائل ، الباب ٦٧ من أبواب النجاسات ، ذيل ح ٥.

٣٥٥

الاستعمالات بعد الإجماعات المحكيّة المعتضدة بالشهرة وعدم نقل الخلاف في المسألة ليس إلّا خبر (١) محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه نهى عن آنية الذهب والفضّة ، الدالّ بإطلاقه على النهي عنها مطلقا في سائر استعمالاتها.

وأمّا ما عداه من الروايات وإن كان بعضها نصّا في إرادة سائر الاستعمالات ـ كصحيحة (٢) محمّد بن إسماعيل ، التي ورد فيها قضيّة المرآة ـ لكنّها لا تدلّ على الحرمة ، لما أشرنا إليه من أنّ الأخبار المتضمّنة للفظ «الكراهة» لا تدلّ إلّا على مطلق المرجوحيّة الصادقة على الحرمة والكراهة.

وما يقال ـ من أنّ مبالغة الإمام عليه‌السلام في تنزيه فعل أبي الحسن عليه‌السلام عن إمساك المرآة الملبسة بالفضّة قرينة على إرادة الحرمة من الكراهة ـ ففيه ما لا يخفى ، خصوصا مع أنّ المرآة بحسب الظاهر غير مندرجة في موضوع الآنية وإن أو همه كلام السائل وجواب الإمام عليه‌السلام ، كما يشهد بذلك العرف واللغة ، بل صحيحة عليّ بن جعفر ـ المتقدّمة (٣) ـ على بعض محتملاتها.

فالظاهر أنّ منشأ ما ذكره السائل من نقل رواية المرآة مجرّد المناسبة بينها وبين الآنية ، أو أنّه فهم لبعض المناسبات أنّ المراد بالآنية التي كرهها الإمام عليه‌السلام ما يعمّ مثلها ، لا خصوص مسمّاها عرفا ، كما يشهد لذلك نقل الإمام عليه‌السلام لقضيّة العبّاس وأمر أبي الحسن عليه‌السلام بكسر القضيب ، مع أنّ القضيب ليس من الآنية

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٥٢ ، الهامش (٢).

(٢) المتقدّمة في ص ٣٥١.

(٣) في ص ٣٥٥.

٣٥٦

بلا شبهة ، فالمراد بالكراهة الشاملة لمثل هذه الأمور ليس إلّا مطلق المرجوحيّة.

والحاصل : أنّه لا يستفاد من الروايات التي ورد فيها التعبير بالكراهة أزيد من المرجوحيّة ، وثبوت حرمة بعض الاستعمالات ـ كالأكل والشرب ـ بدليل خارجيّ لا يصلح دليلا لحمل الكراهة في هذه الروايات على خصوص الحرمة ، بل الإنصاف أنّه لو لا اعتضاد إطلاق خبر محمّد بن مسلم بالفتاوى ، لأشكل استفادة الإطلاق منه أيضا ، لكونه إخبارا إجماليّا عن نهي صادر عن الإمام عليه‌السلام متعلّق بالآنية لم يعرف صورته حتّى يؤخذ بظاهره ، وليس لعبارة ابن مسلم ظهور ـ يعتدّ به ـ في كون متعلّق النهي الصادر عنه عليه‌السلام مطلق استعمالها وإن اقتضاه حذف المتعلّق وإضافة النهي إلى نفس الآنية ، لكن الاعتماد عليه لا يخلو عن إشكال ، فعمدة المستند في التعميم هو الإجماع.

ومن هنا قد يقوى في النظر جواز اقتنائها ، إذا لا إجماع على المنع منه ، فإنّ فيه قولين ، كما ستعرف ، بل ربما يستشعر من الأخبار الناهية عن الأكل والشرب عدم حرمة الاقتناء ، بل وكذا التزيين بها ، فإنّه لا يعدّ استعمالا لها عرفا.

ولو قيل بأنّ التزيين أيضا نحو من استعمالها.

قلنا : كلمات المجمعين منصرفة عن هذا النحو من الاستعمال.

نعم ، لا ينبغي التأمّل في كراهته بل وكراهة الاقتناء أيضا ، لقوله عليه‌السلام في خبر موسى بن بكر : «آنية الذهب والفضّة متاع الذين لا يوقنون» (١).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٥٢ ، الهامش (٣).

٣٥٧

وفي أمر الإمام عليه‌السلام بكسر القضيب في صحيحة (١) محمّد بن إسماعيل أيضا شهادة عليها ، والله العالم.

تنبيه : مقتضى ظاهر النصوص المستفيضة الناهية عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضّة كظاهر المتن وغيره وصريح بعض (٢) متأخّري المتأخّرين : حرمة نفس الفعلين من حيث ذاتهما ، فإيصال ما في الآنية إلى الجوف على وجه صدق عليه عرفا الأكل أو الشرب في الآنية ـ بأن يكون بمباشرة الفم للآنية ، كما هو الغالب في الشرب ، أو بآليّة اليد وما جرى مجراها من الوسائط الغير المنافية للصدق العرفي ـ محرّم وإن لم يكن نفس الإيصال ـ الذي به يتحقّق مفهوم الأكل والشرب ـ إذا لو حظ من حيث هو استعمالا للآنية ، إذ المدار ـ بمقتضى هذه الأخبار ـ على صدق الأكل والشرب في الآنية ، سواء صدق عليهما استعمال الآنية أم لا ، غاية الأمر أنّ حصول العنوان المحرّم ـ الذي هو عبارة عن الأكل أو الشرب في الآنية ، كما في معظم الأخبار ، أو من الآنية ، كما في بعضها ـ ملزوم لتحقّق الاستعمال إمّا لكونه من مقدّمات وجوده ، أو من مقوّمات ماهيّته ، فلو لم يكن لنا دليل دالّ على حرمة استعمال آنية الذهب والفضّة عدا الأخبار الناهية عن الأكل والشرب فيها ، لكنّا نلتزم بإباحة سائر الاستعمالات حتّى المضمضة والاستنشاق ، بل كنّا نقول : لو تناول الشي‌ء من الآنية ووضعه في فمه بقصد الأكل فمنعه مانع من الازدراد ، لم يصدر منه إلّا التجرّي ، وإنّما التزمنا بحرمتها ، للإجماع وغيره ممّا دلّ على حرمة استعمالها مطلقا.

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٣٥١ ، الهامش (٤).

(٢) لم نتحقّقه.

٣٥٨

والحاصل : أنّ مقتضى ظواهر النصوص حرمة نفس الأكل والشرب ، لا مجرّد التناول من الإناء ، كما ذهب إليه جماعة من الأصحاب على ما فهمه منهم صاحب الحدائق (١) ، بل ربما نسبه غير واحد إلى ظاهر المشهور. ولكنّك ستعرف ما في هذه النسبة من النظر.

وقد حكي عن المفيد القول بحرمة ذات المأكول والمشروب ما داما في آنية الذهب والفضّة (٢).

ومآله إلى ما قوّيناه ، لأنّ إضافة الحرمة إلى الذوات إنّما هي بلحاظ الفعل المتعلّق بها ، فالمراد بحرمة المأكول ما دام في الآنية ليس إلّا حرمة أكله فيها.

فالاعتراض عليه بأنّ النهي عن الأكل لا يتعدّى إلى المأكول ليس على ما ينبغي.

وأضعف من ذلك المناقشة في الاستدلال لمذهبه بحديث «يجرجر في بطنه نارا» (٣) : بأنّ الحقيقة غير مرادة ، والمتبادر من المعنى المجازي كون ذلك سببا في دخول النار في بطنه ، وهو لا يستلزم تحريم نفس المأكول والمشروب (٤) ، ضرورة أنّ المتبادر منه كون الأكل بنفسه سببا لجرجرة النار في البطن لا مقدّمته التي هي أجنبيّة عن البطن ، فالمتبادر إلى الذهن من التشبيه ليس إلّا حرمة المأكول ، التي مآلها إلى حرمة الأكل ، كما أنّ هذا هو المتبادر من الأخبار الناهية ، فهذا هو الأقوى ، بل لا يبعد الالتزام بذلك مع قطع النظر عن النواهي المتعلّقة بهما

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

(٢) كما في مدارك الأحكام ٢ : ٣٨١ ، وانظر : المقنعة : ٥٨٤.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣٥١ ، الهامش (٢).

(٤) المناقشة للعاملي في مدارك الأحكام ٢ : ٣٨١.

٣٥٩

بالخصوص وتسليم أنّ المحرّم ليس إلّا استعمال آنية النقدين ، بدعوى صدق استعمال الآنية على الأكل والشرب فيها عند ملاحظة الفعلين على سبيل الإجمال ، إذ ليس حكم العرف بكون الأكل في الآنية استعمالا لها مبنيّا على التدقيقات العقليّة ، فعلى هذا يتّجه حرمة سائر الانتفاعات التي هي من قبيل الأكل والشرب في الآنية ممّا يعدّ بنظر العرف استعمالا لها وإن كان بالتدقيق العقليّ خارجا من موضوعه.

وقد بنى على ذلك غير واحد من متأخّري المتأخّرين ، فحكم ببطلان الوضوء فيها ولو بالاغتراف منها شيئا فشيئا بدعوى كونه استعمالا للآنية ، فيتّحد مع المحرّم ، فلا يصحّ.

خلافا لما حكي عن المشهور من حكمهم بصحّة الوضوء في الفرض ، مستدلّين عليه : بأنّ المحرّم إنّما هو أخذ الماء من الآنية ، وهو خارج من ماهيّة الوضوء (١).

وما تقدّمت الإشارة إليه من نسبة القول بعدم حرمة نفس الأكل والشرب إلى المشهور نشأ من ذلك حيث استظهر من حكمهم بصحّة الوضوء واستدلالهم عليه بأنّ المحرّم ليس إلّا أخذ الماء من الإناء الذي هو من مقدّمات وجوده : التزامهم بمثله في الأكل والشرب ، لعدم الفرق بين الأمثلة لدى التحقيق.

ولكن ظهر بما تقدّم أنّ الاستظهار في غير محلّه ، لإمكان التفصيل بين الأكل والشرب وبين الوضوء ونحوه : بالالتزام بحرمة الأولين دون غيرهما ، إلّا مع

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ٦ : ٣٣٢.

٣٦٠