الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

للأسباب إذا لم تؤثّر فلا محيص عن الحكم بالبطلان لما هو الأصل ، والمفروض فقدان أصل يحرز به القابليّة أو يتكفّل حكم المسبّب ، نظير (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) فيكون الأصل العملي المقتضي للفساد هو المحكّم.

فإن تمّ ما ذكرنا فيتمّ ما ذهب إليه المشهور ، وإلّا فالوجوه الاخر ، فالإنصاف أنّها غير تامّة ، كما أفاده في «الجواهر» (٢).

مع أنّه لو سلّمنا كون الوقف عليه مرادا له فلذلك يصير بنفسه منهيّا عنه ، حيث إنّ المفروض كونه مقدّمة لذلك العنوان ، فقهرا النهي المتعلّق بذي المقدّمة يسري إليها ، إلّا أنّه لمّا كان هذا النهي نفيا محضا ، وليس إرشادا ومشتملا على وضع أصلا ، فلا يقتضي فساد الوقف من وجه.

وأمّا مسألة قصد القربة ؛ فلا دليل على اعتبارها رأسا حتّى ينافيها ، فتأمّل! فإنّه ولو سلّمنا ذلك ـ أي عدم اعتبار القربة مطلقا ـ فلا أقلّ من اعتبار الرجحان فيه ، كما في مطلق الصدقة ، والنهي يضادّه بلا كلام والله وليّ الإنعام.

ثمّ إنّه إن بنينا على صحّة الوقف على الحربي لما كان يقع التعارض بين دليل الوقف والدوام المعتبر فيه (٣) ، وأدلّة : أنّ ماله في‌ء للمسلمين (٤) ، وتكون النسبة عموما من وجه فيشكل الأمر حينئذ.

والإنصاف ؛ أنّه لا إشكال في المسألة من هذه الجهة عندنا بحمد الله تعالى أصلا وذلك ؛ لأنّه بناء على كون حقيقة الوقف إيقافا لا تمليكا للعين ، فمعلوم أنّه

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) لاحظ! جواهر الكلام : ٢٨ / ٣٠ و ٣١.

(٣) الحدائق الناضرة : ٢٢ / ١٩٣ و ١٩٤.

(٤) جواهر الكلام : ٢٨ / ٣١.

٢٨١

بالنسبة إلى العين مقتضى تملّك المسلم لها لمّا لم يكن محقّقا فلا تعارض بين الدليلين.

وأمّا بالنسبة إلى المنافع وإن كان التحقيق فيها ما سنشير إليه ولكن مع الغضّ عنه ، نقول : لا مانع من الالتزام بأنّه كلّما يستحقّ منها فيأخذها المسلمون أيضا [و] يتملّكون عنها شيئا فشيئا ، بحيث يكون هو مقتضيا ومعدّا لتملّكهم ، وكونه مخالفا لغرض الواقف ، مضافا إلى كونه مخالفا لداعيه ، فقصور نفس المحلّ وعدم قابليّته أوجب ذلك ، كما لا يخفى.

وأمّا بناء على كونه تمليكا ؛ فعلى هذا المبنى الّذي هو المشهور فقد توهّم وقوع التعارض بين أدلّة الوقف وأدلّة الفي‌ء ، ومن الواضح أنّ ذلك يتمّ لو اجري في المقام أدلّة الفي‌ء فيجوز للمسلمين تملّك العين.

مع أنّه ممنوع ؛ حيث أنّ أدلّة الفي‌ء إنّما تجري بالنّسبة إلى الملك الطلق الّذي لا مانع من تملّكه ، ودليل الوقف لو اجري لا يبقي الموضوع لها ، فإن اجري أدلّة الفي‌ء لا بدّ من تخصيصه مع بقاء موضوعه فيكون من باب دوران الأمر بين التخصّص والتخصيص ، فلا محيص عن تقديم أدلّة الوقف ، فانقدح أنّه لا تعارض بين الدليلين على هذا أيضا ، حيث إنّه يتوقّف على تساوي نسبتهما إلى المورد ، وليس هنا كذلك فتأمّل!

بقي الكلام بالنسبة إلى المنافع على المبنى المذكور فهل يجوز تملّكها عنه بعنوان الفي‌ء على ما احتملنا فيما تقدّم قريبا ، أم لا؟

الأقوى ؛ أنّه لا يجوز مطلقا وتحقيق ذلك يتوقّف على ذكر امور :

أحدها : أنّه قد أوضحنا في طيّ بحث البيع أنّ العين المسلوبة السلطنة عنها

٢٨٢

من الشخص مطلقا بحيث لم يكن له عليها سلطنة من جهة أصلا ، لا يعتبر لها لهذا الشخص ملكيّة عند العقلاء ، ولذلك لا يجوز له ترتيب آثار الملكيّة عليها من البيع وغيره ، كما أنّ السلطنة على الشي‌ء من جميع الجهات ؛ كأن يكون له بيعه وتلفه بأيّ نحو شاء ملزوم للملكيّة ، وبذلك قد صحّحنا مسألة بيع المعاطاة ؛ حيث إنّ البائع لمّا سلّط المشتري على أنحاء السلطنة على العين فقد سلّطه على الملازم للملكيّة.

ثانيها : أنّ من العقود ما تكون الملكيّة من نتائج نفسها كأكثرها مثل البيع والصلح وغيرهما ، ومنها ما لا تكون هي ترتّب على نفسها ، بل الملكيّة ملازمة لما يترتّب عليها بالواسطة كما في المعاطاة على التحقيق ، فإنّها ليست أوّلا تفيد التمليك والتملّك في عقد البيع المصطلح والهبة ، حيث أنّ مفاد نفسها النقل والانتقال ، بل لمّا كانت مفادها التسليط المطلق الّذي ملزوم للملكيّة فلذلك قد تكون تفيد الملكيّة.

ثالثها : قد أثبتنا في أوّل الباب أنّ الوقف من حيث المنافع ليس مفاده التمليك لها ، بل إنّما هو إطلاق المنفعة وجعلها تحت سلطنة الموقوف عليه ، كما يقتضيه لفظ «التسبيل» في أدلّته ، فحينئذ لا يختلف معناه بالنسبة إلى المقامات في الأوقاف العامّة والخاصة ، والوقف للمصرف فإنّه في جميعها هو إطلاق المنفعة ، وإلّا فلو فسّرنا «التسبيل» بالتمليك يلزم الاختلاف في معنى الحديث بالنسبة إلى تلك الموارد ، مع أنّ ميثاقه واحد ، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه الامور فنقول : لا إشكال في أنّه ليس للحربي السلطنة المطلقة على منافع الوقف ، بل لمّا كان للمسلمين أن يأخذوها عنه ويتملّكون ،

٢٨٣

وليس له أن يمنعهم عنه ، فمن هذه الجهة تنتقض سلطنته فتخرج عن قابليّته لأن يصير مالكا لها.

وقد تبيّن أنّ حقيقة الوقف أيضا ليست التمليك بالنسبة إلى المنافع بل هي التسبيل الّذي له أرض عريضة يجتمع مع الملكيّة لعينها وملك الانتفاع والمراتب النازلة عنها ، فحينئذ ينحصر مصداق التسبيل بالنسبة إلى ملك الانتفاع لقصور المحل وعدم الاقتضاء فيه ، كما قد يكون كذلك بجعل الواقف فيكون الوقف على الحربي كأنّه من أوّل الأمر وقف عليه ، بأن ينتفع منه لا أن يملك منافعه ، ولو نوقش في ذلك أيضا يكون ممّا هو المصرف له.

فعلى كلّ تقدير ؛ التسليط المطلق الملزوم للملكيّة لمّا لا يمكن بالنسبة إليه فلا يصير مالكا لعين المنافع.

وعلى هذا ؛ لا تجري أدلّة الفي‌ء ، إذ مفادها جواز تملّك مال الحربي ، ولم يثبت إطلاقها حتّى يشمل الحقّ له ، أو المال الّذي هو مصرف له بلا سلطنة له عليه أصلا ، كما هو المفروض ، فتدبّر!

فتحصّل من ذلك كلّه : أنّه بناء على صحّة الوقف على الحربي ، أدلّة الفي‌ء على كلّ حال غير جارية مطلقا من حيث المنافع أو العين ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ ولكن بعد يحتاج إلى التأمّل في المباني المذكورة والمراجعة إلى أدلّة الفي‌ء حتّى يتّضح الأمر ، والله العالم.

الوقف على الذمّي

وأمّا الوقف على الذمّي فظاهر المشهور فيه على الجواز ، بل كاد أن تكون

٢٨٤

المسألة إجماعيّة ، والفرق بينه وبين الوقف على الحربي أنّه شبهة عدم القابليّة من الجهة الّتي المشهور منعوا عنه فيه ؛ هنا غير جارية وهي مسألة تملّكه ، ضرورة أنّ الذمّي مالك لما تحت يده مطلقا ، فحينئذ العمومات بالنسبة إليه لا مانع من جريانها.

نعم ؛ بناء على ما استشكلنا من أنّه يحتمل أن يكون منشأ عدم القابليّة كون الوقف عليه موادّة وبرّا ، فعدم جريانه هنا مبنيّ على عدم حرمة الموادّة ونحوها مع الذمّي ، وجواز الإحسان والبرّ إليه كما لا يبعد ، وإلّا فلا فرق بينهما كما لا يخفى.

الوقف على الكنائس

وأمّا الوقف على الكنائس والبيع ونحوهما ، وإن أمكن أن يقال : لا بأس به من حيث الموادّة وغيرها من الوجوه المتقدّمة ، أو لم يقصد به الإعانة والترويج ؛ إلّا أنّه لمّا كان أصل هذا الفعل محرّما على المسلم لكونه ترويجا للباطل ، ولا ينافي ذلك جواز إبقائه بمقتضى شرائط الذمّة كما هو واضح ، فيكون أصل المصرف حراما ، فيصير من قبيل ما تعلّق النهي بنتيجة المعاملة الكاشفة عن عدم إمضاء السبب ، فيبطل الوقف من هذه الجهة بلا كلام.

ومن هنا ؛ ظهر حكم الوقف على كلّ مصرف محرّم من الوقف على قطّاع الطريق وشارب الخمر ومعونة الزناة وأمثال ذلك ، ممّا يكون أصل الصرف منهيّا عنه ، فهذا هو سرّ منع الأصحاب عن الوقف لأحد هذه الوجوه ، وحكمهم

٢٨٥

ببطلانه (١) ، ولو كان الوقف للكنائس أو الكتب الضالّة من الكفّار فالظاهر أنّه لا إشكال في صحّته لما هو مقتضى التقرير ، والإشكال فيه من جهة قصد القربة ونحوها ، كما ترى.

وإنّما الكلام فيما لو وقف الحربي على مثله فهل يجري فيه الوجوه المتقدّمة من الموادّة وغيرها أم لا؟ لا ريب في أنّه مبنيّ على أن يكون النهي عن الموادّة عامّا يشمل المسلم والكافر من جهة كونهم معاقبون على الفروع أيضا ، أم يخصّ المسلم؟ والظاهر ذلك حيث إنّ مقتضى المناسبة والاقتران هو النهي عن قرب المسلم للكافر وموادّته حتّى لا يتخلّق بأخلاقه ويتأثّر هو عن هذا الانزجار أيضا ، فينتهي عن عمله ويميل إلى الإسلام.

هذا تمام الكلام في جملة من شرائط الموقوف عليهم ومهمّاتها والله العالم بالأحكام.

تعيين مدلول العنوان في الموقوف عليهم

ثمّ إنّه ؛ جرى في المقام وكذلك في باب الوصايا وأمثالهما دأبهم في البحث عن بعض العناوين الواقعة موضوعا للعقد ، كعنوان الفقير والجيران والمسلم وغيرها ، وأنّ مدلولها أيّ شي‌ء؟ فهل ينصرف الفقير ـ مثلا ـ إلى الفقير من نحلة الموصي والواقف أم يعمّ؟

مع أنّ هذه كلّها مفاهيم عرفيّة ليس شأن الفقيه البحث عنها ، لعدم كونها

__________________

(١) ومن هنا ظهر حال ما لو كان الوقف على الحربي بحيث يكون مصرفا له ، فإنّ فيه يجري هذا الإشكال أيضا ، كما لا يخفى ، «منه رحمه‌الله».

٢٨٦

موضوعا تامّا للأحكام الكلّيّة ، بل إنّما تنتج حكما جزئيّا ، وشأن المجتهد البحث عن الموضوعات الّتي تنتج حكما كلّيّا ، أي ما رتّبه الشارع عليها ؛ كالركوع والسجود والصعيد وأمثالها.

ومن المعلوم ؛ أنّ تلك المفاهيم ليست كذلك ، بل نتيجة البحث فيها انطباق الكبرى الكلّي عليها ، كعمومات الوقف في المقام.

فكذلك قد يقال : إنّ وجه اعتبار قول الفقيه في أمثالها إنّما هو من باب اعتبار قول أهل الخبرة من جهة كون الفقيه مشخّصا لمصاديق تلك المفاهيم كما في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة.

ولكن يقع إشكال آخر حينئذ من جهة اخرى ، حيث إنّه على هذا لا بدّ وأن يتعدّد الفقيه المشخّص لعدم اعتبار قول الواحد في الموضوعات ، مع أنّ السيرة الاكتفاء بقول الفقيه الواحد ، كما أنّه لا يزال يستفتون عن العلماء والفقيه عن الامور المذكورة ومفاهيمها بلا احتياج إلى تعدّدهم أصلا ، فهذا لا يحسم مادّة الإشكال ، فلا بدّ وأن يكون وجه آخر ، وتنقيحه يحتاج إلى ذكر مقدمة.

وهي : أنّه قد حقّقنا في بحث اعتبار قول أهل الخبرة أنّ حصول هذه الملكيّة والخبرويّة في أمر تكون من جهة كثرة ممارسته في الامور المحسوسة واستقراء النظائر ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى تقويم الأبنية والدور واعتبار قول مقوّميها.

واخرى تكون من جهة الحدس وإعمال النظر في الامور الخفيّة الغير الراجعة إلى الحس ، كما يمكن أن يكون من هذا القبيل مسألة تقويم الجواهر واللآلي ، فهذا لا خفاء في أنّ وجه اعتبار قول أهل الخبرة يمكن أن يكون من أحد الوجهين :

٢٨٧

أمّا بالنسبة إلى القسم الأوّل ، فلمّا كان القول يرجع إلى الإخبار عن الخارج والأمر الحسّي بحيث لم يكن للرأي فيه دخل أصلا فيجري فيه حكم سائر موارد الإخبار عن الموضوعات الخارجيّة.

وأمّا في القسم الثاني ؛ فلا إشكال أنّ وجه الحجيّة فيه إنّما هو مسألة الرأي والنظر بحيث يكون القول طريقا إلى الرأي الّذي هو طريق إلى الواقع ، بخلاف الأوّل الّذي ليس القول إلّا طريقا بلا واسطة إلى الواقع ، ففي هذا القسم للرأي كمال المدخليّة.

فبناء على جريان هذا التفصيل في مسألة أهل الخبرة ـ كما هو التحقيق ـ فلمّا يصير مناط حجيّة قولهم في القسم الثاني ما هو المناط في باب حجيّة قول المجتهد للمقلّدين ، وليس هو إلّا حكم العقل برجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى العالم به بحيث يكون ذلك ارتكازيّا لكلّ أحد ، فكذلك يكون قوله ورأيه في المقام للمختبرين حجّة كما في قول المجتهد للمقلّدين.

إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّه لا إشكال في أنّ مسألة تشخيص المفاهيم المذكورة ليست من قبيل الامور المحسوسة بل لمّا كان يرجع إلى تمييز ما هو المفهوم العرفي للألفاظ المذكورة وتشخيص الظهورات فيها ، بحيث يكون للنظر والرأي كمال المدخليّة لها ، ولا يمكن حصول ذلك للعوام من الناس ، ولو كانت المفاهيم عرفيّة ، كما ربّما يكون هكذا في موضوعات الأحكام الكلّيّة كالصعيد ونحوه ، حيث إنّه وإن كان معنى لغويّا ومفهوما عرفيّا ، ولكن مع ذلك لمّا كان فيه خفاء ومنشأ للاشتباه ، بحيث لا يمكن رفعهما وتشخيص المدلول الحقيقي إلّا بإعمال الفكر والرويّة فينحصر ذلك بالفقيه ويصير من شئونه ، فإذا انتهى الأمر

٢٨٨

إلى ذلك ، فيصير قوله حجّة على غيره ، لما عرفت من الارتكاز وبناء العقلاء ، ولا يحتاج إلى التعدد أيضا إذ المفروض عدم رجوع الأمر إلى باب الشهادة ، بل صيرورته من قبيل الفتوى.

وعلى هذا أيضا ؛ يترتّب ثمرة اخرى من حيث جواز حكم الفقيه وقضاء المجتهد برأيه ، بناء على كون وجه حجيّة قوله هو ذلك لا من باب الشهادة لجواز أن يحكم القاضي برأيه في المرافعات بخلاف مسألة الشهادة ، إذ ليس ما يراه الشاهد حجّة على الغير ، كما لا يخفى.

وبالجملة ؛ فالتحقيق حجيّة رأي الفقيه ونظره في موضوعات الأحكام مطلقا كما هو المعروف ، سواء كان منتجا للحكم الكلّي أو الجزئي وكلاهما من واد واحد ، وهو أنّه لمّا كان على كلّ حاكم تشخيص موضوع حكمه ؛ فعلى الفقيه ذلك أيضا ، فلا فرق في الموضوعات المستنبطة بين الكلّيّة والجزئيّة فتدبر!

تفسير عناوين الموقوف عليهم

إذا اتّضحت الكبرى بعونه سبحانه وتعالى فينبغي البحث عن بعض الصغريات الّتي وقع الكلام فيها.

منها : لفظ الفقراء ، حيث إنّه مع كونه عامّا يشمل كلّ فقير من أيّ قوم ونحلة المتسالم عندهم انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف ، ولم يدّعوا ذلك في لفظ المسلمين وبني آدم وأمثالهما ، مع أنّ الظاهر وجود وجه الانصراف فيها أيضا ، فيمكن أن يكون الفرق من جهة أنّ جميع هذه الألفاظ وإن كانت من حيث وضعها مطلقة ومقتضية للتعميم ـ إلّا أن يمنع عنها الانصراف الّذي من قبيل التقييد ـ إلّا

٢٨٩

أنّه لا إشكال في جهة فرق بين نفقة الفقير وغيره كالمسلمين ، حيث إنّ الفقير ليس تحته نوع أو صنف أخصّ بحيث يكون للمتكلّم العدول عنه ، والتعبير به ـ بل لو أراده ـ فلا بدّ له من تقييد نفس اللفظ بالعنوان الأخصّ كالمؤمن أو العالم وأمثالهما ، وهذا بخلاف لفظ المسلمين ، فلمّا يكون تحته نوع خاصّ كالمؤمنين بحيث له التعبير عنه لو أراده ، فلم يحتج إلى التعبير به مقيّدا.

فعلى هذا ؛ اللفظان وإن كانا مشتركين في وجه الانصراف ـ وهو الاسترحام والرّأفة إلى من يصلح لهما الّذي هو فقراء نحلة نفس المتكلّم والواقف ـ ولكنّ العدول عن لفظ في مثل المسلم والتعبير به يكشف عن إرادته العام ، فيصير هذا مانعا عن المانع وهو الانصراف ، فاللفظ يبقى على ظهوره الأوّلي من الإطلاق.

وأمّا في لفظ الفقراء والعالم وغيرهما فلا مانع عن الانصراف ، فلمّا لم يكن ، ويحتمل اعتماد المتكلم عدم تقييده بهذا الانصراف فالمانع على حاله باق ولم يؤثّر الإطلاق المقتضي الوضع ، فتأمّل!

ومنها : لفظ المؤمن لا إشكال أنّه وإن كان ظاهرا فيمن يعتقد بالأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ، ولكن ليس بحيث لم يكن قابلا للمناقشة والتأمّل ، بل الاصطلاح فيه في الجملة أيضا مختلف فيه قديما وحديثا ، وهكذا لفظ الشيعة فقد وقع الخلاف فيه أيضا أنّه هل ينصرف إلى المعتقدين بإمامة اثني عشر أو يعمّ سائر أصناف الإماميّة فلا بدّ وأن يلاحظ حال الواقف ومعتقده أوّلا ، بل يؤخذ مطلقا بما هو معنى اللفظ واقعا.

وتنقيح البحث في ذلك : هو أنّه إن قلنا : إنّ إطلاق هذه الألفاظ واستعمالها

٢٩٠

في غير معناها الأصلي للاعتقاد المستعمل كونه هو المعنى الحقيقي الأوّلي كاستعمال طائفة الإسماعيليّة لفظ المؤمن فيمن يعتقد بأنّه إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام من قبيل الخطأ في التطبيق ، ونظير الشبهة المصداقيّة في ما يوجّه أحد حكمه إلى العنوان وطبّقه على شخص متّصف بنقيضه معتقدا بأنّه موصوف به كالآمر والمجيز بدخول العادل داره وتصريحه بدخول زيد معتقدا بأنّه منهم مع كونه فاسقا واقعا ، أو ليس من هذا القبيل بل من باب استعمال اللفظ وإطلاقه على معنى يعتقد أنّه المعنى الحقيقي بحيث لم يكن من باب تطبيق العنوان عليه بل من تطبيق اللفظ على الموضوع له بلا رعاية واسطة وعنوان في البين؟

فإن بنينا على كونه من الأوّل فلا محيص عن حمل اللفظ على الموضوع له الأصلي مطلقا بلا رعاية حال الواقف ، كما هو الضابط في كلّ ما يكون من الخطأ في التطبيق ، وقد عنونوه في مسألة تعارض الوصف والإشارة.

وإن قلنا : إنّه من الثاني فلا بدّ أن يحمل على معتقد الواقف عملا بمقصوده.

والظاهر ؛ أنّه من هذا القبيل حيث إنّ احتمال المعنى الأوّل بعيد هنا ، إذ لازمه أن يكون المتكلم أراد الموضوع له الأصلي أوّلا ، ولو إجمالا ثمّ أراد ما هو معتقده من معنى اللفظ والنقل منه إليه حتّى يقال : إنّ هذا انتقاله لما كان من الخطأ في التطبيق فلا يرتّب عليه الأثر ، مع أنّه ليس كذلك بل المستعمل لا يرى للفظ معنى ، سواء معتقده ، ولا يحتمله أصلا فيطبّق اللفظ عليه من أوّل الأمر.

فعلى هذا ؛ لا وجه لما قوّاه في «الجواهر» في المقام قدس‌سره (١) ، بل عليه في الحقيقة هو الأخذ بتنقيص مقصود الواقف ، كما لا يخفى فتأمّل!

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٣٨ و ٣٩.

٢٩١

وأمّا الشيعة ؛ فهي وإن كانت في عصرنا تنصرف إلى الفرقة الناجية من الإماميّة ، وليست باقية على ما لها من المعنى في الصدر الأوّل وهو مطلق من شايع عليّا عليه‌السلام وقدّمه على غيره ، ولكن يقع الكلام فيها أيضا من حيث إنّه تنصرف إليهم مطلقا ولو كان الواقف من غيرنا من فرق الشيعة أو لا ، بل فيه من الجهة المذكورة ينصرف إلى أهل نحلته.

وما يوضح البحث هو أنّه : لو كان الوجه في الإطلاق (١) المزبور هو الانصراف لا النّقل عن معناه الأصلي فحينئذ لا ينبغي التأمّل في أنّه من كلّ طائفة يصدر ؛ يحمل على معناه العامّ لما بيّنا في لفظ المسلمين ، فهنا أيضا لأجل وجود نوع الأخصّ تحت لفظة الشيعة ، فالعدول عنه والتعبير بها يكشف عن إرادة المعنى العامّ وتصير قرينة عليها ، فيمنع عن تأثير الانصراف الناشئ عن النفقة والاسترحام ، أو لا أقلّ من أن يزاحمه فيؤثّر ما هو المقتضى لطبع اللفظ من الإطلاق ، ولو كان سبب ظهورها ودلالتها على المعنى المصطلح فعلا هو كثرة الاستعمال والإطلاق أو النقل بحيث صار المعنى الخاص بمعنى الوضع الثانوي ؛ فحينئذ لا محيص عن حمله عليه عن كل طائفة يصدر سواء كانت من الفرقة المحقّة أو سائر الفرق ، ضرورة أنّ اللفظ يحمل على المعنى الموضوع له ولا اختصاص له بنحلة دون نحلة.

ولمّا كان الظاهر هو الاحتمال الثاني فلا بد من العمل بما يكون اللفظ ظاهرا فيه ، سواء كان الواقف من الفرقة المحقّة للشيعة أو غيرها ، فهكذا ينبغي تحرير المقام كما لا يخفى والله العالم.

__________________

(١) ظهوره في المعنى الخاص ، «منه رحمه‌الله».

٢٩٢

ومنها : ما لو انتسب إلى محلّ ـ كالعالم النجفي ـ فالحكم حينئذ معلوم ، إلّا أنّه قد يقع الإشكال فيما لو لم يكن الموقوف عليه موجودا بل يكون ذلك وقفا على المعدوم فيبطل ، أو يصحّ ويحمل على تعدد المطلوب كما مال إليه بعض من عاصرناهم (١) أو لا؟

والتحقيق أن يقال : إن جعلنا العنوان المأخوذ في حيّز العقد عنوانا مشيرا كقول القائل : «أكرم من في الصحن» بأن يكون اللفظ إشارة إلى العالمين الموجودين في النجف بأشخاصهم ؛ فهذا يكون من باب الوقف على المعدوم ، ولا مجال للحمل على تعدّد المطلوب بأن يصرف الوقف إلى غير العلماء من أهل النجف ، إذ لا معنى له بالنسبة إلى الأشخاص.

وإن جعلنا نفس العنوان موضوعا فحينئذ إن قلنا بأنّ العناوين الكليّة وإن لم تكن لها أفراد فعليّة ، ولكن كانت قابلة لأن تتحقق لها الأفراد ، فهذا يعتبر لها الوجود فعلا كما بنينا عليه سابقا فيصحّ الوقف ، ولا بدّ أن يحفظ الثمرة إلى أن يوجد الأفراد ولا سبيل إلى الصرف في غيرهم ما لم يوجد ، ولضرورة أنّه ينافي اعتبار الوجود الفعلي للعنوان ، وإن لم نبن على ذلك ، فحينئذ يجري كلام الحمل على تعدد المطلوب وعدمه من حيث الصرف في علماء غير النجف لا في فقرائه مثلا ، كما لا يخفى.

ومنها : لفظ الجيران ؛ فقد وقع الخلاف فيه من حيث حمله على المعنى العرفي أو على المعنى الشرعي ، ثمّ بالنسبة إليه أيضا يكون الخلاف ، كما سنشير إليه.

__________________

(١) لم نعثر على هذا القول.

٢٩٣

لا إشكال أوّلا ؛ أنّ بالنسبة إلى معناه العرفي ليس له مفهوم معيّن بل هو يختلف من حيث الموارد جدّا ، إذ اعتبار الجار في العقود الصغيرة غير اعتباره بالنسبة إلى الدور الواقعة في الشوارع والجوادّ العظيمة ، كما أنّ اعتباره من حيث نفس الدور من جهة الصغر والكبر يختلف كثيرا ، فحينئذ اجتماعه مع التحديد الشرعي ـ وهو أربعين ذراعا وتصادقهما ـ نادر غايته ، فلذلك يشكل الأخذ بالحدّ الشرعي وطرح المعنى العرفي رأسا.

إلّا أن يقال : إنّه من هذا الاختلاف الكثير في المفهوم العرفي ومصاديقه نشأ التحديد الشرعي ، كما في غيره من الموارد ، فإنّ الشارع العالم بالواقع لمّا رأى الاختلاف فقد حدّد وعيّن المصداق الواقعي.

ثمّ إنّه بالنسبة إلى التحديد الشرعي أيضا ؛ يقع البحث في أنّه [هل هو] إخبار عن الواقع وتعيين لما هو المصداق الواقعي ، حيث إنّه ما من مفهوم إلّا له مصاديق مشكوكة حتّى بالنسبة إلى نفس الواضع من حيث الشكّ في حدّ المفهوم المسمّى بالشكّ في الصدق الملحق بالشبهة المفهوميّة ، فلذلك ؛ الشارع العارف بالواقع يعيّن ماله من الحدّ الواقعي ، أم لا ، بل هو تنزيل شرعي كسائر التنزيلات ولا نظر إلى الواقع أصلا؟ وقد التزم بذلك بعض من عاصرناه قدس‌سره فقال : على هذا لا مجال للأخذ بالتحديد الشرعي في غير الآثار الّتي نفس الشارع رتّبها على الموضوع (١) مثل ما ورد في رعاية حقّ الجار وغيره (٢).

وفيه : أوّلا : أنّ الظاهر من هذا التحديد ـ كما في غيره من الموارد ، مثل

__________________

(١) لم نعثر على هذا القول.

(٢) وسائل الشيعة : ١٢ / ١٢٨ الباب ٨٧ من أبواب أحكام العشرة.

٢٩٤

الكرّ والسفر وحدّ الوطن ـ هو الإخبار عن الواقع والتعيين للمصداق ، فحينئذ لا فرق بين الآثار الشرعيّة الّتي رتّبها الشارع وما رتّبها المكلّفون ، كما لا يخفى.

وثانيا : مع تسليم المعنى الثاني بأن يكون تعبّدا محضا لا وجه لانصرافه إلى ما ذكر من الآثار بل يشمل كلّ ما وقع اللفظ موضوعا للأمر الشرعي ، كما في المقام حيث إنّ ببركة تحديد الشارع يتعيّن موضوع (أَوْفُوا) .. إلى آخره.

نعم ؛ لا بدّ حينئذ من التفصيل بين الشك في الزيادة على ما حدّده الشارع ونقصانه فإذا اقتضى التحديد العرفي مثلا (١).

هذا كلّه ؛ فيما إذا احرز كون نظر الواقف إلى الموضوع الواقعي ، لا للفظ واستعماله في المفهوم العرفي بلا أن يرى له حدّا خاصّا ، وإلّا فالمناط ما هو منظوره ، ولا وجه لانصرافه إلى غيره سواء كان تحديدا حقيقيّا شرعيّا ، أو مفهوميّا عرفيّا لأنّ الوقوف تابعة للقصود ، وقد تقدّم الوجه فيه أيضا وكيف كان ؛ مسألة جريان التحديد من الخارج إنّما يكون عند الاشتباه وإطلاق المراد.

ثمّ إنّ المناط في التحديد الشرعي بناء على المصير إليه كما هو التحقيق ما عليه المشهور من أربعين ذراعا (٢) لأربعين دارا وإن كان ذهب إليه بعض (٣) ، ولكنّه شاذّ والأخبار الواردة عليه معرض عنها (٤).

ويؤيّد الأوّل ؛ ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ أنّه لا خفاء في أنّ لفظ «الجيران»

__________________

(١) العبارة هنا غير وافية ، ونقصانها من أصل الرسالة.

(٢) ولكن إلى الآن مدركه لم يظهر لنا وإن قال الشهيد الثاني قدس‌سره : له مدرك ضعيف ، فحينئذ يلزم المراجعة إن شاء الله ، «منه رحمه‌الله» ، مسالك الإفهام : ٥ / ٣٤٣.

(٣) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٥ ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٤١ و ٤٢.

(٤) وسائل الشيعة : ١٢ / ١٣٢ الباب ٩٠ من أبواب أحكام العشرة.

٢٩٥

مفهومه يختلف بالإضافة كما في لفظة «عند» الواردة في بعض المقامات مثل المبيت عند عليّ عليه‌السلام .. إلى آخره ، حيث إنّ من كان في الحرم الشريف يكون عنده بالنسبة إلى من في الصحن ، كما أنّ من في الصحن يصدق أنّه عنده بالنسبة إلى من في خارج الصحن ، وهكذا من كان في البلد يصدق عليه المفهوم بالنسبة إلى من في خارجه ويكون من هذا القبيل لفظ الجيران فمن في العقد جار مطلقا ، ومن كان في المحلة جار فيها ومن كان في البلد جار مع الإنسان فيه وهكذا إلى ما فوق.

ثمّ إنّ الّذي يصدق مطلقا بين المراتب هو الّذي جار في العقد ، بحيث يكون القدر المتيقّن منه ما يكون الفصل بينه وبين الشخص أربعين ذراعا فحينئذ إذا عبّر الواقف باللفظ المطلق فمقتضى القاعدة حمله على معناه الإطلاقي أي ما يكون جارا على كلّ حال ، فإلى ذلك يرجع التحديد الشرعي أيضا بلا إعمال تعبّد خاصّ في البين ، كما أنّه على هذا لا يلزم طرح الروايات الدالّة على التحديد بأربعين دار ، إذ لا ريب في الصدق عليها بالنسبة إلى بعض المراتب وإن لم يصدق مطلقا.

ثمّ إنّه بناء على الأخذ بالذراع فقد يقع الشكّ في مثل ما لو لم تكن الدار الأخيرة بتمامها داخلة في الحدّ بل بجزء منها ، فهل يسري الحكم إليها حينئذ أم لا ، بل محكومة بالأصل؟

الأقوى : دخولها إذا كان بمقدار يصدق لا أن يكون قليلا بحيث يلحق بالعدم ، وذلك لأنّه لا إشكال في الفرق بين بعض الألفاظ مع بعض الاخر من حيث إضافتها إلى أمر ، فمثل قول القائل : إذا مسحت الدار أو ذرعتها ظاهر في

٢٩٦

الجميع ، ومثل : إذا مسست الدار أو دخلتها لو لم يكن ظاهرا في البعض لا أقلّ من كونه أعمّ منه والجميع.

ومن الواضح ؛ أنّ التعبير عن الحكم المزبور بقولهم : لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا من قبيل الثاني ، فحينئذ ما تكون بعضها داخلة ملحقة بما هي بتمامها في الحدّ إذا كان يصدق الدخول عرفا كما أشرنا ، فافهم!

ثمّ إنّ هنا فروعا اخر ، والحقّ ما بنى عليه في «الجواهر» قدس‌سره (١) والله العالم!

حكم الشكّ في عنوان من عناوين الموقوف عليهم

بقي في المقام حكم الشكّ وأنّ مقتضى الأصل العملي بالنسبة إلى تلك الموارد أيّ شي‌ء؟ ونذكر ذلك في طيّ أمرين :

الأوّل : أنّه إذا شكّ في مثل لفظة «الشيعة» أنّها قد استعملت في الوقف بعد حجر معناها الأوّل أو قبله ، فحينئذ أصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل وإن لم تجر لكونها لا تثبت تأخّره عنه ، ولكنّ الحقّ ـ كما عليه جمع ـ عدم مانع لجريان أصالة عدم النقل وإن كان قد يتوهّم أنّها مثبت أيضا فلا يجري.

وأنت خبير ؛ بأنّ ذلك إنّما يتمّ لو بنينا على أنّها من الاصول التعبّدية ومن مصاديق الاستصحاب ، ولكنّ التحقيق أنّها من قبيل أصالة عدم القرينيّة والأمارات الجارية في الألفاظ ، وعليه بناء العقلاء ، ولذلك قد يعبّر عنها بتشابه الأزمان.

وبالجملة ؛ لا ربط لهذا الأصل بالاستصحاب بل أمارة عقلائيّة بحيث

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٤١ ـ ٤٣.

٢٩٧

يكون مثبتها أيضا حجّة فحينئذ ببركتها يحكم بتأخّر النقل عن الاستعمال ويؤخذ بلازمه ، فتأمّل!

الثاني : أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في الموارد المذكورة ، كما إذا شكّ اختصاص لفظ بالفرقة المحقّة ، أو يعمّ غيرها ، فحينئذ قد يشكل في جريان أصالة عدم الوقف على الزائد ، نظرا إلى معارضتها بأصالة عدم وقف الحصّة الزائدة المشكوكة على من تيقّن دخولها في العنوان.

مثلا : إذا فرض كون منافع الوقف تبلغ خمسين تومانا ، ومعلوم كون ثلثين منها للفرقة المحقّة ، فإذا شكّ في البقيّة فالأصل عدم كونها لهم لأصالة عدم الوقف عليهم من العين بمقدار ما يقابله ، ولازم ذلك التشريك.

ومن الواضح ؛ أنّه لا اختصاص لهذا الإشكال بالمقام ، بل سيّال في مقامات كثيرة ، كما في باب الإرث إذا شكّ في وجود وارث آخر غير المعلومين الحاضرين ، ولمّا كان مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في انحصار الحقّ على المعلومين وعدمه.

فالتحقيق ؛ في دفع الإشكال أن يقال : إنّ الموضوع على هذا يصير مركّبا لا بسيطا ، حيث إنّ موضوع الوقف بناء على الاختصاص ـ مثلا ـ هو الفرقة المحقّة الّتي لم يكن معهم غيرهم ، وفي الإرث الانحصار إنّما يثبت للورّاث الموجودين إذا لم يكن معهم غيرهم ، وهكذا الموارد فتكون من الموضوعات المركّبة الّتي أحد جزأيه يحرز بالأصل والآخر بالوجدان ، فالمحرز بالأصل في هذه المقامات هو العقد السببي ، إذ ببركة أصالة عدم الوقف على غير الموجودين المعلومين يثبت ، والمفروض أنّ جزء الآخر محرز بالوجدان فيرتفع الإشكال بحذافيره فتأمّل! والله العالم.

٢٩٨

فروع :

لو وقع الوقف على مصرف كالمسجد والقنطرة فاندرسا بحيث لم يكن صرفه إليهما فهل يبطل الوقف من حين الاندراس ويرجع إلى ورثة الواقف ، أو لا بل يبقى على حاله فيصرف في مسجد آخر أو قنطرة اخرى ممّا يكون الأقرب إلى نظر الواقف ، أو يصرف في مطلق البرّ؟ وجوه بل أقوال.

ونظير هذا الاختلاف وقع في الوقف المنقطع الآخر ، إلّا أنّ المشهور فيه ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ ليس ما هو المشهور في المقام ، وهو الوجه الثالث.

والفرق فيه ؛ من حيث أنّ في المقام ، [يكون] المانع من جهة اندراس رسم مصرف التسبيل والثمرة ، وهناك اندراس مصرف نفس العين ، وعدم وجود من يتلقّى الوقف ، إمّا لعدم تعيين الواقف أو لغيره.

وكيف كان ؛ مبنى الإشكال في المقام هو أنّه بعد فرض استفادة الدوام من الوقف إمّا لجعله إيقافا كما هو التحقيق ، خصوصا في الوقف على الجهة ، أو لكون نفس الوقف للدوام ، بناء على كونه تمليكا ، بحيث يكون كالحجر الموضوع في مكان المقتضي بطبعه الدّوام ، فهل اندراس رسم المصرف قابل للمنع عن هذا الاقتضاء وقاصر لطبع الوقف حتّى يوجب ذلك بطلانه من حين طروّه أم لا ، أو يفصّل بين ما هو القابل للدوام والبقاء عادة ، وما ليس قابلا له فيلتزم فيه بالبطلان ، ولو لم يلتزم به مطلقا؟ نظرا إلى جعل الوقف كذلك كاشفا عن عدم الإخراج المطلق ، ولمّا لم يبرز الواقف ما نواه فلا يضرّ شيئا من جهة عدم التأبيد.

والجهة الاخرى من الإشكال [الّذي] يكون في المقام وهو أنّه بعد البناء

٢٩٩

على إبقاء الوقف وصحّته هل اعمل تعبّد في المقام من جهة مصرف هنا أيضا كما في باب الوصيّة بأن يتعدّى منه إلى هنا أم لا ، بل حينئذ يعمل على مقتضى القواعد من رعاية ما هو الأقرب إلى غرض الواقف؟

والأقوى في الجهة الاولى ؛ ما عليه المشهور حيث أنّ مقتضى طبع الوقف الدوام ، ضرورة أنّ المالك حين وقفه يقطع نظره عن العين كليّا ويخرجه عن ملكه رأسا ، بحيث لا يرى لنفسه ولا لمن يتعقّبه بالنسبة إليها علاقة أصلا ، فحينئذ هذه الغلبة والظّهور تصير مرتّبة على كون ارتكازه من حيث المصرف الّذي يعيّنها هو تعدّد المطلوب ، وأنّه لو انقرض المصرف يصرف في غيره ، ولا يختصّ به حقّ يستلزم ذلك بطلانه عند الاندراس ورجوع العين إلى ملك وارثه مثلا.

فعلى هذا ؛ لا وجه للتفصيل بين ما هو القابل للدوام والبقاء عادة ، وما ليس قابلا له ، إذ ما يقتضيه طبع الوقف لا يفرّق فيه ، والقرينيّة جارية مطلقا.

ومن ذلك ظهر أنّ مقتضى القاعدة ـ حيث أحرزنا من الوقف ـ تعدّد المطلوب هو رعاية غرض الواقف في المصرف ، وأنّه لا بدّ من تقديم الأقرب فالأقرب ولا يجوز العدول المتباين ، كما يكون كذلك مسألة مطلق البرّ بالنسبة إلى الوقف على المسجد ونحوه ، فحينئذ عند اندراس المسجد المعيّن لا بدّ من صرف الوقف في مسجد آخر ، إن كان قريبا بالنسبة إلى المسجد الأوّل مكانا أو الجهات الاخر ، وإن لم يكن ففي مكان آخر ولو كان بعيدا عن الأوّل ، حيث أنّ ذلك وإن كان من مصاديق الخير إلّا أنّه لمّا يحتمل كون منظوره خصوص هذا الخير فلا بدّ من رعايته حتّى الإمكان ، إلّا أن يدّعى أنّ المستفاد من الروايات الّتي أشرنا إليها لمّا كانت الضابطة الكليّة من حيث إنّ الشارع تكفّل تعيين

٣٠٠