الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

لهذا الجسم تحت يده إلّا شبر منه ـ مثلا ـ فكذلك استيلاء اليد اللاحقة على العين المغصوبة بجميع مراتب وجودها الحقيقيّة والاعتباريّة لا يتوقّف على خروج المال عن اليد السابقة بوجودها العيني ، وكذلك عن عهدتها بوجودها الاعتباري ، بل يصدق عرفا بصرف وضع اليد على وجودها الخارجي وإدخالها كذلك تحت الاستيلاء ، كما عرفت.

الثانية : لا إشكال أنّه يمكن أن يكون متعلّق الحقّ والماليّة كليّا خارجيّا جامعا بين الخصوصيّات بلا أن تكون الخصوصيّات بوجوداتها ملكا لذي الحقّ كما في بيع الصبرة فإنّ التحقيق فيه : أنّ من يشتري صاعا من صبرة إنّما يصحّ ذلك إذا لم يكن مراده وكذا [مراد] البائع فرد من الصيعان على نحو التنكير ، وإلّا فيبطل كما حقّق في محلّه ، وإنّما المناط في الصحّة هو ما إذا كان المبيع كليّا وصاعا مشاعا ، ولذلك بنوا على أنّ اختيار التعيين إنما هو بيد البائع ، وليس ذلك إلّا أنّ الماليّة للمشتري لم يتعلّق إلّا بصرف الجامع ، ولازم ذلك أنّ ما يسلّمه البائع ويعيّن ماله ومبيعه في كلّ فرد ، إنّما يسلّم الفرد والخصوصيّة إلى المشتري من باب المقدّمة وتوطئة لإيصال ماليّة به ، وإلّا فلو كان أمكن التفكيك بينهما لما كان عليه ردّ الخصوصيّة.

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل ذلك ، ضرورة أنّه لمّا لم يكن متعلّق حقّ المغصوب عنه إلّا إحدى الذمم والأيادي معيّنة فليس إلّا الجامع بينها ، كما أشرنا إلى ذلك في دفع الإشكال الأوّل ، فعلى ذلك إذا رجع المالك بعد تلف ماله إلى كلّ واحد من ذوي الأيادي فليس عليه أن يؤدّي إليه خصوصيّة من ماله ، وكذلك ليس له أخذ خصوصيّة ماله.

٥٤١

نعم ؛ لمّا لم يمكن قبض ماله وحقّه إلّا في ضمن إحدى الخصوصيّات ـ كما أشرنا ـ فيجب عليه تسليم الخصوصيّة أيضا تبعا ومقدّمة ، ومن المعلوم ، أنّه إذا رجع المالك إلى اليد السابقة مع انتقال المال من يده إلى غيره فيأخذ عنه بدل ماله مع عدم تلف المال في يده ، فما يعطيه من الخصوصيّة هي الخصوصيّة الّتي ضمّنها اليد اللاحقة وانتقل إلى ذمّته تبعا للوجود العيني.

الكلام في تعاقب الأيدي في الغصب

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول : إنّ غير ذي اليد إذا يرجع إليه بعد تلف المال فما يؤدّيه إلى المالك ، وإن كان حقّا له ، وله الرجوع إليه ولو كان المال تالفا عند غيره بمقتضى «على اليد» ولذلك يجب عليه أيضا الأداء ، ولكن لمّا تكون الخصوصيّة المؤدّاة إلى المالك ليست حقّا له ، وإنّما يؤدّيها مقدّمة لإيصال ماله إليه وتبعا لما له ، تصير الخصوصيّة أيضا ملكا له ، ولا تخرج أيضا عن كيس المؤدّي ، بل تكون خسارتهما على من أخذ المال ثانيا من يده سواء إن استقرّ المال بالتلف عليه أو انتقل إلى يد آخر ، وهكذا ، لأنّ هذه الخصوصيّة هي الوجود الاعتباري الّذي استقرّ على يد الغاصب بحكم الشارع وتضمينه إيّاه ، فإذا انتقل أصل المال من يده إلى غيره قد عرفت بحكم المقدّمة الأولى أنّ العين بجميع شئوناتها تنتقل إلى يد الغير ، فاليد الثانية كما تصير بمقتضى «على اليد» ضامنا لنفس العين ، كذلك تصير متعهّدة لشئونها الاعتباريّة أيضا بمقتضى «على اليد» فإنّ في لسان هذه القاعدة وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أخذت» عناية يستكشف منها مزيد اعتبار الشارع بكون جميع خصوصيّات العين المردودة محفوظة ومرعيّة حين الردّ.

٥٤٢

مع أنّ الشارع أيضا بنفسه اعتبر ذاك الوجود الاعتباري ، وقد قلنا : إنّه ليس اعتباريّا محضا ـ كأنياب الأغوال ـ وكذلك لا ينفكّ هذا الوجود الاعتباري عن العيني ، ونظير هذا الوجود الاعتباري ـ الّذي يكون منشأ للآثار الشرعيّة ، بل العرف أيضا يراه موجودا ـ إنّما هو مسألة المنافع الغير المستوفاة وضمانها على من كان ضامنا للعين ، فإنّ في ضمان هذه المنافع أقوال ، ذهب بعض إلى العدم (١).

والعمدة في استدلالهم هي أنّ المنافع أمر متصرّم الحدوث ، فما لم يوجد منها من حيث عدم انقضاء زمان فأمر معدوم ، وكذلك ما انقضى زمانها ، والمفروض أنّ ذا اليد على العين ما استوفى شيئا فصار معدوما ، والضمان لا بدّ وأن يتعلّق بأمر موجود.

وذهب الآخرون إلى ضمانها ، مستدلّين بأنّها في ذاتها وإن كانت معدومة إلّا أنّه باعتبار قابليّة وجودها والمفروض ؛ أنّ قابليّة وجودها فعليّة ، فيراها العرف بهذا الاعتبار أمرا موجودا ، ويكفي في وجود الامور المتصرّمة اعتبار الوجود كذلك ، أي تحقّق قابليّة نفسها ووجود منشأ انتزاعها فعلا (٢).

ولذلك ترى العرف مع مثل هذه الامور الاعتباريّة يعاملون معاملتهم مع الموجود الحقيقي الخارجي ، والشارع أيضا أمضى معاملتهم كذلك ، فإنّه يجوز لصاحب الأملاك أن يؤجر أو يهب منافع أملاكه إذا كان الآن مهجورا عن منافعها إلى سنين متمادية ، منافعها المحدثة لها بعد هذه السنوات ، ليس ذلك إلّا أنّ العرف يراها الآن موجودة بوجود قابليّتها ، وكون منشأ اعتبار وجودها الآن ملكا ومالا للمؤجر والموهب.

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ١٦٨.

(٢) جامع المقاصد : ٦ / ٢٧٣.

٥٤٣

وبالجملة ؛ فيستكشف من نظائر الباب أنّ ترتيب آثار الوجود (١) ؛ في الامور الاعتباريّة لا يحتاج إلى زيادة مئونة ، بل يكفي فيها قابليّة وجودها ، خصوصا إذا كان معتبرها الشارع كما في ما نحن فيه ، فالخصوصيّة المنتقلة إلى عهدة اليد اللاحقة إذا لم تكن ملكا لمالك العين ، بل إنّما الشارع اعتبر وجودها على اليد العادية ، لأنّ تعيين المالك ماله فيها لو تلفت العين المغصوبة بلا أن تصير هذه الخصوصيّة المعتبرة على العهدة الأوليّة ملكا للمالك بحكم المقدّمة الثانية ، نعم هي متعلّقة لحقّه فيجوز له مطالبة ماله عن تلك العهدة فلا تخرج هذه الخصوصيّة الماليّة الّتي اعتبرها الشارع على عهدة الآخذ عن كونها مالا له ، ووجوب ردّها إلى المالك مقدّمة لإيصال حقّه لا يوجب ذلك ، كما أوضحنا ذلك عند بيان المقدّمة.

فالحاصل ؛ أنّ الخصوصيّة الماليّة إذا كانت باقية على ملك الآخذ الأوّل ، وقد كانت هذه الخصوصيّة المنتزعة عن العهدة منتقلة إلى يد الآخذ الثاني وعلى عهدته تبعا للعين ، فالعهدة الثانية صارت مضمّنا لأمرين على البدل ؛ إمّا نفس العين المأخوذة ، وإمّا مرتبتها المعتبر وجودها على العهدة الاولى ، ولذلك فإن رجع مالك العين وأخذ منه عين ماله ، وإلّا فبدلها والمرتبة الاخرى الّتي هي عينها بالاعتبار ، فليس للأوّل الرجوع إلى الثاني ؛ لعدم خروج شي‌ء عن كيسه ، وإلّا فإن رجع إلى الأوّل وأخذ منه ماله التالف في اليد الثانية أو غيرها فللأوّل الرجوع إلى الثانية لأدائه خصوصيّة ماله ، مع كون الثاني ضامنا لهذه الخصوصيّة أيضا مضافا إلى ضمانه العين.

__________________

(١) شرعيّة كانت أم عرفيّة ، «منه رحمه‌الله».

٥٤٤

نعم ؛ للثاني أيضا الرجوع إلى لاحقه لجريان عين ما جرى بينه وبين سابقه ، بينه وبين لاحقه كذلك ، إلى أن يستقرّ الضمان في يد من تلف المال بيده ، فليس له الرجوع إلى غيره لعدم عهدة مضمّنة له لاحقة عليه حتّى يرجع إليه ، فهذا سرّ ما ذهب إليه المشهور من كون قرار الضمان بيد من تلفت العين المغصوبة في يده ، فافهم!

وقد يشكل الأمر ؛ في مثل ما لو استقرّ الضمان في يد أحد ، بمعنى أنّه ما أخذ المال عن يده آخر ، بل انتهى التعاقب إليه ، ثم أتلفه أحد الأيادي السابقة الّتي يكون بسبب أخذه سابقا الآن ضامنا ، ففي مثل هذه الصورة ؛ فلو رجع المالك إلى من استقرّ الضمان في يده ، فعلى ما بيّنا من وجه رجوع السابق إلى اللاحق كون اللاحق ضامنا لما في العهدة السابقة ، فليس لليد الآخرة الّتي استقرّ الضمان عليها الرجوع إلى المتلف ؛ لعدم كونه بضمانه الأوّل ضامنا له ، بل هو ضامن لسابقه وصاحب المال ، وبسبب الإتلاف لا يعقل أن يصير ضامنا ثانيا ، لكونه تحصيلا للحاصل بالنسبة إلى المالك.

وأمّا بالنسبة إلى من استقرّ الضمان في يده فأيضا لا أثر له ، بمعنى أنّه لا يصير بذلك عهدته مشغولة باللاحقة ؛ لأنّ المفروض أنّ اليد اللاحقة أيضا ضامن للمتلف ؛ لكون يده سابقا عليه ، فالمتلف بإتلافه وإن صار ضامنا له إلّا أن اليد اللاحقة وقد كانت ضامنا له لترتّب يده على يده ، فتتهاتر العهدتان ويتساقط الضمان من الطرفين ، فلا حقّ لأحدهما على الآخر ، لما عرفت من كون كلّ منهما متعهّدا للخصوصيّة الّتي تكون على الذمّة الاخرى الّتي هي منشأ ضمانهما للمالك وكلّ منهما للآخر.

٥٤٥

ولكنّك خبير بأنّ الإشكال إنّما نشأ من المغالطة في تهاتر العهدتين ، وجعل عهدة كلّ من المتلف ومن استقرّ عليه الضمان واشتغال ذمّتهما بالنسبة إلى الآخر متساويا ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، ضرورة أنّ الإتلاف بنفسه سبب للضمان ، ويجعل العهدة مشغولة ، فالعهدة لمن استقرّ عليه الضمان وإن كانت مشغولة لما اشتغلت به عهدة المتلف ، فتصير عهدة المستقرّ عليه الضمان مشغولة بأداء خصوصيّتين : خصوصيّة نشأت من وضع يده على العين المغصوبة ، والاخرى من أخذه عن اليد السابقة الّذي صار ذلك منشأ لاشتغال ذمّته باليد السابقة.

ولكن لا ريب أنّ المتلف بإتلافه اشتغلت ذمّته بهاتين الخصوصيّتين أيضا ، وإن لم تشتغل ذمّته ثانيا بذلك بالنسبة إلى المالك لكونه تحصيلا للحاصل ، ولكن بالنسبة إلى من استقرّ عليه الضمان ليس كذلك ؛ لأنّه بالنسبة إليه لم تكن ذمّة المتلف مسبوقة باشتغال ذمّته له ، بل يصير الآن عهدته مشغولة به.

وأمّا التهاتر ؛ إنّما يلزم إذا كانت العهدتان متساويتين في الاشتغال ، مع أنّ عهدة من استقرّ عليه الضمان لم تكن مشغولة إلّا بخصوصيّتين ، والمتلف بإتلافه يصير عهدته مشغولة بهاتين الخصوصيّتين ، مضافا إلى اشتغال ذمّته الآن بخصوصيّة زائدة عليهما بالنسبة إلى مجموع ما اشتغلت به ذمّة المستقرّ عليه الضمان.

وبالجملة ؛ قاعدة الإتلاف تكون كقاعدة اليد ، فكما أنّها تلاحظ بالنسبة إلى العين بجميع شئونها ، كذلك تلاحظ الإتلاف بالنسبة إلى المال بجميع شئونه ، فالالتزام بضمان المتلف وإن كان بالنسبة إلى العين تحصيلا للحاصل إلّا أنّه بالنسبة إلى مرتبة من المال الّذي اعتبر في ذمّة من استقرّ عليه الضمان ليس تحصيلا للحاصل.

٥٤٦

مثال ذلك : أنّه إذا كان المال في يد المستقرّ عليه الضمان كان كجسم له ذراعان ، ثمّ بإتلاف ذي اليد السابقة صار بمنزلة جسم يكون له ثلاثة أذرع ، فلهذه الخصوصيّة الزائدة الّتي نشأت من قبل الإتلاف وتعهّد المتلف ما استقرّ عليه ذمّة المستقرّ عليه الضمان ، للمستقرّ عليه الضمان الرجوع على المتلف ، فتأمّل!

ثمّ إنّ جملة ما استفدنا من كلامه ـ دام ظلّه ـ إلى هنا من أوّل هذه المسألة وإن كان اعتبارات وتصوّرات يجوّز العقل وقوعها في الخارج فقط ، وما قام برهان عقليّ عليها ، إلّا أنّه أشرنا في طيّ الكلام إلى أنّه يكفي في إثبات الأحكام الشرعيّة ما يستفاد من ظواهر أدلّتها ما لم يقم برهان عقليّ على استحالة ما يستفاد من الأدلّة ، ولا ريب أنّ كلّ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» (١) لمن أمعن النظر فيه.

هكذا ينبغي أن يحرّر المقام حتّى تندفع به الإشكالات ، لا كما أفاده شيخنا قدس‌سره في مكاسبه من اعتبار البدل لما أحدث على عهدة الآخذ (٢) ، حتّى يرد عليه ما أورده المحشّون (٣) فراجع!

هذا كلّه ؛ فيما لو كان الآخذ عالما بالغصبيّة ، أمّا لو لم يكن كذلك ، بل كان مغرورا وإن كان للمالك الرجوع إليه ؛ لظاهر قوله : «على اليد» وكذلك : «من أتلف مال الغير» ... إلى آخره (٤) ، ولكن لو أخذ المالك عنه البدل والغرامة فله

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

(٢) لاحظ! المكاسب : ٣ / ٥٠٧.

(٣) حاشية المكاسب للسيّد كاظم اليزدي : ١٧٧.

(٤) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، انظر! القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨.

٥٤٧

الرجوع إلى الغارّ ، فلا يتوهّم أنّ قاعدة الغرور تمنع عن رجوع المالك إليه ؛ لعدم التنافي بينهما ، فتدبّر!

ضمان منافع الحرّ وعدمه

الأمر السادس : قال في «الشرائع» : (والحرّ لا يضمن بالغصب ولو كان صغيرا) (١).

اعلم! أنّ في هذه المسألة جهات من البحث :

الاولى : في ضمان نفس الحرّ.

الثانية : في منافعه ، وهي تتصوّر على وجوه ؛ لأنّ الحرّ المأخوذ إمّا أن يكون صانعا أو غير صانع ، ففي كلّ منهما إمّا أن يستوفي الآخذ منافعه أو لم يستوف.

ثمّ إنّ في كلّ من الصور الأربع : إمّا أن يكون المأخوذ أجيرا ، أو ليس كذلك.

أمّا الكلام في غصب الحرّ نفسه فنقول : إنّ أخذ الحرّ والسلطنة عليه يكون على نحوين :

أحدهما : أن يأخذه ويحبسه بحيث لا يقصّر في الإقامة بأداء وظائف بقائه وإمرار حياته شيئا ، حتّى لو تلف لم يستند عرفا بالآخذ والحابس ؛ ولو بسبب حبسه في مكان مظلم حتّى يستوحش فيموت لأجله ، بل كان من هذه الجهة أيضا مأمونا ، ففي مثل هذه الصورة ؛ لو تلف الحرّ لم يكن الحابس ضامنا ، سواء

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.

٥٤٨

كان المحبوس صغيرا أم كبيرا مجنونا أو عاقلا ، ولكن لا لعدم صدق معنى الغصبيّة على آخذه أو عدم صدق اليد عليه ، لما حقّقنا من أنّ الغصبيّة لا يتوقّف صدقها إلّا على استيلاء اليد على الشي‌ء وهو صادق على حبس الحرّ وأخذه ، فإنّ من كان له عبد فأعتقه ، ولكن لم يخل سبيله بل حبسه ، فالعرف لا يرى فرقا بين استيلائه السابق الّذي كان له عليه حين كونه عبدا وبين استيلائه عليه الآن بعد ما صار حرّا ، وكذلك يصدق على فعله ذلك وحبسه الحرّ أنّه ذو يد عليه ، وأنّه أخذه واستولى عليه ، بل لأنّ مناط الضمان في باب الغصب على ما بيّنا من كونه مساوقا لقاعدة اليد أنّه لا يوجب أخذ شي‌ء والاستيلاء عليه الضمان إلّا أن تصدق هذه القاعدة عليه صدرا وذيلا ، وفي حبس الحرّ والاستيلاء عليه وإن كان يصدق الأخذ إلّا أنّه يصدق ذيل القاعدة وهو الأداء ، فإنّه يتوقّف على أن يكون المأخوذ غير المأخوذ منه حتّى يؤدّي إليه.

وأمّا الكلام في منافعه ففيما إذا لم يكن صانعا ، وما استوفى الآخذ منه شيئا ، فالأمر فيه واضح ، ويظهر حكمه ممّا قلنا في عدم الضمان.

وثانيهما : هو أن يأخذه ويستولي عليه ويحبسه في محلّ مخطور من مسبعة أو غيرها بحيث يكون ذاك المحلّ غير مأمون عادة ، أو يحبسه ويقصّر في القيام بأداء وظائف المحبوس ممّا يتوقّف عليه حياته عادة ، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص صغرا وكبرا ، قوّة وضعفا أو غيرها.

وبالجملة ؛ فلو لم يقم الحابس على أداء ما يتوقّف عليه تعيّش المحبوس وإمرار حياته ، بحيث لو مات لم يستند عند العرف إلى موته حتف أنفه ، فلا ريب في كون الحابس في هذه الصورة ضامنا للحرّ لو تلف ، ويدخل في باب القصاص والديات ، فتأمّل!

٥٤٩

وأمّا الكلام في ضمان منافعه ، وفيما إذا لم يكن الحرّ صاحب صنعة ، وما استوفى الحابس والآخذ منه شيئا ، فيظهر حكمه ممّا قلنا من عدم الضمان بالنسبة إلى نفسه ، وليس سبب عدم الضمان أيضا بعدم صدق الأخذ واليد بالنسبة إلى الحرّ حتّى يقال بأنّه إذا لا يصدقان على أصله فالمنافع تابعة له ، لما عرفت من بطلان هذا الكلام ، بل المناط في عدم الضمان هو عدم صدق الأداء بالنسبة إلى منافعه أيضا ؛ لأنّ الأداء إنّما يتوقّف بأن يكون المؤدّي غير المؤدّي إليه ، ولا يصدق ذلك في أداء منافع الشخص بالنسبة إلى نفسه ، مع أنّه سابقا أشرنا إلى أنّه لا تعتبر الماليّة لمنافع الحرّ ، وإنّما سلطنته على نفسه حكم شرعي ، وقدرة محضة بلا اعتبار حكم وضعيّ يورث الضمان أصلا.

وأمّا فيما إذا استوفى منه منافع ، فالظاهر ضمانه اجرة منافعه المستوفاة منه ، لأنّ عدم اعتبار الماليّة لمنافعها وعدم الضمان بالنسبة إليها تبعا لعدم ضمان نفسه إنّما كان ما لم تجئ المنافع في عالم الوجود ، وإلّا فبعد تحقّقها في الخارج فكما يبذل بإزائها المال فكذلك يعتبر لها الماليّة ، فيدخل في باب الإتلاف مضافا إلى احترام عمل المسلم.

وأمّا لو كان المحبوس ذا صنعة ولم يستوف الحابس منه شيئا ، فقد يتوهّم لكونه ذا صنعة وقد منعه عن استيفائه من منافعه ، وليست منافعه كمن ليس ذا صنعة ؛ لأنّه لا يفرض له منافع فعليّة ، بل هو على قابليّته الصرفة لأن يوجد له المنافع ، فيصير ذا مال باق ، فمنافع الحرّ الّذي ليس صاحب صنعة فعلا هي قوّة محضة ، ولذلك لا يعتبر لمثلها عند العرف الماليّة ، بخلاف الحرّ الّذي صاحب صنعة بحيث لو خلّي سبيله لكان يستفيد من صنعته كلّ يوم مقدارا من المال ،

٥٥٠

والحال أنّه منعه الحابس عن ذلك ، فكأنّه أتلف منه مالا فعليّا موجودا الآن في الخارج.

هذا ؛ ولكنّك خبير بأنّ ذلك وهم باطل ؛ ضرورة ؛ أنّ الإتلاف يتوقّف صدقه على إعدام أمر موجود أو استيفاء الموجود ، ومنع الغير عن استيفائه عن منافعه القابلة لأن يوجد ، إنّما هو منع إيجاد المعدوم ، لا إعدام لأمر موجود حتّى يصدق الإتلاف ، وإنّما يكون ذلك كمن كان له رأس مال فمنع صاحبه عن اكتسابه به بحبس أو غيره ، بحيث لو خلّي سبيله لكان يستفيد من رأس ماله هذا الّذي ليس إلّا مائة تومان في كلّ سنة ألف تومان ، فكما أنّ حبس مالكه ومنعه من استفادته من رأس ماله لا يقال : إنّ الحابس والمانع أتلف من المحبوس شيئا ، كذلك منع ذي الصنعة من استيفائه من صنعته إتلافا لشي‌ء.

وبالجملة ؛ فلا إشكال في عدم الضمان في هذه الصورة أيضا ؛ لعدم المقتضي له أصلا ممّا هو قابل لأن يصير مقتضيا ، ولذلك ذهب إليه المشهور ، بل كادت أن تكون المسألة إجماعيّة ، وما جعله بعض في المقام مقتضيا للضمان ـ وقد نقله في «الجواهر» (١) ـ فلا يسمن ولا يغني من جوع ، فراجع!

ضمان منافع الأجير

وأمّا فيما إذا حبس الأجير ومنعه عن استيفاء مستأجره عنه ، وهذا يتصوّر على أقسام ، لأنّ زمان العمل إمّا محدود فيمنعه الحابس عن عمله في زمان الإجارة ، أو لا يكون له زمان معيّن ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون المستأجر

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٣٦.

٥٥١

الحابس نفسه ، أو غيره.

أمّا فيما إذا كان زمان العمل معيّنا وحبسه الغاصب في ذاك ، بحيث لم يقدر الأجير أن يعمل في الحبس ، ففي هذه الصورة لمّا كان الامتناع نشأ من قبل الحابس ، والمؤجر كان حاضرا للوفاء بعقد الإجارة وتسليم ما يؤجر له ، فالظاهر أنّ الأجير يستحقّ الاجرة ، وإنّما ضمانها على الحابس ، وذلك لأنّ الأجير تملّك الاجرة بعقد الإجارة والعقد بحاله باق ، لأنّ المفروض أنّ المؤجر ما امتنع عن الوفاء حتّى ينفسخ العقد ، فإذا استحقّ الاجرة فيأخذها من مؤجره ، فإن كان هو نفس الحابس فليس له شي‌ء ؛ لأنّه بنفسه أقدم على منع نفسه عن استيفاء حقّه ، وإن كان غيره فهو يرجع على الحابس.

فكيف كان ؛ المؤجر يستحقّ الاجرة لما يقتضيه عقد الإجارة ، لا للإتلاف حتّى يقال بأنّه لم يتحقّق شي‌ء في الخارج من العمل حتّى يصدق أنّ الحابس أتلفه ، فتأمّل!

وأمّا فيما لم يكن للعمل زمان محدود ، بل إنّما استأجره المستأجر لخياطة ثوب ـ مثلا ـ بلا أن يشترطه في زمان خاصّ ، ففيه لا إشكال أنّه بالحبس لا يستحقّ من الاجرة شيئا ؛ لعدم إيجاده العمل المؤجر له ، وعدم انقضاء زمانه أيضا ، والعقد ما وقع على العمل إلّا على نحو الإطلاق ، فهو بعد قادر على تسليم العمل ، وما لم يسلّمه لا يستحقّ الاجرة ، ولا يتملّكه مستقرّا.

وبالجملة ؛ فبالحبس لا تشتغل ذمّة الحابس بشي‌ء ؛ لأنّ اشتغال ذمّته فرع استحقاق المؤجر شيئا ، والمفروض أنّه ما لم يف بالعقد لم يستحقّ شيئا وفي الصورة السابقة إنّما كان ممنوعا عن الوفاء بالعقد ، ولذلك كان يستحقّ الاجرة ،

٥٥٢

ولا فرق في ذلك أيضا بين أن يكون الحابس هو المستأجر أو غيره.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا حكم ما لو حبسه في الصورة السابقة مقدارا من الزمان ، بحيث يتضيّق زمان العمل ويسقط عن العمل مقدار منه لا كلّه ، ففيه تستحقّ من الاجرة مقدار ما حبس بالنسبة إلى مجموع العمل لا كلّها ، وأمّا استحقاقه بقيّتها فموقوف على تسليم العمل بمقدار ما بقي من الوقت وحرمان خيار التبعّض هنا وعدمه ، فيستفاد حكمه من محلّه.

ضمان منافع الدابّة

وفي «الشرائع» : (ولا كذلك لو استأجر دابّة فحبسها بقدر الانتفاع) (١).

بمعنى أنّه ولو كانت الدابّة استأجرت لعمل على الإطلاق ـ أي في غير زمان معيّن ـ إلّا أنّه لو حبسها المستأجر بمقدار زمان العمل الّذي استؤجرت له فيضمن بذلك الحابس الاجرة ومؤجرها يستحقّ الاجرة ، وإن لم يستوف المستأجر منها العمل ، ولو كان زمان الإجارة مطلقا.

والفرق بين ذلك وسابقه ـ أي فيما كان المؤجر حرّا ـ أنّه لمّا لم تكن اليد الواردة على الحرّ يدا مضمّنة فالحرّ بسبب حبسه ـ أي صيرورته محبوسا ـ قد عرفت أنّه لا يستحقّ شيئا ، بخلاف المملوك ، فإنّ اليد الواردة عليه لمّا كانت مضمّنة لنفسه وكذلك لمنافعه تبعا له فعلى ذلك ؛ فالحابس إذا كان يحبس الدابّة الّتي استأجرها لعمل فبسبب الحبس تشتغل ذمّته بمنافعها بمقدار زمان الحبس فيستحقّها صاحب الدابّة ، فلو كان الحابس يستحقّ على صاحبه بمقدار ما يتعلّق

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.

٥٥٣

بذمّته الاجرة لحبسها استيفاء المنافع منها فذمّة صاحب الدابّة مشغولة بأداء تلك المنافع من دابّته ، فتهاترت العهدتان تهاترا قهرا لو كان ما يستحقّ كلّ منهما على الآخر مساويا لما يستحقّه الآخر وإلّا فبالنسبة.

ضمان الخمر وعدمه

الأمر السابع : قال في «الشرائع» : (ولا يضمن الخمر إذا غصبت من مسلم) (١) .. إلى آخره.

اعلم! أنّ صور هذه المسألة أربعة ، لأنّ الغاصب والمغصوب منه إمّا أن يكون كلاهما مسلما أو كلاهما كافرا ، أو يكون الغاصب مسلما والمغصوب منه كافرا ، أو بالعكس.

أمّا الصورة الاولى ؛ فلا إشكال في أنّه لا يستحقّ المغصوب منه شيئا ، لأنّ استحقاقه شيئا من قيمة المغصوب منه أو مثله فرع لكون المغصوب منه ملكا ومالا له حتّى يصدق بسبب أخذه عنه «على اليد» (٢) فيشتغل عهدة الآخذ بما أخذ ، كما عرفت ، وبعد أنّ الشارع قد حرّم جميع منافع الخمر ، بحيث لو كان بقي له منافع تكون من قبيل النادر ، فلا يبقى لها ماليّة لأن يرى ماليّة الشي‌ء باعتبار منافعه ، فإذا لم يفرض للشي‌ء منافع لسلبها الشارع عنه ، فلا يعتبر له ماليّة حتّى يترتّب عليها ما لها من الآثار ، وهذا واضح لا سترة فيه.

مع أنّ المسألة إجماعيّة ؛ إنّما الكلام في الخمر المتّخذة للتخليل ، فظاهر

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٦.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٨٨ الحديث ٢٠٨١٩.

٥٥٤

«الجواهر» ـ بل ادّعى الإجماع ـ أنّ غصبها أيضا لا يوجب الضمان (١).

نقول : إنّ الخمر المتّخذة للتخليل وإن لم يكن لها الآن ماليّة إلّا أنّه باعتبار بقائها وصيرورتها خلًّا لا يبعد الدعوى بأنّ العرف لذلك يعتبر لها الماليّة ، ولا يراها مثل ما ليست لذلك ، بل إنّما أعدّت للخمريّة ، بل لقابليّتها لأن ينتفع منها بعد في زمان قريب يكون كاعتبار العرف الماليّة لمنافع العين الّتي لم توجد تتحقّق تلك المنافع بعد لمالك العين ، وليس ذلك إلّا لأنّه لمّا كانت العين قابلة لأن تبقى وتصير صاحبة تلك المنافع فيرونها كأنّها الآن موجودة ، فكذلك الخمر المتّخذة للتخليل وإن كانت مسلوبة المنافع الآن من جميع الجهات فعلا ، إلّا أنّه لا ريب أنّه إذا كانت قريبة لأن تنقلب وتصير خلًّا مثل نصف الساعة مثلا ، فالعرف يراها الآن باعتبار انقلابها ، مالا وذات منفعة ، وأنّ حكم الشارع بحرمة جميع الانتفاعات عنها فعلا لا يوجب سلب ماليّته مطلقا ، مع كونها كذلك ، وإذا استكشفنا كون العرف مساعدا في اعتبار الماليّة لها في مثل هذا الحال ـ أي ، فيما كان بين حال الخمريّة وانقلابها خلًّا زمان قليل ـ فيستكشف من ذلك اعتبار الماليّة للخمر المعدّة للتخليل ، لأنّ الظاهر عدم خصوصيّة لذلك ، بل المناط التهيّؤ وكونها مادّة قريبة قابلة لأن تصير شيئا ينتفع به ، فيصير لذلك مالا.

وبالجملة ؛ فسلب الماليّة عن مطلق الخمر حتّى المتّخذة للخلّ مشكل جدّا ؛ لعدم المقتضي له ظاهرا ، فالحكم بعدم الضمان مطلقا بعيد.

نعم ، لو تمّ الإجماع المدّعى في المقام على عدمه ـ وإن لم يكن نظر المجمعين في ما نحن فيه وكذلك في البيع إلى ما يزعمون من عدم اعتبار الماليّة

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٤٤.

٥٥٥

لها ، فلذلك لا يجوز بيعها ولا يضمن غاصبها ، بل كان إجماعا تعبّديّا لو تمّت دلالة رواية «تحف العقول» (١) وسندها ؛ يتمّ الحكم بعدم الضمان ، وإلّا فالأولى الحكم بالضمان ، كما لا يخفى ، فتأمّل!

أمّا فيما لو كان المغصوب منه ذميّا والغاصب مسلما ، فهنا بحسب ما تقتضيه القاعدة ـ لما عرفت ـ سلب الماليّة عن الخمر ، بل يجب إراقتها (٢) وإن كان لا بدّ وأن يحكم بعدم الضمان ، إلّا أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في ضمان الغاصب في هذه الصورة ، والعلّة في ذهاب الأصحاب في المسألة إلى خلاف الأصل هي ما ذكروه في باب الجهاد من استفادتهم من آية الجزية المغيّى بقوله تعالى : (حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣) بأنّ محاربة الكفّار ونهب أموالهم إنّما تجب ما دام كونهم محاربين ، وبعد انعدام هذا العنوان عنهم بإعطائهم الجزية والعمل بشرائطها ، فكما يحفظ بذلك دماؤهم وأموالهم كذلك يعامل معهم ودينهم [معاملة] دين الحقّ ، بمعنى أنّ كلّ ما يرونه من شريعتهم ويرون أنّه من أحكامهم مثل أنّهم يستحلّون الانتفاع من الخمر ـ مثلا ـ ولذلك يكون لها عندهم الماليّة ، نحن ملتزمون بأن نعامل معهم بالنسبة إلى أنفسهم في ذلك كلّه كما يعاملون أنفسهم فيما بينهم ، فيترتّب على ذلك الالتزام بالأحكام الوضعيّة على حسب أحكامهم.

ومرجع ذلك يكون إلى أنّ الشارع نزّل أحكامهم الباطلة منزلة الأحكام

__________________

(١) تحف العقول : ٣٣١ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٨٣ الحديث ٢٢٠٤٧.

(٢) ولأنّهم معاقبون على الفروع كما يعاقبون على الأصول ، فالاشتراك في الأحكام التكليفيّة يقتضي الاشتراك في الوضعيّة ، سواء كانت مستتبعة أم لم تكن كذلك ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٣) التوبة (٩) : ٢٩.

٥٥٦

الحقّة في الجملة بالنسبة إلى بعض الامور الدنيويّة ؛ لما تقتضيه السياسة الشرعيّة ، فلذلك لو غصب المسلم خمرا من الذمّي وكذلك الخنزير فهو ضامن.

إنّما الكلام في أنّ جريان قاعدة اليد في المسألة المترتّبة على هذا التنزيل أيّ مقدار يقتضي من ضمان المثل أو القيمة؟ لأنّ الخمر مثليّ وضمان المثلي لا ينقلب إلى القيمة إلّا بعد العجز عن أداء المثل ، فالقاعدة تقتضي الحكم بضمان المثل.

ولكن يشكل الالتزام بذلك من جهة اخرى ، وهي أنّ العهدة تشتغل بما له ماليّة ، والمفروض أن الخمر لا ماليّة لها بالنسبة إلى المسلم.

وبعبارة اخرى : أنّه قد بيّنا أنّه عند وضع اليد على مال الغير اعتبر الشارع لهذا المال وجودا اعتباريّا على يد الغاصب ، بحسب أنّ هذا الوجود الاعتباري على يده باق حتّى يردّ المال بنفسه إلى صاحبه أو مرتبة منه عند تلفه ، ويكون لهذا الوجود الاعتباري إضافة ملكيّة إلى الغاصب ، وإضافة اخرى إلى المالك ، فلو ردّ عين ماله إليه ليس له حقّ بعده بالنسبة [إلى] ذاك الوجود الاعتباري ، ولذلك نقول : إنّ لهذا الوجود من أوّل ؛ إضافة ملكيّة إلى الغاصب ، وبعد أن عرفت أنّه لا اعتبار ملكيّة ولا ماليّة للخمر بالنسبة إلى المسلم ، فكيف يعقل أن يعتبر على يده وجودا اعتباريّا له فيشتغل به ذمّته؟!

فالّذي يسهّل الخطب ؛ هو أنّه لا بدّ أن يلاحظ ذاك الدليل للتنزيل من أنّه أيّ مقدار يقتضي؟ فإذا نزّلت الخمر الّتي لا ماليّة لها منزلة المال لاعتبار الماليّة لها عند الكفّار ؛ بل التنزيل يقتضي اعتبار جميع خصوصيّات الماليّة لها حتّى لو غصبها المسلم يشتغل ذمّته بمثلها ، أم ليس يقتضي ذلك؟ ولا إشكال أنّه لا

٥٥٧

إطلاق ولا عموم لدليل التنزيل حتّى يقتضي ذلك ، بل استفاده الأصحاب من الآية المباركة وغيرها في الجملة (١).

ولمّا يكون الحكم على ما عرفت مخالفا للقاعدة ؛ لأنّ ما ثبت من أصل الشريعة أنّه لا ماليّة للخمر خرجنا عن الأصل لقيام الدليل الخاصّ على اعتبار الماليّة لها بالنسبة إلى الذمّي ، فلا بدّ أن [يكون] بالقدر المتيقّن من الدليل والقدر المتيقّن في المقام هو القيمة.

بمعنى أن يبنى أنّ القدر المتيقّن ممّا اعتبر من الوجود للخمر المغصوبة على اليد اعتبار وجود القيمة لها ، ولا ينافي ذلك ما بنينا عليه ، من أنّ ما يجي‌ء على اليد حين وضعها على مال الغير هو نفس العين ، فاعتبر الشارع وجودها بنفسها على اليد ، لأنّك عرفت أنّ للعين اعتبرت مراتب من الوجود ، فإذا امتنع اعتبار وجود نفسها على اليد لما ظهر من اقتضاء الأصل والدليل الخاصّ أيضا ما اقتضى إلّا اعتبار مرتبة ضعيفة منها ، وهي القيمة ، فلا محيص عن الالتزام بضمان قيمة الخمر المغصوبة من الذميّ لا مثلها ، فيجب ردّ عينها إليه ما دامت باقية ، ـ لعدم انقطاع سلطنته عنها ـ و (٢) قيمتها إن كانت تالفة ، فتأمّل!

وقد ظهر من هذه الصورة حكم ما لو كان الغاصب والمغصوب منه ذمّيّين وتحاكما عندنا.

وأمّا الصورة الرابعة ؛ وهو ما لو كان المغصوب منه مسلما والغاصب ذمّيّا وإن كان ـ دام ظلّه ـ أجرى دليلا فيها أيضا ، بمعنى أنّه أفاد ـ دام ظلّه ـ بأنّ الذمّي

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) كذا ، والأصحّ : أو.

٥٥٨

لمّا غصب من المسلم ما هو مال عنده ، والشارع أيضا أمضى واعتبر ماليّته ونزّل الخمر عندهم منزلة المال ، فلذلك يلزم بضمانه للمسلم لأخذه منه ما يعتقده مالا له ، فيجري عليه قاعدة اليد ، إلّا أنّه لا إشكال هنا في ضمانه القيمة دون المثل.

والأمر في هذه الصورة أوضح من الثانية من هذه الجهة ، لأنّ ارتفاع ضمان الغاصب إنّما يكون بأداء ما غصب إلى المالك وقبضه إيّاه دون التخلية فقط ، كما أشرنا سابقا ، والمفروض أنّ الخمر لا تصير مقبوضا للمسلم ولا تجي‌ء تحت يده ، ولا تتعلّق بها سلطنته لعدم كونها مالا بالنسبة إليه.

أقول : ولا يخلو ما أفاده ـ مدّ ظلّه ـ من النظر الواضح ، لأنّه مضافا إلى كون ما أفاده مخالفا للإجماع ، لأنّه لا خلاف ظاهرا في عدم تعلّق الضمان بالخمر مطلقا إذا كان المغصوب منه مسلما ، أنّ التنزيل إنّما يفيد في اعتبار الماليّة بالنسبة إلى المغصوب منه لا الغاصب ، بمعنى أنّ تنزيل ما ليس بمال للمسلم مالا للذّمي كيف يثمر بالنسبة إلى المسلم الّذي هو المأخوذ منه؟ والتنزيل عند الغاصب أيّ ربط له بالمغصوب منه؟ والموجب للضمان إنّما يكون إذا كان المغصوب مالا حقيقيّا له ، أو تنزيليّا عنده ، كما لا يخفى ، ويؤيّد ذلك ما أفاده أخيرا من عدم صحّة قبض الخمر لو كان القابض مسلما ، فافهم!

المباشرة والتسبيب

الجهة الثانية من البحث : في سائر موجبات الضمان سوى اليد وعنوان الغصبيّة.

الأوّل منها : مباشرة الإتلاف ، وإن لم يكن المتلف تحت اليد.

٥٥٩

الثاني : التسبيب ، والكلام فيه يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّه لا إشكال في أنّه ما وقع عنوان السبب أو المباشر في حديث ولا نصّ من أخبار الباب ، وكذلك ما ورد نصّ خاصّ يدلّ على القاعدة المعروفة ، وهي : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (١) بمعنى أن يكون متكفّلا لذكر القاعدة بألفاظها ، بل أشرنا سابقا بأنّ هذه إنّما وقعت في معاقد الإجماعات واستفادها الأصحاب من الموارد الخاصّة الواردة فيها النصوص الّتي تستخرج منها بالمناط القطعي هذه القاعدة ؛ وإن كان قد يصدق عنوان الإتلاف في بعض الموارد لمساعدة العرف ، وإن لم ينطبق على ما ورد فيه النصّ ، كما سنشير إليه.

وكيف كان ؛ ليس الإتلاف موضوعا شرعيّا وعنوانا معبّرا به في لسان الشريعة ، حتّى نبحث عن معناه ، لكونه من العرف الخاصّ ، وكذلك ليس للفظ السبب أيضا معنى اصطلاحيّا شرعيّا حتّى ندور مداره ، وأنّ ما ورد في لسان الأخبار عناوين خاصّة أو عامّة قد تنطبق على هذه العناوين اللغويّة والعرفيّة ، وقد لا تنطبق ، فإنّ ما ورد في الأخبار الّتي ذكرها في «الجواهر» عند تنقيح هذا البحث (٢) هو أنّ :

منها ؛ قوله عليه‌السلام : «من أضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن» (٣).

ومنها ؛ صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أخرج ميزابا أو كنيفا ، أو أوتد وتدا ، أو أوثق دابّة ، أو حفر شيئا في طريق

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠ ، انظر! القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٤٦.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٩ / ٢٤١ الحديث ٣٥٥٤٠.

٥٦٠