الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

مصداق المصرف في أمثال هذه المقامات فيستكشف منه إلقاء الخصوصيّة ، وأنّه لا يجب رعايتها.

ولكنّ الكلام في الاستظهار المذكور أوّلا في نفس موردها ، وثانيا في جواز التعدّي عنه ، حيث أنّ الخبر الأوّل (١) فيما لو كان أحد وجوه الوصيّة معلوما والجهل بالنسبة إلى الوجوه الاخر ، لا فيما لم يكن أصل المصرف معلوما كما هو محلّ الكلام.

فحينئذ يمكن أن يقال بالنسبة إلى الوجوه الاخر : لمّا كان من باب دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر وهو مطلق البرّ أو برّ خاصّ ، فالإمام عليه‌السلام حكم بمقتضى القاعدة على الأخذ بالأقلّ المتيقّن فتأمّل! فإنّ الرواية مطلقة ولا اختصاص لها بهذه الصورة ، بل تشمل ما يكون الحكم المذكور فيه مخالفا للقاعدة حيث مقتضاها في المتباينين القرعة.

وأمّا الثاني : يمكن أن يكون الإمام عليه‌السلام لمّا استكشف اشتغال ذمّة الموصي بمظالم العباد فأمر عليه‌السلام بالتصدّق عنه لذلك ، وإلّا فمقتضى القاعدة صيرورة المال للورثة إذا لم يف بموصى له ، إلّا ان يقال : إنّ هذا المعنى خلاف ظاهر إطلاق الحديث فلا بدّ من حمله على الحكم بتعدّد المطلوب من جهة أنّ باب الوصيّة لمّا كان من قبيل الوقف ومقتضى طبعها الخروج القطعي عن ملك الموصي فإذا لم يف بالموصى به فيصرف في محلّ آخر عيّنه الإمام عليه‌السلام ، فحينئذ يمكن أن يصير دليلا لما نحن فيه ، ولكن بعد مجال التأمّل واسع والله العالم.

__________________

(١) على الترتيب المذكور في الجواهر : (٢٨ / ٤٦) ، «منه رحمه‌الله».

٣٠١

الفرع الثاني :

في «الشرائع» : ولو وقف على وجوه البرّ واطلق ، صرف في الفقراء والمساكين (١) .. إلى آخره.

لا يخفى : أنّ فيه من البحث جهات : الاولى : أنّه هل البرّ يعمّ مطلق الفعل ولو كان مباحا ، أو لا بدّ فيه من وجود الرّجحان ، ثم بناء على اعتبار الرّجحان هل يعمّ الرجحان المقدمي ، أو الّذي يلزم الرجحان بما يكون ذاتا كذلك.

ثمّ إنّه في الراجح ؛ هل يعتبر أن يكون قريبا أم لا؟ وتكون جهات اخر تظهر في طيّ البحث فنقول بعونه تعالى : أمّا الكلام في الجهة الاولى فيمكن الدعوى قريبا بأنّ لفظ «البرّ» المرادف للخير منصرف إلى الفعل الّذي فيه جهة رجحان ولا يعمّ المباح.

وبعبارة اخرى : أنّ ظاهره يأبى شمول ما ليس مبغوضا فقط ، بل البرّ يطلق على ما يكون مضافا عليه راجحا ومحبوبا ، كما أنّ الظاهر خروج القسم الثالث عن عنوان البرّ وهو الملازم ، مثل أن يعطى مال من يترك الصلاة الملازم اتّفاقا إيجادها فعلا واجبا ، مثل «الإزالة» فالبرّ منصرف عن مثل هذا الإعطاء أي في مقابل ترك الصلاة مع كونه حراما ذاتا ، وذلك لعدم سراية العنوان عن الملازم إلى الملازم.

فيبقى الكلام بالنسبة إلى القسم المتوسط ، فهل يصدق البرّ على الأفعال المقدميّة أم لا؟ كمن يعطي المال إلى الحاكم الجائر ليسلم من ضرره على نفسه أو عرضه ، وهذا على قسمين :

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٥.

٣٠٢

فتارة ؛ يقصد بالإعطاء التوصّل به إلى ذي المقدمة الّذي هو الرّاجح بحيث يجعله نفسه وجهة لعمله ، ولا يجعل المقدمة إلّا طريقا للوصول إليه ؛ فهذا لا إشكال فيه وملحق بالأوّل ، حيث إنّ المفروض أنّ المقصود في نفسه راجح ذاتا فعلا.

واخرى : يقصد عنوان نفس المقدّمة ، كما إذا لم يجعل في المثال قصده متوجّها إلى ذي المقدّمة ولو كان يعلم أنّ من فوائده سلامة نفسه وعرضه عن شرّ المعطى عليه قهرا ، فهنا يشكل شمول البرّ لهذا الفعل من حيث دعوى انصرافه إلى غيره ، ولكن لا يبعد الشمول ، إذ ترتّب ذي المقدّمة الّذي حسن بل راجح في نفسه قهريّ ، فالمقدّمة أيضا يصير محسّنا ، غايته أنّ حسنه غيريّ لا نفسي ، ولا سبيل إلى دعوى انصراف اللفظ إلى الثاني.

نعم ؛ بناء على اعتبار القربة حينئذ قد يستشكل كما في كلّ عبادة وعمل قربيّ ذات مقدمة فينكر الإجزاء بقصد القربة بالنسبة إلى المقدمة ، بل صيرورته قريبا يتوقّف على قصد التقرّب في نفس ذي المقدمة ، نظرا إلى أنّ الإطاعة لمّا كانت من المطاوعة التي هي عبارة عن جعل العبد إرادته مطاوعا وتبعا لإرادة المولى ؛ فلا بدّ من حفظ جهة المشابهة والمماثلة بين الإرادتين ، فحينئذ لا يبقى المجال لقصد التقرّب بالنسبة إلى المقدّمة ، إذ المفروض عدم تعلّق إرادة المولى بها إلّا تبعيّا ، وجعله وصلة لذي المقدمة التي هي عباديّ ، فلا معنى لجعلها العبد مرادا مستقلّا بحيث يتقرّب بنفسها.

ولكن نحن لمّا أبطلنا هذا الأساس في محلّه ، حيث إنّ الأحكام والإرادات مطلقا كلّها مرجعها إلى المقدميّة الّتي هي استراحة النفس في هذه النشأة أو

٣٠٣

النشأتين ، فحينئذ يلزم عدم جواز قصد التقرّب بجلّ العبادات وغيرها على التفصيل المذكور في محلّه ، فنحن في سعة عن هذه الجهة ، فيبقى الإشكال في الانصراف المذكور ولا يبعد إنكاره فتأمّل! فالظاهر ؛ أنّه لا ربط لهذا الإشكال إلّا بالمقام.

وأمّا الجهة الثالثة وهي : أنّه لا بدّ أن يتقرّب الصارف والمباشر في عمله أم لا ، بل يكفي الرجحان الذاتي للمصرف؟ إثبات اعتبار ذلك يتوقّف على الاستظهار من كلام الواقف أنّه قصد الحسن الفاعلي للفعل ، وهذا لمّا يتوقّف على إتيان الفعل لحسنه ، وإلّا فمطلق صدور الفعل الحسن عن الشخص لا يتّصف موجده بالحسن ، بل هو موقوف على قصده إصدار الفعل كذلك ؛ فلا بدّ أن يتقرّب فيه الفاعل ، وأمّا نفس عنوان البرّ والفعل الخير فلا يتوقّف على ما ذكر كما لا يخفى ، فإن تمّ الاستظهار المزبور فلا بدّ منه وإلّا فلا ، والله العالم.

الفرع الثالث :

في «الشرائع» : وكذا لو وقف على غير معيّن كأن يقول على أحد هذين إلى آخر (١) أي يبطل.

وهذا يمكن على أقسام : فتارة يقصد أحدهما معيّنا ولكنّ الصيغة يجريها كذلك ، وهذا لا مانع عن صحّته ، غايته أنّه لو بقي على الجهالة للتالي ينتهي الأمر إلى القرعة للتّعيين ، والقابل في هذه الصّورة هو الوليّ في الأوقاف العامّة ، أو على غير البالغ ، وأحد الطرفين أصالة ونيابة في الأوقاف الخاصّة لمن هو الموقوف عليه واقعا ، أو يقبل كلاهما رجاء.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٦.

٣٠٤

وكيف كان ؛ لا إشكال في المسألة من هذه الجهة وإنّما الكلام من حيث الترديد المفروض عدمه واقعا ، وإنّما يكون الترديد صورة وهو لا يضرّ شيئا ، والإجماع المدّعى على البطلان في الصورة الآتية لا يكون هنا ، فتأمّل!

واخرى : لا يقصد المعيّن أصلا بل يجعل الوقف على الأحد بعنوانه الفردي ، بحيث يكون قابلا للانطباق على كليهما ، ولكن لا من جهة كونهما تحت الجنس ، لأنّه لم يقصد جنس «الأحد» ، بل اريد النكرة المعبّر عنها بالفرد المنتشر ، فحينئذ الانطباق على كلّ منهما إنّما هو من جهة كونه إحدى الخصوصيّتين المرادة على سبيل البدل ، فهنا الظاهر قيام الإجماع على البطلان.

وأمّا ما ذكر من الوجه من أنّ الوقف عرض فلا بدّ له من جوهر معيّن ، يرد عليه فلا يتمّ ، بل هو من قبيل الاستحسانات ، والنكتة بعد الوقوع ـ حيث إنّها أوضحت في محلّها ـ أنّ حال عناوين العقود والإيقاعات حال الوجوب ، فكما أنّه يمكن فيه الترديد في متعلّقه فهكذا فيها ، ولذلك ورد في الشرع كثيرا كما في نكاح إحدى المرأتين ، أو طلاق إحدى الزّوجتين (١) ، أو الوصية بعتق أحد العبدين (٢) بل في العتق التخييري ـ على ما حكي أيضا ـ ورد (٣) ، وكما في بيع الصبرة (٤) حسبما نشير إليه وغير ذلك من الموارد ، مع أنّه لو لم يكن معقولا لا معنى لوقوعها في الشرع فتأمّل!

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٢٥ / ١٨١ ، وسائل الشيعة : ٢٠ / ٢٩٧ الباب ٢٠ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد و ٢٢ / ٣٧ الباب ١٥ من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٤٠٨ الباب ٧٥ من كتاب الوصايا.

(٣) جواهر الكلام : ٣٤ / ١٢٥ ، وسائل الشيعة : ٢٣ / ٩٣ الحديث ٢٩١٧٧.

(٤) جواهر الكلام : ٢٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٥٤ الباب ١٢ من أبواب عقد البيع.

٣٠٥

وثالثة يقصد الأحد بعنوان الجنس بأن يكون الأحد محدّدا للموقوف عليه لا أن يكون عنوانا له كما في النّكرة.

وبعبارة اخرى : الفرق بين الصورة السابقة وهذه الصورة هو الفرق بين مطلق الجنس والنكرة ، من أنّ الخصوصيّة داخلة فيها بخلاف الجنس ، فلا يراد منه إلّا الطبيعة الصرفة ، ولذلك في موارد التكليف في النكرة لو قصد الخصوصيّة يتحقّق الامتثال ولا تشريع ، بخلاف ما لو كان المكلّف به الجنس ، فقصد الخصوصيّة تشريع موجب لبطلان العمل.

وكيف كان ؛ الأحد إمّا أن يعتبر لا بشرط ، وإما بشرط [لا] بحيث يكون لو انضم إليه آخر لا ينقلب العنوان أو ينقلب ، كما في بيع الصبرة حيث أنّ بيع صاع منها لمّا كان اعتبر بشرط لا ، فذلك لو سلّم إلى المشتري صيعانا لا يتملّك إلّا أحدها ، مع أنّه لو كان لا بشرط لا بد أن يتملّك جميعها ، حيث إنّ الواحد الجنسي في جميعها محفوظ.

وبالجملة ؛ لا ينبغي التأمّل في الصحّة في هذه الصّورة مطلقا كما سلّمه في «الجواهر» (١) أيضا ، لعدم قيام الإجماع المحقّق في الصورة السابقة هنا ، والإمكان العقلي قد عرفته فيها ، فهنا بطريق الأولى كما لا يخفى.

الرابع : لو وقف على من كان قريبا إليه من الناس ، لا إشكال أنّه يشمل إلى الطبقة الرابعة من الأقارب ، أي من كانت الواسطة بينه وبين الواقف ثلاثة ، كما لو كان من أولاد حفيدة عمّه ، وإنّما الكلام في الطبقة الخامسة ، حيث إنّ الإشكال في شمول العنوان لها عرفا ، ويكفي في الحكم بالعدم الشك في شمول اللفظ ،

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٩.

٣٠٦

لأصالة عدم الوقف على الزائد عن المتيقّن كما تقدم تنقيح هذا الأصل.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى غير الأولاد والآباء ، فيشمل لفظ القريب لها ولو تحقّق مائة واسطة ، كما هو واضح.

الخامس : ولو وقف على أقرب النّاس إليه ففيه جهتان من الإشكال : الأولى : أنّ المناط هو الأقرب حال الوقف أو مطلقا ، فإن كان الأوّل فحينئذ يقع الوقف بالنسبة إلى من كان موجودا منهم حال الوقف على الترتيب في باب الإرث ، فإذا انقرضوا فيصير الوقف حاله حال منقطع الآخر ولا ينتقل إلى الأقرب بعدهم ، إذ المفروض اعتباره كذلك ، والوقوف على حسب ما يوقفها أهلها.

نعم ؛ لو كان الملحوظ الأقرب مطلقا فحينئذ عند الفرائض ؛ كلّ طبقة ينتقل إلى من هو الأقرب بعدهم ، فعلى هذا لو كان شاهد أو قرينة يدلّ على الثاني فيؤخذ بها ، ولو لم يكن وشكّ فمقتضى الأصل الحكم بالأوّل كما عرفت.

الثانية : هل يلزم مراعاة الوصف التفصيلي مطلقا بحيث لا يصرف الوقف على الطبقة الأخيرة التي ليس بعدها قريب ، بل كليّا يحفظ طبقة ؛ بعد من يصرف فيهم حتّى يتحقّق معنى الأقربيّة الفعليّة ، أو لا يلزم ذلك ، بل ولو لم يكن إلّا طبقة واحدة ولو كانت أخيرة [يكون] ؛ الوقف لهم؟ وهذا نظير الأكبر المعتبر في مستحقّ الحبوة ، وكذلك الأعلم في التقليد مثلا ، فوقع الإشكال فيهما أيضا ، ومنشأ الكلّ أنّ المراد بالوصف التفصيلي في هذه المقامات الأفضليّة الفعليّة ، أو المراد عدم وجود من هو أكبر ، أو أعلم أو أقرب ، لا أنّ الوصف مناط مطلقا.

لا خفاء ؛ أنّ الجمود على ظاهر اللفظ يقتضي الأوّل ، ولكن لمّا كان الارتكاز العرفي على الثاني ، حيث إنّه معلوم أنّ المراد أنّه ما دام الأفضل والأكبر

٣٠٧

في الأولاد ، أو الأعلم في مسألة التقليد موجودا لا يعطى الحبوة ولا يرجع في التقليد إلى غيره ، فلذلك لا بدّ من العدول عمّا يقتضيه الظاهر ، فهكذا هنا حيث أنّ المتبادر أنّه ما يكون الأقرب لا يعطى الوقف إلى غيرهم كما لا يخفى.

بقي شي‌ء وهو : أنّه هل المناط في الأقرب مطلقا ما هو المناط في باب الإرث ، بحيث لا يلاحظ معنى العرفي له أصلا بل المتبع ما عيّنه الشارع؟ أمّا فيما لا اختلاف بينهما كما هو الأغلب فإنّ في المتقرّب بالأبوين وتقديمه على المتقرّب من أحدهما ، كما أنّ الشرع قدّمه وجعله أقرب ، والعرف يساعده أيضا ، فلا بحث ، وإنّما الإشكال فيما لا يساعد كما في ابن عم الأبوين ـ مثلا ـ على العمّ الأبي فإنّ الظاهر أنّ العرف فيه يقدّم العمّ.

فقد يتوهّم ؛ أنّ الوجهين مبنيّان على أنّ تقديم الشارع وتصرّفه في أمثاله هل يكون من باب التعبّد أو تعيين للمصداق وإخبار عن الواقع ، حيث إنّ مفهوم الأقرب لمّا كان له واقع فالشارع بقوله : (أُولُوا الْأَرْحامِ) (١) وغيره كشف عن الواقع وأخبر عن معنى الحقيقي للفظ؟

فعلى الأوّل : فلا مجال للتعدّي ولا محيص عن الوقوف على مورد النصّ كما هو الأصل في مطلق باب التعبّدات ، بخلاف الثاني فلمّا يصير عليه بيان الشارع ضابطا كليّا فيكون المناط مطلقا ما عيّنه من الأقرب.

ولكن تقدّم منّا ؛ أنّ هذا يتمّ بناء على أن يكون ما في نظر الواقف من المعنى العرفي للفظ من باب الشبهة في المصداق والخطأ في التطبيق ، بحيث ما أراد من لفظ الأقرب إلّا ماله من المعنى الواقعي ، غايته أنّه خطأ طبّقه على ما يراه

__________________

(١) الأنفال (٨) : ٧٥.

٣٠٨

مصداقا ، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان من باب الخطأ في حدّ مفهوم اللفظ ـ كما هو الحال في أمثال المقامات ـ فالبيان الشرعي أيضا لا يوجد لصرف اللفظ عمّا هو الظاهر فيه بزعم المستعمل إلى المعنى الشرعي ، بل يكون حاله حينئذ حال ما لو كان ما قرّره الشارع من الأعمال تعبّديا فعلى هذا ، التفصيل المذكور لا ينفع بالنسبة إلى أمثال المقام بل المتّبع مطلقا منظور العامّة ومقصود الواقف يكون صحيحا ، والله العالم.

السادس : لو كان لفظ «الوقف» إنّه : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، هل تقتضي ظاهر هذه العبارة التشريك أو الترتيب؟ الّذي أفتى به جماعة من الأساطين ممّن عاصرناهم هو الأوّل (١) ، وهو الأقوى وذلك بوجهين :

أمّا أوّلا : فلأنّ الأمر دائر بين أن تكون عبارة الذيل وهي قوله : (نسلا بعد نسل) قيدا للأولاد ، أو لكلمة «وقفت» ، فعلى الأوّل الّذي مقتضاه التشريك ، حيث إنّه حينئذ يصير بيانا للأولاد ، والمراد بها جميع الطبقات ، يلزم تقييده فقط ، ويبقى جملة «وقفت» على إطلاقها ، ولا يلزم فيه تقييد إذ بإنشاء واحد أوقع الوقف على الجميع ، بخلاف ما لو حملناه على الترتيب فلا محيص حينئذ عن جعل القيد قيدا لوقفت ، بحيث يكون الوقف على كلّ طبقة من الأولاد مترتّبا على الطبقة السابقة ، وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون إنشاؤه مترتّبا ، وهذا يلزم تقييد لفظة الأولاد أيضا وحملها على الترتيب ، فكما أنّ الإنشاء لا يعقل أن يتعلّق بالطّبقات المتعاقبة على نسق واحد ، فهكذا لفظ الأولاد قهرا يقيّد ، ولا يمكن إرادة المجموع منه فحينئذ يصير المقام من قبيل دوران الأمر بين تقييد الهيئة

__________________

(١) انظر! الحدائق الناظرة : ٢٢ / ١٧٢ و ١٧٣.

٣٠٩

حتّى يلزم تقييدان ، أو المادّة فقط حتّى لا يكون إلّا تقييدها ، ومن المعلوم ؛ أنّ الثاني مقدّم ، فكذلك هنا يتعيّن الأوّل المستلزم للتشريك كما عرفت.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا إشكال في أنّ لازم الترتيب إرادة إنشائيّات متعدّدة على نحو الإجمال من «وقفت» بحيث يكون بالنسبة إلى الطبقة الاولى الموجودين [حال] الإنشاء منجّزا ، وبالنسبة إلى الطبقات اللّاحقة معلّقا ، كلّ طبقة على انقراض الاخرى ، غايته أنّ هذا التعليق لمّا كان متعيّنا لا يضرّ ، وقد تقدّم شرح ذلك.

وأمّا التشريك ؛ فليس لازمه إلّا الإنشاء والتمليك ، الواحد بالنسبة إلى جميع الطبقات ، لأجل أنّ المفروض عدم اعتبار الترتيب بين الموقوف عليهم ، بل يكون حينئذ كلّما يوجد من أشخاصهم ينبسط الوقف ويتحقّق الموضوع للتملّك ، فعلى هذا ؛ يصير من باب دوران الأمر بين التنجيز والتّعليق ولا ريب في أنّ الأوّل متعيّن.

هذا ؛ بناء على التحقيق من كون الوقف من قبيل الملكيّة وأنّه من الامور القارّة والمالك له يختلف ويتعدّد بالنسبة إلى اختلاف الزمان حسب اعتبار الواقف ، كما اعتبر الشارع مثله في الإرث أو عدم كون الوقف تمليكا رأسا بل إيقاف.

وأمّا بناء على أنّ الوقف تمليك والملكيّة من الامور التدريجيّة وإن كان لا يلزم التّعليق حينئذ حتّى بالنسبة إلى الطبقات اللّاحقة ، بل يكون نظير المنافع التدريجيّة التي يتملّك كلّ أحد منفعة زمان ، ويمكن تمليكها بإنشاء واحد يتجزّى إلى الطبقات اللّاحقة ، إلّا أنّه تقدّم فساد هذا المبنى ، والله العالم.

٣١٠

شرائط الوقف

المبحث الخامس : في شرائط الوقف :

الأوّل : التأبيد وهو بمعنيين : أحدهما التأبيد باعتبار دوام العين بأن لا يؤقّته ما دام العين باقية ، بل يطلق على طبيعتها ، والآخر باعتبار الموقوف عليه بأن لا يقيّد الوقف على طبقة إذا انقرضوا لم يعلم حال الوقف بعده.

وبعبارة اخرى : عدم اختصاص الوقف بالطبقة التي تنقرض ، وهذا يقع الكلام فيه في الفرع الآتي ، والكلام الآن في القسم الأوّل وله صور :

فتارة ؛ يعبّر بلفظ الوقف ويؤقّته قصدا وإنشاء ، واخرى يؤقّته لفظا لا قصدا ، وثالثة : بالعكس ، ورابعة : يعبّر بلفظ الحبس ويقصد به الوقف ولا يؤقّت ، وخامسة : يؤقّت ، وسادسة : يعبّر بلفظ الحبس ولا يؤقّت.

أمّا الصورة الاولى ؛ فيمكن أن يقال : قدر المتيقّن من معاقد الإجماعات بطلانه كما يقول : وقفت الدّار الفلانيّة إلى خمسين سنة ، بحيث يقصد في عالم إنشائه وقصده أيضا هذا المعنى ، فإنّ المستظهر من الكلمات كافة بحيث لم يكن خلاف أصلا ، أو كان ولا يعتدّ به ، أنّ في هذه الصورة لا يقع وقفا ولا حبسا ، حيث أنّ المفروض عدم قصده إلّا الوقف الّذي لمضادّته ذاتا مع التوقيت لا يقع ، وأمّا الحبس فما قصده رأسا.

ثمّ إنّ الّذي يستفاد من الإجماع في هذه الصورة مضادّة حقيقة الوقف للتّوقيت ، وأمّا الصورة النافية فقد يتبادر في النظر صحّتها من جهة عدم دخولها في معقد الإجماع المزبور ، حيث إنّ المتيقّن منه ما تكون الامور الثلاثة مجتمعة ،

٣١١

والمفروض هنا فقد القصد الّذي هو أهمّها ، وإنّما عبّر بالتوقيت من جهة غفلة أو خطأ ونحوهما ، فغايته أنّه يصير هذا القيد لغوا لا يؤثّر شيئا.

ولكنّ التحقيق بطلانها أيضا من جهة دخولها في كبرى إجماع آخر ، وهو أنّه لا بدّ وأن يكون العقد بألفاظ صريحة بحيث يعلم المخاطب بما خوطب به ، ومعلوم ؛ أنّ لفظ الصريح في باب الوقف هو أن لا يكون مقيّدا بالزمان ، فلو اقرن به يوجب ذلك قلب ظهور اللفظ فلم يعلم المخاطب بم خوطب من جهة المعنى المراد من الإنشاء ، فلو لم تتمّ هذه الجهة فالإنصاف أنّه لا إطلاق للإجماع المزبور حتّى يشمل هذه الصورة.

وأمّا الصورة الثالثة : فالظّاهر فيها الفساد أيضا ، نظرا إلى أنّ المفروض عدم قصد الوقف إلّا مؤقّتا وهو يضادّ ذات الوقف ، فحينئذ لو حملناه على الصحّة من جهة الإطلاق لفظا ، مع أنّ العقد تابع للقصد فيكون من باب ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

نعم ؛ لا يبعد أن تكون هذه المسألة من قبيل ما هو المتسالم عندهم ظاهرا في باب النّكاح ، من أنّه لو نسي الأجل ينقلب دائما ، بحيث لو قلنا أنّها تتمّ على القاعدة وليست تعبديّا محضا ، فيمكن أن يقول به هنا ، ونحن قد بنينا في تلك المسألة على القاعدة نظرا إلى أنّ النكاح الدائم والمنقطع ليسا حقيقتين متباينتين ، بل الجامع بينهما حقيقة واحدة وهي العلقة الزوجيّة ، فلو اقترنت بالأجل يتحقّق فرد منه وهو المنقطع ، وإلّا فعلى مقتضى طبعها باقية ، حيث أنّ الزّوجيّة من قبيل الملكيّة التي مقتضى طبعها البقاء ، بحيث لا يزول إلّا بقسر القاسر كالحجر الموضوع على الأرض ، وليست قوامها بالقصد حتّى لو لم يقصد

٣١٢

الدّوام فلا توجد ، فحينئذ القدر المتيقّن من الأدلّة التي ثبت ، هو كون الإنشاء اللّفظي قابلا لأن يمنع عن تأثير ملك العلقة على مقتضى ذاتها ونشكّ في أنّ القصد قابل لأن يمنع عنها أم لا ، فالأصل عدمه.

فعلى هذا الأساس ؛ بعونه تعالى قد أتممنا تلك المسألة وحقّقنا أنّه ليس مبناها الإجماع التعبّدي فهنا أيضا نقول بمثله من جهة أنّ طبع الوقف يقتضي الدّوام ، بحيث يكفي في تحقّقه ـ كالنكاح ـ القصد لأصل حقيقته ، ونشكّ في أنّ قصد التوقيت يمنع عن تحقّقها ، فمقتضى الأصل الحكم بعدمه.

وأمّا الإجماع المزبور فقد عرفت أنّ المتيقّن منه هو ما لو كان الزّمان داخلا في حيّز الإنشاء لفظا ، فحينئذ ليس شيئا ظاهرا يقتضي بطلان هذه الصّورة.

هذا ، ولكنّه لا خفاء في الفرق بين المقام وباب النّكاح من جهة أنّ فيه ثبت اتّحاد نوعين منه ، وأنّ حقيقتهما فاردة ولا يميّز بينهما إلّا بالحدّ كالخطّ القصير والطويل ، بخلاف مسألة الوقف حيث لم يثبت له إلّا نوع واحد وهو المؤبّد ، وأمّا الجامع بينه والمؤقّت فلم نحرزه ، بل أحرزنا خلافه ، وأنّ المؤقّت منه باطل ، فحينئذ لا يبقى المجال لمقايسة ما نحن فيه بمسألة النكاح ، لأنّ المفروض أنّه لم يقصد إلّا الباطل منه ، الغير القابل للانطباق على حقيقته ، فالحق في هذه الصورة ما عليه المشهور.

نعم ؛ هل يمكن الإلزام بوقوعه حبسا في هذه الصورة أو السابقة بعد بطلان احتمال وقوعها وقفا أم لا؟ قد يحتمل ذلك نظرا إلى أنّ الوقف قوام حقيقته بأمرين ؛ الإخراج والتحبيس ، فليس أمرا بسيطا محضا ، فإذا بني على عدم تحقّق جهة إخراجه لفقد شرطه فلا مانع للحكم بتحقق الجهة الاخرى وهو

٣١٣

التحبيس ، نظير ما يقال في الأمر : أنّ بنسخ مرتبة خاصّة من الطلب لا يرتفع جميع مراتبه.

هذا ؛ ولكنّه مبني على إحراز تعدّد المطلوب في تلك الموارد وهو في غاية الإشكال كما لا يخفى ، ويتمسّك لذلك بصحيحي ابن مهزيار (١) وابن الصفّار (٢) ، مع أنّه لا دلالة لهما على ما ادّعي أصلا.

أمّا الأوّل ؛ قلت : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكلّ وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام فكتب عليه‌السلام : «هكذا هو عندي» (٣).

فهو مجمل لا دلالة له ، وإنّما يشرحه الصحيح الآخر ، مع أنّه لو كان المراد التمسّك بجزء الأوّل منه بحمل المؤقّت فيه على المؤقّت بالمعنى المزبور ، فما معنى الجزء الأخير منه؟ وعليه لا محيص عن حمل غير المؤقّت فيه على المؤبّد ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام ببطلانه وهو فاسد ، بل لا سبيل إلى هذا المعنى بالضرورة.

فحينئذ ؛ لا بدّ أن يرجع في تفسيره إلى الصّحيح الآخر ، وهو عن [ابن] الصفّار.

قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير مؤقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان مؤقّتا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٤.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٥.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٤.

٣١٤

فهو صحيح ممضي ، وقال قوم : أنّ المؤقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، قال : وقال آخرون : هو مؤقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والّذي هو غير مؤقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الّذي يبطل؟ فوقّع عليه‌السلام «الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، إن شاء الله» (١).

مع أنّك ترى لا مساس لهذه الرّواية ولا تعرّض فيها للمؤقّت بمعنى توقيت الوقف زمانا كما هو محلّ البحث ، هل هو بمعنى آخر الّذي يثمر في المسألة الآتية التي هي معركة آراء ، فمنها أيضا ؛ يظهر المراد من الصحيح الأوّل الذي لا ربط له بما نحن فيه كما سمعت فتأمّل! واستقم! والله العالم.

وأمّا الصورة الرابعة : فهو مبنيّ على مسألة اعتبار الصراحة في ألفاظ العقود في نفسها لا بالقرائن ، فإن قلنا أنّها تصير صريحة في الوقف فيقع العقد وقفا ، وإلّا فلا ، ومن غير هذه الجهة لا إشكال فيها كما لا يخفى.

وأمّا [الصورة] الخامسة : فباطلة لأنّه مضافا إلى جريان المانع المزبور فيه قد عرفت أنّه في حدّ نفسه ليس قابلا لأن يقع وقفا إجماعا ولا حبسا ، لكون المفروض إرادة معنى الوقف المباين معه ولا جامع لهما.

وأمّا [الصورة] السادسة : فأيضا باطلة كما يظهر من السابقة ، نعم لو أراد معنى الحبس فيها لا الوقف يمكن البناء على صحّته حبسا إن لم يعتبر التّوقيت في حقيقته ، فتأمّل جيدا! والله الهادي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٢ الحديث ٢٤٤١٥.

٣١٥

الثاني من شرائط الوقف ؛ عدم التعليق ؛ وهذا شرط معتبر في مطلق العقود ، ولكن ليس وجهه عدم إمكانه عقلا كما تقدّم منّا بطلان توهّمه ، لعدم كون أسباب العقود مؤثّرات خارجيّة ، بل هي امور اعتباريّة تأثيرها تابع لكيفيّة اعتبارها ، وإنّما الدّليل عليه الإجماع كما اعترف شيخنا قدس‌سره به (١).

ثمّ إنّ التعليق على أقسام ثلاثة : أحدها : ما لو كان المعلّق عليه أمرا محقق الوقوع.

ثانيها : ما كان مقطوعا عدم تحقّقه فعلا وإن كان يحتمل وقوعه بعد.

ثالثها : ما كان مشكوك الوقوع.

أمّا القسم الأوّل : فالظاهر أنّه لا إشكال في خروجه عن معقد الإجماع كما أنّه لا إشكال في دخول الثاني أي ما كان عدم تحقّقه فعلا مقطوعا به ، فإنّه القدر المتيقّن من مقصد الإجماع.

وإنّما الكلام في القسم الأخير والتعليق على الأمر المشكوك على صور ، فقد يعلّق نفس الإنشاء ، بأن يكون المعلّق على مجي‌ء الحاجّ مثلا الإرادة ، بحيث صارت هي منوطة ، وقد يعلّق المنشأ بأن تكون الإرادة مطلقا كما في تعليق الوقف على مجيئهم ، فيفرض أن يكون إنشاء الوقف فعليّا ، وإنّما علّق ظرف تحقّقه على الشرط ، وقد لا يكون أحد الأمرين بل يجعل المعلّق عليه داعيا على عمله ، وهذا نظيره في مسألة قصد المسافة قد تصوّرناه.

فتارة ؛ يجعل قصد سفره معلّقا على سفر زيد ، واخرى يجعله داعيا وعلّة لسفر نفسه.

__________________

(١) المكاسب : ٣ / ١٦٢.

٣١٦

فالقدر المتيقّن من هذه الصّور ؛ أنّ القسم الأوّل منها داخل في معقد الإجماع وملحق بالقسم الأوّل ، وأمّا الثاني ؛ فلم يظهر إلحاقه به ، حيث إنّه بمحض تعليق المنشأ مع عدم إناطة الإنشاء أصلا لا مجال لدعوى انعقاد الإجماع على بطلان العقد حينئذ ، إلّا أن يقال : لمّا كان نظر المجمعين إلى المسألة عدم إمكان التفكيك بين الأثر والمؤثّر فيشمل كلامهم لهذه الصورة.

ولكن يمكن الدعوى بخروج الصورة الاولى عن كلامهم لعدم جريان الشبهة المذكورة فيها ، فتحقق الجزاء والعقد بالنسبة إليها يتوقّف على ثبوت وجود الواقعي للمعلّق ، فإن انكشف وقوعه فيكشف عن وقوع العقد وإلّا فلا.

وأمّا الصورة الثالثة : فمعلوم أنّه لا محذور فيه أصلا فتصحّ بلا إشكال إذ المفروض عدم تعليق في البين ، ولذا بنينا في مسألة المسافر أنّه إذا كان قصده كذلك يجري عليه حكم السفر من أوّل الأمر ، هذا مجمل الكلام في المقام والتفصيل يطلب من محلّه.

فرع :

في «الشرائع» : لو جعله ـ الوقف ـ لمن ينقرض غالبا .. إلى آخره (١).

لا يخفى ؛ أنّه وقع هنا تقديم وتأخير في عبارة المحقّق قدس‌سره ، وكيف كان هذه هي المسألة المعروفة وهي الوقف المنقرض الآخر ، والإشكال فيها من جهتين :

إحداهما ؛ في وقوعه وقفا مؤقّتا أو حبسا ، أو بطلانه رأسا.

والاخرى ـ بناء على الصحّة بأحد الوجهين ـ فما يعامل به بعد انقراض الموقوف عليه.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٦.

٣١٧

أمّا الكلام من الجهة الاولى : فالذي يمكن أن يستظهر من كلماتهم من حيث المجموع ، عدم اعتبار الدّوام في حقيقة الوقف من هذه الجهة ، بل هي الجامع بين القصير والطويل على ما استظهره صاحب «الجواهر» قدس‌سره من عبارات القوم أنّه يقع وقفا في حكم الحبس ، والابتناء على الوجه الثاني من وقوعه حبسا كما يظهر من بعضهم (١) ، فحينئذ ؛ الحكم بذلك ـ مع أنّ المفروض ظهور الصيغة في إرادة معنى الوقف ـ مبنيّ على أحد الأمرين :

الأوّل : على ما ذكرنا سابقا واحتملناه في القسم الأوّل من الوقت بحمله على الحبس ولو أراد المالك الوقف من جهة الاستظهار وتعدّد المطلوب والأخذ ببعضه إذا لم يمكن الأخذ بتمام المفهوم.

الثاني : بأن يجعل ذلك ـ أي عدم ذكر بعض الطبقة ـ للموقوف عليه وجعل المصرف ممّا يتعرّض قرينته على إرادة الحبس من لفظ الوقف.

ثمّ إنّ حكمهم بالصحّة ـ مع أنّ لفظ العقد غير صريح ـ يجعل كاشفا عن عدم اعتباره في الحبس ويخصّص الإجماع عليه لسائر العقود ، أو يسلّم شمول الإجماع له ، ودخوله في معقده ، إلّا أنّه لمّا بنوا على صيرورة نفس اللفظ من جهة القرينيّة المذكورة صريحا ، حيث إنّ مناطه ليس إلّا أن يعلم المخاطب بم خوطب؟ وهذان الوجهان مع ما فيهما من الإشكال أصل مبناهما فاسد ، لكون الفرض خارجا عن محلّ النزاع ، وهكذا الاحتمال الأوّل لما تقدّم أنّ استفادة تعدّد المطلوب في غاية الإشكال ، كما أنّ احتمال البطلان رأسا أيضا لا وجه له ، فحينئذ يتعيّن القول بوقوعه وقفا ، إلّا أنّ الذي يبعّده أنّ المرتكز في الأذهان في

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٥٤ و ٥٥.

٣١٨

معنى الوقف هو الخروج الأبدي وقطع العلاقة عن الوقف رأسا.

ولكن ، يمكن حمله على الغالب في الأوقاف لا أن يكون المفهوم منحصرا به مطلقا.

ثم إنّ ممّا ذكرنا ظهر الأمر في الجهة الثانية أيضا في الجملة ، وأنّ احتمال الصرف في وجوه البرّ بعد الانقراض ـ كما احتمله بعضهم (١) ـ لا وجه له أصلا إذ هو يتوقّف على الخروج المطلق عن الملك فينحصر الأمر بأحد الوجهين الآخرين.

ولكنّه يتولّد حينئذ إشكال آخر وهو أنّه قد عرفت في مسألة ما لو بطل رسم الموقوف عليه ، وقد أشرنا هناك أنّ لها جهة اشتراك مع هذه المسألة ، أنّ بناء المشهور فيها هو صرف الوقف بعد الانقراض في وجوه البرّ مطلقا ، سواء كان الموقوف عليه ممّا هو القابل للبقاء ، أو من المنقرض عادة فيطالب الفرق بين المقامين.

ويمكن أن يكون الوجه فيه ؛ أنّ في تلك المسألة لمّا كان من ذكر المصرف الدائميّ ؛ يستكشف [منه] إرادة الواقف الإخراج بقول مطلق ، فحينئذ ؛ أمّا بناء على أنّ في الأوقاف العامّة تملّك المسلمين الوقف ، فالأمر واضح ، حيث إنّه يحكم بتمليكهم إلى الأبد ، وبناء على كونها إيقافا ـ كما هو التحقيق ـ فيكون المصرف المذكور قرينة على الإيقاف الأبدي ، لا في بعض الأزمان ، فلذلك استقرّ رأي المشهور هناك على ما ذكر ، بخلافه هنا.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا يتمّ مطلقا بل لا بدّ من التفصيل بين ما كان المصرف ممّا لا ينقرض غالبا ، وما لا يكون كذلك ، مع أنّ في الفرق مطلقا يمكن

__________________

(١) غنية النزوع : ١ / ٢٩٩.

٣١٩

المناقشة في أنّ ذكر المصرف القابل للبقاء أيضا لا يصير كاشفا على الإخراج المطلق لمكان تقيّد الإنشاء وإرادة الوقف واقعا بالمصرف المعهود ، فحينئذ ولو اتّفق بطلان رسمه ، مع ذلك لا مجال لاستظهار الإرادة المطلقة ، فلا بدّ بعده من صرفه في وجوه البرّ أو الأقرب إلى غرض الواقف ، فعلى هذا يتعيّن الوجه الأوّل في دفع الإشكال على مسلك «الجواهر» من كون الوقف العامّ تمليكا للمسلمين ، والملكيّة لمّا كانت أمرا قارّا لا تدريجيّا ؛ فإذا تحقّقت تبقى على طبعها إلى الأبد (١) والله العالم ، هذا تمام الكلام في الجهة الاولى.

وأمّا الجهة الثانية فقد عرفت في طيّ البحث أنّ احتمال صرف الوقف في المقام بعد الانقراض في وجوه البرّ لا مجال له ، إذ المفروض بطلان الوقف حينئذ ، وإنّما الأمر يدور بين رجوعه إلى ورثة الواقف حينئذ أو الموقوف عليه ، والأوّل منهما مبنيّ على أن تكون الملكيّة أمرا تدريجيّا نظير المنافع ، بحيث كان إضافة كلّ قطعة من هذه الامور التدريجية إلى طبقة تتوقّف على اعتبارها ، فحينئذ لمّا كان المفروض عدم اعتبارها إلّا بطبقة واحدة ، أو أزيد فلا وجه لانتقال الملك إلى ورثتهم ، بل لا بدّ من أن يرجع إلى ورثة الواقف لما يقتضيه طبع الملك بعد انقضاء طرف الاعتبار.

وأمّا على ما هو التحقيق ؛ من كون الملكيّة من الامور القارّة بحيث إذا اعتبرت بإحداث العلقة بين شخص وشي‌ء ، فهي ثابتة على مقتضى طبعها بلا احتياج إلى مئونة زائدة فلا محيص عن الالتزام بالوجه الثاني ، حيث إنّ العلقة قد حصلت بين الطبقة الاولى والعين باعتبار الواقف ، فمقتضاها بقاؤها وعدم

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٤.

٣٢٠