الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

فعلى هذا ؛ القول بطهارة الغسالة في غير الغسلة المزيلة قويّ ، إلّا أن يدّعى الملازمة بين نجاسة الشي‌ء وملاقيه.

بيان ذلك : أنّه لمّا كان المفروض أنّ الشارع أمر بالغسل بعد ذهاب العين أيضا ، فيدلّ ذلك على بقاء المحلّ على النجاسة بعد.

فحينئذ ؛ كيف يمكن الالتزام بطهارة ملاقي النجس ماء كان أو غيره ، مع أنّ السراية أمر عرفيّ ارتكازيّ؟

هذا ؛ ويضعّفه أنّه لا إشكال في طهارة ما بقي من الغسالة في المحلّ ، ومع ذلك لا يجوز الحكم بنجاسة ما انفصل منه ؛ لأنّه يلزم القول باختلاف الماء الواحد في الحكم.

وقد أشار إلى ذلك السيّد قدس‌سره في «الناصريّات» (١).

وبالجملة ؛ فما قوّيناه من طهارة الغسالة أقوى ، وإن كان الاحتياط حسنا ، كما عليه المعظم (٢).

وربّما يستدلّ ببعض الروايات الواردة في الماء القليل ، مثل ما أجاب الإمام عليه‌السلام عن السؤال بأنّ الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل الغسل ، فقال عليه‌السلام : «إن كان أصاب يده جنابة فليهرق الماء» (٣) وما أمر بغسل إناء الماء فيها ، فيستفاد من ذلك عدم نجاسة الإناء وعدم كون المتنجّس منجّسا (٤).

وفيه ما لا يخفى ، إذ ليس السؤال والجواب إلّا عن الماء وبيان حكمه ، لا أمر آخر ، وسيجي‌ء في بحث الماء القليل ماله دخل في المقام إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الناصريّات (الجوامع الفقهيّة) : ١٧٩.

(٢) انظر! مدارك الأحكام : ١ / ١١٨ ـ ١٢٠.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ١٥٤ الحديث ٣٨٤ ، نقله بالمعنى.

(٤) لاحظ! مصباح الفقيه : ١ / ٦١ ط. ق.

٤١
٤٢

جواز البدار لذوي الأعذار وعدمه

هذه المسألة من المعضلات ، وقد اختلف الأصحاب فيها ، فكل ذهب إلى قول من الجواز والمنع ، والتفصيل بين رجاء زوال العذر أو العلم به وعدمه ، وذهب بعضهم إلى التفصيل بين باب التيمّم وسائر الأبواب ، فالتزموا بالجواز في الأوّل نظرا إلى أنّ التيمّم بدل عن الطهارة ، بل مصداق لها ، فيجوز ، بخلاف سائر الأبواب ، حيث إنّ بدليّة الفاقد للشرط من الاضطرار المحض ، فلا يجوز البدار ما لم يكن الاضطرار مستوعبا (١).

وعلى كلّ حال ؛ لا ينبغي استناد أحد الوجوه إلى المشهور وإن ادّعي الشهرة بالنسبة إلى المنع (٢).

وكيف كان ؛ لا بدّ من البحث أوّلا في ما هو مقتضى القواعد العامّة ، ثم في ما تقتضيه الأخبار والأدلّة الخاصّة في كلّ باب.

فنقول : يمكن الدعوى قريبا بأنّ إطلاقات الصلاة الشاملة للمكلّفين في كلّ زمان بين الحدّين تدلّ على جواز البدار ، والتشكيك فيها من حيث عدم كونها في مقام بيان القدرة على إيجاد الشرط وعدمه بل هي في مقام أصل التشريع ليس في محلّه ؛ إذ لا إشكال في أنّ مثل (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٤ / ٢٤٧.

(٢) جواهر الكلام : ٥ / ١٥٨.

٤٣

اللَّيْلِ) (١) مطلق بالنسبة إلى كلّ آن بين الحدّين وإن قيّد من جهة أصل التكليف بقيود كالعقل ونحوه ، وأيضا قيّد من ناحية المكلّف به ، إلّا أنّ تقييده من الجهة الثانية لمّا كان بالعرض فيؤخذ فيها بالقدر المتيقّن ، وهو حال الاختيار.

وبالجملة ؛ إطلاقات الصلاة بالنسبة إلى القيود الزائدة على المعلوم منها الواردة عليها باقية على حالها ، فلا مانع من التمسّك بها عند الشكّ.

وهكذا قوله تعالى في باب التيمّم : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) (٢) .. إلى آخره ، فكلّ زمان يصدق عدم الوجدان يصحّ الإتيان بالصلاة والبدار عليها.

ودعوى عدم صدقه مع رجاء رفع العذر باطلة بالوجدان ، وعلى مدّعيها إثباتها.

هذا مقتضى العمومات ، وأمّا الأدلّة الخاصّة فتختلف بحسب الأبواب ، ففي باب التيمّم من أمعن النظر إلى أخبارها يستفيد الجواز وإن كان بعض أخبارها يوهم المنع (٣) إلّا أنّه لا إطلاق لها ، بل غاية مدلولها لزوم التأخير مع رجاء زوال العذر فينبغي التأخير عنده ، مع أنّ المستفيضة المعتبرة المعلّلة بأنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد (٤) مصرّحة بعدم لزوم الإعادة مع بقاء الوقت.

وأمّا الأخبار الخاصّة فتختلف بحسب الأبواب ، ففي مسألة عدم وجود الساتر الأخبار مطلقة في الإتيان بالصلاة عاريا (٥) ، وتقييدها بالاضطرار

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٧٨.

(٢) النساء (٤) : ٤٣ ، المائدة (٥) : ٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٨٤ الباب ٢٢ من أبواب التيمّم.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٧٠ الحديث ٣٨٩٥ و ٣٨٩٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٤٤٨ الباب ٥٠ من أبواب لباس المصلّي.

٤٤

المستوعب وعدم وجدان الساتر في تمام الوقت لا موجب له ، وهكذا بالنسبة إلى الساتر النجس وإن كان يظهر منهم وجوب التأخير فيه (١).

ولكنّ الظاهر منهم في مسألة الاضطرار إلى السجود على النجس تسالمهم على عدم لزوم الإعادة مع التمكّن إلى الطاهر في الوقت (٢) ، فراجع.

بل لنا دعوى ذلك بالنسبة إلى مطلق الشروط ، حيث إنّ القدر المتيقّن منها اختصاصها بحال التمكّن والاختيار والقدرة على إيجاد الشروط ، وقد أشار إلى ذلك المحقّق اليزدي الحائري قدس‌سره في صلاته (٣).

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٥ / ٣٥٠.

(٢) العروة الوثقى : ١ / ١٠٠ المسألة ١٢.

(٣) كتاب الصلاة للشيخ الحائري اليزدي : ٢٦٣.

٤٥
٤٦

حكم خرء الطير وبوله

فرع :

اختلفوا في نجاسة خرء الطير الغير المأكول ، نسبت النجاسة إلى المشهور (١) استنادا إلى إطلاق الروايات الدالّة على نجاسة أبوال غير المأكول (٢) ، ثم التعدّي منها إلى خرء الطير للإجماع المركّب ، وخصوص بعض الروايات الدالّة على نجاسة مطلق العذرة (٣) ، وفيها ما لا يخفى.

فالتحقيق ؛ طهارة بوله وخرئه لصحيحة أبي بصير الصريحة فيهما (٤) ، لما عمل بها جمع من القدماء والمتأخّرين (٥) وإن كانت النسبة بينها والروايات المقابلة العموم من وجه ، إلّا أنّ الترجيح لهذه الرواية من جهات ، أظهرها التعبير فيها بالطير لا المأكول ، فلولا له خصوصيّة لكان التعبير بغيره أولى ، مضافا إلى انصراف غير المأكول عن الطير ، ولو سلّمنا التكافؤ فتتساقطان ، فقاعدة الطهارة محكمة.

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٤ باب ٨ من أبواب النجاسات.

(٣) بحار الأنوار : ٨٠ / ١٢٧ الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٥.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤١ ، المقنع : ١٤ ، المبسوط : ١ / ٣٩ ، ونقل عن ابن أبي عقيل والجعفي في ذكرى الشيعة : ١ / ١١٠ ، كشف اللثام : ١ / ٣٩٠ ، ومدارك الأحكام : ٢ / ٢٦٢ ، ونقل عن جماعة من المتأخّرين في جواهر الكلام : ٥ / ٢٧٥.

٤٧

ودعوى كون روايات النجاسة موافقة للمشهور (١) ، فاسدة ؛ إذ الشهرة في المسألة فتوائيّ ، لا من جهة الرواية.

نعم ؛ في خصوص الخفّاش وردت الرواية الّتي رواها الشيخ (٢) ، ولكنّها غير صريحة في النجاسة ، بل فيها أمر بالغسل ، مع أنّها معارضة بما هي صريحة في الطهارة ، والشهرة على النجاسة في بوله وإن كانت محقّقة ، إلّا أنّ الكلام هنا كما تقدّم ، ولم يثبت الشهرة الاستناديّة (٣).

فرع :

لا إشكال في تعميم الحكم بالنسبة إلى غير المأكول أن تكون حرمة الأكل ذاتيّا أم عرضيّا ، إنّما الكلام في أبوال غير المأكول وغائطه ممّا لا نفس له ، فإنّ دعوى انصراف غير المأكول عن مثل الحيّة والوزغة ونحوهما في محلّها ، مع أنّه لم يثبت أن يكون لأمثاله بول ، مع أنّه قد عرفت عمدة مستند نجاسة غائط غير المأكول وخرئه ؛ الإجماع ، ولا إطلاق ولا عموم له ، فلا مانع من قاعدة الطهارة ،

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٥ / ٢٧٧ ، المعتبر : ١ / ٤١١.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٨١ الحديث ٧٧٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٢ الحديث ٤٠١٨.

(٣) «كلّ شي‌ء يطير لا بأس بخرئه وبوله» مضافا إلى عمومات أدلّة النجاسة «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٥ الحديث ٣٩٨٨ و ٣٩٨٩) والروايات الّتي علّق حليّة الأكل على مأكول اللحم (وسائل الشيعة : ٢٥ / ٨١ الباب ٤٠ من أبواب الأطعمة المباحة).

وأمّا قول العلّامة : إنّ الرواية الاولى الّتي استدلّ بها الآخرون فلا بدّ من تخصيصها بالخفّاش قطعا فيلحق به غيره (مختلف الشيعة : ١ / ٤٥٧) ، فلا يتمّ إلّا أن يستكشف المناط القطعيّ ، ولا بدّ من ملاحظة النسبة بين الروايتين : الموثّقة والحسنة ، ورعاية الترجيح لهما بعد العجز عن الجمع الدلاليّ بينهما ، مع أنّه بمثابة من الإمكان ، لظهور الأولى في الطير ، وكونه تمام الموضوع للحكم لا المأكول منه ، بخلاف الحسنة ، فإنّها منصرفة إلى مأكول اللحم من غير الطير ، بل هو الظاهر منها ؛ بخلاف الأولى الّتي لا يبعد دعوى الصراحة في الطير ، كما أشرنا إليه ، «منه رحمه‌الله».

٤٨

كما أنّه تجري بالنسبة إلى الغائط وبول الحيوان المشتبه حرمة وحليّة ، سواء كانت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة.

وهكذا في جميع أقسام الشكّ من كونهما ممّا لا نفس له أو غيره ، وإن كان الأصل في مثله في الشكّ في حليّة الأكل ونجاسة ميتته الحرمة والنجاسة ، على التفصيل في محلّه من حيث الشكّ في قابليّته للذبح أو وقوع الذبح ، وأنّ القابليّة هي من شرائط الذبح أو أمر خارج عنه ، وأنّه بناء على الأخير فيما إذا احرز الذبح تجري أصالة الحلّ ، ولا مجال لجريان أصالة الحرمة الثابت حال الحياة (١) ، لأن المفروض عدم الاشتباه في الأمور الخارجيّة ، بل الشبهة من حيث الحكم ، بناء على جريان أصالة الحلّ في الشبهات الحكميّة ، كما هو التحقيق.

__________________

(١) وإن كان الأمر كذلك ، ولا يجوز أكل الحيوان الحيّ كما صرّحوا به في السمك (جواهر الكلام :٣٦ / ١٧٠) ويظهر منهم في غيره أنّ الحكم ثابت أيضا. فراجع ، «منه رحمه‌الله».

٤٩
٥٠

نجاسة المني

فرع :

لا إشكال عندهم في نجاسة المنيّ من كلّ حيوان ذي نفس ، إنّما البحث في دليله ، إذ الظاهر من الأخبار هو منيّ الإنسان (١) ، ولا إطلاق لها حتّى تشمل غيره ، مضافا إلى تصريح جملة من الروايات أنّ ما أكل لحمه لا بأس بما يخرج منه (٢).

فحينئذ إن ثبت الإجماع بالنسبة إلى ما لا نفس له مطلقا فلا محيص عن الالتزام بالنجاسة ، وإلّا فقاعدة الطهارة بالنسبة إلى منيّ غير الإنسان محكمة ، والاحتياط لا ينبغي تركه ، خصوصا في غير المأكول من الحيوان.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٢٣ الباب ١٦ من أبواب النجاسات.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٩ الحديث ٤٠٠٥ و ٤١٤ الحديث ٤٠٢٢.

٥١
٥٢

نجاسة الميتة

من النجاسات الميتة ، البحث فيها من جهات :

الاولى ؛ قالوا : ميتة ماله نفس سائلة نجسة ، الّتي يقال [لها] بالفارسيّة : (خون جهنده) مع أنّ الروايات مطلقة (١) ، وهكذا الآية (٢).

نعم ؛ في رواية أبي بصير قال عليه‌السلام : «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة» (٣) ومقتضى الصناعة تقييد سائر الروايات بها ؛ إذ المراد بالنفس هو الدم ، والسائل [ما له] الجريان ، وأنت خبير بأنّ غاية ما يستفاد منها اعتبار الدم الجاري ، وأما ما يخرج بالدفع والحدّة فلا ، إلّا أن يقال : إنّ ما لا يخرج بالدفع والشدّة هو الرشح لا السيلان ، وإنّما السائل هو الكثير الجاري لا مثل دم السمك ونحوه.

والحاصل ؛ أنّه إذا كان المراد بالنفس ـ كما في أكثر الروايات ـ الدم (٤) ، وهو كيفما كان له جريان في الجملة ، فإذا قيّدت بالسيلان ـ كما في بعض

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦١ و ٤٦٢ الحديث ٤١٧٨ و ٤١٧٩.

(٢) البقرة (٢) : ١٧٣ ، المائدة (٥) : ٣ ، الأنعام (٦) : ١٤٥ ، النحل (١٦) : ١١٥.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤١٨٤ و ٤١٨٧ ، ولم ترد هذه الرواية عن أبي بصير في الجوامع الحديثيّة.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٣ الباب ٣٥ من أبواب النجاسات.

٥٣

الروايات (١) ـ فالمراد بالمجموع يكون ما اعتبروا من الدم الكثير الّذي يخرج بالدفع لا مطلق الدم الجاري ، فتدبّر!

الثانية ؛ لا إشكال في نجاسة أجزاء الميتة في الجملة ، عدا ما استثني ، إنّما الكلام في الأجزاء المبانة من الحيّ كالأليات المقطوعة من الغنم ونحوها ، وأنّ حكمها في النجاسة حكم الميتة مطلقا ، المشهور أنّها كذلك ، لإطلاق الميتة على الأجزاء المبانة في جملة من الروايات ، مثل قوله عليه‌السلام : «فما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميّت» (٢).

وفيه ؛ أنّه يتمّ لو كان المراد منه التنزيل من جميع الجهات ، مع أنّ القرينة فيها على أنّ المراد منها حرمة الأكل ، موجودة ، مضافا إلى أنّ الالتزام بإطلاق التنزيل فيما إذا لم يكن في البين قدر متيقّن.

إن قلت : إنّ الذبح إنّما هو لحليّة الأجزاء ، فلو لم تكن القطعة المبانة هي الميتة لأمكن تقطيع الحيوان إلى قطعات بلا احتياج إلى الذبح.

قلت : لا ننكر أنّ الحليّة متوقّفة على الذبح ، وبدونه القطعات المبانة محرّمة ، إنّما الكلام في نجاسة القطعة المبانة ، وأنّ طهارتها أيضا تتوقّف على الذبح ، وأنّها بحكم الميتة من جميع الجهات.

هذا ؛ ولكن لمّا كانت الميتة في الشريعة ليست هي ما مات حتف أنفه ، بل هي في اصطلاح المتشرّعة كلّ ما لم يذكّ ، ومن المعلوم أنّ القطعة المبانة يصدق عليها هذا العنوان ، فهي ميتة ، فتأمّل!

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٦٤ الحديث ٤١٨٤ و ٤١٨٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٣ / ٣٧٦ الحديث ٢٩٧٩٠ ـ ٢٩٧٩٢.

٥٤

ويمكن أيضا استفادة الحكم عن الروايات الدالّة على أنّ أليات الغنم المقطوعة لا ينتفع بها ، ولا يستصبح ، لأنّها تصيب الثوب واليد (١) ، وإن كانت تلك الروايات ضعيفة السند ، كما أشار إليها في «الحدائق» (٢) وأيضا الإجماع والسيرة العمليّة على نجاستها محقّقة ، فعلى هذا ينبغي الاجتناب عن القطعة المبانة ، ولكن لا القطعات الصغار كالبثور والثالول وما ينفصل عن الجسد عند الحكّ ونحوها ؛ إذ الأدلّة المتقدّمة قاصرة عن شمول مثلها جدّا ، والقدر المتيقّن من السيرة غيرها ، كما لا يخفى.

الثالثة ؛ لا خلاف في استثناء بعض أجزاء الميتة عنها ، كالشعر والوبر والقرن وغيرها ممّا لا روح لها ، وإنّما الإشكال في بعض مصاديقها كالإنفحة واللبن والفارة.

أمّا الاولى ؛ فوقع الكلام في المراد بها ، وأنّها المائع المجتمع في كرش الحمل والجدي ما لم يأكلا ، ويكونا رضيعا ، أو هو وظرفه ، أو المراد بها الظرف فقط (٣).

والتحقيق ؛ استثناء نفس المائع الّذي يتبدّل اللبن الّذي يشربه الرضيع من الحيوان به ، وهو الّذي يعمل منه الجبن ، إذ هو القدر المتيقّن من النصوص وكلام اللغويّين (٤) ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام بطهارة باطن الجلدة ؛ للملازمة العرفيّة ، وأمّا ظاهرها فلا ، بل ينبغي تطهيرها ؛ للشكّ في خروج أصل الجلدة ، كما عرفت ، ويكون حكمها كسائر الأجزاء.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٤ / ٧١ الباب ٣٠ من أبواب الذبائح.

(٢) الحدائق الناضرة : ٥ / ٧٢ ـ ٧٤.

(٣) الحدائق الناضرة : ٥ / ٨٦.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٧٩ الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، وانظر! الحدائق الناضرة : ٥ / ٨٦ ، المصباح المنير : ٦١٦ (نفح).

٥٥

ومن المعلوم أنّها ليست ممّا لا روح لها حتّى يخرج عن حكم الميتة بالتعليل الوارد في أخبار المستثنيات ، بل الجلدة كالمعدة وسائر الأعضاء الداخليّة.

هذا ؛ وأمّا ما ورد من الأخبار الدالّة على طهارة الجبن المشترى من السوق للشكّ في كون الميتة فيه (١) ، الّذي يستفاد منها ثبوت نجاسة أصل المائع والإنفحة ، وإنّما حكم الطهارة للمشكوك من الجبن ، فالظاهر أن تلك الأخبار وردت تقيّة ، كما يظهر بالمراجعة إليها ، خصوصا الرواية المشتملة على السؤال والجواب عن هذا الموضوع (٢) ، والسائل هو قتادة ، والظاهر أنّه من رجال العامّة (٣).

وأمّا الثاني ؛ وهو اللبن ؛ لا إشكال فيه دليلا ، حيث إنّ الأخبار المستفيضة المعمول بها مشتملة على استثنائه (٤) ، وإنّما المخالف هو ابن إدريس وبعض آخر (٥) والعجب من شيخنا الأنصاري كيف خالف (٦)؟! وأعجب من ذلك جعله قدس‌سره نجاسة الملاقي للنجس من القواعد الّتي غير قابلة للاستثناء كالقواعد العقليّة ، وجعلها مثل قاعدة «الناس مسلّطون» أو قاعدة «حرمة الدباء» فكما أنّه لا يجوز الخروج عن أمثالهما إلّا بدليل قطعيّ قويّ ، فكذلك ضابطة نجاسة الملاقي للنجس (٧).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٧٩ الباب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٧٩ الحديث ٣٠٢٨٦.

(٣) انظر! تنقيح المقال : ٢ / ٢٧.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٨٠ الحديث ٣٠٢٨٨ و ١٨٢ الحديث ٣٠٢٩٤ و ٣٠٢٩٥.

(٥) السرائر : ٣ / ١١٢ ، المراسم : ٢١١.

(٦) المكاسب : ١ / ٣٥.

(٧) بظهور المناط فيها ، وهو السراية كما في تلك ، «منه رحمه‌الله».

٥٦

وأنت خبير بأنّ هذه القاعدة ليست كذلك (بهذه المثابة) ، والاستثناء عنها ليس بعزيز ، مضافا إلى أنّه يمكن الدعوى قريبا بأنّ النجاسة ليست أمرا حقيقيّا واقعيّا ، بل أمر تعبّديّ ، كما يظهر ذلك من كيفية تنجيس النجاسات وتوسعة المطهّرات ، مع أنّها لو كانت امورا واقعيّة العقل والعرف لا يساعدان على تطهير الأرض ـ مثلا ـ باطن النعل والرجل وإن بقي أثر النجاسة ، وهكذا طهارة غسالة الاستنجاء بل مطلقا ، والتطهير في نحو المركن ، وغير ذلك من الأحكام المسلّمة في باب الطهارة ، فتأمّل.

وأمّا المسك ؛ لا يخفى أنّه ليس كسائر المستثنيات ، بأن يدلّ عليه دليل خاصّ ، بل خروجه إنّما هو لما يستفاد من طهارة المسك وجواز استعماله من الأخبار والسيرة القطعيّة إلى زمان المعصوم عليه‌السلام ، فعلى هذا لا ينبغي البحث فيه إلّا على ما تقتضيه القاعدة.

فنقول : تارة الكلام في نفس المسك ، واخرى في فارته وظرفه.

أمّا الجهة الاولى ؛ فالمسك بأقسامه الأربعة إن كان هو دم الظبي المخصوص يكون محلّ الإشكال ، إلّا أنّ يتيقّن باستحالته ، كما لا ريب فيه بالنسبة إلى بعض صوره ، وهو ما إذا يبست فأرته وانجمد المسك فيه ، إلّا أنّ مجال إنكار كونه دما أصلا واسع ، بل هو أمر آخر يشبه بعض أقسامه لون الدم ، مضافا إلى أنّ الشكّ فيه يكفي للحكم بطهارته ؛ لكون الشبهة موضوعيّة ، مع أنّه لا عموم لنجاسة مطلق الدم على ما سيأتي إن شاء الله.

وأمّا فأرته ، أمّا في حال حياة الظبي فإذا يبست وانقطع بنفسها أو بعلاج ، بحيث يعدّ أمرا خارجا عن أجزاء الظبي فهي طاهرة ، وتكون كسائر الأجزاء

٥٧

المبانة من الحيوان الّتي يعدّ من ثمراته وفضلاته ، وكذلك إذا يبست في حياته وانفصلت بعد موته ، فحينئذ أيضا طاهر ؛ لأنّه يكون من أجزاء الميتة الّتي لا روح لها.

وأمّا قبل اليبوسة فهي نجسة ، سواء في حياته أو موته ؛ لأنّها من أجزاء الحيوان.

نعم ؛ إذا شكّ في ذلك فهي محكوم بالطهارة ؛ لكون الشبهة موضوعيّة ، فلا يحتاج إلى الأمارة.

تذييل : قالوا : سوق الإسلام ويد المسلم أمارة التذكية ، ويدلّ عليهما ـ مضافا إلى السيرة القطعيّة الشرعيّة والعقلائيّة ـ الأخبار الخاصّة ، مثل رواية الصدوق قدس‌سره عن سليمان بن جعفر (١) ، ورواية الكليني عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : سألته عليه‌السلام عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيصلّي فيها؟ قال : «نعم ليس عليكم المسألة» (٢) .. إلى آخره.

وخبر إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : «عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» (٣) وغير ذلك من الأخبار الّتي حاصل ما يستفاد منها أنّ بلد المسلمين من سوقهم وغيره ، بل كلّ محلّ غالب أهله

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٦٧ الحديث ٧٨٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩١ الحديث ٤٢٦٢.

(٢) لم نعثر عليها في الكافي ، وإنّما رواها الشيخ في تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٩٦ الحديث ١٥٢٩ ، عنه وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩١ الحديث ٤٢٦٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٢ الحديث ٤٢٦٦.

٥٨

المسلمون ، الجلود وغيرها من أجزاء الحيوان محكوم بالتذكية (١).

فإنّ بلد الإسلام طريق إليها وإن اخذت من يد مجهول الحال ، لا ما إذا اخذ من الكافر ، أو كان مسبوقا بيده ، إلّا إذا كان المسلم الّذي أخذ منه رؤي أنّه يعامل معه معاملة التذكية ، كأن يصلّي فيه.

فالسوق طريق إلى اليد الّتي هي بنفسها أمارة التذكية ، كما أنّ معاملة المسلم في ما كان مسبوقا بيد الكافر معاملة التذكية أيضا محمولة على الصحّة وطريق إليها أيضا للآخرين ، وفي غير هاتين الصورتين أصالة عدم التذكية محكّمة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٠ الباب ٥٠ من أبواب النجاسات.

٥٩
٦٠