الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

المسلمين فأصاب شيئا فعطب ، فهو له ضامن» (١).

ومنها ؛ لسانها كذلك : «من حفر بئرا في غير ملكه كان عليه الضمان» (٢).

ضرورة ؛ أنّ «من حفر بئرا في غير ملكه» مثل برّ أو فلاة لم يتوقّع مرور أحد فيهما ، بحيث كان اتّفاق عبور أحد فيهما خلاف العادة ، فاتّفق أنّه مرّ أحد منها فوقع فيه فهلك ، فإنّه لا إشكال ظاهرا في عدم صدق نسبة الإتلاف إلى الحافر عرفا ، فلا يرونه في مثله ضامنا ، كما أنّ من حفر بئرا في ملكه الّذي اعتاد العبور عليه ، ولو كان داره فمرّ أحد فوقع فيه ، أو لم يكن المعمول العبور عليه ولكن اذن أحد بالدخول في داره بحيث لا يصدق عنوان الغرور ، بل جعل اختيار الورود بيده ، أو كان معمولا دخول غنم جاره في داره لو كان بابها مفتوحة ولم يكن راعيه معه فدخل المأذون في الدار ، أو الغنم فيها كذلك مع مسامحته في سدّ بابه فوقعا في البئر ، فإنّه يصدق عرفا في هذه الصورة أنّ صاحب الدار الحافر أتلفهما.

مع أنّه لا ينطبق عليه ما وقع في الحديث من كون الضمان معلّقا على حفر البئر في ملك الغير ، وقد يتصادق الإتلاف عرفا مع ما يستفاد من الأخبار من التحديد مثل ما لو حفر بئرا في غير ملكه مع كونه من الطرق المعتادة العبور عليه ، فوقع فيه أحد من العابرين (٣) ، وغير ذلك من الموارد الّتي قد يجتمعان وقد يختلفان.

فمن ذلك ؛ ظهر أنّ النسبة بين ما يراه العرف تلفا والمعنى الّذي يكون ملاكا لاستناد التلف عند العقلاء ، و [بين] ما يستفاد من التحديد من الأخبار ، عموما

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤٥ الحديث ٣٥٥٤٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الحديث ٣٥٥٣٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الباب ٨ من أبواب موجبات الضمان.

٥٦١

من وجه لو أبقيناهما على ظهورهما ، فيقع التعارض بين الجمود على ظواهر الأخبار ـ مع أنّ جملة منها ظاهرة في كون المحدث في غير الملك قابلا لصحّة استناد التلف إلى المحدث ـ والأخذ بها (١) و [بين] ما يراه العرف والعقلاء ملاكا لصحّة استناد التلف ، ولو كان الموجب له في ملك نفسه بحيث لا يصدق المباشرة.

فيدور الأمر بين حمل ما يظهر من بعض الأخبار من بيان الحدّ على التنظير والتمثيل ، وتعيين المصداق العرفي مقدّمة لبيان الحكم لا للتحديد ، أو حملها على تعيين الضابط وردع العقلاء عمّا هو ملاك صدق الإتلاف عندهم.

ولا إشكال في أنّه لمّا كان الإتلاف معنى عرفيّا وموضوعا عقليّا لا ربط له بالشارع ، ولا مدخليّة لتصرّفه فيه ، لكونه مفهوما ارتكازيّا ، فلا بدّ من حمل الأخبار الظاهرة في خلاف المعنى الارتكازي ، مثل ما يستفاد منها كون ملاك الضمان في حفر البئر هو أن يكون البئر في غير الملك ، على ما لو كان ذلك موجبا لصحّة استناد التلف إلى الحافر ولو كان المباشر غيره ، إلّا أنّه يقع بحيث يرى اختيار المباشر الّذي هو سبب قريب تحت اختيار السبب البعيد وهو الحافر ، لا ما إذا لم يكن كذلك مثل ما مثّلنا به من حفر البئر في برّ غير معتاد العبور منه أصلا ، أو كان في طريق المسلمين ، ولكن كان ذلك لأن ينتفعوا به ، بمعنى أنّ الحفر يرجع إلى مصالحهم ، مع عدم تقصير الحافر في ما هو من لوازم إيجاد البئر في الطريق بحيث يكون الناس مأمونين عن الوقوع فيه ، وغير ذلك من الموارد الّتي لا ينطبق عليها المعنى الارتكازي العرفي للإتلاف ، بحيث يصحّ الاستناد إلى محدث البئر.

__________________

(١) مرّ آنفا.

٥٦٢

فانقدح بما ذكرنا ؛ أنّ الإتلاف معنى عرفيّ ليس فيه اصطلاح ؛ صدقه متوقّف على نظر العرف ، وصحّة الاستناد عند أهله ومصاديقه مختلفة ، فقد يصحّ الاستناد بإيجاد شرطه ، وقد يستند بإيجاد سببه ، كما أنّه يصحّ الاستناد بمباشرة الإتلاف ، فهذه كلّها مصاديق للإتلاف يتوقّف صدق النسبة بها على مساعدة العرف بلا أن يكون لأحدهما اصطلاح شرعيّ حتّى يكون لها موضوعيّة ، فيبحث عنها لاستكشاف المعنى الاصطلاحي لها ، كما لا يخفى ، بل إنّما الباحث عنها إنّما يبحث لتعيين مصداق الإتلاف وتحديده عرفا.

فمن ذلك كلّه ؛ ظهر النظر في ما في كلام صاحب «الجواهر» قدس‌سره في المقام (١) ، حيث اعترض على الأصحاب لتعرّضهم في تعيين معنى السبب بأنّه لا فائدة في هذا التعرّض ؛ لعدم ورود هذا اللفظ في النصّ ، ولا ثمرة في تحديد الضابط به ، بل الضابط إنّما هو يستفاد من الأخبار.

وجه النظر ؛ أنّه قد عرفت أنّه ليس تعرّض الأصحاب لتحديد السبب بلحاظ معناه الشرعي والتزامهم بموضوعيّته ، بل لأنّه كما أنّه لم يرد به نصّ ، كذلك لم يقع لفظ المباشر والتلف أيضا في نصّ ، ولما رأوا إنّما هو ملاك للضمان في كلمات السلف ومعاقد الإجماعات ليس إلّا عنوان التلف ، ولا ينطبق على معناه العرفي ما يستفاد من ملاك الضمان من ظواهر بعض الأخبار (٢) ، مع عدم كون هذه الأخبار صريحة في تحديد ضابط الضمان مختصّا بما لهجت به ، فبمقدّمات عدم الردع استفادوا كون الملاك عنوان الإتلاف وما استقرّ عليه بناء

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٠.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الباب ٨ و ٩ من أبواب الضمان.

٥٦٣

العقلاء من المعنى لهذا العنوان ، فتعرّضوا لتعيين مصاديقه الّتي منها عنوان السبب ، فتأمّل!

ثمّ إنّ الظاهر ؛ أنّ مرادهم من السبب هو معناه الاصطلاحي ، أي ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، وضابطه الكلّي لهذا المعنى أنّ سبب الإتلاف هو ما ينتهي إليه موجب التلف ، بمعنى أن يكون هو مستندا إلى اختياره بحيث ولو كان للغير دخلا في التلف ، إلّا أنّ اختياره يكون تحت اختياره ، بأن يفعل عملا يستند التلف إلى عمله عادة ، كأن يحدث بئرا في طريق معتاد من غير أن [يكون العابرون محفوظين عن الوقوع فيه] أو بالوعة من غير أن تجعلها بحيث يكون العابرون محفوظين عن الوقوع فيها ، وغير ذلك من الموارد الّتي لو وقع تلف يكون المحدث موجبا له عادة (١).

إذا عرفت ذلك ؛ فهنا فروع لا بدّ من أن نتعرّضها. الأوّل : ذكر في «الجواهر» أنّ إحداث البئر في غير الملك مطلقا ـ سواء كان عدوانا محضا أو يكون فيه صلاح للمسلمين ـ هل يوجب الضمان لو وقع به تلف ، أم لا؟ ونقل فيه التفصيل عن بعض بين ما كان صلاحا للمسلمين وأحدث في طريقهم ، وما لم يكن كذلك (٢).

والّذي هو بنفسه قوّاه هو الضمان ، بناء على مسلكه قدس‌سره من الجمود على ظاهر النصّ ، لكونه محدثا في ملك الغير ، أو لكونه مضرّا بطريق المسلمين ، بناء

__________________

(١) ومن المعلوم ؛ أنّه لا يتوقّف في ذلك قصد وقوع التلف ، بل تمام المناط انتهاء الأمر إلى الشخص عادة ، «منه رحمه‌الله».

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٢ و ٥٣.

٥٦٤

على كون المراد به أحدث شيئا بسببه أضرّ المسلمين ، فتأمّل!

وبالجملة ؛ فقد استظهر الضمان مطلقا فيه وفي الملك المشترك في الجملة.

ولكن الّذي ينبغي أن يقال : هو التفصيل ، كما أفاده (استحسنه) المحقّق وأفتى به جماعة من الأعاظم غيرهم ـ قدس‌سرهم ـ (١) ، لأنّه إذا أحدث البئر لمصلحة المسلمين في طريقهم مع عدم تقصيره في شي‌ء ممّا يوقع الناس في الهلكة فاتّفق على خلاف العادة أنّه وقع فيه أحد فتلف ، فبمقتضى قوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (٢) عدم ضمانه ؛ لعدم كون عمله ذلك مشتملا على عدوان وتعدّ أصلا ، بل هو محسن فيه فقط بلا أن يكون تصرّفه ظلما على أحد ، فهو إحسان محض ، فلا موجب للضمان ، بخلاف ما لو أحدثه فيه لصلاح نفسه ، أو أحدثه لا لذلك ولكن قصّر في الأداء بوظائفه من طمّ فم البئر وغيره ، فإنّه لمّا لم يكن عمله ذلك مشتملا على الإحسان فليس شي‌ء يمنع عن الضمان ، حسب ما يقتضيه أصل هذا العمل.

ومن ذلك ظهر ؛ أنّ إحداث البئر في ملكه لا يوجب الضمان لو وقع فيه أحد كان داخلا فيه بغير إذنه ، فإنّه يكون بمنزلة إحداث البئر في طريق المسلمين وإحاطته بحائط فصعد عليه أحد فوقع فيه ، فإنّ الحافر ليس ضامنا ؛ لعدم كون التلف مستندا إليه عادة ، وكذلك دار الشخص وملكه لمّا كان تسلّط عليه وعدم جواز دخول أحد فيه بغير إذنه فيه بمنزلة ذلك الحائط المحيط بالبئر الواقع ، فمن دخل فيه بغير إذنه فوقع في البئر فيكون كمن ألقى نفسه في البئر بلا توجّه ضمان

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٧ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٣.

(٢) التوبة (٩) : ٩١.

٥٦٥

على الغير ولو كان الغير سببا ، ولكن لمّا كانت جهة السببيّة في مثل هذه الصورة ملغاة في نظر العرف ولذلك يكون التلف مستندا إلى المباشر نفسه.

وبالجملة ؛ فلمّا بنينا على كون المراد من السبب في المقام هو بمعناه الاصطلاحي من كون المناط (١) في استناد الضمان صحّة نسبة الإتلاف إلى السبب ، بأن يكون بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، ولكن لا بالنسبة إلى مادّة التلف بل بالنسبة إلى هيئة الإتلاف ، بمعنى أنّه ولو كان يصحّ استناد المادّة إلى غيره كما إذا قدّم أحد طعاما مسموما إلى غيره وأمره بأكله مع كون الآكل جاهلا به رأسا ، فإنّه وإن لم يكن التلف مستندا إلى الآمر إلّا أنّه لا إشكال في أنّ الإتلاف مستند إليه ، ففي الصورة المذكورة لمّا كان الإتلاف أيضا مستندا إلى الداخل بغير إذن المالك فيصير من المقامات الّتي يكون المباشر أقوى من السبب هذا.

تقديم المباشر على السبب وبالعكس

الفرع الثاني : قال في «الشرائع» : (لكن إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر في الضمان على ذي السبب) (٢) .. إلى آخره.

اعلم! أنّ هنا صورا أربعا نتعرّضها ،

__________________

(١) فالمناط في صدق النسبة وصحّته هو أن يصحّ استناد هيئة الإتلاف به بالسبب ، وإن كان بالنسبة إلى المادّة ، وهي والتلف شرطا أو مقتضيا كحفر البئر في الطريق المعمورة عدوانا ، فإنّ الحفر لا يلزم من وجوده الوقوع في البئر ، ومن عدمه عدمه ، بل هو شرط أو مقتض بالنسبة إلى التلف ، ولكنّه بالنسبة إلى الإتلاف عرفا يكون يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم «منه رحمه‌الله».

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٧.

٥٦٦

الأوّل : هو أن يكون المباشر مقدّما على السبب ، كما إذا حفر أحد بئرا في غير ملكه عدوانا فألقى آخر أحدا فيه ، فإنّه لمّا يكون التلف ، وكذلك الإتلاف مستندا إلى الملقي ، وإن كان الحفر شرطا بالنسبة إلى التلف ، مع ذلك يكون الملقي لقوّته ضامنا ، لما عرفت من أنّ الشرط والمقتضي لا يؤثّران بالنسبة إلى الضمان ، بل هو تابع لصدق عنوان الإتلاف المتحقّق بالمباشرة أو التسبيب بلا أن يكون لهما موضوعيّة ، وقد أوضحنا مناط صدق التسبيب ، ومن المعلوم أنّه بمعناه في الصورة المفروضة لقوّة المباشر لا يصدق ، فلا مقتضي لضمان غير المباشر استقلالا ولا اشتراكا.

ومن ذلك ؛ ظهر النظر في ما مال إليه في المقام صاحب «الرياض» قدس‌سره خلافا للمشهور ، فإنّه قدس‌سره لمّا زعم كون التسبيب عنوانا مستقلّا في عرض عنوان الإتلاف فمال هنا إلى اشتراك الحافر والملقي في الضمان (١) ، وقد عرفت ضعف ذلك بما لا مزيد عليه ، بل قد ظهر من ذلك أيضا حكم ما لو صدق على فعله ـ أي المسبّب ـ الإعانة ، ففيه أيضا يكون المباشر هو الضامن ؛ لأنّ الإعانة مثل نصب السكّين ونحوه لا يخرج عن كونه مقتضيا أو شرطا (٢) وقد قلنا : إنّه لا مدخليّة لهما في الضمان.

وبالجملة ؛ فما لم يصدق عنوان الإتلاف استقلالا أو اشتراكا فلا يوجب الضمان ، فعلى فعل المعين إن صدق الاشتراك فيصير شريكا في الضمان ، وإلّا

__________________

(١) رياض المسائل : ٨ / ٣٣٥.

(٢) بعد صدق الإتلاف على المباشر ، «منه رحمه‌الله».

٥٦٧

فلا ، فانقدح أنّه لا وجه لتأمّل صاحب «الجواهر» في المقام (١) ، فتأمّل!

الثانية : هي ما يقدّم السبب في الضمان ، كمن حفر بئرا في طريق المسلمين فوقع فيه أحد من العابرين فعطب ، فهنا وإن كان مباشر التلف نفس العابر ؛ لاستناد مادّة التلف إلى حركته باختياره ، ولكنّ اختياره هذا بالنسبة إلى الإتلاف كلا اختيار في جنب اختيار الحافر ؛ لانطباق ما هو مناط السببيّة على فعله ذلك ، وعدم تأثير لحركة المباشر بالنسبة إلى الإتلاف ، بل هو مستند عند العرف على الحافر ، مع كون ذلك من مصاديق ما يستفاد من أخبار الضمان.

اجتماع السببين

الثالثة : هي ما لو اجتمع السببان ، كما إذا حفر أحد بئرا ووضع آخر عنده حجرا فعثر به إنسان فوقع في البئر إنسان فهلك ، بحيث يكون الهلاك مستندا إليهما ، ويكون كلّ منهما دخيلا في التأثير ، بمعنى أنّه لو لم يكن المعثر لما كان يقع أحد في البئر ، وكذلك لو لم يكن البئر فالمعثر لا يوجب الهلاك.

فقد اشكل الأمر في هذه الصورة ، وكذلك الصورة الآتية في صدق الاستناد ، وصحّته بهما جميعا ، أو بالسابق في التأثير ، أو بالسابق زمانا ، ونشير أوّلا إلى توضيح عبارة وقعت في المقام من «المسالك» و «التذكرة» ثمّ نذكر ما هو التحقيق من الحكم في المسألة.

قال في «المسالك» : (فإن اتّفقا في وقت واحد اشتركا في الضمان لعدم

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٥.

٥٦٨

الترجيح ، وإن تعاقبا فالضمان على المتقدّم في التأثير لاستقلاله أوّلا) (١) .. إلى آخره (٢). وقريب [من] ذلك عبارة «التذكرة» (٣).

نقول : إن كان مرادهما من «اتّفقا» هو اتّفاق حدوث السببين زمانا ، بأن يكون حفر البئر مع وضع الحجر في زمان واحد ، فأيّ معنى لقولهما في صورة التعاقب : كون الضمان على المتقدّم في التأثير؟ ضرورة أنّه كما يكون أحدهما في صورة التعاقب في الإحداث متقدّما في التأثير ، كذلك يكون في صورة الاتّفاق في الحدوث ، إذ لا ملازمة بين اتّفاق زمان إحداث السببين واتّفاقهما في التأثير كما لا يخفى ، وإن كان مرادهما ـ قدس‌سرهما ـ من «الاتّفاق» ، اتّفاقهما في التأثير ، فلا معنى لتقابل العبارة بقولهما : (وإن تعاقبا) .. إلى آخره ، إذ قد عرفت أنّه كما يمكن أن يترتّبا في التأثير عند التعاقب في الحدوث كذلك أمكن عند اتّفاق زمان الحدوث الترتيب أيضا.

وبالجملة ؛ إن كان المناط في الاختصاص بالضمان عند اجتماع السببين هو الأسبقيّة من حيث الزمان فلا مجال للقول بالاختصاص في صورة التعاقب المتقدّم في التأثير ، وإن كان المناط هو الأسبقيّة في التأثير فلا مجال لإطلاق القول باشتراكهما في الضمان عند اتّفاق السببين من حيث زمان حدوثهما.

أقول : الظاهر أنّه استشكل ـ دام ظلّه ـ (٤) على العبارة هكذا ، ولكن الظاهر أنّ مرادهما من «اتّفقا» هو اتّفاق السببين في التأثير بلا أن يكون أحدهما مقدّما

__________________

(١) في المصدر : لاشتغاله بالضمان.

(٢) مسالك الإفهام : ١٢ / ١٦٤.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٧٤ ط. ق.

(٤) الظاهر أنّ استشكاله في العبارة هو ما ذكرنا. «منه رحمه‌الله».

٥٦٩

على الآخر ، ولذلك حكما باشتراكهما في الضمان ، ومن التعاقب أيضا التعاقب في التأثير ، ولذا أشرنا باختصاص الضمان بالمتقدّم تأثيرا ، والشاهد على ذلك هو استدلالهما بعد ذلك بما يؤيّد ما ذكرنا.

وعليه ؛ لا إشكال في العبارة وإن لم يخل أصل ما فرضنا من إشكال ، وكأنّه يستظهر من هذه العبارة في ذيل ما نقلنا وهو قوله : (فالضمان على المتقدّم في التأثير) كون المراد من الاتّفاق والتعاقب في كلامهما إنّما هما من حيث الزمان ، فيستشكل عليهما ، فتأمّل!

وأمّا حكم أصل المسألة ؛ فقد يحتمل أن يكون الضمان على مسبّب السبب الأوّل ، وهو واضع الحجر في المثال ، لأنّه وإن كان الوقوع في البئر أيضا سببا للهلاك فموجد البئر أيضا دخيل في الوقوع والهلكة ، إلّا أنّه لمّا كانت السببيّة الثانية مستندة إلى الاولى ، بحيث لو لم يكن الحجر الموجب للعثور لما يتحقّق الوقوع في البئر الموجب للعطب ، ففي الحقيقة التلف مستند إلى السبب الأوّل فهو ضامن.

وقد يحتمل ضعيفا أن يكون الضمان على السبب الثاني ـ الّذي هو البئر في المثال ـ لأنّ العثور وإن أوجب الوقوع في البئر إلّا أنّه لمّا كان منشأ التلف هو الحركة المتحقّقة من أوّل العثور إلى الوقوع تحت البئر ، والهلكة إنّما تقع حين الوقوع في البئر والقرار فيه ، فهو الجزء الأخير للعلّة التامّة ، ومن المعلوم أنّ الشي‌ء يستند إلى الجزء الأخير من علّته ، ففي الحقيقة البئر أوجب العطب ، ولذلك يستقرّ الضمان على حافره.

ولكنّ التحقيق ؛ يقتضي الاشتراك في الضمان ، ضرورة أنّه بعد أن عرفت

٥٧٠

كيفيّة تأثير كلّ من السببين في التلف ، بمعنى أنّه لو لم يكن الحجر موضوعا لم يتحقّق الوقوع ، وكذلك لو لم يكن البئر لم يكن العثور موجبا للعطب فيصير كلّ من أجزاء العلّة من قبيل المعدّات ، ولا شبهة أنّه في المعدّات يكون المعلول المترتّب عليها مستندا بالجامع بينها ، ولا يلاحظ تقدّم وجود بعضها خارجا حتّى يستند لتقدّمها كذلك إليها المعلول ، وكذلك بالنسبة إلى الأخيرة.

ففي المقام ؛ لمّا كان في الحقيقة سبب الوقوع في البئر ، وكذلك العثور هو حركة العابر وسيره من الجانب الّذي هما واقعان فيه ، فالسبب الحقيقي للتلف هو نفس الحركة المتحقّقة من حين ابتداء العثور إلى الوقوع في البئر المستندة هذه الحركة إلى اختيار العابر ، إلّا أنّه لمّا كان مطلق الحركة لا يوجب الهلكة ، بل إنّما الموجب لها هو الحركة الخاصّة المكيّفة بكيفيّة الوقوع في البئر ، والموجب لصيرورة الحركة المطلقة هذه الحركة الخاصّة المتلفة هو كون الحجر في طريقه وهكذا البئر ، فالحجر الموجب للعثور والبئر المحفور هما شرطان بالنسبة إلى التلف ومقتضيان لتحقّق هذه الحركة ، ولا ترجيح لأحد الشرطين على الآخر ، بل هما متساويان في التأثير ، فيكون الجامع بينهما هو شرطا ومقتضيا ، فسببيّة السبب مستندة إلى هذا الجامع ولذلك يسمّى الشرطان بالسبب ، فتصير نتيجة ذلك هو اشتراك الحافر وواضع الحجر في الضمان ، لما اتّضح من تساوي العثور والوقوع في صدق تسببيّة الإتلاف بهما.

ثمّ إنّه ؛ بعد أن انقدح ممّا ذكرنا اشتراك السببين في الضمان ـ كما قوّاه صاحب «الجواهر» قدس‌سره (١) أيضا ـ فلا بدّ من البحث في كيفيّة الاشتراك ، هل يكون

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٦.

٥٧١

كلّ منهما ضامنا للتالف مستقلا ، أو يشتركان في تضمّنهما بشي‌ء واحد شخصيّا (١) أم بدلا كليّا للتالف؟

والأقوى الأخير ؛ لعدم مقتض لغيره ، أمّا استقلالهما في الضمان فلأنّه تابع للاستقلال في الإتلاف ، وقد عرفت أنّهما محدثان للجامع بين مقتضي السببيّة ، فالجامع هاهنا يكون سببا بعد عدم تعقّل استقلالهما في التأثير ، فلا دليل ولا موجب لاستقلالهما في الضمان.

وأمّا عدم ضمانهما لشخص التالف فلأنّه قد التزمنا بذلك في باب اليد ـ خلافا للمشهور ـ واعتبرنا وجودا اعتباريّا على اليد ، لما كان يقتضيه ظاهر قاعدة اليد ، وأمّا في باب الإتلاف فلا داعي لذلك ، مع أنّه لا منشأ لانتزاع ذلك الوجود الاعتباري في المقام ، بل هنا حسب ما تقتضيه القضيّة التعليقيّة الّتي هي معنى الضمان في باب الإتلاف ـ كما فهمها الأصحاب من لفظ الضمان ـ هو اشتغال ذمّة بكلّي في الذمّة بدلا عن التالف عند التلف ، إلّا أنّه إذا كان المتلف لمال الغير شخصا واحدا فتكون ذمّته منفردا مشغولة بذلك الكلّي ، وإذا كان التلف من شخصين أو أزيد ناشئا فذمّتهم مجموعا مشغولة بذاك الكلّي ، فظهر من ذلك عدم دليل للاحتمال الثاني أيضا ، فيتعيّن الثالث.

هذا ؛ ولكن ما أفاده ـ دام ظلّه ـ بعد لا يخلو عن تأمّل ، أمّا في أصل المسألة ؛ فلأنّه لمّا كان تأثير السبب الثاني ناشئا عن تأثير الأوّل بحيث تستند شرطيّة البئر للتلف إلى تحقّق شرطيّة العثور ، فالعرف يرى العثور بنفسه سببا تامّا لإسنادهم الشي‌ء إلى السبب الأوّل ، ولا يرونهما من قبيل المعدّات ، فالحقّ هو ما

__________________

(١) حسب ما قلنا في قاعدة اليد ، «منه رحمه‌الله».

٥٧٢

أفتى به العلّامة في «التذكرة» وكذلك غيره (١).

وأمّا في كيفيّة الضمان ؛ فلأنّ ظاهر القاعدة المسلّمة المستفادة من أخبار الأئمّة عليهم‌السلام وهي «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (٢) لرجوع ضمير «له» إلى المال المتلف يقتضي هنا أيضا اعتبار وجود للعين على العهدة ، واشتغال الذمّة بنفس العين كان تقتضيه لفظة «ما الموصولة» وغيرها في قاعدة «على اليد» ، فما وجه الفرق (٣) بين المقامين؟ فتأمّل!

الصورة الرابعة : وهي ما لو اجتمع السببان ، ولكن بحيث يكون سببيّة الثانية مستندة إلى الاولى ، وبمعنى أنّه لم يكن السبب الثاني الّذي هو مباشر الإتلاف مصداقا للسبب بالمعنى الّذي قلنا ، بأن يكون التلف مستندا إلى اختياره ، بل كان لاختيار الغير في وقوع التلف تمام التأثير ، بحيث يكون اختيار الثاني تحت اختياره إمّا بإجباره إيّاه أو بإغفاله ، ففي الحقيقة يكون ذلك من اجتماع السبب والمباشر.

وتفصيل القول في ذلك : أمّا في الإغفال المسمّى بالغرور ففي ضمان الغارّ أو المغرور أو كليهما احتمالات (٤) ، ولا يخفى أوّلا أنّ المغرور على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يكون مغرورا في إتلاف مال الغير أو في إتلاف مال نفسه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٧٤ ط. ق ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٦.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، انظر! القواعد الفقهية : ٢ / ٢٨.

(٣) وأمّا الضمان فحقيقته معنى اعتباري تابع لكيفيّة اعتباره ومنشأ انتزاعه ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

(٤) وقد ذكر في «الشرائع» بعد عدّة فروع في مسألة بدل الحيلولة جواز الرجوع للمالك إلى كليهما وعليه المشهور ، بل على ما يظهر من «الجواهر» إجماعيّة وارتضاه ـ دام ظلّه ـ أيضا فتأمّل «منه رحمه‌الله» (شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٥ و ٢٤٦ ، جواهر الكلام : ٣٧ / ٥٧ و ٥٨).

٥٧٣

أمّا في الأوّل ؛ فأقوى الاحتمالات على حسب ما تقتضيه القاعدة هو الاحتمال الثاني.

بيان ذلك : أنّه لا إشكال في أنّ المغرور اختياره بالنسبة إلى نفس الفعل المتحقّق به ذات التلف تامّ ، وليس من هذه الجهة نقص في إرادة المباشر المغرور.

نعم ؛ إرادته بالنسبة إلى عنوان مال الغير ناقصة ، بمعنى أنّه من هذه الجهة ليس له اختيارها ، بل مقهور للغارّ فيصدق على فعله إتلاف المال ، وإن لم يصدق عنوان كونه مال الغير ، ويكفي الأوّل في استناد التلف إلى المغرور ، فيصير ضامنا للمالك ، ضرورة أنّ الضمان ليس معلّقا على الإتلاف المقيّد بكون المتلف مالا للغير ، بل الإتلاف في ظرف كونه كذلك ـ أي مالا للغير يوجب الضمان ، ولذلك يضمن النائم والساهي ـ يوجب الضمان ، فتأمّل!

نعم ؛ لمّا يصدق الإتلاف على فعل الغارّ أيضا بحيث يستند الإتلاف إلى من قدّم طعاما للغير عند إنسان وأمره بأكله بعنوان كونه مالا لنفسه ، فيرى العرف المقدّم ضامنا أيضا مع كون إرادته بالنسبة إلى الآكل أتمّ ، بمعنى أنّه يصدق على فعل الآكل ـ كما بيّنا ـ إتلاف المال فقط ، ولكن يصدق على فعل الغارّ المقدّم إتلاف مال الغير ، فمن هذه الجهة إرادته أيضا موجودة ، كما بالنسبة إلى ذات الإتلاف متحقّقة ، فلتماميّة إرادته بالنسبة إلى المغرور ـ حتّى لا يكون له اختيار من هذه الجهة أصلا ، بل هو مقهور صرف للغارّ ـ فللمغرور الرجوع إلى الغارّ.

أقول : ولمّا لم يخل هذا البيان عن النظر ، ولعلّه لذلك عدل ـ دام ظلّه ـ عن ذلك إلى بيان آخر ، وهو أنّه لا إشكال أنّ الإرادة إذا توجّهت إلى فعل يكون

٥٧٤

الغرض إيجاد مادّة هذا الفعل ، فإذا توجّهت الإرادة إلى التلف فيكون الغرض إيجاد هذه المادّة في الخارج ، فلذلك يسند الفعل إلى مريد هذا الفعل إذا أوجده ، وكذلك إذا تعلّقت الإرادة بالإتلاف فلمّا يكون الغرض إيجاد ذلك فيقال : إنّه أوجد الإتلاف ، فكذلك يستند إيجاده إلى مريده أنّه أوجد الإتلاف بعد تحقّق المادّة في الخارج.

إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّ المغرور إذا توجّهت إرادته إلى أكل مال الغير فأكله بأمر الغارّ ، فلمّا يصدق على فعله ذلك إتلاف مال الغير ، فيصير ضامنا لصاحب المال (١) ، وكذلك الغارّ بعد أمر المغرور على أكل المال وإغراره فيه ، لما يصدق على عمله أنّه أوجد الإتلاف ، فالخسارة الّتي تتوجّه على المغرور لتضمين صاحب المال إيّاه أوجبها الغارّ ، ولذلك يجب عليه تدارك خسارته ، فكما أنّ المغرور أتلف مال الغير فكذلك الغارّ أتلف مال المغرور فيضمن ما يعطيه بالمالك ، فيرجع إلى الغارّ بعد أدائه.

فانقدح من ذلك ؛ أنّ المتلف لمال الغير حقيقة إنّما هو المغرور ، ولذلك ليس لصاحب المال الرجوع إلى غيره ، والغارّ إنّما هو متلف لمال المغرور ، وهو ما يؤدّيه عوضا عمّا أتلف ، فتتوجّه عليه الخسارة ، ولذلك ليس له الرجوع إلى الغارّ قبل أدائه شيئا ، ففي الحقيقة ما يعطيه الغارّ إنّما هو غرامة عمّا أوجب فواته عن المغرور لا أن يكون هو ضامنا لصاحب المال.

فظهر أنّ ما يستفاد من النصّ بدلالة الالتزام ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المغرور يرجع

__________________

(١) فليس اختيار المغرور في ما فعل بالنسبة إلى اختيار الغارّ كلا اختيار ، فتكون إرادته تحت إرادته الّذي كان ذلك ملاكا لصحّة سلب الإتلاف عن فعل المباشر واستناده إلى السبب ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

٥٧٥

إلى من غرّ» (١) من إثبات رجوع حقّ للمالك إلى المغرور إنّما هو موافق لما تقتضيه القاعدة.

وتبيّن ممّا ذكرنا حكم الصورة الثانية ؛ وهي أن يصير مغرورا في إتلاف مال نفسه فإنّه يجري هنا أيضا ما بيّناه في ما تقدّم إذا كان مباشرته لإتلاف مال نفسه بأكله أو غيره تحت اختيار السبب الأوّل ، وهو الغارّ فلمّا يستند الإتلاف إليه فيصير ضامنا للمغرور.

ضمان المكره وعدمه

وأمّا الثاني ؛ وهو ما إذا كان السبب الثاني الّذي هو المباشر مكرها ، فالكلام فيه في مقامين :

الأوّل : في الحكم التكليفي له ؛ قد أشرنا عند بيان قاعدة «لا ضرر» أنّ الرافع للحكم التكليفي في باب المحرّمات ليس إلّا قاعدة الحرج ، فهي إذا صدقت يرتفع التكليف ويجوز ارتكاب المحرّمات ، ولا إشكال أنّ مسألتنا ـ وهو إتلاف مال الغير ـ إنّما هي أيضا من المحرّمات ، فارتفاع الحرمة عن عمل المكره إنّما يتوقّف على أن يكون المكره عليه حرجيّا ، بأن يترتّب على تركه الضرر الحالي أو العرضي على المكره لا مطلق الضرر ما لم يصل إلى حدّ الحرج ، هذا بالنسبة إلى المكره وعمله.

وأمّا بالنسبة إلى المكره ـ بالكسر ـ فالتحقيق أنّه لا يتوقّف كون فعله وإكراهه حراما على كون المتوعّد عليه أمرا حرجيّا ، بل يكون فعله حراما مطلقا ،

__________________

(١) النهاية لابن الأثير : ٣ / ٣٥٦ ، القواعد الفقهيّة : ١ / ٢٧٠.

٥٧٦

ولو لم يوجب إكراهه وإلزامه عند ترك المكره ـ بالفتح ـ إلّا توجّه الضرر اليسير عليه ، ولو بأن يكون شاغلا على عمل غير قابل الآن رفع اليد عنه من غير أن يترتّب على رفع يده عنه ضررا عليه ، بل أوجب ذلك صدور الفعل المكره عليه عنه عن كره فقط.

وبالجملة ؛ فمناط كلّ من الحكم الوضعي والتكليفي في المقام مختلف ، فلا إشكال في أنّ إلزام الغير على إصداره فعلا بغير رضاه لا عن طيب نفسه حرام ولو لم يقع بتركه ذلك في أمر حرجيّ ، ولكن هذا المقدار من الإكراه لا يوجب ارتفاع الحكم الوضعي ـ وهو الضمان ـ عن المكره ، وجعله على عهدة المكره ـ بالكسر ـ لما هو المحقّق من أنّ أدلّة الحرج هي الّتي تكون حاكما على أدلّة المحرّمات.

ولكن في المقام هذه القاعدة أيضا لا تثمر بالنسبة إلى رفع الضمان عن المكره ـ بالفتح ـ وذلك لأنّه قد أوضحنا سابقا أنّ القواعد الّتي وردت في مقام الامتنان مثل قاعدة الحرج ، وكذلك قاعدة السلطنة وغيرها لا يتقدّم أحدها على الاخرى ، ولذلك لا ترتفع ولا تسقط سلطنة المالك عن ماله المستتبعة لسلطنته على متلفه وهو المكره ، لكون تركه التلف يوجب وقوعه في الأمر الحرجي.

نعم ؛ قد أشرنا أنّه يسقط الحكم التكليفي عنه لحكومة أدلّة الحرج على الأحكام التكليفيّة ، وأمّا ضمانه فقد ظهر أنّه لإتلافه ثابت ، وعلى حسب القاعدة ليس للمالك الرجوع إلى غيره لكونه باختياره أتلف مال الغير ، ويصح نسبة الإتلاف إليه ، فالحكم بضمان المكره ـ بالكسر ـ أو المكره في المقام تابع لصدق نسبة الإتلاف إليهما ، فعلى أيّ منهما صدق نسبة الإتلاف فهو ضامن ، وإلّا

٥٧٧

فقاعدة الحرج ونحوها لا تعارض الضمان المسبّب عن سلطنة المالك على ماله ومتلفه ، ولا إشكال أنّ النسبة بين صدق الحرج وصدق الإتلاف في مورد المكره عموما من وجه ، لأنّه ربّما يصدق الحرج بلا صدق الإتلاف ، كما إذا أوعد المكره على أمر يكون ضررا عليه من ضرر حالي وغيره ، ولكن لا يصحّ سلب نسبة إتلاف المال عنه بمعنى أن يصدر الفعل عنه عن اختيار.

ولا يتوهّم أنّ المكره مطلقا لا يكون مختارا في الإتلاف وإنّما اختياره يكون تحت إرادة الغير وهو المكره ـ بالكسر ـ فمطلقا هو غير مختار في الإتلاف سواء كان المتوعّد عليه ضرريّا أم حرجيّا أو فوقهما.

ودفع ذلك هو أنّه لا خفاء أنّ صدق نسبة الإتلاف وصحّته دائر مدار صدور الفعل عن قصد وإرادة ، ومن المعلوم أنّ إيعاد المكره على إتلافه مال الغير لا يوجب ذلك سلب الإرادة عنه مطلقا ، ولو كانت إرادته تحت إرادة الغير ، وذلك لأنّه بيّنا في محلّه أنّ المكره على أمر لكونه متوعّدا على المكروه إنّما يكون في الحقيقة مكرها على الجامع بين المكره عليه والمتوعّد عليه ، بحيث يكون كلّ واحد منهما في ظرف عدم الآخر تحت طلب المكره وإرادته ، فكلّ منهما بخصوصيّته يكون تحت إرادة المكره ـ بالفتح ـ واختياره ، فإذا اختار المكره عليه لما كان بخصوصيّة تحت إرادته واختياره ، ولذلك تصحّ نسبة إتلاف المال إليه (١).

فإذا صدق ذلك وإن كان لو لم يفعل ذلك ليقع في الضرر والحرج ، فمقتضى

__________________

(١) وبذلك صحّحنا معاملة مكره وقلنا بأنّ الالتزام بصحّته عند الإجازة هو الموافق للقاعدة ، لا العكس ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

٥٧٨

القاعدة الحكم بضمانه خاصّة دون المكره ، بعد ما عرفت من عدم منع قاعدة الحرج عن جريان قاعدة السلطنة.

وقد تصدق نسبة الإتلاف إليه بلا لزوم الحرج عليه عند تركه الإتلاف ، وهو كما إذا كان المكره مسلوب الإرادة في الفعل حتّى في اختياره الخصوصيّة ، وهذا الّذي نحكم بضمان المكره ـ بالكسر ـ ونلتزم به على حسب القاعدة ، سواء صدق الحرج أم لا ، وقد لا يصدق الحرج ولا الإتلاف ، وهو ما لو كان المتوعّد عليه أمرا ضرريّا مطلقا بلا وصوله إلى حدّ الحرج ، وهنا وفي الصورة الاولى لا مقتضي لضمان المكره ـ بالكسر ـ بل على القاعدة إنّما يكون ضمان التلف على المكره بالفتح.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ ما أضاف في «المسالك» هنا في صدق الإكراه زائدا على ما يعتبرون في صدقه في سائر المقامات من كون الضرر المتوعّد عليه حاليّا إنّما يقيّد ذلك (١) ، بالنسبة إلى رفع الحكم التكليفي عن المكره ، وإلّا فبالنسبة إلى الضمان ورفعه فلا يثمر شيئا ، فالتحقيق في المقام هو الحكم بضمان المكره ـ بالفتح ـ على حسب القاعدة دون المكره ، كما أفاده في «الجواهر» وقال : إنّ مقتضى القاعدة ضمان المكره ـ بالفتح ـ دون المكره إلّا أن يمنع من ذلك انعقاد الإجماع على الخلاف ، فإن تحقّق فهو المحكم.

نعم ؛ يمكن جريان ما ذكرنا في وجه ضمان الغارّ هنا أيضا ، وعليه فيتمّ ضمان المكره ـ بالكسر ـ لما أوجب بإكرامه إتلاف مال المكره على القاعدة. قد ذكر الأصحاب ميزان صدق الإكراه في كتاب الطلاق ، واشترطوا فيه شرائط

__________________

(١) مسالك الإفهام : ١٢ / ١٦٥.

٥٧٩

ثلاثة وأشار إليها شيخنا قدس‌سره في «المكاسب» عند ذكر شرائط صحّة البيع أيضا (١) ، والفرق بين الإكراه والاضطرار هو أنّ الثاني يكون من الدواعي غالبا ، ولذلك لا يجري دليل رفع الاضطرار في المعاملات ؛ لعدم خلوّها عن الدواعي الاضطراريّة غالبا مع عدم المدخليّة للدواعي في المعاملات ، ولكن تجري في التكاليف.

وأمّا الأوّل وهو الإكراه فهو إلزام على نفس الفعل ، ولذلك لمّا يخرج الفعل عن الاختيار فيسقط عن المؤثريّة ، فهو يجري في المعاملات والتكاليف كليهما ، وإن كان يختلف من بعض الجهات ، كما أشرنا إليه.

ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق .. إلى آخره.

هنا صور ، لأنّ إرسال الماء وتأجيج النار إمّا أن يكون للحاجة ولم يتجاوز عن حدّها ، أو لم يكن كذلك ، وفي كلتا الصورتين إمّا أن يكون المالك ـ أي مرسل الماء وغيره ـ عالما بالتعدّي ، أو ظانّا به ، أو لم يكن كذلك ، والحكم الجامع لجميع الصور هو أنّ الضمان لتلف مال الغير المسبّب عن إرسال الماء في ملك نفسه أو تأجيج النار فيه تابع لصدق الإتلاف ، ولا يختلف في ذلك تجاوز إرسال الماء عن قدر الحاجة وعدمه ، ولا العلم أو الظنّ بسببيّة ذلك للتلف ولا عدمهما ، وذلك لما بيّنا سابقا من أنّ الضمان الحاصل بسبب الإتلاف ليس تابعا للعلم ، بل هو من الأحكام الوضعيّة الثابتة ، ولو في ظرف جهل مسبّب التلف ، وكذلك لا تمنع قاعدة «السلطنة» عن الضمان أيضا فيما إذا لم يتجاوز الماء أو النار عن قدر الحاجة فأوجب مع ذلك تلف مال الغير ؛ لأنّه قد تحقّق في السلف

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٣٢٧.

٥٨٠