الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

هؤلاء حقّ في المال وإن لم يكن لبعضهم التصرّف فيه على نحو الاستقلال ، فيكفي قبض كلّ منهم إذا كان له التصرّف فيه ، فيصير قبضه قبضا للوقف ، ولمّا كان غاية ما يستفاد من الأدلّة اعتبار القبض في الجملة لا شخص خاصّ ، فلا مانع من الاكتفاء بقبض المتولّي وكلّ من قام مقامه ، فتأمّل! فإنّ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ موقوف على عدم ظهور الأدلّة وانصرافها إلى قبض الموقوف عليهم ، مع أنّ إنكاره مشكل مضافا إلى أنّ عمدة نظر صاحب «الجواهر» قدس‌سره فيما لو جعل المتولّي قيّما لخصوص القبض لا أن يكون متولّيا وناظرا على الوقف ، مع أنّ مقتضى البيان المذكور الاكتفاء بقبضه أيضا ، كما صرّح بذلك قدس‌سره (١) إذا اشكلت عليه ، وهو كما ترى ، ولعلّه يأتي الكلام في هذه الفروع مزيدا على ذلك إن شاء الله تعالى.

شرائط الموقوف

المبحث الثالث : في شرائط الموقوف ، وهي أربعة : أن تكون عينا مملوكة ينتفع بها مع بقاء عينها ، ويصحّ إقباضها ، هذه الامور لا كلام في اعتبارها في الجملة ، وإنّما الكلام في الشرط الرابع ، حيث فرّعوا عليه امورا يجمعها عدم صحّة الوقف الكلّي ، وذكروا لذلك وجوها كلّها ضعيفة.

والتحقيق ؛ أن يقال : إنّه لمّا لا اشكال في أنّ القبض لا بدّ وأن يتعلّق بما ورد عليه العقد لا ما مغايره ، فحينئذ إذا فرضنا كون العقد واقعا على الكلّي الّذي غير قابل للتحقّق إلّا في ضمن الفرد ، فيكون القبض تعلّق بالفرد الّذي هو المتشخّص

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٦٥ و ٦٦.

٢٦١

بخصوصيّته الفرديّة فيلزم أن يكون المقبوض غير مورد العقد ، وهذا لا ينافي كون الفرد عين الكلّي حيث إنّه مع ذلك في الجملة المغايرة محفوظة ، ولذلك لا يملك الكلّي ما لم يتشخّص ، سواء كان في البيع أو في مثل الزكاة الّتي تتعلّق بالمال ، فالفقير لا يملك شيئا ما لم يتعيّن.

وبالجملة ؛ لا بدّ في الكلّي من أنّ يتشخّص نحو تشخّص حتّى يتعلّق به علقة الكليّة وغيرها ، فمن ذلك يستكشف أنّ الكلّي بما هو غير قابل لأن يتعلّق به الإيجاب والقبول ، وبينه وبين الفرد نحو مغايرة ، ولذلك لا يكتفى به في ما يعتبر القبض فيه في أبواب المعاملات من الرهن والهبة وغيرهما سوى باب الصرف ، وله خصوصيّة قد أشرنا إليها في محلّه ، وإلّا فمطلقا كان أو غيره لا يجوز كون الثمن كليّا ، وما ذكرنا هو سرّه ، حيث إنّ في هذه المقامات لمّا كان لا بدّ وأن يكون الثمن والعوض نقدا ولا يصدق ذلك على الكلّي لمكان أنّه ما لم يتشخّص لا يملك ، فلذلك التزموا بعدم الاكتفاء به ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ.

وفيه ما لا يخفى ؛ حيث إنّ ذلك مبنيّ على عدم وجود الطبيعي في الخارج والمغايرة بين مصاديقه ونفسه ، مع أنّ كليهما خلاف التحقيق ، وقد طعن ـ مدّ ظلّه ـ على المحقّق القمّي قدس‌سره لمّا عبّر عن الفرد بكونه مقدّمة للكلّي (١) مرارا من جهة أنّها مستلزمة للمغايرة ولا أقلّ من تخلّل «الفاء» في التحقّق بين المقدّمة وذي المقدّمة حتّى يصدق هذا المعنى ، والله العالم.

فروع

الأوّل : إنّه هل تجري الفضولي في الوقف أم لا؟ فيه تفصيل ؛ فإن قلنا بأنّ

__________________

(١) قوانين الاصول : ١ / ٦٣.

٢٦٢

الفضولي في البيع ونحوه على القاعدة وليس أمرا تعبديّا محضا ، كما هو الظاهر ، حيث إنّه لمّا كان بالإجازة العقد يضاف إلى المجيز فيشمله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيصير كسائر العقود الصادرة عن الأصيل ، وليس فيه أمر يخالف القواعد ، ولكن هذا مبنيّ على أن يكون الوقف من العقود حتّى يعتبر فيه البقاء لا الإبقاء ، حيث إنّه أمر حدوثيّ محض ، ولذلك لا يجري فيه الفسخ ونحوه ممّا يتوقّف على وجود أمر فعليّ حتّى ينحلّ ، وإن مال إلى جريانه فيه أيضا صاحب «الجواهر» في الطلاق (١) ، ولكن حقّقنا البحث فيه ومنعنا عن جريانه في الإيقاعات مطلقا ؛ لما أشرنا إليه من عدم اعتبار البقاء فيها حتّى تجري ما هو ملزومها.

وحيث قد بينّا في أوّل الباب أنّ الوقف من العقود ويعتبر فيه القبول ، فمن هذه الجهة لا يبقى فيه إشكال لمكان استكشاف بقائه منه اعتبارا ، وإن كان أمرا حدوثيّا حقيقة كسائر العقود.

ولكن يبقى إشكال من جهة اخرى وهي : أنّه لو كان الوجه في اعتبار القبول فيه هي الإجماعات وإطلاق معاقدها فلمّا كان يثبت بها اللوازم أيضا الّتي منها وجود الفعلي للعقد ولا بدّ من إحرازه في المقام فيتمّ الأمر ، وأمّا إن كان دليل اعتباره الأصل كما كان ذلك هو الوجه في اعتبار القبول بالنسبة إلى الأوقاف العامّة ، فحينئذ يشكل الأمر من جهة عدم ثبوت اللوازم به وهو الوجود الفعلي له.

وبالجملة ؛ فلو كان إشكال في المسألة من هذه الجهة والظاهر أنّه لا يدفع عنه ، وأمّا مسألة قصد القربة فلا إشكال فيه لأنّه نمنع أوّلا اعتباره في مطلق

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٢ / ٣.

٢٦٣

الوقف بل إنّما يعتبر بالنسبة إلى المعدّ منه للخيرات لا كالوقف على الأولاد حيث إنّ الارتكاز في أمثاله هو التمليك ورعاية الأولاد ، وثانيا ؛ أنّه حين الإجازة لا مانع من قصده القربة ، كما لا يخفى.

الثاني : يجوز وقف المشاع كما هو المشهور ، وإن كان قد يشكل فيه من حيث كون المشاع ملزوما للقسمة ، فينافي التأبيد المعتبر في الوقف ؛ لمكان أنّه عند القسمة لا بدّ من التبادل فيملّك كلّ من الشريكين حصّته في كلّ جزء إلى الآخر في مقابل تمليكه حصّته فيه ، والتبادل ينافي الوقفيّة بالضرورة.

فعلى هذا في وقف المتاع لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أن يبنى على عدم كون مثل هذا المشاع ملزوما للقسمة ، أو عدم مقتضى (١) مثل هذا الوقف التأبيد.

ولكن هذا يتوجّه لو كان اعتبار القسمة هو التبادل وهو خلاف التحقيق ؛ حيث إنّ اعتبارها هو التميّز ، وجمع ما هو المبسوط ، فكأنّ ملك كلّ الشريكين وحصّتهما كان منبسطا في تمام العين فبالتقسيم تجمعها في طرف ، ويتميّز ما هو المخلوط ، فحينئذ ليس شي‌ء في البين ينافي التأبيد.

الثالث : وقع الخلاف في جواز وقف من ينعتق على الموقوف عليه ؛ والأقوى الجواز ، وذلك لأنّ الاحتمالات المتصوّرة فيه ثلاثة : عدم صحّة الوقف ، صحّته وعدم تحقق العتق ، صحّته والانعتاق.

أمّا الأوّل ؛ نظرا إلى أنّ الوقف لمّا كان التأبيد في حقيقته مأخوذا ، والمفروض أنّه لا يمكن في المقام ، حيث إنّ مقتضى دليل العتق وعمومه انعتاق

__________________

(١) كذا ، والأحسن : اقتضاء.

٢٦٤

الوقف بالانتقال إلى الموقوف عليه فيكون باطلا.

أمّا الثالث ؛ فلأنّه الجمع بين الدليلين غايته أنّ جهة التأبيد في مثل هذا الوقف مفقودة ، فيصير من قبيل الوقف الّذي لا يستعدّ في حدّ نفسه إلّا للبقاء مدّة لا أبدا ، فلمّا كان الأمر دائرا بين رفع اليد عن أصل أحد دليلي الوقف والعتق أو هذا الشرط فالثاني متعيّن ، لما عرفت من أنّه بعد انقطاعه ليس من جهة شرط ونحوه حتّى ينافي حقيقة الوقف ، بل من قبيل الوقف الّذي في حدّ ذاته قاصر عن البقاء أبدا ، فلا يصير ذلك مانعا من وقوع الوقف أو العتق ، ولا أحدهما عن الآخر ، بعد أن عمل بمقتضى كلّ منهما.

وأمّا الثاني الّذي هو الحقّ ؛ فلأنّ الأمر لمّا كان دائرا بين التخصيص والتخصّص والثاني هو المتعيّن فتكون النتيجة ما قوّيناه ؛ لمكان أنّه لو قدّم الوقف عملا بعموم السلطنة ، ودليل «اوفوا» فلا يبقى حينئذ موضوع للانعتاق ؛ حيث إنّ ظاهر أدلّته هو انعتاق المملوك الطلق ـ أي الخالص ـ ولو قدّم دليل العتق يكون تخصيصا لأدلّة السلطنة وغيرها.

ولا ريب أنّ تخصيصه له يتوقّف على عدم جريان تلك الأدلّة ، فيستلزم الدور ، كما في كلّ ما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص ، ومن ذلك ظهر ضعف الوجهين الآخرين ، أمّا الأوّل فواضح ؛ ضرورة أنّ عدم صحّة الوقف فرع وجود المانع ، وقد علمت عدم وجود شي‌ء قابل للمنع عنه ، وهكذا الأخير حيث إنّ رفع اليد عن مقتضى عقد الوقف وهو التأبيد يتوقّف على قصوره في نفسه على التقريب المذكور وهو يتوقّف على حصول الانعتاق ، وعلى ما ذكرنا ليس له موضوع كما لا يخفى.

٢٦٥

شرائط الواقف

المبحث الرابع : في شرائط الواقف ، وفيه مسائل :

الاولى ، لا إشكال في أنّ للواقف أن يجعل النظارة ـ التي حسب اصطلاحهم بمعنى تولية الأمر ـ لنفسه كما له أن يجعلها لغيره ، لما تقدّم من أنّ الوقف اعتباره هو البسط فما كان للمالك من الاعتبارات والعلقة من الملكيّة والسلطنة والنظر على العين ، وكانت مجتمعة فيها ، فعند الوقف تبسط هذه الأمور ويجعل كلّ واحد من هذه الشئون لأحد ، كما له أن يجعلها لواحد فكذلك له أن يجعل هذا المقام لنفسه ، فكأنّه من أوّل الأمر لا يسلب هذه المرتبة من العلاقة والشأن عن نفسه فحينئذ لا مانع من ذلك ، كما يوافقه العمومات أيضا (١).

نعم ؛ وقع الإشكال والخلاف في أنّه هل له أن يجعل الحقّ لنفسه كما لغيره من النظّار ، أم لا؟ فمنعه بعض نظرا إلى أنّ ذلك يكون وقفا على النفس (٢) الّذي لا ريب في بطلانه ، ولكنّ الأقوى عدم الإشكال من هذه الجهة أيضا ، حيث إنّ حقّ النّظارة والتولية اعتباره الجعل وحقّ العمل ، فكأنّه استثناء عن الوقف الّذي يجوز ذلك في الجملة كما يدلّ عليه عموم «النّاس» (٣) ، و «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (٤).

فبالنسبة إلى ما لو كان الواقف هو الناظر بنفسه أيضا. لمّا كان اعتباره ما

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الباب ٢ من أبواب الوقوف والصدقات.

(٢) السرائر : ٣ / ١٥٦.

(٣) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩.

(٤) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الحديث ٢٤٣٨٦.

٢٦٦

ذكر ، وخارجا عن حقيقة الوقف يجوز ذلك ، والله العالم.

الثانية : لا يعتبر في المتولّي العدالة ، بل ولا الإسلام وإن زعمه جمع ، وذلك لأنّ منشأ توهّم اعتبارها كون النظارة والتولية من باب الولاية ، فحيث كانت شرافة هذا المنصب تنافي الفسق والكفر (١) ، كما زعموا ذلك في كثير من الموارد كالوصيّ والمقسّم وأمثالهما ، فمنعوا عنهما واعتبروا ما هو مشروط في الأولياء ، لكن لمّا كان المبنى فاسدا فلا وجه للمنع المزبور ، حيث إنّ النظارة اعتبارها هو الولاية على الأمر من الجمع والتقسيم وغير ذلك ، كلّما كان شأن المباشرين من الترتيب والتنظيم.

ويدلّ على هذا المعنى التوقيع المبارك مضمونه : «وأمّا ما سألت من أمر الرجل الّذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلّمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها» (٢) .. إلى آخره.

وبالجملة ؛ قد عرفت أنّ عنوان التولية هو الشأن الّذي لنفس الواقف من الاختيار على المال فحين الوقف وبسطه شئونه يجعل شأنه هذا لمن يريد ، وليس له المنصب حتّى أمكنه جعل الولاية ، فيقال : ليس للفاسق و [لا] للكافر تولّي هذا الأمر أصلا ، مضافا إلى استلزامه السبيل ، فإنّ ذلك ممتنع بالنسبة إلى من لا ولاية له ، وهكذا باب الوصيّة وأمثالها ، فلا وجه للتوهّم المزبور ، ولا غبار في المسألة إن شاء الله تعالى.

الثالثة : الناظر إذا قبل ؛ يلزم عليه ، كما هو مقتضى عموم (أَوْفُوا

__________________

(١) إن لم يكن بالنسبة إليه اجماع ، فراجع! «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨١ الحديث ٢٤٣٩٩.

٢٦٧

بِالْعُقُودِ) (١) ، إذ لا إشكال في أنّ الناظر والمتولّي أيضا طرف للعقد كالموقوف عليه ، ولا فرق بين هذا العقد وسائر العقود إلّا أنّ لذلك يمكن تصوير أطراف ، كما تقدّم حيثيّة اعتباره ، ولو سلّمنا المناقشة فيه من جهة عدم كونه طرفا حقيقيّا للعقد ، فنقول : لا أقلّ من كون اعتباره اعتبار الشرط ونحوه ، فكيف كان له تعلّق بالعقد فيشمله العموم.

نعم ؛ لو لم يجعل له حقّ فله أن يأخذ أجرة مثل عمله عن الوقف لا لاحترام عمله وتضمين الواقف ، كما قد يتوهّم ، لفساد ذلك ، حيث إنّ المفروض أنّ عمله إنّما يكون بأمر الواقف ، ولا ربط له بالموقوف عليهم الّذين العين انتقل إليهم ، ولا أمر صدر عنهم فيكون عمله بالنسبة إليهم كمن أقدم على عمل لشخص مجّانا ، بل لأنّه عند القبول لمّا كان قبل العمل الجامع بين كونه مجّانا وغير مجّان ـ كما يقتضيه إطلاق الإنشاء والإيجاب ما لم يصرّح الموجب بشي‌ء ـ فله أن يختار كلّا من الفردين ، فتأمّل! فإنّه ربما يكون الموجب والقابل غافلا عن هذه الجهة رأسا مضافا إلى كون ذلك منافيا لما اختاره ـ مدّ ظلّه ـ من اعتبار حقّ التولية والنظارة ، كما سنشير إليه.

الرابعة : الظاهر ؛ أنّ حقّ النظارة اعتباره من باب الوظيفة ، وأنّه يكون من قبيل المستمرّي والمصرف ، لا أنّه من باب الاجرة والجعل في مقابل العمل ، بمعنى أنّ طبعه الأوّلي لا يقتضي ذلك وإن أمكن الجعل بعنوان الأجرة أيضا ، ولكنّ الغرض غالبا ليس إلّا كونه من جملة المصارف قد استثني من الوقف للعنوان المزبور ، ولو بأن يصير داعيا على قيام الناظر وما يلحقه على وظيفته.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

٢٦٨

وعلى كلّ تقدير تظهر الثمرة في أنّه على الأوّل لو انكشف العين الموقوفة مستحقّا للغير ، وقد كان الناظر لم يأخذ حقّه فليس على الواقف شي‌ء ، بل ولو أخذ وكانت العين باقية يجب ردّها إلى مالك العين ، فلو كان عمل بوظيفته ليس له أن يطالب الواقف اجرة حيث إنّه لا ربط له بعد الانكشاف إلّا من جهة غروره.

فيمكن أن يقال بمقتضى قاعدة الغرر ، له الرجوع ، وله مطالبة اجرة المثل ، بخلاف الثاني ، فعليه مطالبة اجرة المثل وليس له إعادة ما اخذ.

الخامسة : إذا اعتبر الواقف العدالة في الناظر فهل ينعزل بخروجه عن الوصف وفسقه أم لا؟ وهذا على قسمين : فتارة يعيّن شخصا خاصّا مع اشتراطه وصف العدالة فيه ، واخرى لا بل يجعل الأمر للعنوان ، لا إشكال في انعزاله على كلّ تقدير بزوال الوصف.

إنّما الكلام في أنّه هل يلزم حينئذ على الحاكم أن ينضمّ إليه عادل أو يجعل شخصا آخر وليّا على الوقف مستقلّا أم لا؟

الظاهر ؛ أنّ الحكم بذلك ـ أي لزوم أحد الأمرين ـ يتوقّف على إحراز نظر الواقف من حيث تعدّد المطلوب ، وأنّه أراد أن يتولّى هذا الشخص إذا كان عادلا ، وإلّا فشخص آخر ، وهكذا في الصورة الثانية أراد الناظر لوقفه ، فإن أمكن العادل فهو ، وإلّا فغيره.

فعلى هذا ؛ يلزم على الحاكم تعيين شخص آخر ، وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل كان منظوره وحدة المطلوب فلا.

ثمّ إنّ ولاية الحاكم في أمثال هذه المقامات من باب عدم لزوم نقض الغرض وحفظ مصلحة الوقف حسبما عمّمنا دائرة الولاية ، وبنينا على أنّ كلّ ما

٢٦٩

يتولّاه حكّام الجور من العزل والنصب وغيرهما بمناط عدم الردع مشروع لحكّامنا أيضا.

ومن ذلك نقول : لو رأى الحاكم المصلحة في عزل الناظر المنصوب لخيانته أو يضمّ إليه آخر ؛ له ذلك إن لم يكن الواقف حين العقد لم يعلم بذلك ، ولم يوقف على نحو الإطلاق ، والناظر كذلك فإنّ الأقوى أنّ له ذلك بأن يجعل الناظر مختارا فيفعل كيفما شاء ، ما لم يضرّ بحقيقة الوقف ، ولم يناف التسبيل والله العالم.

السادسة : لو جعل الناظر اثنين فمات أحدهما فهل يلزم ضمّ آخر إليه من قبل الحاكم أم يستقلّ الثاني؟ أو اشترط العدالة فيهما ففسق أحدهما.

الاحتمالات المتصورة ثبوتا لا يخلو عن وجوه : فتارة ؛ يجعل النظارة للجامع بين الشخصين بحيث ينطبق على أوّل الفردين.

واخرى ؛ يجعلها لهما على نحو الشريك.

وثالثة ؛ يجعل لهما على نحو الاستقلال بأن يكون كلّ منهما ذا النظر التامّ.

ورابعة ؛ يجعلهما كذلك إلّا أنّه يشترط في تصرّفهما نظر الآخر.

والفرق بين الوجوه الأربعة ؛ في أنّه على الثاني جميع التصرّفات يتوقّف على نظر كليهما ، ولا ينفذ أيّ تصرف كان منهما إلّا بتصويب الآخر ، حيث إنّهما بمنزلة متولّ واحد ، فلا يجوز لأحدهما أن يسبق إلى عمل إلّا أن يجيز الآخر.

وعلى الثالث : يكون لكلّ منهما التصرّف ، فلو سبق أحدهما إلى عمل ينفذ ، وليس للآخر المنع أصلا.

نعم ؛ ما لم يختم الأمر يجوز للآخر المزاحمة فيما بقي من العمل ، ولو تشاحّا ينتهي الأمر إلى الحاكم.

٢٧٠

وعلى الرابع : ليس لأحدهما التصرّف إلّا برضى الآخر وإذنه ، وإن كان له الاستقلال ، ولكن مشروط بنظر الآخر حتّى في مقدّمات العمل ، وعلى الأوّل كذلك أي لكلّ منهما الاستقلال لانطباق الطبيعة ، على أوّل الأفراد ولا يشترط بشي‌ء.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى عالم الثبوت ، وأمّا من حيث الإثبات يمكن الدعوى قريبا بأنّ إطلاق الجعل يشمل الصورة الثالثة ، وأنّ ظاهره كونهما مستقلّين ، فعلى هذا إذا مات أحدهما أو فسق لا يلزم الضمّ إلى الباقي ، ولكن بناء على استظهار الشريك أيضا لا يمكن الحكم القطعي بلزوم الضمّ حيث إنّ ذلك يتوقّف على إحراز تعدّد المطلوب وأنّ الواقف أراد مطلق الاثنين ، وهو خلاف الظاهر بل الظاهر ؛ وحدة المطلوب وأنّ إرادته ما تعدّى عمّا عيّنهما إلى غيرهما ، وهذا لا ينافي بقاء الباقي والواحد الآخر على نظارته وولايته ، وإن كان قد يقال : إنّه بناء على وحدة المطلوب يلزم زوال نظارته أيضا لفقد الجزء المراد كما قالوا بمثله في الوصيّين ، ولكن هذا مدخول ، حيث إنّ الظاهر من هذه الجهة هو تعدّد المطلوب بأن يجعل الناظر كليهما ما داما موجودين وأحدهما إذا فقد الآخر.

وكيف كان ؛ الالتزام بالضمّ يحتاج إلى الدليل الّذي لم يثبت لنا ، مع أنّ الأصل أيضا بقاء الآخر على ما كان عليه من النظر ، وهكذا في باب الوصيّ فتأمّل!

السابعة : إذا لم يعيّن الواقف ناظرا فهل ولايته تبقى له ، أو تكون للموقوف عليه أو للحاكم؟ قد يتوهّم ـ بناء على ما ذكرنا من أنّ للواقف بسط شئونه وجمعه ـ أنّه حينئذ لمّا لم يعيّن ناظرا فيبقى هذا الشأن لنفسه حيث لم يسلب عن نفسه.

٢٧١

ولكنّه ؛ مدفوع من جهة أنّ ما قلناه إنّما هو بالنسبة إلى أوّل الأمر الذي تكون هذه الشئون جميعها له تبعا لمالكيّته ، وإذا فرضنا أنّه سلب العلقة الأصليّة عن نفسه ، وجعلها لغيره بلا نظر إلى شئونه الاخر ، فهي أيضا تسلب عنه لكونها تابعة للملكيّة الزائلة.

فمن ذلك ، يظهر أنّ الأقوى هو القول الثاني ، ضرورة أنّ إطلاق النقل يقتضي انتقال جميع الشئون الّتي للمالك إلى المنتقل إليه تبعا لانتقال الملكيّة إليه ، ولكن هذا لا مطلقا ، بأن يكون للمنتقل إليه الفعلي والموقوف عليه الموجود تمام السلطنة على العين ولو استلزم التصرّف في المنافع وحقوق البطون اللاحقة ، لمكان أنّ ذلك مقتضى الانتقال المطلق.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ؛ هل الملكيّة تكون تقطيعيّة ـ كما هو المفروض في الوقف ـ على البطون فحينئذ تصير السلطنة والنظارة أيضا منقطعة كما هو مقتضى التبعيّة ، فليس للبطن الأوّل النظارة على الملك إلّا بالنسبة إلى زمانهم ، وأمّا بالنسبة إلى البطون اللّاحقة فليست تصرّفاتهم نافذة أصلا.

نعم ؛ لو اقتضت المصلحة ذلك أي تصرّفا في العين بحيث يشمل حقّهم للحاكم أن يلي الأمر حينئذ لإطلاق ولايته.

وبالجملة ؛ ولاية أمر الوقف في كلّ زمان للموقوف عليهم الموجودين فيه لا للحاكم ، ولا للواقف هكذا ينبغي أن يحرّر المقام والله وليّ الإنعام.

شرائط لموقوف عليهم

المبحث الرابع : في شرائط الموقوف عليهم الّذي يعتبر فيهم المعلوميّة ،

٢٧٢

إنّما الإشكال في ما اشترطوا فيهم من أنّه لا بدّ وأن يكونوا عند العقد موجودين ، فينقض ذلك بامور ، وقبل الخوض في المقصد ينبغي ذكر صور المعدوم.

أحدها : المعدوم الّذي ليس قابلا للوجود رأسا ، بحيث يستحيل أن يوجد عادة ، وليس له اقتضاء الوجود أصلا.

ثانيها : ما ليس بموجود فعلا إلّا أنّ له اقتضاء الوجود كالوقف على أولاد الأولاد مع عدمهم الآن ، ولكن آباؤهم موجودون.

ثالثها : الوقف على المعدومين تبعا لهم على الموجودين.

أمّا الصورة الاولى ؛ فالظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه لا يصحّ الوقف ، ووجهه واضح حيث أنّه لمّا كان الوقف اعتباره التمليك ، فكما أنّه لا بد له من مملّك ومملوك ، فكذلك لا بد له من المتملّك ، والمعدوم المطلق ليس قابلا له بحيث يصير أوّلا وبالذّات معروضا لهذا الوصف ، ولا يعتبره العقلاء لذلك كما لا يخفى.

وأمّا الصورة الثانية ؛ فهكذا فإنّه وإن كان مقتضى الوجود لهم محقّقا إلّا أنّه مع ذلك ؛ المعدوم ليس قابلا للتملّك ، وصرف الاقتضاء له ليس محلّا لاعتبار العقلاء.

ثمّ إنّه تارة ينتقض هذه الصورة بباب المنافع ، حيث إنّها مع عدم تحقّقها فعلا يعتبرون لها الوجود ، ولذلك تؤجر بل تباع ، كما في بيع الأثمار ، وتضمن في المنافع الغير المستوفاة ، مع أنّه لا فرق بين المملوك والمتملك من هذه الجهة أي لا بدّ فيهما من الوجود.

وفيه ؛ إنّه كمال الفرق بين باب المنافع والمقام ، حيث أنّ فيها لوجود

٢٧٣

المقتضي ـ وهو العين القابلة لخروج المنافع والثمرة عنها كالدار ، والأشجار المثمرة ونحوهما ـ العقلاء يعتبرون لها الوجود بحيث يرون المالك للعين مالكا لها فعلا بل يبذلون بإزائها المال ، بخلاف المقام فإنّه بوجود الآباء والامّهات لا يعتبرون الوجود الفعلي للأولاد ، كما لا يخفى.

واخرى ؛ بالوقف على البطون اللاحقة الغير الموجودة فعلا فكيف يعتبر الملكيّة الفعليّة لهم عند انقراض البطن الأوّل أو عدمه مع اعتبار شريكهم لهم بعد بالوجود؟ فلو كان وجه المنع في المعدوم الابتدائي عدم قابليّته للتملّك فهذا المناط بعينه جار بالنسبة إليهم وكونهم تبعا ، لا يندفع به الإشكال ، ضرورة أنّ المفروض اعتبار تملّك العين لهم في زمان وجودهم الآن ، فالتبعيّة (١) أيّ ثمرة لها في ذلك؟

هذا ؛ ولكن يمكن دفع ذلك أيضا بمنع كون التمليك بالنسبة إلى المعدوم فعلا متجزّئا.

توضيح ذلك : أنّه إمّا بناء على عدم كون الوقف تمليكا بل إيقافا ، والتمليك إنّما يتعلّق بالمنافع كما قوّيناه واختاره في «العروة» أيضا (٢) ، فلأنّه لمّا كانت المنافع وجودها تدريجيّا بحيث تمرّ مع الزمان وتتقطّع به ؛ فحينئذ يعتبر لها وجودات متباينة ، فبالنسبة إلى كلّ قطعة من الزمان لها وجود غير الوجود السابق ، فإذا اضيفت المنافع ـ الّتي اعتبارها كذلك ـ إلى الطبقات المتعاقبة وانتقلت إليهم فتكون حينئذ تمليكات متعدّدة بتعدّد الطبقات.

__________________

(١) بل يمكن منع معنى التبعيّة هنا خصوصا في الوقف الترتيبي أصلا ، «منه رحمه‌الله».

(٢) العروة الوثقى : ٢ / ٥٧٤.

٢٧٤

ومن المعلوم ؛ أنّ لازم ذلك هو تعليق تمليك كلّ طبقة إلى وجودهم ، وتكون هذه حقيقة الوقف الترتيبي ، بأنّه يكون التمليك إلى كلّ بطن مشروطا بمجي‌ء زمانهم ووجودهم ، بل يكون كذلك بالنسبة إلى المعدومين المشاركين مع الموجودين بعد وجودهم ، غايته أنّه بالنسبة إليهم توسعة وتضيّق في تمليك واحد ، فهما يختلفان باختلاف مراتب الطبقات كثرة وقلّة.

وبالجملة ؛ فليس على هذا تمليك متجزّئ مع فقد المتملّك ، بل [يكون] التنجيز فقط بالنسبة إلى البطن الموجود ، وبالنسبة إلى غيره تعليق ولا يضرّ هذا بشي‌ء حيث إنّ القدر المتيقّن من الإجماع المانع عن التعليق إنّما هو في الوقف الابتدائي وبالنسبة إلى الطبقة الاولى.

وأمّا بالنسبة إلى الطبقات اللاحقة فلا مانع ، لا شرعا ولا عقلا ، حسبما هو التحقيق من أنّ التعليق في العقود لا استحالة لها.

وأمّا بناء على كون الوقف تمليكا كما ينسب إلى المشهور فنقول : إنّه وإن كانت العين ليس لها وجود تدريجيّ ، حتّى يجري فيها التقطيع ، بل وجودها قارّ والزمان يمرّ عليها فلذلك يصير التمليك المتعلّق بها أيضا من الامور القارّة لا يعقل التقطيع فيها ، إلّا أنّه لمّا لا إشكال في أنّ التمليك الواحد يمكن تصوير المراتب له حيث إنّه قد لا يكون للملكيّة أمد فهي المطلقة ، وقد يكون لها الأمد وهي تختلف بحسب اختلاف الاعتبار ، إذ حقيقة التمليك ليس إلّا أمرا اعتباريّا ، فهو تابع لكيفيّة الاعتبار الّتي في باب الوقف تمليكات على البطون المتعاقبة ، غايته أنّه بالنسبة إلى البطن الأوّل الموجود متنجّز ، وبالنسبة إلى البطون اللاحقة معلّق في الحقيقة على وجودهم ، وقد تقدّم أنّ هذا التعليق لا يضرّ بشي‌ء.

٢٧٥

فالحاصل ؛ أنّه كمال الفرق بين الوقف على المعدوم ابتداء ، وما إذا كان كذلك بعد الوقف على الموجود ومترتّبا عليه ، حيث إنّ في الأوّل التنجّز ، بل لا بدّ من التعليق الموجب للبطلان بخلاف الثاني الّذي لا يضرّه التعليق ، فلا مجال للمقايسة ، فتدبّر!

وثالثة : ينتقض بمسألة الوقف على الطبيعة الغير الموجود لها فرد فعلا حين إجراء العقد.

وفيه ؛ أنّها لو كانت ممّا لا يتحقّق لها مصداق أصلا كالوقف على طبيعة العالم بما كان وما يكون ، وما هو كائن (١) فهذا باطل بلا كلام ، ولو كانت ممّا يمكن أن يوجد لها مصداق كالوقف على العالم ؛ فهذا وإن لم يكن له فرد فعلا إلّا أنّ إمكان تحقّقه له وقابلية تحقّق الطبيعة يوجب اعتبار الوجود لها عند العقلاء فعلا ، ولا يتوقّف ذلك على وجود الفرد الفعلي لها كما لا يخفى ، فتأمّل!

ثمّ إنّه إذا انضم المعدوم إلى الموجود فهل مقتضى القاعدة بطلان الوقف مطلقا ، أو يصحّ بالنسبة إلى الموجود ، أو التفصيل بين الوقف الترتيبي والتشريكي؟

المشهور : البطلان بالنسبة إلى الجميع في الوقف الترتيبي ، وأمّا في التشريكي فقد أسند في «الجواهر» صحّته إلى الأكثر (٢).

ولكنّه يمكن الالتزام بالوجه الثاني مع التفصيل بين ما لو كانت الطبقة الاولى المعدومة يفرض لها الانقراض على فرض وجودهم فيصحّ حينئذ ، وما لم

__________________

(١) مستثنى منه صاحب الزمان أرواحنا له الفداء «منه رحمه‌الله».

(٢) جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٨.

٢٧٦

يفرض لها الانقراض فيبطل حتّى بالنسبة إلى الموجودين.

توضيح ذلك ، التفصيل مبناه مسألة تحليل الإنشاء والمنشأ والبناء على استظهار تعدّد المطلوب ولكن ضيق المجال لم يسعني أن أذكر الوجه فيه مع ما أفاد ـ دام ظلّه ـ من الوجوه المختلفة والفروع الكثيرة في المقام والله الموفّق.

الوقف على المملوك

وأمّا الوقف على المملوك ؛ فالّذي عليه الأصحاب بطلانه مطلقا بناء على عدم تملّك العبد شيئا وعدم انصرافه إلى مولاه ، ومع قطع النظر عن ذلك فنقول بعد الاستعانة به تعالى : أمّا بناء على كون حقيقة الوقف هو الإيقاف بالنسبة إلى العين والتمليك ، إنّما هو من حيث منافعه فيمكن أن يقال : مقتضى القاعدة صحّة الوقف من جهة أنّ العبد وإن لم يكن قابلا لتملّك المنافع ، إلّا أنّه لا قصور فيه من حيث صيرورته مصرفا له ، نظير سائر الأوقاف على المصارف ، غايته أنّ فيها على حسب أصل الوقف واعتبار الواقف ، وفي المقام من حيث تصوّر المقتضي نفسه بحيث لولاه كان مقتضى الإطلاق التملّك الحقيقي للمنفعة ، فهذا يكون من قبيل إطلاق اليد على عين حيث إنّها مقتضى الملكيّة المطلقة لصاحبها ، وإذا انتفاها ذو اليد فتصير يده عليها أمانيّة ، وإذا نفاها أيضا فلا يحكم بغصبيّته ، ولا يجوز أخذها منه إلى أن يصل حتّى يثبت كون يده عدوانيّا.

فهذه مراتب لليد ، بحيث زوال اعتبار مرتبتها السابقة لا يستلزم زوال أثارها اللّاحقة ، فكذلك في ما نحن فيه لمّا كان لتملّك المنفعة مراتب من تملّك نفسها أو الانتفاع بها إلى أن يصير الشخص مصرفا لها بحيث لم يكن له تصرّف

٢٧٧

فيها أصلا ، بل كان من قبيل الصغير الّذي يصرف له غيره.

فحينئذ ؛ كلّ مرتبة منها لم يمكن أن يتحقّق إمّا كقصور في المقتضي ، أو لوجود المانع فينتهي الأمر إلى الأخرى ، وهنا لمّا كان المفروض عدم إمكان تملّك العبد فيصير مصرفا له لعدم مانع عنه أصلا.

وأمّا بناء على كون حقيقته هو التمليك كما هو ظاهرهم ، خصوصا في الأوقاف الخاصّة ، فبناء على كون الملكيّة من الامور الغير القارّة التدريجيّة فالوقف على الطبقات إنّما هي ملكيّة واحدة لجميعها من قبيل تمليك المنافع ، كما مال إليه بعض فالتزموا بالتقطيع في الملكيّة (١) ، فحينئذ لو كان الوقف على العبد من حيث كونه إحدى الطبقات ، فلمّا ليست له ملكيّة مطلقة للعين بل عنوانه عليها من قبيل الشركة الطوليّة ، والأدلّة المستفادة منها حجره ؛ منصرفة عن مثل هذه الملكيّة فيمكن الحكم بصحّة الوقف أيضا.

نعم ؛ بناء على كون الملكيّة مطلقة ، كما هو التحقيق فلمّا تصير حينئذ تملّكه للعين مطلقة ، وإن لم يكن له عليها سلطنة تامّة ، من حيث تعلّق حقّ بقيّة الطبقات بها فالأدلّة حينئذ ليست قاصرة عن الحجر عنها ، فيشكل الأمر ولا محيص عن الحكم بالبطلان.

هذا ؛ ولكن يمكن تصحيحه على هذا أيضا بأن يقال : لمّا لا إشكال في أنّ مقتضى التملّك بالنسبة إلى العبد موجود ، كما هو ظاهر أدلّة حجر العبد مثل قوله : (العبد وماله لمولاه) (٢) حيث إنّ ظاهر مفاده أنّ له المال ، ولكن هو وماله

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٩.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ١٨ / ٢٥٧ الحديث ٢٣٦٢١.

٢٧٨

لمالكه ، فيكون تملّك العبد ممّا اقتضاؤه تامّا؟ ، والمانع يمنع عنه دواما ، ويكون من قبيل انتقال المال عن المورّث إلى الوارث قهرا.

فعلى هذا ؛ لا مانع من تأثير عقد الوقف والحكم بصحّته ، غايته أنّه لمّا لم يكن المحلّ قابلا لأعلى مرتبة التملّك فالعقد يؤثّر بمقدار ما يكون في المحلّ من القابليّة ، وليس في المقام إلّا الملكيّة الاقتضائيّة ، ثمّ بعد تحقّق الوقف ووقوعه بمقتضى عمومات التملّك لمال العبد ينتقل إلى مالكه ، ويصير وقفا عليه قهرا من قبيل الانتقال بالإرث.

ولا يتوهّم ؛ أنّ ذلك مخالف لمقتضى العقد حيث إنّ المقصود به تملّك العبد ووقوع الوقف عليه ، لأنّه قد أشرنا أنّ هذا الانتقال ليس من أثر العقد ، بل هو يقع على ما هو قصد ، وإنّما الانتقال من آثار تملّك العبد له لقصوره أن يتملّكه دائما.

ثمّ إنّه بناء على الصحّة هل يتوقّف صحّة قبول العبد على إذن مولاه أم لا؟ الأقوى لزوم الإذن ، وتوهّم أنّ اختيار تكلّمه بيده بالضرورة والسيرة المستمرّة ، ـ ومن المعلوم أنّ القبول منه فلا يتوقّف على إذن المولى ـ فاسد لما ذكرنا في محلّه من أنّ غاية ما قامت السيرة على ذلك تنطّقه وتكلّمه من حيث إظهاره لما في ضميره.

وأمّا لو كان مشتملا على أمر زائد عليه ويعدّ من التصرّفات فليس للعبد ذلك ، بل يتوقّف على إذن مولاه ، ولذلك لا يجوز أن يوكّل عن الغير ولو في إجراء الصيغة فقط ، والقبول في المقام من هذا القبيل لا ممّا اضطرّ إليه من إظهار ما في ضميره ، كما لا يخفى.

٢٧٩

الوقف على الحربي

وممّا يتفرّع على شرائط الموقوف عليه من حيث قابليّته للتملّك ؛ الوقف على الحربي فقد وقع فيه الخلاف ، وكلّ تمسّكوا بوجوه ضعيفة لا تثمر شيئا وسنشير إليها.

والتحقيق : هو أن يبحث في العمومات المتكفّلة لبيان الأسباب والمسبّبات ، أمّا عموم : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (١) ، فالحقّ أنّه لا ينفع شيئا حيث إنّه لبيان حكم الوقف الفارغ وقفيّته كسائر العمومات المتكفّلة لبيان حكم عنوان وقع خارجا ، مثل : «اقض ما فات كما فات» ونحوه (٢) ممّا يكون متكفّلا لكيفيّة العمل والوظيفة.

وبالجملة ؛ فمفاد مثل هذه العمومات ونسبتها إلى ما رتّبت عليه ؛ نسبة الحكم والموضوع ، وليست في مقام بيان أصل السبب أصلا.

وأمّا العمومات المتكفّلة لحكم الأسباب مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣) فهو وإن كان من حيث حكم السبب تامّا ، إلّا أنّه أيضا لمّا لم يكن مشتملا على بيان قابليّة المحلّ وإثباتها فهو أيضا لا يثمر.

حيث إنّ المفروض أنّ الشكّ في المقام ؛ في قابليّة الحربي لأن يوقف عليه من حيث تملّكه أو كونه مراد بالنسبة إليه ونحوهما ، فحينئذ العمومات المتكفّلة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٧٥ الحديث ٢٤٣٨٦ و ٢٤٣٨٧.

(٢) مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٣٥ الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات.

(٣) المائدة (٥) : ١.

٢٨٠