الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

ثالثها : أن يكون الظرف متعلّقا لقوله عليه‌السلام : «قيمة بغل يوم خالفته» إمّا باعتبار أنّ القيمة هي بمعنى العوض وهو مصدر ، أو يكون قيدا للاختصاص المستفاد من إضافتها إلى البغل.

هذه احتمالات في معنى هذه الفقرة من الحديث ، وأمّا لوازمها فمعنى الأوّل لا ينافي ما قلنا من اقتضاء القاعدة ضمان قيمة يوم التلف ؛ إذ قد ظهر أنّ المراد بالظرف على ذاك المعنى يكون أنّ من يوم صيرورة يد المستأجر يد ضمان يتعلّق بذمّته قيمة البغل ، وإنّما عبّر عنه بالنكرة للإشارة إلى أنّه لمّا كان البغل المستأجر ميّتا فيفرض بغل مثله فيعتبر قيمته به.

وبالجملة ؛ فلا يكون مدلول الحديث أزيد من ذلك ، وأمّا بالنسبة إلى اعتبار أيّ يوم للقيمة فساكت ، ولا يستفاد منه شي‌ء من هذه الجهة كما هو ظاهر ، وكذلك لازم المعنى الباقي الّذي قد عرفت بعده أيضا مثل ذلك.

وأمّا المعنى الأخير ؛ فواضح أنّ لازمه تعيين يوم اعتبار القيمة وهو يوم الغصب أيضا ، فعليه تكون الجملة الجوابيّة مضافا لتعرّضها للجواب عن المسئول عنه ـ وهو ثبوت أصل الضمان ـ أيضا مشتملا على أمر زائد وهو تعيين اليوم الّذي لا بدّ من اعتبار قيمة البغل فيه.

وأمّا الكلام في استظهار هذه المعاني وترجيح بعضها على الآخر ؛ فلا يبعد استظهار المعنى الأخير ، فإنّ المتبادر من هذه المعاني إلى الضامن من أول الأمر خصوصا لمن كان خالي الذهن عن الاحتمالين الأخيرين ، هو أنّ الضمان يتعلّق بقيمة يوم المخالفة وانسباق المعاني الأخر إلى الذهن إنصافا يحتاج إلى مئونة زائدة على ما يتبادر من جملة «قيمة بغل يوم خالفته» كما لا يخفى.

٦٤١

ولكن الّذي يبعّد هذا المعنى هو أنّ الجواب لا ينطبق على السؤال كما ينطبق عليه غيره من الاحتمالين ، لأنّ السؤال إنّما هو عن أصل الضمان لا عن كيفيّته حتّى يصير هذا الجواب قابلا له.

وبالجملة ؛ إنّ الجواب على هذا المعنى لا يرتبط بالسؤال كما يرتبط الاحتمال الأوّل كما لا يخفى لمن تأمّل.

ولكنّ الّذي يشكل الأمر ؛ هو أنّ الأصحاب ما استفادوا من الحديث ذلك ، فإنّ من التزم بكون المناط في الضمان قيمة يوم التلف ـ كما أنّ الشهرة المتأخّرة مستقرّة على ذلك ـ قد أفتوا على خلاف هذا المعنى ، وإن كان لم يعلم كون وجه إفتائهم ومستندهم هذا الحديث ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو الفتوى بذلك وإن كان يحتمل أن يعتمدوا على هذا الحديث أيضا ، لاستظهارهم المعنى الأوّل منه ، وإحرازهم عدم الخصوصيّة لهذا القيد ، أي «يوم المخالفة» لاختلاف التعبير في الحديث ، فقد عبّر بعد ذلك بجملة «بيوم الاكتراء» وكذلك بعده عند بيان حكم الأرش قد اعتبر «يوم الردّ» فمن هذا الاختلاف استفادوا عدم الاعتبار بقيمة ذاك اليوم ، وإنّما عبّر به لعدم اختلاف القيمة غالبا من يوم الغصب إلى يوم التلف في خمسة عشر يوما ، وكذلك الّذين اعتبروا قيمة يوم الغصب أيضا ما تمسّكوا بهذا الحديث ، وإنّما اعتمدوا على ما توهّموا من اقتضاء القاعدة ذلك.

وبالجملة ؛ فيدور أمر الحديث بين طرح هذه الفقرة منه أو حمله على ما ذكر ، ولمّا لم يظهر اعتماد الأصحاب عليه ، فالظاهر أنّها مطرحة.

بقي الكلام في فقه الحديث بالنسبة إلى جزأيه الآخرين ، وهو قوله عليه‌السلام : «أو يحلف صاحب البغل أو يأتي بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل يوم الاكتراء

٦٤٢

كذا» (١) ، والمشكل فيهما أمران :

الأوّل : أنّ صاحب البغل مع أنّه مدّع للزيادة كيف يكون القول قوله؟

والثاني : أن الحلف والبيّنة ليسا وظيفتين لشخص واحد ، فكيف أضاف كليهما الإمام عليه‌السلام إلى صاحب البغل؟

أمّا الأوّل منهما ؛ فقد دفعوه بحمله على فرض نزاعهما في صورة التناقض بأن اجتمع صاحب البغل والمستأجر على كون قيمته قبل المخالفة أو التلف كذا ، ولكنّ المستأجر يدّعي نقصان القيمة عندهما عمّا كانت القيمة عليه قبل المخالفة أو التلف فأنكر المالك ذلك.

وأمّا الثانية ؛ فحمله شيخنا قدس‌سره على ما لو اختلفا في القيمة قبل التلف مع توافقهما على بقائها على ما كانت عليه إلى حين التلف ، فيكون الحديث متكفّلا لحكم صورتين من تنازعهما (٢).

هذا ؛ ولكن حمل الحديث على بيان حكم فرضين مختلفين بعيد عن مساقه ، كما لا يخفى ، فالأولى إمّا حمل الحلف على المتعارف منه لإقناع المنكر ، أو حمل البيّنة على إقامة الحجّة لشخص المدّعي لا لدفع الخصومة عند الحاكم حتّى قيل بأنّ إقامة البيّنة ليست وظيفة له ، بل يكون المراد بالبيّنة في المقام هو ما أشير إليه في رواية مسعدة من قوله عليه‌السلام : «الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين [لك غير ذلك] (٣) أو تقوم به البيّنة» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩٠ ذيل الحديث ٣٢١٩٩ ، مع اختلاف.

(٢) المكاسب : ٣ / ٢٥٢.

(٣) أثبتناها من المصدر.

(٤) وسائل الشيعة : ١٧ / ٨٩ الحديث ٢٢٠٥٣.

٦٤٣

ومن البداهة ؛ أنّ ذلك لا ينافي كون إقامة البيّنة وظيفة للمدّعي لا للمنكر ، إذ هي ما تقوم عند الحاكم لا مطلق الحجّة المستفادة من الرواية الّتي هي وظيفة عامّة لا تختصّ ببعض دون بعض ، وقد خصّص ذلك بإقامة البيّنة المختصّة بالمدّعي عند الحاكم ، وبالنسبة إلى غيره على عمومها باقية ، فكلّ من أقام الحجّة الشرعيّة ، منكرا كان أم مدّعيا في غير الصورة المفروضة يجب على غيره قبولها وترتيب الأثر عليها.

والشاهد على كون المراد بالبيّنة ذلك لا القائمة عند الحاكم هو قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «فيلزمك» ضرورة أنّ اللزوم بمقتضى قول الشاهد في باب الخصومة مترتّب على حكم الحاكم لدخول الشهود. فترتيب الإمام عليه‌السلام الإلزام على الشهادة كاشف عن كون المراد بها هاهنا الحجّة لا البيّنة عند الحاكم حتّى ينافي الوظيفة ، فافهم!

ثمّ إنّه ؛ تلخّص ممّا ذكرنا أنّ الأقوى في الأقوال والاحتمالات هو اعتبار قيمة يوم التلف ؛ إذ هو الّذي كانت تقتضيه القاعدة ، وقد عرفت أنّه لم يظهر من الحديث ما يخالفها ولا ما يصير مدركا لسائر الأقوال ، فظهر ضعفها أيضا فتعيّن المصير إلى ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا احتمال اعتبار أعلى القيم ؛ سواء كان من يوم الغصب إلى يوم التلف أو من يومه إلى الردّ فهو أضعف الأقوال ، ولا يساعده الاعتبار ، بل القاعدة الّتي هي أصالة البراءة تردّه ، فلا وجه لهذا القول أصلا ، إذ ما دامت العين باقية لا تلاحظ القيمة حتّى لو زيدت في الأثناء فتشتغل الذمّة بالأعلى ، وأمّا بعد التلف فتستقرّ على الذمّة القيمة الموجودة المفروضة للعين عنده ؛ لأنّ ما تشتغل الذمّة به لا بدّ

٦٤٤

وأن يكون متقدّرا ، وإلّا فغير المتقدّر ليس قابلا لاشتغال الذمّة به ، ومن المعلوم أنّه إذا اشتغلت الذمّة بالقيمة المتقدّرة فليست قابلة للتبدّل إلّا بالتراضي ونحوه.

وبالجملة ؛ فلا يتصوّر أن تتبدّل الذمّة بنفسها عمّا اشتغلت به عند التلف إلى غيرها ، ولقد أجاد في «الجواهر» في ردّ هذا القول ، فراجع! (١)

فروع

ثمّ إنّ بعد ظهور الأحكام الكليّة للمثلي والقيمي والضابط بينهما ، هنا فروع جزئيّة نتعرّضها ، ففي «الشرائع» : (الذهب والفضّة يضمنان بمثلهما) .. (٢) إلى آخره.

لا يخفى ؛ أنّ هنا صورا : فإنّ الذهب والفضّة إمّا أن يكونا مسكوكين أو غير مسكوكين ، وكلّ منهما إمّا أن يكون فارغا ـ بمعنى أنّه لم يكن عليهما شي‌ء من الحليّ والصنعة ـ أو لم يكن فارغا ، وما يكون عليه الصنعة إمّا أن يكون صنعة محلّلة أو محرّمة.

أمّا لو كانا فارغين ؛ سواء كانا مسكوكين أو غير مسكوكين فلا إشكال في كونهما مضمومنا بالمثل دون القيمة ؛ لانطباق ضابطة المثلي عليهما على ما عرّفناه من أنّه الّذي يكون له أفراد نوعيّة غالبة مثله فيما له المدخليّة في الماليّة ، فمناط المثليّة ذلك ، لا ملاحظة النسبة المتساوية في الأجزاء ، فإنّ هذا التعريف لا يتمّ طردا وعكسا ، بل أقلّ قليل من المثليّات تبقى تحت هذا الضابط ، وأكثرها يدخل في القيميّات كالمصنوعات بالمكائن في زماننا ، وغيرها ، كما أسلفنا ذلك.

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٦ و ١٠٧.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٠.

٦٤٥

وإنّما الإشكال هنا ؛ في المسألة من حيث الربا وجريانه في باب الضمانات كما بنى عليه المحقّق ، ولذلك أفتى في المقام فيما لو تعذّر مثلهما وانتهى الأمر إلى ردّ قيمتهما ، فلا بدّ من مراعاة شرائط الربا (١) من كون القيمة الّتي تكون من نقد البلد مساوية مع التالف وزنا مع كونها من جنسه ، وإن لم يكونا متساويين فيعطى القيمة من غير الجنس ، وعدم جريانه في الضمانات لعدم كونها معاملة معاوضيّة مع اختصاص أدلّة الربا بباب المعاوضات ، كما مال إلى ذلك صاحب «الجواهر» قدس‌سره (٢).

ولكن التحقيق : أنّه لو منع من جريان أدلّة الربا الواردة في باب المعاملات هنا لكان في محلّه ، لاختصاصها بباب البيع ، وإنّما تعدّى الأصحاب منه إلى غيره من أبواب المعاملات لتنقيح المناط الّذي لا ينطبق على باب الضمانات ، إنّما الكلام في جريان ما دلّ على حرمة الربا في باب القرض هنا لكونه أشبه بباب الضمانات من دون المعاملات ، فكما أنّ باب الغرامات ليست معاوضة ، بل إنّما هي ـ على ما بيّنا ـ خلاصة للماليّة الفائتة ، ومرتبة من مراتبها نظير قاعدة «الميسور» في العبادات ، فليس المأخوذ غرامة عنوانه عنوان العوض والبدل عن الفائت ، فكذلك باب الدين ، فليس ما يأخذه الدائن بدلا عمّا أعطى ، بل مرتبة من مراتبه بمعنى تجاوزه عن خصوصيّته وأخذ ماليّته في ضمن خصوصيّة اخرى ، فهو حين إعطائه الدين ليس نظره إلى تبديله بغيره ، بحيث يقوم شي‌ء آخر مقامه عند الأداء كما في المعاملات ، بل في الحقيقة نظره إلى أخذ شخص

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٠.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٨ و ١٠٩.

٦٤٦

الماليّة الموجودة في ضمن العين وإرجاعها إلى نفسه ، فقول الدائن ـ مثلا ـ : عليك عوضه ، إنّما هو تضمين لا أن يكون تبديلا ، ولذلك إنّما بنوا عليه أنّ عند وجود العين لو ردّها المديون إليه يجب عليه القبول ، هذا موافق لما تقتضيه القاعدة في باب القرض ، وذلك لما عرفت من عدم كونه مشتملا على المعاوضة ، بل هو تضمين محض ، بحيث لو أمكن ردّ الخصوصيّة في كلّ المقامات يجوز له ذلك ويجب عليه القبول ، ولكن لمّا لم يمكن ذلك دائما فعليه أن يردّ الماليّة المحفوظة الغير الخارجة عن ملك المالك في ضمن خصوصيّة اخرى ، وهذا ؛ بخلاف باب المعاملات ، فإنّ فيها الخصوصيّة والماليّة خارجة عن ملك كلّ واحد من الطرفين وداخلة في ملك الطرف الآخر ، ويقوم مقامه بعنوان البدليّة ما يخرج عن ملك كلّ واحد منهما.

فإذا ظهر من ذلك كون باب القرض من سنخ باب التضمينات ، مع أنّه منع فيه عن الربا ، فكذلك لا بدّ من الاحتراز عنه في باب الضمانات مطلقا ، لجريان مناط المنقّح فيها كما تعدّوا عن باب البيع إلى غيره من المعاملات لذلك أيضا.

أقول : لا يخفى أنّه مع تسليم كون باب القرض من سنخ التضمينات دون المعاملات ظهور الفرق بين باب القرض وباب الغرامات ، وذلك لاشتماله على التمليك الاختياري أيضا ، ولا أقلّ من تمليك الخصوصيّة كما عرّف بأنّه عقد يفيد التمليك ، بخلاف باب الغرامات ، فليس فيها شائبة التمليك أبدا.

وبالجملة ؛ فباب القرض أوّلا فيه جهة معامليّة دونها ، وثانيا إنّ الضمان الجعلي غير الضمان الانجعالي ، ومن المعلوم أنّ التضمين المستلزم للربا ممنوع عنه دون ما لو استلزم ذلك الضمان القهري المترتّب على التلف ، ولذلك بنى ـ دام ظلّه ـ في خيار العيب ـ فيما لو كان العوضان ربويّين ـ بجواز أخذ الأرش عند

٦٤٧

ظهور العيب في أحدهما ، وفاقا لجماعة من الأساطين (١) ، وإن استشكل فيه شيخنا قدس‌سره (٢) ، مع أنّ مستنده ما كان إلّا أنّ الأرش غرامة.

فانقدح بما ذكرنا أنّ إسراء حكم باب القرض إلى المقام مشكل ؛ لعدم خلوّ المسألة من القياس الّذي ليس من مذهبنا ، وإن دفع بعض ذلك ـ دام ظلّه ـ بما ليس بدافع (٣).

وأمّا فيما لم يكن فارغا بل كان عليهما صنعة محلّلة لها القيمة ، وهذا يكون على قسمين ، لأنّ المغصوب الّذي أضيف إليها الصنعة كلّية ـ سواء كان ذهبا أو فضّة أو غيرهما ـ إمّا يكون المصنوع انقلب حقيقته عند العرف ، كالقطن المغزول الّذي صار ثوبا ، أو لم ينقلب حقيقته ، مثل النحاس الّذي يصنع كأسا ، ففي الأوّل ؛ لمّا لم ير المغصوب وما عليها من الصنعة أمرين في نظر العرف ، ففيه المجموع يعدّ شيئا واحدا ، فإن كان مثليّا فيردّ المثل عند تلفه وإلّا فالقيمة.

ضرورة ؛ أنّ من أتلف ثوبا أو قماشا لم يصدق أنّه أتلف شيئين ، فبإتلافه أصل المادّة يجب ردّ المثل ، بأن يردّ مقدارا من الفطن أو الصوف أو غيرهما ، ثمّ يردّ قيمة الصنعة الّتي عملت فيهما.

وفي الثاني : فقضيّة عدّهما أمرين لعدم تبدّل الهيئة عند العرف ، بل النحاس ـ مثلا ـ بحقيقته الآن أيضا موجود ضمان أمرين : القيمة للصنعة ، والمثل للأصل.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ١ / ٥٣١.

(٢) المكاسب : ٥ / ٣١٨.

(٣) من أنّ ما ذكر من بعض الخصوصيّات في باب القرض ليس مقوّما للموضوع حتّى يضرّ باستخراج المناط وغيره ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

٦٤٨

وقد يشكل هنا أيضا ؛ فيما لو كان الأصل وما يردّ من قيمة الصنعة ربويّين بأن يكون نقد البلد من النحاس فلشبهة الربا قد يقال بمنع جواز ردّ الزيادة ، ولكنّ الأمر هنا أسهل ، بمعنى أنّه ولو منعنا في الصورة الاولى الزيادة لجريان الربا في باب الغرامات فلا يلزم المنع هنا ؛ لضرورة الفرق بينهما ، وذلك لأنّ ما يؤخذ هنا من الزيادة هو في مقابل الصنعة الّتي لها القيمة عند العرف ، ولا ربط لها بالأصل ، بخلاف الصورة الاولى ، فإنّ فيها لا يقع في مقابل الزيادة شي‌ء سوى الأصل.

أقول : لو قلنا بأنّ في باب الربا المصنوع وغير المصنوع يعدّان جنسا واحدا ، وغير منقلب عن أصله ، بمعنى لا يعدّ الصنعة أمرا زائدا على الأصل حتّى يصحّ اعتبار قيمة لها فيشكل الأمر هنا ، كما لا يخفى ، إلّا أن يقال بأنّ الممنوع منه إنّما هو في باب المعاملات فلا يجوز فيها جعل كلّ واحد منهما عوضا عن الآخر ، إلّا أن يكونا متساويين بخلاف المقام ، فتأمّل!

تأسيس الأصل عند الشكّ في المثلي والقيمي

بقي الكلام في بيان تأسيس الأصل في المثلي والقيمي فيما إذا دار الأمر بينهما عند الشكّ ، ولا يخفى أنّ الأصل في ذلك يختلف على اختلاف المسالك في باب الضمان في كيفيّته.

أمّا على ما ينسب إلى المشهور (١) من أنّ بناءهم على أنّ ما دام بقاء العين لا تشتغل الذمّة بشي‌ء أصلا ، وإنّما الاشتغال بالمثل أو القيمة إنّما هو عند التلف ،

__________________

(١) وليس مع بقائها إلّا الحكم التكليفي المحض بوجوب الردّ والأداء ، كما صرّح به في «الجواهر» في طيّ الكلام في بدل الحيلولة (جواهر الكلام : ٣٧ / ١٣٠ ـ ١٣٣) ، «منه رحمه‌الله».

٦٤٩

فلا إشكال أنّه لمّا يصير الأمر من باب دوران الأمر بين المتباينين ؛ ضرورة أنّه لا يعلم أنّ من أوّل الأمر ـ أي حين التلف ـ أيّهما تعلّق بالذمّة ، فلا أصل في البين نجعله مرجعا ، فالأمر يرجع إلى الصلح ، كما هو المرجع مطلقا في حقوق الناس عند عدم الأصل ، ويمكن الالتزام بالرجوع إلى القرعة ، لكونه لكلّ أمر مشكل ، لا إلى التنصيف في المثل والقيمة إن تمّ دليل القرعة.

أقول : لا مانع هنا من الرجوع إلى الاحتياط لتحصيل البراءة كما هو الأصل في دوران الأمر بين المتباينين ، إلّا أنّ الفرق بين المقام وحقوق الله أنّه لمّا كان تحصيل البراءة فيها متوقّفا على الجمع بين المتباينين في الأداء فالتزم به ، بخلاف المقام فهي تحصيل بأداء المثل ، وإن كان يمكن أن يقال بأنّ ذلك موقوف على العلم باشتغال الذمّة بما زاد على القيمة ـ أي المثل ـ حتّى يكون المبرئ للذمّة يقينا هو المثل ، والمفروض أنّ الشكّ إنّما هو في أنّ الذمّة بأيّهما اشتغلت من أوّل الأمر ، فهذا يناسب القول باشتغال الذمّة أوّلا بالعين ثمّ انقلابها بالتلف المثل أو القيمة.

وأمّا ما قوّينا كونه مسلكا للمشهور فعليه الأصل يقتضي ردّ المثل ، وذلك لأنّ المفروض أنّه اشتغلت الذمّة بنفس العين بجميع مراتبها الشخصيّة ، فيحصل الشكّ في أنّه بسبب التلف خرجت من الذمّة بجميع مراتبها سوى مرتبة قيمته أم لا ، بل بقيت عليها بمرتبة مثلها؟ ولا ريب أنّ المتيقّن ذهابها عن الذمّة بمرتبتها الشخصيّة ، أمّا المثليّة فمشكوك فيه فيستصحب بقاؤها بهذه المرتبة ، فيتعيّن المثل ، ويمكن التمسّك بالاشتغال أيضا إذ الذمّة اشتغلت أوّلا بالعين ، وبالتلف لمّا لم يمكن أداء نفسها فتنقلب فيشكّ في أنّه هل بردّ القيمة تحصل البراءة أم لا؟

٦٥٠

والأصل عدم حصولها إلّا بردّ المثل.

إن قلت : إنّ قاعدة الإتلاف وإن كانت تقتضي ما ذكر من ثبوت نفس العين على الذمّة الّذي لازمه عدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بردّ المثل ، إلّا أنّ القاعدة مخصّصة بالتعذّر بمعنى أنّه عند تعذّر المثل لا يجب إلّا ردّ القيمة.

لا يقال : إنّ التعذّر مخصّص عقلي ولا محذور من التمسّك بالعامّ المخصّص بالدليل اللبّي في الشبهات المصداقيّة.

لأنّا نقول : مضافا إلى كون مخصّص بالدليل اللفظي أيضا كما اشير إليه سابقا ، مثل صحيحة أبي ولّاد (١) والسفرة المطروح فيها اللحم (٢) وغير ذلك (٣) ممّا حكم فيه في لسان الأخبار بردّ القيمة.

قلت : ليس هذا هو التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ؛ لأنّ المصداق للعامّ انطباقه أوّلا كان محرزا مسلّما ، بل إنّما المتمسّك به هو استصحاب العامّ الثابت أوّلا يقينيّا.

أقول : ولكن هذا يتمّ لو بني على كون تبدّل العين الثابتة على الذمّة بالغصب ، وتنزّلها إلى القيمة في القيمي بالتلف إنّما يكون بعد تنزّلها من الخصوصيّة العينيّة إلى المثل أوّلا ثمّ منه إلى القيمة ، بحيث يفرض لذلك درجات ومراحل في المثليّ المتعذّر ، لا بأن تكون العين في القيميّات متبدّلة ومتنزّلة إلى القيمة من أوّل الأمر حتّى يصير من دوران الأمر بين المتباينين ولم يبق موضوع

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٩٠ الحديث ٣٢١٩٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٣ الحديث ٤٢٧٠.

(٣) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١١٩ الباب ١٧ من أبواب كتاب الإجارة.

٦٥١

للاستصحاب مع أنّه مجال للمنع عن ذلك.

وأمّا على المسلك الثالث ؛ وهو بقاء نفس العين بهويّتها على الذمّة إلى حين الأداء ، فعنده لو كانت تالفة ينقلب إلى المثل أو القيمة عند التعذّر النوعي للأوّل وعدم القدرة على أدائه كذلك فلا [شكّ] في أنّ المرجع استصحاب بقاء الاشتغال إلى أن يردّ المثل.

ضرورة ؛ إنّما الشكّ في أنّه هل العين الثابتة على الذمّة بجميع خصوصيّاتها حتّى المثليّة انقلبت إلى المرتبة الماليّة الصرفة الّتي تتعيّن في القيمة أم لا ، بل إنّما التنزّل بمرتبتها الشخصيّة فقط دون المثليّة؟ والاستصحاب يقتضي ذلك ، أي انقلاب المرتبة الشخصيّة دون المثليّة ؛ لأنّ المتيقّن هي لا غير.

هذا ؛ فيما إذا شكّ في أصل ضمان المثل أو القيمة ، أمّا فيما إذا شكّ في طروّ التعذّر وعدمه ، بمعنى أنّه كون أصل الضمان مثليّا لا إشكال فيه ، وإنّما الشكّ في أنّه يصدق التعذّر بعد ذلك للإعواز ومثله أم لا؟ لا يخفى أنّ الأصل في هذه المسألة يختلف باختلاف المبنى في باب الاستصحاب ، من أنّه عبارة عن جعل المماثل أو الأمر بالمعاملة.

وتفصيل ذلك ؛ أنّ فرض المسألة إنّما هو فيما إذا كان ضمان المثل معلوما ، أي يكون التالف ممّا يكون له نوعا ما يساويه في الماليّة ، وكان حين استقرار الضمان ، له الأفراد الغالبة ، ثمّ بعد ذلك لعلّة الوجود أو غيره شكّ في أنّه انقلب إلى القيمة لصدق عنوان التعذّر وعدمه ، أم لا؟ فلا إشكال في أنّ الأصل في المقام هو الاستصحاب ويصير مثل ما لو نذر إطعام زيد في كلّ يوم فشكّ في يوم في حياته ، فهل المراد باستصحاب حياته هو عمل معاملة الحياة معه أو جعل

٦٥٢

مماثل للحكم السابق وهو وجوب الإطعام في طرف الشكّ؟

فإن بيننا على كون المراد به جعل المماثل ففي المقام لمّا يرجع الشكّ إلى ثبوت الحكم الشرعي الّذي منشأه القدرة ، إذ لا فرق في الشكّ في الحكم بين الحكم الظاهري والواقعي فيشكّ في أصل توجّه «لا تنقض اليقين» (١) .. إلى آخره ، فلا بدّ من الاحتياط كما في مطلق المقامات لو شكّ في ثبوت الحكم من جهة القدرة ؛ ولا يتوهّم أنّ الشكّ إنّما هو في أصل التكليف فالمرجع البراءة ؛ إذ هو في غير ما إذا نشأ الشكّ من جهة القدرة ، إذ المفروض أنّها شرط عقليّ لا يؤثّر في وجود الحكم ، بل الحكم وجوده لتماميّة ملاكه تامّ ، وإنّما الشكّ في مسقط هذا الحكم ، فلا محيص عن الاحتياط الّذي قد يتحقّق بالفحص.

وبالجملة ؛ فمقتضى الاحتياط على هذا هو ضمان المثل وعدم حصول البراءة اليقينيّة إلّا بأداء المثل.

وإن بيننا على كون الاستصحاب هو الأمر بالمعاملة مطلقا وإن كان مقتضى ذلك أيضا ضمان المثل إلّا أنّه إنّما هو يثبت بنفس حكم الشارع ، فإنّ الشكّ لمّا يرجع إلى بقاء القدرة ، والمفروض أنّ استصحابها عبارة عن معاملة ثبوت القدرة الواقعيّة مع القدرة المشكوكة عند كونها مسبوقة بالحالة السابقة ، فبإثباتها بذلك يترتّب نفس حكم الشارع الثابت سابقا على موضوعه ، بخلاف المبنى الأوّل ، فإنّ ثبوت الحكم كان بحكم العقل ، فتأمّل!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١.

٦٥٣

أحكام بدل الحيلولة

هذا تمام الكلام في بيان الاصول في المسألة فلنشرع في بيان جملة من أحكام بدل الحيلولة ، مضافا إلى ما أسلفنا بعد ذكر جملة الفروع الّتي أسقطناها هنا ، ولم نذكرها لوضوحها

قال في «الشرائع» : (وإذا تعذّر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل) (١) .. إلى آخره.

أقول : هنا فروع لا بدّ من ذكرها.

[الفرع] الأوّل : لا يخفى أنّ استحقاق المالك عين ماله الّذي يستحقّ بسببه البدل له موارد :

الأوّل ؛ تلفها حقيقة.

الثاني ؛ ما يكون في حكم التلف.

الثالث ؛ تعذّر الوصول فعلا إلى العين.

ففي الأوّل ؛ فما يؤدّيه المتلف من البدل يملكه المالك مستقرّا ، فيكون بمنزلة دين عليه قد أدّاه.

وفي الثاني ؛ كما إذا غرقت العين أو سرقت ، بحيث يكون عودها محالا عادة ويعدّ عند العرف بحكم التلف ، فهنا أيضا يكون ما يؤدّيه أيضا كالدين المستقرّ على عهدته ، ويخرج ـ على ما يظهر من بعض الكلمات (٢) ـ العين

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤١.

(٢) مفتاح الكرامة : ٦ / ٢٥٥ ، والمستفاد من كلامه عدم خروج العين المغصوبة عن ملك المالك ؛ بالحيلولة إجماعا.

٦٥٤

المغصوبة عن ملك صاحبها ويدخل في جملة المباحات ، بحيث لو خرجت من الماء ـ مثلا ـ ووقعت في الساحل فاستحقاق مالكها لها ليس إلّا من باب الأولويّة لا الملك.

وفي الثالث ؛ أمّا أوّلا فالكلام في صدق التعذّر الموجب لانقطاع سلطنة المالك فعلا عن خصوصيّة العين ، بمعنى أن لا يكون له حقّ الإلزام على إحضار العين ، بل ينقلب إلى البدل من المثل أو إلى القيمة ما دامت العين غائبة ، المسمّى ذلك ببدل الحيلولة.

فالظاهر ؛ أنّ التعذّر الموجب لسقوط التكاليف لا يكفي هذا المقدار منه لذلك ، لما أشرنا مرارا من أنّ قاعدة السلطنة المستفاد منها هو الحكم الإرفاقي الامتناني ، فليست قاعدة الحرج قابلة لمنع جريانها ، بل المرجع في ذلك هو العرف ، بأن يكون إحضار العين عندهم متعذّرا من وصوله إلى حدّ ما لا يطاق العرفي ، وإن لم يكن ممّا لا يطاق عادة ، وإلّا فمطلق العسر لا يكفي في صدقه.

وثانيا : لا إشكال ظاهرا في صيرورة المغصوب منه مالكا للمأخوذ غرامة بعنوان بدل الحيلولة ، وعدم خروج المأخوذ منه بذلك عن ملكه ، وتوهّم أنّ ذلك موجب للجمع بين العوض والمعوّض ، فاسد ؛ لما أشرنا إلى وجهه سابقا.

وحاصله : أنّ المال المأخوذ بإزاء مال يكون على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يكون بعنوان البدليّة وكونه قائما مقام المال الأوّل ، فهذا يستحيل دخول المال الثاني في ملك المالك الأوّل بلا خروج البدل عن ملكه ، وذلك كما في باب المعاملات والعقود المعاوضيّة.

وقد لا يكون كذلك بل المقصود أخذ عين المال بخصوصيّتها الشخصيّة

٦٥٥

ولكن لمّا لم يمكن ذلك لعذر ونحوه فيؤخذ ما أمكن منها ـ وهو ماليّتها المعيّنة في ضمن خصوصيّة غيرها ـ فهذا المأخوذ ليس بعنوان البدليّة حتّى يستلزم ما ذكر ، بل في الحقيقة مرتبة من مراتب نفس العين ، وهي المرتبة الماليّة الممكن الوصول إليها ، وقد بنينا على أنّ باب الضمان إنّما هو نظير باب «الميسور» في التكاليف ، فقاعدة اليد لمّا تقتضي الخروج عن عهدة التكليف المتوجّه من قبل الوضع فلا بدّ من الخروج عنها بما أمكن ، إمّا بردّ المأخوذ بجميع مراتبه المتعيّنة في شخصه وإمّا بردّ ماليّته إن لم يمكن الاولى وهذا أيضا في ضمن المثل أو القيمة على حسب ما تقتضيه العين عند التلف.

وبالجملة ؛ فالسلطنة المستقرّة للمالك على عين ماله تقتضي جواز مطالبتها لها في كلّ آن ، والمفروض أنّ ضمان العين ثابت على ذمّة الغاصب بمقتضى قاعدة اليد ، فلازم هاتين القاعدتين استحقاق المالك مطالبة ماله في كلّ زمان ، وكذلك وجوب ردّه على الغاصب إليه ، إلّا أنّ الجمع بين ذلك وعدم تكليف الغاصب بما لا يطاق يقتضي إلزامه بقدر ما أمكنه بردّ ما استحقّ المالك ، وهذا يكون عند عدم التمكّن من ردّ العين بردّ العين بماليّتها.

فهذه المالية المردودة ليست شيئا في مقابل العين ، بل هي في الحقيقة في عالم التحليل والاعتبار بمنزلة خلاصة مأخوذة من نفس العين ، مثل الدهن المأخوذ من الشي‌ء ، أو كالعصير المأخوذ من العنب ، فكما أنّ فيهما المالك مالك لأمرين : العصير والشكل الباقي منه ، فكذلك تعيين الماليّة في شخص عين اخرى وأخذها في تلك العين لا يوجب خروج العين المغصوبة من ملك صاحبها ودخولها في مال الغارم ، لعدم اعتبار البدليّة أصلا ، فلا يلزم الجمع بين العوض

٦٥٦

والمعوّض ؛ إذ هما أمران اعتباريّان تابعان للاعتبار ، وبعد أن ظهر الاعتبار في باب الغرامات وبدل الحيلولة على خلافها ، بل هو اعتبار خاصّ لا ربط بباب المعاملات ، فلا وجه للتوهّم المذكور.

ثمّ إنّ لازم ما ذكرنا تملّك المغصوب منه بدل الحيلولة كتملّكه سائر أمواله بلا نقص فيه ، فيجوز له التصرّفات الماليّة بأقسامها فيه ، وذلك لاقتضاء عناية البيان المذكور ذلك ، فكما أنّ المأخوذ منه كان ملكا له فكذلك بدل الحيلولة لمّا كان بمنزلة العين بمرتبتها الماليّة يصير ملكا تامّا له بلا تفكيك في الجهات ، وإن كان شيخنا قدس‌سره زعم أنّ المأخوذ بدلا إنّما هو عوض عن سلطنة المالك الفائتة عنه دون ملكيّته ؛ إذ هي باقية (١) فالتزم بصحّة تصرّفاته المالكيّة فيه من نقله وإجارته ونحو ذلك على الكشف ، كما في المعاطاة ، ولكن قد أشرنا إلى ضعف ذلك بأنّه لو لم يصير البدل ملكا له بل كان عوضا قائما مقام سلطنته الممنوعة عنها ، فلا بدّ أن يكون ممنوعا عن التصرّف في البدل بما أمكنه التصرّف في ملكه المغصوب ممّا لا يتوقّف على الماليّة ، بل تكفي المملوكيّة في نحوه كأن يعتقه ، لأنّ المفروض أنّ سلطنته من ماله من هذه الجهة ما انقطعت ، فكيف يكون له جائزا أن يتصرّف في البدل من هذه الجهة أيضا ، مع أنّه بالإجماع يجوز له مطلق التصرّفات في البدل (٢).

ثمّ انقدح ممّا ذكرنا حال العين المغصوبة فإنّها باقية على ملك صاحبها ، وأمّا ماليّتها فهي تكون في حكم المباحات بالأصل إذ لا يجوز للغاصب التصرّف

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ٢٦١.

(٢) من عتقه ، أو غير ذلك ، «منه رحمه‌الله».

٦٥٧

فيها حتّى ينتفع من ماليّتها ، والمفروض أنّ المالك ممنوع عن التصرّف ، ولا إشكال أنّ اعتبار المالية إنّما هو من حيث الانتفاع ومستتبع للتصرّف.

وبالجملة ؛ الماليّة القائمة على العين المغصوبة فما دامت ممنوعة ؛ حكمها حكم المباحات ترجع إلى المالك تبعا للعين عند رجوعها.

الفرع الثاني : لا إشكال أنّه يجب على الغاصب إرجاع العين إلى المالك فورا عند رفع التعذّر ، ولا يجوز له حبسها حتّى يأخذ البدل ، ولا يقاس المقام بباب المعاملات ، إذ مع كمال الفرق بين الباب وباب المعاملات أنّ الحبس فيها يثبت بالبدل وإلّا فالقاعدة تقتضي فيها وجوب الردّ وعدم جواز التوقيف وإيجاب ردّ المال إلى صاحبه فورا.

الفرع الثالث : لمّا عرفت أنّ بدل الحيلولة عوض عمّا يكون وأيّ شي‌ء ثمرته وخاصيّته ، فلا ينبغي الشكّ في أنّه بعد رفع التعذّر وإحضار العين يجب ردّ الغرامة المأخوذة إلى الغاصب ، ولكن ذلك يتوقّف على رفع الحيلولة المسبّبة للبدل ، وهل يكون الارتفاع بمطلق الإحضار ورفع العذر ، أم يتوقّف على أداء العين وإيصالها إلى المالك؟ وجهان : الأقوى الثاني ؛ إذ لا يصدق رفع الحيلولة عرفا على مطلق الإحضار (١) بل الشكّ يكفي في الحكم بعدم وجوب الردّ لاستصحاب بقاء الحيلولة والملكيّة الثابتة للمالك في البدل عند التعذّر.

الرابع : الظاهر أنّه بعد تمكّن ردّ العين برفع التعذّر لا ينقلب الضمان الثابت للعين أوّلا من كونه ليوم التلف ، إذ لا مقتضى للانقلاب ، ومن المعلوم أنّ التعذّر في ردّ العين مدّة من الزمان ليس أمرا قابلا لأن يبدّل كيفيّة الضمان ، بل هو على

__________________

(١) كما يقتضي ذلك قاعدة اليد المغيّاة بالأداء أيضا ، «منه رحمه‌الله».

٦٥٨

ما تقتضيه طبيعة الضمان من يوم وضع اليد على مال الغير من ضمان يوم تلفه ـ على ما حرّرناه ـ باق ، فظهر لك أنّه لا وجه لما ذكر غير ذلك من الاحتمالات في المقام ، فراجع!

الخامس : لا إشكال أنّ مسألة تعاقب الأيادي تجري في باب الحيلولة أيضا ، فهنا إذا رجع المالك إلى الغاصب الأوّل وأخذ منه بدل الحيلولة فله الرجوع إلى اليد اللاحقة ، كذلك للثانية إلى الثالثة حتّى يستقرّ في يد من وقعت الحيلولة في يده ، فإذا رجعت العين إلى صاحبها فتأخذ الأوّل البدل عنه ، وكذلك كلّ يرجع إلى سابقه ويأخذ منه ما أعطى ، وتوهّم أنّ ذلك مختصّ بباب التلف ، فاسد كما لا يخفى.

في «الشرائع» : (على الغاصب الاجرة إن كان ممّا له اجرة في العادة) .. إلى آخره (١).

وقع الخلاف هنا في أنّ القيمة المأخوذة للاجرة [هل] تجب من حين الغصب إلى أداء بدل الحيلولة ، أم منه إلى حين ردّ العين؟ ولا يخفى أنّ إطلاق القولين بعيد.

فالتحقيق أن يقال : إنّ البدل المأخوذ قد يكون من حيث القيمة بإزاء العين المقوّمة مع ما لها من الاجرة في كلّ شهر أو يوم بكذا ، مثلا : لو كان العين في حدّ ذاتها لها عشرة توامين ولو لوحظت مع ما لها من الاجرة في كلّ شهر لها الخمسة عشر تومانا ، فإن لوحظت العين على النحو الأوّل ـ أي تقوّمت العين مع ما لها من الاجرة مجموعا فأخذ البدل المقابل لنفس الذات ـ فلا بدّ أن تؤخذ الاجرة من

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٢.

٦٥٩

حين الغصب إلى حين ردّ العين ؛ لأنّ المفروض أنّ البدل عن الاجرة ما استوفي ، وأمّا [إذا] لوحظت العين مع ما لها من الاجرة فتقوّمت مجموعا فاخذ بدل الحيلولة أيضا عن العين المقوّمة بهذه الكيفيّة ، فعلى الغاصب الاجرة من حين الغصب

إلى حين تأدية البدل كما قوّاه المحقّق (١) لثبوت المقتضي كذلك بخلاف الفرض الأوّل.

في «الشرائع» : (ولو غصب ماله اجرة وبقي في يده حتّى نقص) .. إلى آخره (٢).

لا إشكال أنّه يضمن الغاصب الاجرة وما نقص من العين كليهما ؛ لعدم وجود ما يوجب سقوط قيمة النقص ، والاجرة لا تصلح لذلك ؛ لأنّها عوض عن المنافع ، ولا ربط لها بنقص العين.

نعم ؛ في باب إجارة ما يتوقّف الانتفاع منه على استعمال شي‌ء من العين وبتنقيص منها كما في الحمّام ، فإنّ الانتفاع منه متوقّف على صرف شي‌ء من الماء ، فقالوا في مثله بعدم ضمان النقص المزبور ، بل إنّ ما يأخذه من الاجرة يقع عوضا عنه ، ولكن لا ربط له بالمقام لكون تلك المقامات كالإجارة ونحوها مشتملة على الإذن ، فيباح للمنتفع التصرّف بلا ضمان ، بخلاف المقام فإنّه لا إذن حتّى يصير مسقطا ، والأصل أيضا عدم التداخل فلا محيص عن الالتزام بضمان الأمرين ، والله العالم.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٢.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٣.

٦٦٠