الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

أمّا الإشكال الأوّل ؛ فهو أنّه كيف يتصوّر للمال الواحد أبدال متعدّدة ، فتشتغل بكلّ واحد منها ذمّة مستقلّة ، مع أنّه ما خرج عن كيس المالك إلّا مال واحد ، وما قطع عنه إلّا سلطنة واحدة؟ فلا بدّ أن لا تشغل إلّا ذمّة واحدة المترتبة عليها للمالك سلطنة واحدة.

والمفروض أنّ بناء على ضمان جميع الأيادي المتعاقبة لازمه أن تثبت له أملاك متعدّدة بالنسبة إلى الأبدال المفروضة على الذمم المتعدّدة ، ولذلك التزم صاحب «الجواهر» قدس‌سره بأنّ اشتغال الذمّة ليس إلّا لمن استقرّ الضمان عليه ، وهو من يكون المال عنده أو تلف في يده ، وأمّا غيره فليس له اشتغال ذمّة ، بل إنّما ضمانه شرعيّ ناشئ عن حكم تكليفي محض بوجوب الأداء (١).

أمّا الثاني ؛ وهو أنّ البدل الّذي يكون على ذمّة كلّ واحد معلّق على تلف العين ، بحيث لو انقطعت سلطنة المالك عن أصل العين لتلفها فتوجد له سلطنة جديدة على بدلها المستقرّ على ذمّة الضامن ، وما دام لم يتلف العين وتكون في يد اللاحق فكيف يستقرّ ضامن البدل على ذمّة ذي اليد السابق؟ مع أنّ القضيّة التعليقيّة المتعلّقة بالبدل ـ بمعنى أنّ مضمونيّة البدل كانت موقوفة على تلف المال ـ لم يتنجّز بعد ؛ لأنّ عين المال موجودة في اليد اللاحقة ، فكيف يجوز للمالك أن يرجع إلى اليد السابقة؟ مع أنّ العين ليست عنده ، وسلطنته لم تكن إلّا بالنسبة إليها ما دامت باقية (٢) ، والمفروض أنّ ذمّته لم تشتغل بالبدل بعد.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٣٤.

(٢) ولذلك التزم بعض في حاشيته على «المكاسب» بتصوير ضمان الأيدي المتعاقبة في نفس العين بتقريب له (انظر! حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١ / ١٨٤) ، «منه رحمه‌الله».

٥٢١

وأمّا الثالث ؛ وهو أنّ الأصحاب بنوا على أنّ استقرار الضمان إنّما يكون على من تلف المال في يده ، بمعنى أنّه لو رجع المالك إلى غيره ، للغير أن يرجع إلى من تلف المال في يده ويأخذ عنه بدل ما أعطاه للمالك ، بخلاف ما لو رجع المالك إلى من تلف في يده ، فليس له أن يرجع إلى غيره.

مع أنّ بعد التلف تستقرّ ذمم الجميع بالنسبة إلى البدل دفعة واحدة بلا تعاقب وترتّب بين الأيدي ، فأيّ ترجيح لليد المتلفة عند صاحب المال حتّى يقال : باستقرار الضمان عليه؟ والحال أنّ الكلّ متساوون بالنسبة إلى التعهّد واشتغال الذمّة ؛ لأنّ القضيّة التعليقيّة المتصوّرة ، على كلّ من الأيادي ، وهي : أنّه عين وضع اليد العادية على مال الغير.

قلنا بأنّه من آثار هذا اليد هو أنّه تتحقّق قضيّة ، وهي : أنّه لو تلفت العين تشتغل ذمّة ذي اليد على البدل ، وهذه القضيّة التعليقيّة الّتي انتزعت عن الآثار المترتّبة على كلّ واحد من الأيادي بعد التلف تتنجّز في آن واحد بالنسبة إلى جميعها ، بلا سبق لأحد من الأيادي على الاخرى ، فكيف الالتزام باستقرار الضمان على من تلف المال عنده؟

ولذلك منع بعض ـ كالسيّد المحشّي «المكاسب» على ما نقل (١) ـ عن ذلك رأسا ، وأنكر استقرار الضمان عليه ، وجعل من تلف المال عنده كغيره ، هذه ملخّص الإشكالات الثلاثة ، وقد تعرّض كلّ إلى دفعها بنحو سنشير إليه.

__________________

(١) لاحظ! حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١ / ١٧٧.

٥٢٢

قاعدة اليد

وأمّا نحن فنتعرّض أوّلا بشرح «قاعدة اليد» بمالها ربط بالمقام ؛ لأنّك عرفت أنّ العمدة من الدليل في باب الضمان هي هذه القاعدة ، وأنّ الغصب الّذي عرّفناه في صدر الباب أيضا مساوق له ، ثمّ نتعرّض لدفع الإشكالات وتثبيت حكم الضمان بما أفتى به المشهور في المقام.

فاعلم! أنّ الّذي يستفاد من ظاهر هذه القاعدة أنّ اليد الغاصبة إذا ترد على شي‌ء وتأخذه من مال الغير ، فمن آثار هذا الورود ووضع اليد على مال الغير أنّه يثبت ـ مضافا إلى ما سيجي‌ء في اليد ـ شي‌ء آخر فوق اليد ، وهذا الّذي يثبت فوق اليد ليس إلّا بدل هذا الشي‌ء الّذي يكون في اليد ، بحيث لو تلف فعلى اليد العادية أن تردّ إلى صاحب المال بدلا عمّا كان في يده ، هذا الّذي يثبت له بحكم الشارع فوق يده وعلى يده.

وهذا الّذي ادّعيناه إنّما يستفاد من عناية لفظ «على» المشتمل عليها الحديث (١) ، لأنّ المال الّذي أخذه الغاصب يكون في يده وتحت يده لا فوق يده ، المستفاد ذلك من كلمة «على» الدالّة على الاستعلاء ، فكأنّ الشارع ألزمه على فعله ذلك ، بأن جعل لصاحب المال على عهدة الغاصب بدلا (٢) لماله المترتّب على ذلك سلطنة اخرى له عليه ، مضافا إلى سلطنته على عين ماله ، بحيث لو

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

(٢) لا بدلا بل وسّع في دائرة تملّكه وجعل وجودا له ، مضافا إلى الوجود العيني للملك على عهدة الغاصب ، «منه رحمه‌الله».

٥٢٣

تلف عين ماله في يده فانقطعت سلطنته عنه ، تكون له سلطنة اخرى على بدله الّذي يكون موجودا فوق يد الغاصب الّذي قد اعتبره الشارع ، فالشارع في عالم التشريع فعل ما له أن يفعل في عالم التكوين ، فكما أنّ له إذا يأخذ الغاصب مالا للغير في يده أن يوجد ـ مثلا ـ له فوق يده ، يكون ذلك أيضا لصاحب ما في اليد بدلا له.

وبالجملة ؛ فعلى ما يستفاد من ظاهر القاعدة أنّه إذا وضع الغاصب يده على مال الغير يترتّب على فعله ذلك امور : أخذ الغاصب المال ، وسلطنة للمالك على المال المغصوبة الّتي كانت قبل خارجة عمّا في يد الغاصب ، فإذا انتقل المال إلى يده لا ريب أن سلطنته الخارجيّة الّتي كانت تابعة للمال قد انتقلت إلى ما في يد الغاصب.

بمعنى أنّه لمّا كانت اليد في المقام كناية عن العهدة ، فإذا تصرّف الغاصب في مال الغير فلما يترتّب على ذلك اشتغال ذمّته بعين المال أوّلا فيحدث للمالك سلطنة على عهدة المالك وعنقه ، تبعا لسلطنته على ماله ، فتأمّل.

وأيضا ؛ يترتّب على فعل الغاصب بأن يثبت وجود للمال المأخوذ على الغاصب ، بحيث إذا يأخذ الغاصب المال في يده فكأنّه ينعكس منه مال آخر ظهر اليد ، ويكون ذلك من الآثار الوضعيّة للتصرّف في مال الغير المعبّر عن ذلك بالضمان ، فالمال الّذي يكون في اليد علّة لحدوث مال آخر فوق اليد بدلا عن الّذي يكون في اليد المستتبعة حدوث هذه المرتبة الاخرى من الوجود لشي‌ء آخر ، وهو الأمر الرابع الّذي يترتّب على التصرّف في مال الغير ، وهو ثبوت سلطنة اخرى للمالك على هذا البدل عند تعذّر العين ، أو تلفها.

٥٢٤

ولا يخفى ؛ أنّ ثبوت هذا البدل الّذي قد عرفت أنّه وجود تنزيليّ للعين ، إنّما يثبت على ذمّة الغاصب من أوّل ما يضع يده على العين في عرض ثبوت العين ، إلّا أنّ سلطنته على العين فعليّ تنجيزيّ ، بخلاف سلطنته على المنعكس عنه ، فمعلّقة على تلف العين ، وأمّا أثر هذا ثبوت البدل فوق اليد أيّ شي‌ء يكون ؛ فنشير إليه.

والآن نكون في مقام ما يستفاد من ظاهر لفظ «على اليد» فكيف كان هاهنا يفترق بين يد الضمان ويد الأمانة ، فإنّ فيها ليس يثبت على عهدة الأمين سوى نفس العين ، ولذلك لو تلفت بلا تفريطه وتعدّيه ليس عليه شي‌ء إلّا إذا صارت يده أيضا متعدّية.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى اليد الاولى العادية ، وكذلك يترتّب هذه الامور الأربعة أيضا على اليد الثانية ، وكذلك الثالثة إلى أن ينتهي ، ويستقرّ الضمان على الآخرة.

فالّذي تقتضيه القاعدة ؛ هو ترتّب الأبدال على الأيادي المتعاقبة العادية ، بحيث تكون سلطنة للمالك على كلّ واحد من الأبدال بمجموعها ، مضافا إلى سلطنته على عين ماله عند كلّ من تكون ، لو لم تكن تابعة.

ثمّ من آثار ثبوت هذه الأبدال على ذمّتهم ثبوت حقّ للمالك أن يرجع إلى كلّ واحد منهم ويطالب عن كلّ منهم ماله ، فعليه يحكم «على اليد» أن تردّ إليه عين ماله إن أمكنت ولو بأن يرجع إلى غيره ويأخذ منه العين ، وإلّا فالأقرب إليها حتّى ينتهي إلى القيمة ، ومن المعلوم أنّه لا ينتهي إليها إلّا بعد العجز عن العين أو ما هو أقرب إليها من القيمة ، كما أنّه ليس للمالك أيضا إلزامه على ردّ القيمة مع

٥٢٥

تسليمه العين أو مثله ، لأنّ نحو ثبوته على يده المكنّى بها عن العهدة ليس إلّا بهذا النحو ؛ لأنّه سنذكر أنّ هذا البدل ليس بدلا معاوضيّا ، كما يثبت في المعاملات بالتراضي ، بل هو غرامة من الشارع ألزمها على الغاصب تداركا عن العين المغصوبة ، وطبيعة الضمان تقتضي ردّ العين ، كما أنّ طبيعة الغرامة تقتضي ردّ ما هو أقرب إليها ، ولا مدخليّة لرضاء المالك فيها ، وسنشير إلى توضيح ذلك في بحث القيمي والمثلي إن شاء الله.

ثمّ إنّه يتولّد هنا الإشكال الأوّل ، وأنّ ذممهم المتعدّدة كيف يمكن أن تشتغل لتلف مال واحد وعين فاردة؟

فنقول في دفعه : إنّه لو التزمنا بثبوت أموال متعدّدة الّذي يكون مرجع ذلك إلى الالتزام بثبوت كلّ واحد من الأبدال على العهدات تعيّنيّا ، فلا ريب أنّ الإشكال يكون واردا ، وأمّا لو لم نقل إلّا بثبوت بدل واحد على الجميع ، ومرجع ذلك يكون إلى ثبوت جامع من الأبدال على المجموع ، إلّا أنّه لمّا فرض لهذا الجامع مصاديق متعدّدة تكون كلّ واحد منها على أحد الذمم ، ولكن لا بكونه وجودا شخصيّا معيّنا في مقابل الأفراد الاخر ، بل لكونه أحد مصاديق الجامع ، فإذا يرجع المالك إلى كلّ واحد منهم ويطالب عنه ماله ، ففي الحقيقة لا يطالب عنه إلّا الجامع المنتزع من هذه المصاديق الّذي اعتبرها الشارع ، ولذلك لو أدّى أحدهم العين أو البدل تبرأ ذمّة الآخرين ، وليس للمالك مطالبتهم بعد بشي‌ء أصلا.

ولمزيد التوضيح ؛ نفرض هذه الذمم بمنزلة أعيان خارجيّة ، منها ضدّ وجوداتها ، وكأنّه قد تعلّق [حقّ] المالك بأحدها لا على التعيين كتملّكه صاعا من الصبرة ، بمعنى أنّ ملكه شخص أحدها بنحو ذلك ، ولا ريب أنّه يصير مالكا

٥٢٦

لجميعها ، ولكن لا بمجموعها ، بل بنحو الطبيعة السارية يصير أحدها ملكا له ومتعلّقا لحقّه كلّه ، بحيث له أن يختار كلّ واحد منها ، فإذا اختار أحدها ينقطع حقّه عن الباقي ، وما دام لم يختر يكون غيره ممنوعا عن التصرّف في جميعها.

ويمكن أن يعبّر عن ذلك بما لو أخذ المبهم نظير الشبهة المحصورة ، ويكون حقّ رجوع المالك إلى كلّ واحد منهم ، نظير وجوب الاجتناب والاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة ، فتأمّل!

ولا شبهة أنّ ذلك بمكان من الإمكان ؛ ولا يتوقّف تملّكه كذلك على أن يكون مالكا لكلّ واحد منها تعيينا ، بل يكفي وإن كان تملّكه على نحو البدل الّذي قد عرفت أنّ ذلك يرجع إلى تملّكه الجامع.

ونظير ذلك في التكاليف هو الواجب الكفائي ، فإنّ التكليف فيه ليس إلّا تكليفا واحدا نشأ عن مصلحة واحدة ، ومع ذلك يتعلّق هذا الواحد البسيط إلى متعدّدة كثيرة غاية الكثرة ، ولا ريب أنّ هناك العهدات بجميعها أيضا مشغولة ما لم يقم أحد أن يؤدّي التكليف ، ففيه أيضا لا يتصوّر ذلك إلّا أن يكون هذا التكليف الواحد متعلّقا بمجموع المكلّفين على نحو البدليّة ، ونعبّر عن ذلك بالجامع في الخارج الحاكي عن نحو تعلّق التكليف وكيفيّته الحقيقيّة ، وهذا الجامع يتحقّق بأوّل الوجودات ، فكذلك نفرض الحكم الوضعي ولا استحالة فيه.

فإذا أمكن ذلك في عالم الاعتبار ، ولم يستحله العقل ـ لأنّ أمر الاعتبار سهل ، ولا يحتاج إلى زيادة مئونة ـ فنحمل كلام الشارع عليه بلا أن نحمله على المسامحة ، فيكون معنى قاعدة «على اليد» بعناية لفظ «على» ما عرفت ، وأعظم شاهد عليه فهم أساطين الفقهاء ذلك من القاعدة ، كما يستكشف ذلك من

٥٢٧

فتاويهم ، ولا داعي على حمله على خلاف ظاهره ، فتأمّل.

فإن قلت : هكذا دفعت الإشكال الأوّل فما تقول في وجه أصل جواز رجوع المالك إلى اليد السابقة ، مع كون عين ماله موجودة في اليد اللاحقة ، والمفروض أنّ ضمان السابق البدل كان موقوفا على تلف ماله ، فكيف يجوز له الرجوع إليه مع بقاء عين ماله عند غير من يرجع إليه الآن؟

قلت : قد أشرنا في طيّ الكلام إلى أنّ ثبوت البدل على الضامن إنّما يكون من أوّل وضع يده على مال الغير ، ففي عرض ثبوت العين في اليد يحدث بدلها أيضا فوق اليد ، بحيث يكون ما في اليد علّة لثبوت بدله ، فوقه بدل له فوق اليد العادية.

ولكن لا يخفى ؛ أنّه علّة له حدوثا لا بقاء ، بمعنى أنّ وجود البدل ليس دائرا مدار وجود العين تحت اليد ، بل ولو خرجت عن اليد بتلف أو غيره فالبدل ثابت ، ولا يسقط إلّا بردّ العين أو الأقرب بها كلّ ما يكون.

وعلى كلّ حال ؛ فمن أوّل أخذ الغاصب مال الغير يتوسّع دائرة سلطنة المالك وتتبدّل من العين يقينا إلى سلطنة مردّدة كونها على نفس العين وبدلها ، ولا ينافي ذلك كون وجوب ردّ البدل معلّقا على تلف العين ، لأنّ الرد إنّما هو من آثار الضمان ، وأمّا نفس الضمان فتنجيزيّ قد عرفت ظاهر «على اليد» يقتضيه ، مع أنّه لو كان معلّقا فهذا المقدار من الأثر ـ وهو ثبوت السلطنة للمالك ـ على الآخذ ، بأن يرجع إلى شخصه ويطالب عنه ماله ، ولو كانت عينه باقية في يد غير الآخذ الأوّل ، فهذا الأثر ثابت للقضيّة التعليقيّة.

والدليل عليه هو ظاهر قاعدة «على اليد» فإنّ لسانها حاكمة بأنّ على

٥٢٨

عهدة الآخذ سلطنة المالك ثابتة ما لم يؤدّ ماله إليه ، وذمّته مشغولة ما لم يصل مال المالك إليه ، ولا يتصوّر ذلك مع بقاء عين ماله في يد الغير وعدم انقطاع سلطنته عنه ، مع أنّ السلطنة مستتبعة للملك ، فمع بقاء ملكيّته على العين كيف يتجاوز عنها إلّا بنحو ما قلناه في دفع الإشكال الأوّل ، وهو أن نلتزم بأنّ معنى توسعة ملكيّة المالك وتجاوزه عن العين إلى البدل حتّى في ظرف وجود العين ، هو أنّه انتقل بحكم الشارع ملكيّته عن العين تعيّنا إلى الجامع بينها وبين البدل من يوم الغصب وتسلّط الغير على ماله ، بأن يكون كلّ منهما على البدل ملكا له ومصداقا للجامع.

فهنا قد يتوهّم بأنّه يلزم من ذلك أن يكون المالك الّذي قد خرج المال الواحد عن كيسه ، أن يصير مالكا لشيئين ، ويكون مسلّطا على أمرين ، لأنّ لازم تملّكه البدل والمبدل منه من يوم الغصب وثبوت سلطنته على كليهما ليس إلّا أن يكون كلاهما مملوكا له.

فنقول في دفعه ـ بعد كون ذلك هو الإشكال الثاني ـ : إنّ الإبدال وجعل الشي‌ء عوضا عن شي‌ء يتصوّر على وجوه ، أوضحها هو التبادل الّذي يقع بين العوضين في أبواب المعاملات ، فإنّ في باب البيع ؛ إذا يخرج البائع المبيع عن ملكه بإزاء ما يقبله عوضا عنه من الثمن وغيره فهو لمّا يكون بانيا على أن يكون دخول العوض في ملكه مشروطا وموقوفا على خروج المعوّض عن ملكه ، بأن يتبدّل تشخّصات العوض والمعوّض ، فكأنّه اعتبر بأن يتلوّن المبيع بألوان الثمن ، فيتلوّن ماله بألوان مال الطرف الآخر ، وكذلك يبني المشتري على ذلك بعينه ، وهذا هو معنى البدليّة حقيقة ، ولذلك نقول بأنّه يستحيل أن يجمع بين العوض

٥٢٩

والمعوّض ؛ لاعتبار البدليّة فيهما.

ومنها ؛ أن يعتبر هذا المعنى بعينه في قاعدة «على اليد» باعتبار الشارع ، بأن يقال بأنّ الشارع اعتبر حين أخذ الغاصب مال الغير وجعله توجّهه إليه واستيلاءه عليه ، بأن يكون مال الغير في يده تبدّل ما في يده إلى مال اعتبر الشارع وجوده فوق اليد ، بأن يكون ذلك عوضا عنه فيجري فيهما جميع ما هو من لوازم المعاوضات الحقيقيّة ، فعلى ذلك أيضا يستحيل أن تبقى العين الثابتة في اليد العادية في ملك المالك وتحت سلطنته ، مع أن يكون البدل الّذي يثبت بحكم الشارع فوق اليد يصير ملكا للمالك ويجي‌ء تحت سلطنته ، لما عرفت من برهان الاستحالة.

ومنها ؛ أن لا يعتبر كذلك ، بل تعتبر الملكيّة والبدليّة بالمعنى الّذي قلنا ، وهو أن يوسّع الشارع دائرة الملكيّة المنحصرة بالعين الشخصيّة ويسريها منها إلى بدل الملك المفروض وجوده على اليد ، بمعنى أنّه كما أنّ للشارع في عالم التكوين أن يجعل الجسم الصغير كبيرا ويطوّل ما هو نصف الذراع ـ مثلا ـ إلى ذراع أو أزيد ، فكذلك في عالم التشريع ، فكأنّه بسّط العين (١) المغصوبة عمّا في يد الغاصب وأتاه إلى فوق يده ، ونعبّر عن هذا الوجود البسيط بالجامع.

وبالجملة ؛ فليس في هذا الفرض عنوان التبديل حتّى يقال بأنّه كيف يجمع بين البدل والمبدل منه؟ بل ثبوت البدل الجائي في الحقيقة من قبل بسط دائرة

__________________

(١) ونظير ذلك في باب الاستصحاب ، فكما أنّ فيه الحياة الحقيقيّة الثابتة لزيد في طرف العلم بها ، الشارع ، يعتبرها أيضا في طرف الشكّ ، ومرجع ذلك يكون في الحقيقة إلى جرّ الحياة من طرف العلم إلى طرف الشكّ ، المعبّر عن ذلك بجعل المماثل ، فيصير أحكام الحياة للجامع بين الحقيقي والاعتباري ، كذلك هذا الاعتبار ثابت في ما نحن فيه ، «منه رحمه‌الله».

٥٣٠

الملكيّة إنّما هو غرامة وثبوت تدارك عن عين ماله بحيث لو كان عين ماله في يد اللاحق ورجع إلى السابق ولم يمكن وصول عين ماله فأخذ عنه غرامة ماله ، لم تخرج تلك العين عن ملكه وسلطنته ، بل هي بما لها من التشخّصات باقية على ملكه ، ويكون البدل المأخوذ نظير بدل الحيلولة ، فكما أنّ فيه لمّا لم يكن تأدية مال المالك بما له من جميع التشخّصات بعينها ، فيتدارك مرتبة منها ، وهي مرتبة ماليّتها ولا يلزم [من] ذلك خروج ماليّة العين عن ملكه لوصول بدله من جهة بدل الحيلولة ، ـ وعدم لزومه يأتي إن شاء الله ـ وكيف كان ؛ فكذلك يكون حال بدل المال المأخوذ من اليد السابقة مع بقاء عين ماله الموجود في اليد اللاحقة تحت سلطنته.

فمحصّل البحث في رفع الإشكالين صار بأنّه لا استحالة عقلا أبدا أن يثبت للمال الواحد أبدال متعدّدة على نحو ما عرفت ، الّذي صار مرجع ذلك إلى إثبات غرامة واحدة على الذمم المتعدّدة ، وكذلك لا استحالة أن يثبت بدل المال الواحد ما هو الجامع بين العين وبدلها مع بقاء العين ، بأن تكون الذمّة مشغولة بهما على البدليّة ، وقد أشرنا إلى أنّ إبقاء كلام الشارع على ظاهره لا يحتاج إلى أزيد من عدم استحالة المعنى المستفاد من ظاهر لفظه عقلا ، كما لا يخفى.

فيترتّب على كلّ من الأيادي الغاصبة وعلى جميعها لوازمها من أحكام الضمان ، كما فهم الأصحاب من جواز الرجوع للمالك على كل واحد منها ، سواء كانت العين باقية أم تالفة ، وسواء كان المطالب منه ذا يد على العين أو تمكّن من أخذها عن الآخر ولو لم يكن ذا اليد ، أو لم يكن كذلك.

وكذلك له الرجوع إلى كلّ واحد منهم بمقدار ، وعلى الآخر بمقدار آخر ،

٥٣١

وكذلك جميعهم حتّى يحصل له البدل من المجموع ، فكلّ مقدار أعطى أحدهم تبرأ ذمّة الآخرين ونفسه عن المالك بهذا المقدار ، لأنّه إذا كانت الذمم مشغولة بالكلّ ، ويجوز له الرجوع إلى كلّ [واحد] منهم ومطالبة تمام البدل ، فالرجوع ببعضه يجوز بطريق أولى.

كلّ ذلك لما عرفت أنّ اشتغال ذمّة الجميع يرجع إلى اشتغالهم مجموعا بالجامع بين الأبدال المنتزع من الذمم المتعدّدة ، فكلّ منهم يؤدّي شيئا من البدل يؤدّي مقدارا من الجامع.

ثم هذا كلّه ؛ حكم المالك وبيان كيفيّة حقّه وسلطنته ، أمّا حكم الغاصب وتكليفه فلا يخفى أنّ تسليمه العين المغصوبة إنّما يتحقّق برفع يده عنها وتخليتها ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، كما بنينا عليه في باب قبض المبيع بأنّ قبضه يتحقّق برفع البائع يده عنه ، وأما الإيصال والأداء أو النقل والإقباض في المنقول فهي امور زائدة على القبض ، ولا يتوقّف عليها ، فكذلك في ما نحن فيه قبض العين يحصل برفع الغاصب يده عمّا في يده ، ولكن بدل العين الّذي قلنا : اعتبره الشارع من يوم قبض العين فوق اليد ، فقبضه متوقّف على الأداء وإيصال العين بأداء الأقرب منه فالأقرب إلى المالك.

والدليل عليه هو ذيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) فإنّ قبض ما على اليد مغيّا بغاية ، وهي الأداء ، ولمّا كان يجب عليه أوّلا تسليم العين الّتي هي أحد مصاديق الجامع بينها وبدله الثابت على ذمّته من يوم غصبه ، فيجب عليه أوّلا تسليم العين إن أمكنت ، ولذلك يجب عليه الرجوع إلى من

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

٥٣٢

كانت عنده ، بل ولو كان أخذه منه متوقّفا على مقدّمات يجب تحصيلها ، فإن لم يمكن فعليه أن يؤدّي ما هو الأقرب إليها حتّى ينتهي إلى القيمة ، وبالجملة ؛ فلا يحصل له براءة الذمّة إلّا أن يعمل بهذا الترتيب ويوصل مال الغير إلى صاحبه.

تنبيه : إنّ الّذي أشرنا [إليه] في مطاوي الكلمات من تعبير عنوان البدليّة عمّا يثبت على اليد ، فقد وقعت مسامحة في التعبير ، ضرورة أنّ البدليّة تقتضي أن يكون للبدل وجود مستقلّ في مقابل المبدل منه الّذي يكون تحت اليد ، ومثل ذلك لا يستفاد من القاعدة ، مع لزوم محذور آخر ، وهو عدم فرض جامع بين الوجود الحقيقي والوجود الاعتباري الّذي جعلنا ذلك منشأ لجواز رجوع المالك إلى غير ذي اليد ؛ لثبوت بدل المال عليه من يوم أخذه مال الغير ، فيتردّد أمره بين ضمان أحد الأمرين من العين أو البدل.

فحقّ التعبير أن يقال : يستفاد من لفظ «على» في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد» مع أنّ المال يكون تحت اليد بالبيان الّذي أسلفنا أنّ الشارع وسّع وجود العين حتّى جعلها على اليد ، فأتى بما هو موجود تحت اليد إلى فوق اليد الّتي هي عبارة عن العهدة ، فهذا الوجود الّذي يثبت على العهدة ليس في قبال العين ، بل إنّما هي نفسها بمرتبة من مراتب وجودها الّتي لو لا اعتبار الشارع لها لم يكن لها وجود سوى وجودها العيني ، فباعتبار الشارع الّذي قلنا : له أن يوسّع في الوجود في عالم التكوين ، فكذلك وسّع فيه في عالم التشريع بأنّ هذا الوجود الخارجي الّذي يكون مالا للغير مفروض الوجود على اليد ، ونقله ثابت على العهدة حتّى يردّها إلى صاحبها.

بمعنى أنّه اعتبر الشارع بأنّ العين المغصوبة ولو تلفت بحرق أو غرق ، أو

٥٣٣

صارت بحكم التلف ، بمعنى أنّها خرجت [من] تحت سلطنة الغاصب ودخلت تحت سلطنة الغير لا تخرج بذلك عن العهدة ، وسلطنة المالك على عهدته ثابتة باقية ، ولا تنقطع سلطنته هذه عليها حتّى يردّ إليه ماله بخصوصيّاته إن أمكن ، وإلّا الأقرب فالأقرب.

ولذلك قلنا بأنّ للمالك الرجوع إلى كلّ من ذوي الأيادي ، بجريان هذا الملاك في جميعها ، وقد دفعنا الإشكال الأوّل بأنّ لازم ذلك مع كون المال التالف واحدا هو اشتغال الجامع بين الذمم ، والجامع بين المراتب الثابتة على كلّ من ذوي الأيدي ، ويندفع بذلك أيضا الإشكال الّذي أشرنا إليه من عدم التصوير الجامع بين الوجود العيني والاعتباري ، لما عرفت من أنّ ما اعتبره الشارع على الذمّة ليس وجودا على حدة في مقابل العين حتّى يفرض جامع بينهما ، بل إنّما هو عينه بسعة وجودها الّتي اعتبرها الشارع.

ثمّ إنّه أشرنا إلى أنّه كما أنّ سلطنة المالك عن العين لا تنقطع ما دامت موجودة ولو لم تصل يده إليها ، كذلك عند الأداء يجب على الغاصب أداؤها بحيث لو كانت موجودة عند غيره يجب عليه تحصيلها ، وكما أنّه يجب عليه من باب المقدّمة أخذ العين عن الغير يجب على الغير تسليمه إليه (١) ، فتأمّل!

ثمّ إنّه إن أمكنه أخذ العين عن الغير وتسليمها ، فيجب ، وإلّا فللمالك أن يطالب عنه بدله ، وهذا البدل الّذي يأخذه منه ليس بدلا حقيقيّا عن المال من قبيل

__________________

(١) وقد قال ـ دام ظلّه ـ : إنّ وجه وجوب ردّ الغير به هو أنّ المقام يكون من قبيل أنّه كما يجب على النساء عدم كتمان ما خلق في أرحامهنّ ، كذلك يجب على السائلين القبول عنهنّ ذلك ، ولكن لا يخلو ذلك عن التأمّل ، كما لا يخفى ، «منه رحمه‌الله».

٥٣٤

الأبدال في باب المعاوضات حتّى يوجب خروج العين عن سلطنته ، بل إنّما هو غرامة وجبران عمّا فات منه من الماليّة.

وتوضيح ذلك : أنّه لمّا قلنا : إنّ حسب ما يستفاد من قاعدة اليد أنّ المال المغصوب عهدته على الغاصب بجميع خصوصيّاته حتّى يردّه كذلك إلى صاحبه ، فإذا لم يمكنه كذلك فطبيعة الضمان تقتضي أن يردّ إليه ما أمكنه من مراتب وجود ما أخذه ، فإذا لم يمكن ردّ الملك بخصوصيّاته وأمكنه ردّ ماليّته يجب عليه أن يدفع كذلك ، فكأنّ هذه الماليّة يكون خلاصة وجود العين الّتي لم يمكن ردّها الآن ، وليس بدلا عنه حتّى يوجب خروج العين عن ملكه وسلطنته ، بل هي بخصوصيّتها باقية تحت سلطنته ، ولكن ماليّته مسلوبة عنه ، لأنّ الماليّة أمر عرفي إنّما يعتبر وجودها إذا كان المال منشأ للآثار ممّا يتوقّع عن المال من الأكل والشرب والقلب والانقلاب وغيرها.

ومن المعلوم ؛ أنّ هذه الآثار مسلوبة عن المال المغصوب الّذي لم يمكن التصرّف فيه الآن ، بخلاف الملكيّة فإنّها ليست مترتّبة على شي‌ء ، بل إنّما يعتبرها العرف ، ولو لم يكن تحت التصرّف والسلطنة ، ولذلك لا يجوز له التصرّفات المتوقّفة على الماليّة ، مثل البيع وغيره وإن كان بناء المشهور على جواز بيعه للغاصب أو غيره ، أو لو أمكن له القبض وإخراج العين عن تحت يد الغاصب ، وكذلك يجوز عتق العبد المغصوب ، ولكنّه لا ينافي ذلك ما أفاده ـ دام ظلّه ـ أو الأوّل مبنيّ على كفاية القدرة على التسليم في صحّة البيع كما هو المشهور ، والثاني [ليس كذلك] لأنّ العتق من آثار الملك ولا يعتبر فيه الماليّة أصلا بخلاف البيع فإنّه وإن كان هو مبادلة مال بمال إلّا أنّ قدرة التسليم يكفي في اعتبار الماليّة.

٥٣٥

وبالجملة ؛ فإذا صارت العين بالنسبة إلى المالك مسلوبة الماليّة فما يأخذه من الغاصب إنّما هو قائم مقام ماليّة عين ماله وتدارك عنه ، لا أن يكون تداركا وبدلا عن العين بجميع مراتب وجودها وتشخّصاتها لأنّ ملكيّة العين بخصوصيّتها باقية على ملكه وسلطنته ، وإنّما ماليّتها فقط خرجت عن سلطنته ولذلك تتدارك.

فظهر من ذلك ؛ أنّ باب الضمان إنّما يكون من قبيل باب قاعدة الميسور في التكاليف ، فكما أنّ فيها لمّا لم يمكن امتثال التكليف بنحو المطلوب كاملا فيكتفى بقدر المقدور منه ، فكذلك باب الضمان.

وأمّا ظاهر المشهور ـ كما يستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره أيضا في مبحث البيع الفاسد وضمان تلف المبيع فيه ـ كون ما يعطيه الضامن تداركا عن الماليّة المسلوبة الآن إنّما هو بدل عنها وعوض عن الانتفاعات الفائتة من المالك عن ملكه لكونه ممنوع التصرّف عنه ، وإن كان قد سومح في عبارة الشيخ رحمه‌الله هنا من كون التدارك بدلا عن السلطنة الفائتة ، مع أنّ التدارك إنّما يقع عن نفس الانتفاعات الفائتة عن السلطنة عليها ، وإن كانت هي تتدارك تبعا أيضا.

وكيف كان ؛ وعلى كلّ حال فالتزموا في باب بدل الحيلولة كونه بدلا عن الماليّة ، وقالوا بأنّه حسب ما تقتضيه قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ثبوت حقّ مطالبة المالك لماليّته ، ولا يمنعه عن ذلك عدم تمكّن الغاصب أن يعطيه ماليّته بشخصه إليه ، بل عليه أن يردّ إليه بدله ، فما يعطيه من البدل يصير بدلا عن ماليّته ، فلا يصير ملكا ؛ لعدم خروج عين ماله عن ملكه ، فلمّا يلزم بالنسبة إلى الملكيّة الجمع بين البدل [والمبدل منه] فلا يصير ما يأخذه بدلا عن ماليّته ملكا ، بل يكون من قبيل ما يباح له التصرّف فيه.

٥٣٦

نعم ؛ في ما يكون تصرّفه فيه واستفادته من ماليّته متوقّفا على الملكيّة مثل البيع ونحوه ، فيلتزمون بتملّكه على نحو تملّك المبيع في المعاطاة.

فالمحصّل ؛ أنّ ظاهرهم في باب الضمانات أنّهم ملتزمون بصفتين من البدل : أحدهما الطولي والآخر العرضي ، أمّا البدل الطولي ؛ فهو الّذي يقع عوضا عن مال الغير بعد تلفه تحت اليد العادية ، وأمّا البدل العرضي فهو ما يقع عوضا عن ماليّة ملك الغير مع بقاء عين ماله وبقاء سلطنته ، فهذا لمّا يكون جبرانا عن الماليّة الفائتة الآن مع بقاء الملكيّة ، فكأنّه بدل في عرض المبدل منه ، ففي الأوّل تملّكه البدل متوقّف على تلف المبدل منه ، بخلاف الثاني فإنّه يجوز التصرّف فيه وإن كانت العين باقية ، فتأمّل!

هكذا يستفاد من ظاهر كلام شيخنا رحمه‌الله والبعض الآخر (١) ، ولكن لا يخفى أنّ البدل يقوم مقام المبدل منه على نحو وجود المبدل منه ، فلو كانت الماليّة الفائتة فائتة على الإطلاق ، بل أمكن استفادة بعض أنحاء الماليّة عن العين المغصوبة ، فلا بدّ على حسب ما تقتضيه قاعدة البدليّة أن يكون المالك ممنوعا عن التصرّف في بدل الحيلولة بقدر ما أمكنه تصرّف الماليّة في ملكه المغصوب ، مثل ما لو أمكنه أن يبيعه على الغاصب بناء على الاكتفاء في اشتراط تسليم المبيع تمكّن المشتري عن الاستيفاء ، وكذلك يمكنه عتقه ، فلازم البدليّة أن يكون المالك ممنوعا عن التصرّف في البدل بمثل هذه التصرّفات ، مع أنّهم لم يلتزموا بذلك ، بل ظاهرهم الاتّفاق على جواز تصرّفه فيه بأيّ نحو شاء.

وانقدح بذلك ؛ أنّ التحقيق في باب الضمان وبدل الحيلولة هو ما قلناه من

__________________

(١) راجع! المكاسب : ٣ / ٥٠٥ ـ ٥١١.

٥٣٧

كونه نظير قاعدة «الميسور» في باب التكاليف ، من كون ما يأخذه المالك عوضا عن ماليّة ملكه ليس عنوانه عنوان البدليّة ، بل هي غرامة وجبران عن ماله ، بحيث لمّا لم يمكن استيفاء ملكه وماله بماله من الخصوصيّات بجميع مراتب وجوده ، فيتداركه ويأخذه بقدر الميسور منه ، وهو خلاصة ماليّة ، فالمأخوذ الآن بتمام حيثيّات وجوده مرتبطة من عين ماله بنفسه ، فهذا الّذي يقبضه الآن يملكه بتمام وجوده (١) ، لا ماليّته فقط ؛ لما عرفت أنّ عنوانه ليس عنوان البدليّة ، حتّى يفكّك بين جهة الملكيّة والماليّة ، بل المأخوذ مرتبة من نفس وجود المال المغصوب ، وقد قرّرنا سابقا أنّ الماليّة ليست أمرا قابلا للتملّك ، بل هي تتملّك تبعا للملك ، فذلك بشراشر وجوده مملوك لصاحب المال ، لما عرفت من أنّه بحيثيّة وجوده جبران للماليّة الفائتة.

نعم ؛ لمّا لم تكن ملكيّته ملكيّة مستقرّة ، بل إنّما المأخوذ جبران لما فات من الماليّة ما دامت فائتة ، فإذا تمكّن [من] تسليم المال وارتفع المانع فعليه أن يسلّم عين ماله ، فلمّا يسلّم ففي ضمن تسليم العين تلك المرتبطة الفائتة أيضا تسلّم ، فلذلك إلى الغاصب يرجع أيضا ما تدارك به الفائت ، على التفصيل المذكور في باب بدل الحيلولة.

وأمّا الجواب عن الإشكال الثالث فيظهر بعد ذكر مقدّمتين :

__________________

(١) ولذلك يجوز له التصرّف فيه جميع أنحاء التصرّفات ، ولا يتوهّم أنّه حينئذ يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ؛ إذ المفروض بقاء خصوصيّة العين المغصوبة على ملكه أيضا ، ورفعه : أنّ الممنوع من الجمع بينهما إنّما هو فيما له الماليّة ، والمفروض لا يعتبر الماليّة للعين المغصوبة ، للحجر عن التصرّف ، فالخصوصيّة إنّما هي ملك محض ، والملكيّة المحضة ليست محلّا لاعتبار العقلاء ، وإلّا فمن هذه الجهة الإشكال بين المشهور ومسلكنا مشترك ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

٥٣٨

الاولى : أنّه بعد أن استفدنا من ظهور لفظ «على اليد» بأنّ الشارع اعتبر على يد الغاصب وجود العين المغصوبة الّذي هو ثابت على ذمته حتّى يردّ المال إلى صاحبه ، كما أنّ ظاهر القاعدة أيضا كان مقتضيا لثبوت هذا الوجود الاعتباري الّذي كان مرجعه إلى توسعة الوجود في ما أخذه الغاصب على كلّ من الأيادي المتعاقبة الواردة على العين المغصوبة ، وقلنا : إنّ لازم ذلك كون الجامع بين هذه الوجودات الاعتباريّة متعلّقا لحقّ صاحب العين لا كلّ واحد من العهدات تعيّنا.

وبالجملة ؛ فهذا الوجود العيني إذا يأخذه الغاصب فاعتبر الشارع له وجودا سوى وجوده الخارجي على عهدة الغاصب ، فيصير هذا الوجود الاعتباري من شئون العين ولوازمه الغير المنفكّة عنها ، إذ قد عرفت أنّه من مراتبها لا أمر خارج عنها ، فيكون بمنزلة جسم كان له نصف ذراع من الطول ، فبعد اعتبار الشارع اضيف إليه نصف ذراع آخر ، فصار بمجموعه ذراعا واحدا ، فكلّما انتقل هذا الجسم بعد ذلك ما لم يصل إلى يد مالكه يكون مقداره ذراعا ، بل كلّما يتوارد عليه اليد يضاف إليه حسب ما اعتبر لكلّ واحد من الأيادي نصف ذراع آخر زائدا على المقدار السابق حتّى يستقرّ في يد ، فالعهدة السابقة وإن كانت مشغولة إلّا أنّ ما فيها من الوجود الاعتباري لمّا كان من شئون العين فينتقل إلى اليد اللاحقة وعهدة ذيها.

ولا يتوهّم هنا أنّه بعد أن كان الوجود الاعتباري السابق من شئون العين وتبعاتها ، فبعد انتقال نفس العين إلى اليد اللاحقة فلا ريب أنّها منتقلة بتبعاتها ، فلازمه أن لا يبقى على اليد السابقة شي‌ء وتخلّص عهدته وتشتغل ذمّة ذي اليد

٥٣٩

الثانية اللاحقة ، وكذلك تنتقل الوجودات وتتبدّل العهدات بتوارد الأيادي على المال إلى أن استقرّ في يد.

ودفع ؛ أنّه لا نقول : كما أنّ العين الخارجيّة الّتي تكون تحت اليد السابقة تتبدّل عن مكانها وتجي‌ء تحت اليد اللاحقة فيتبدّل التولّي والاستيلاء على العين ، كذلك العهدة السابقة أيضا تتبدّل ، لا بل هي بحالها باقية والذمّة مشغولة بمقتضى «على اليد» حتّى يصل المال إلى صاحبه ، وإنّما المتبدّل وما يجي‌ء في اليد اللاحقة هو ما على العهدة ، بمعنى أنّه كما أنّ العهدة بعد استيلاء اليد على مال الغير تصير مشغولة ويعتبر على اليد المكنّى عنها باليد وجود مثاليّ لنفس العين ، كذلك يعتبر أيضا وجود لوجودها الاعتباري المفروض على العهدة السابقة ، لما أوضحنا من أنّ الوجود الاعتباري صار من شئون العين ومراتب وجودها ، وهذا الوجود الاعتباري لمّا لم يكن اعتباريّا محضا بحيث لم يكن منشأ لآثار ، ليس كذلك بل هو منشأ للآثار الشرعيّة الخارجيّة ، فهذا الوجود الاعتباري ثابت للعين غير منفكّ عنه حتّى يرجع المال إلى يد صاحبه ، ولذلك هذه العين إذا تدخل تحت سلطنة كلّ أحد غير مالكها فتدخل مع وجودها الاعتباريّة المعتبرة لها بحسب توارد الأيادي عليها.

وبالجملة ؛ صدق الاستيلاء واليد على العين الخارجي بجميع مراتب وجودها لا يتوقّف على أن تكون العين كذلك تحت اليد الخارجيّة حتّى يصدق الاستيلاء عليها ، بل الاستيلاء عليها يكون كالاستيلاء على ما إذا كان جسم خارجي له خمس أذرع ، فوضع أحد يده عليه بعنوان المالكيّة والسلطنة ، فيصدق على الواضع عرفا أنّه مستول عليه ، مع أنّه ما وقع من الوجود الخارجي

٥٤٠