الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

فيأخذ قيمة المتلف ، أو بدله مع وجوده عند المشتري لثبوت حيلولته بالتصرّف بحلف الموكّل.

وليس للموكّل أن يرجع على المشتري بحلفه للوكيل ما لم يكن طرفا للدعوى ، إذ لا يثبت بحلف أحد مال على غير من حلف له ، ثمّ يرجع الوكيل على المشتري بما دفع إلى المالك إن كان أقلّ من الثمن أو القيمة ، ولا يرجع بالزائد عمّا دفعه من الثمن ، لأنّه كان ضامنا لبدل الحيلولة للمالك عن المشتري ، لأنّ استقرار البدل الحيلولي عليه ، وهذا يغرم عنه.

ومن هنا يرجع الغاصب الغارم للمالك على الغاصب منه ، لأنّه غرم البدل الّذي كان بدلا عن البدل الّذي كان مستقرّا عند الغاصب من الغاصب ، فيرجع بالمبدل وهو بدل البدل لا نفس العين لبقائها على ملك مالكها ، فتدبّر!

وإن كان ما دفعه إلى الموكّل أزيد لم يرجع إلّا بالقيمة أو الثمن وإن كانا أقلّ ، ويتصوّر ذلك في القيمة أو اختلف زمان الغرامة وزمان تصرّف المشتري ، أو زمان تصرّف الوكيل والمشتري قيمته ؛ لاعترافه بأخذ الموكّل البدل ظلما.

ثمّ إنّه لو كان الدعوى المذكورة بينهما قبل الفعل إذا ترتّب عليه الأثر سمعت ، وإلّا فلا.

وإمّا أن يكون بين المشتري والموكّل ، والمنكر الموكّل ، فيريد العين أو البدل تغريما لا تعويضا ، فيحلف الموكّل ويأخذ ما كان يريد من دعواه.

ثمّ إن كان دفع الثمن إلى الوكيل وكان معترفا بوكالته وبوصوله إلى يد الموكّل لم يرجع على الوكيل ، لاعترافه بأخذ الموكّل ما أخذه ثانيا بالحلف ظلما.

٤٦١

ولو لم يكن عالما بوكالته وكان عالما بكون العين للغير ولم يدّع الوكيل الوكالة والإذن ، لم يرجع على الوكيل بالثمن مع التلف.

ومع البقاء على التفصيل المذكور في الفضولي وإن ادّعى الوكالة حيث كان قوله حجّة وذلك إذا كان ذا يد على العين المدّعي وكالته في التصرّف فيها ، على المشهور ، لا إذا لم يكن كذلك ، فلم يغرم الوكيل له بل فيه التفصيل المذكور في صورة اعترافه بوكالته.

وإن لم يدّع ولم يكن عالما بها رجع عليه بما اغترم ، لأنّ المغرور يرجع على من غرّ وإن كان جاهلا بعد فرض سببيّة له في الغرم ، وقد قصر الوكيل في عدم ذكره وكالته ، وإن كان المنكر المشتري ، فإن كان غرض الموكّل مطالبته بالعوض المسمّى ، سواء كان المعوّض موجودا أو تالفا ، أو دفع الضمان عن نفسه لكون التلف ـ مثلا ـ بعد القبض ، فهو من المشتري ، فيحلف المشتري ويدفع العين أو البدل الواقعي أو يبرأ من الضمان.

قالوا : ولو اختلفا في العزل والإعلام والتفريط ، حلف الوكيل لو تصوّر في النزاع (العزل والإعلام) أثر ، كغرامة الوكيل إذا كان الموكّل فيه مالا سمع الدعوى وإلّا فلا ، كما لو كان النزاع في النكاح.

نعم ؛ بين الزوجين هذا النزاع في عزل الوكيل وإعلامه متصوّر ، لكن لو قلنا بغرامة نصف المهر على الوكيل فيما لو ادّعى الوكالة عن الزوج وأنكرت المنصوصة الظاهرة في كون الدعوى بين الزوجين فيحلف الزوج على عدم التوكيل فيحصل الفراق به ظاهرا ، فيغرم الوكيل.

وسيأتي تفصيل هذا ـ إن شاء الله ـ وقلنا بها في عكسها ، وهو ما لو ادّعى

٤٦٢

الوكيل الوكالة عن الزوجة فأنكرت وحلف الزوج لو كان النزاع بينهما أمكن ترتّب الأثر على نزاعها مع الوكيل ، فيثبت بحلف الزوجة المردود عليها أو بيّنتها ما ذكر ، لكنّ الأصل محلّ تأمّل ، ولمخالفته للقواعد طرح بعض الأصحاب العمل به.

ولو سلّم فهو من الدليل وهو النصّ ، فلا يتعدّى إلى غيره ؛ فالضابط ما ذكرنا في دعوى الموكّل والوكيل فيهما.

فما ورد في امرأة وكّلت أخاها ليزوّجها (١) إلى آخر ما ذكر في «الرياض» وغيره (٢) ، من مطالبة الإمام الشهود من المدّعية للعزل والإعلام ؛ لثبوت الزوجيّة ، لا لثبوت الوكالة في العقد ، فتأمّل!

وأمّا في دعوى التفريط ، فتقديم قول الوكيل من جهة أنّه كان أمينا ، والأمين ليس عليه إلّا اليمين ، وإن لم يقبل الموكّل أمانته حين النزاع ، بل يدّعي كونه خائنا ، لكن أمانته الشأنيّة مانعة من توجّه غير اليمين عليه.

وإن شئت قلت : إنّه يدّعي عليه صدور ما يوجب التفريط عنه والأصل عدمه ، فيقدّم قوله لذلك.

ولو اختلفا في التلف ولا بيّنة ، حلف الوكيل ، للإجماع على تقديم قول مدّعي التلف إذا كان أمينا ، مع أنّه ليس عليه اليمين ، قيل : ولتعذّر إقامة البيّنة نوعا فاقتنع بقوله.

ولعلّه إشارة إلى ما ذكروا في باب الغصب من قبول قول الغاصب في التلف

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٦ / ٢٤٠ الحديث ١٣٠ ، وسائل الشيعة : ١٩ / ١٦٣ الحديث ٢٤٣٦٩.

(٢) رياض المسائل : ٦ / ٧٣.

٤٦٣

لئلّا يخلّد في الحبس ، لاحتمال كونه صادقا (١). ولما كان هذا الاحتمال هناك متوجّها نوعا وإن احتمل إمكانها في بعض الأوقات.

ولو اختلفا في الردّ فالقول قول الموكّل مع يمينه ، وقيل : قول الوكيل ، إلّا أن يكون بجعل (٢) ، ووجه القول الأوّل أصالة عدم الردّ ، والوكيل مدّع له فعليه البيّنة ، وليس معنى الوكالة على الإخفاء كالوديعة حتّى لا يجب عليه الإشهاد.

ولذا حكموا بضمان الوكيل في قضاء الدين وتسليم المبيع أو الثمن من غير إشهاد ، ولم يكن في الحكم المذكور سدّ لباب المعروف ، كما ذكر هذا وجها في باب الوديعة (٣) ، فعموم «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (٤) يشمله.

ولذا قيل بتخصيصها بالإجماع على قبول قول الودعيّ في الردّ (٥) ، وفي التلف به وبما ذكرنا فيه سابقا.

وهذه القاعدة شرعت لقطع النزاع والتشاجر و [رعاية] النظام ، فتعميمها بالنسبة إليهما ينافي ذلك ، كما أنّ تكثير تخصيصها كذلك ، فليس المناط في الوديعة قبضها لمحض مصلحة المالك حتّى يقال بالتفصيل في المقام.

ولو قيل بأنّ الجعل في باب الوكالة ليس للقبض والحفظ ، بل للعمل ، ولذا لو يفعل المأمور به لم يستحقّ الجعل ، ولو ظهر فساده لم يحكم بفسادها ، لكنّه غير تامّ ، إذ لا ريب أنّه بعد الجعل يكون القبض لمصلحتهما كما أنّ العين في

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٢٣٥ المسألة الخامسة.

(٢) جواهر الكلام : ٢٧ / ٤٣٢.

(٣) جواهر الكلام : ٢٧ / ٤٢٨.

(٤) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٦٨ الحديث ٢١٦٠١.

(٥) جواهر الكلام : ٢٧ / ١٢٢ و ١٢٣.

٤٦٤

المستأجر المحكوم يكون القول قول المالك في الردّ إجماعا مقبوض لمصلحة القابض أيضا ، مع كون العوض للمنفعة لا لها.

وأمّا كون الوكيل أمينا فغير مستلزم لذلك ، وإلّا لما توجّه التفصيل ، لأنّ النزاع بين المالك والقابض قد يكون في أصل الأمانة ، وقد يكون بعد تسليم المالك الأمانة الشأنيّة ، وقد يكون بعد تسليم الأمانة الفعليّة أيضا.

فالأوّل : مثل ما لو ادّعى المالك غصبيّته والمنكر يدّعي أمانته.

والثاني : مثل أنّه ادّعى تفريطه بعد اعترافه بكونه أمانة عنده عند القبض.

والثالث : مثل ما ادّعى القابض تلفه بعد كونه أمينا باعتراف المالك.

ففي القسم الأوّل ؛ لا شبهة في تقديم قول المالك ، كما أنّه لا شبهة في تقديم قول القابض في القسم الثاني ، لكونه أمينا ، مع أصالة عدم التفريط.

وفي الثالث كذلك ، للأمانة ولتعذّر إقامة البيّنة أحيانا فاقتنع بقوله ، ومسألة الردّ من القسم الأوّل ، لأنّ المالك يدّعي عليه مالا كان عنده أمانة ، والقابض ينكره ، ولمّا كان القابض معترفا بقبضه الزم بالبيّنة ، كما لو ائتمنه المالك في زمان على مال وقبضه ثمّ ادّعى عليه بذلك المال واعترف بقبضه ثانيا لم يوجب الاستيمان الأوّل قبول قوله في هذه الدعوى.

وقد يقال : إنّ المالك في مسألة التلف يدّعي خيانته بدعواه التلف ، فكما أنّ أمانته أوجبت قبول قوله ، فكذلك في مسألة الردّ يدّعي المالك خيانته ، لصيرورته بذلك خائنا كالإنكار ، ولذا لو ادّعى الردّ فيما يقبل قوله في مكان أو حصره بمعيّن وأشهد المالك البيّنة على عدمه أو على كونه عنده حين الدعوى ، ثبت إقراره بذلك ضمن قطعا ، لأنّه بمعنى المنكر ، فأمانته في هذا المال باعتراف

٤٦٥

مالكه يوجب قبول قوله.

وفيه نظر ؛ لأنّ الخيانة تثبت بنفس جواب المالك في دعوى المال وطلبه بخلاف التفريط ، فتبصّر ولاحظ.

فالتحقيق أن يقال : إنّ مسألة الردّ مثل مسألة التلف في كون الدعوى بعد تسليم المالك واعترافه بكونه أمينا ، ومقتضاه قبول قوله لقاعدة الأمانة ، لكن الأمين يقدّم قوله في ما يتعلّق بفعله ، فالقابض في مسألة التلف يدّعي تلفه عنده وهو ينكره ، وكذا في التفريط ، وفي دعوى المالك إنكاره في زمان يوجب الضمان ، لأنّه كما يكون بالتفريط خائنا فيكون يده يد ضمان ، كذلك بإنكاره أيضا يصير خائنا ، كما أنّه بتأخير التسليم مع المطالبة ضامن حيث لم يكن التأخير لحقّ ، كإرادة الإشهاد ، ولم يكن منافيا للفوري العرفي ، وإن كان منافيا للفوري الحقيقي ، كما لو كان في حمّام أو مطعم أو غيره ، فإنّه يقضي حاجته ثمّ يردّه فورا.

وأمّا لو كان ممّا لا يتعلّق بفعله ، بل بفعل غيره فلا يوجب أمانته قبول قوله ، وهنا يدّعي القابض فعل غيره ، وهو قبض مالكه.

نعم ؛ لو ادّعى : أنّي أقبضته ولم تقبض أنت فتلف ، فيتوجّه قبول قوله بغير إشكال.

ومن هنا قلنا : إنّ مسألة الردّ في باب الوديعة خرجت من عموم «البيّنة [على من ادّعى]» (١) .. إلى آخره بالإجماع لا بغيره بل تمسّك جماعة هناك بمسألة الأمانة مع أنّ الودعيّ مدّع بكلّ وجه ، فتدبّر!

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٦٨ الحديث ٢١٦٠١.

٤٦٦

فإن قلت : كما أنّ الودعيّ يدّعي فعل غيره في مسألة الردّ ، كذلك في مسألة التلف إذا كان سببه فعل غيره كالسرقة أو غيرها ممّا يرجع إلى دعواه إتلاف غيره له لا التلف بنفسه ، فالمتّجه حينئذ التفصيل فيهما ، فلا يقبل قوله في دعواه الإتلاف ، لعدم منافاته مسألة الأمانة ، كما ذكرت ، ويقبل قوله في دعوى التلف لا بفعل الغير.

قلت : مقصود الودعيّ في التلف وفي الردّ براءة ذمّته ، وذلك يحصل في الأوّل بنفس التلف ، فإن ذكر متلفا فهو من باب المثال ، ولا يتعلّق به غرض أصلي ، وفي الثاني لا يحصل إلّا بقبض المالك ، وإن ذكر فعل نفسه فهو من باب المثال والمقدّمة ، لحصول قبضه.

فالمدّعى في الأوّل هو حصول الفعل عنده الموجب لبراءته ، وإن استلزم فعل غيره في بعض الموارد ، كما لو ادّعاه بإتلاف متلف يصدّق في ذلك ، لكونه منتسبا إليه ، بخلاف الثاني ، فإنّ المدّعى فيه نفس فعل الغير ، سواء استلزم فعله أم لا ، كما لو ادّعى وصولها إليه ولو لم يدّع إقباضه ، فتدبّر! (١)

__________________

(١) إلى هنا انتهت الرسالة.

٤٦٧
٤٦٨

رسالة الوصايا

٤٦٩
٤٧٠

بسم الله الرحمن الرحيم

تصرّفات المريض

بعد الحمد والصلاة فنقول : إنّ تصرّفات الإنسان في مرض موته في أمواله على قسمين : معلّقة ومنجّزة ، والغرض الآن البحث عن الثانية ، إلّا أنّه لا بأس للتعرّض لجملة من الكلام في الاولى ، ولعلّه تفيد في تنقيح ما هو الغرض المهمّ.

اعلم! أنّ التصرّفات المعلّقة المسمّاة بالوصيّة على نحوين ، لأنّها إمّا أن تكون مشتملة على التمليك ونقل مال إلى آخر ، وإمّا أن لم تكن كذلك ، بل هي جعل ولاية ووكالة للغير في تصرّفاته بعد وفاة الموصي في أمواله وغيرها ، فهي الوصيّة العهديّة ، كما أنّ الاولى تمليكيّة.

أمّا العهديّة المعبّر عنها بالإيصاء فهي في الحقيقة بمنزلة التوكيل في حال الحياة ، فكما أنّ الوكيل له التصرّف في ما وكّل فيه كيفما شاء مع رعاية المصلحة ، فكذلك للوصيّ التصرّف في المتعلّق بنحو ما ذكر ، فهو بدل تنزيليّ للموصي أقامه الموصي مقامه ، بأن جعل له ما لنفسه من التصرّف في المأذون فيه.

فالفرق بينهما أنّ ولاية الموصي على أمواله وغيرها ذاتيّة مجعولة من قبل الله تعالى ، بخلاف الوصيّ فولايته عرضيّة ، ولذلك تحدّ الثانية في الجملة بما لا تحدّ الاولى.

وأمّا التمليكيّة ؛ فإمّا أن تكون الوصيّة على نفس التمليك ، أو على سببه ، كما

٤٧١

في باب الشرط ، وقد اصطلح فيه بشرط النتيجة والفعل ، فكذلك الوصيّة إمّا هي بالتمليك المطلق الغير المحتاج إلى السبب الخاصّ ، وإمّا أن يكون محتاجا إليه ، والتمليك إمّا هو بغير عوض أو مع العوض ، ولذلك ربّما يقال : إنّ الوصيّة يمكن أن تفيد ما يفيد كلّ واحد من المعاملات ، فقد تكون ثمرتها مثل البيع ، وقد تكون مثل الصلح ، وقد تكون مثل الإجارة وغيرها على حسب اختلاف أنحاء الوصيّة التمليكيّة.

ثمّ إنّه لو أحرزنا كون الموصى به ممّا هو محتاج إلى السبب الخاصّ بحيث لا تؤثّر الوصيّة بنفسها في تحقّقه ، فلا إشكال أنّ الوصيّة بالنتيجة باطلة ، وأمّا لو لم نحرز وشككنا فيه ، فهو ـ أي الشكّ ـ إمّا هو راجع إلى الموضوع العرفي أو الشرعيّ.

بيان ذلك : أنّ الشكّ في تحقّق الموصى به بلا سبب خاصّ ؛ إمّا أن يكون في احتياجه إليه عرفا وعدم وقوعه بدون إجراء صيغة خاصّة عندهم. ضرورة ؛ أنّه قد تحقّق في باب المعاملات أنّه كما تثبت في الشريعة كونها محتاجة إلى أسباب خاصّة بعناوينها الخاصّة كالبيع والهبة والإجارة ونحوها دون التمليكات المطلقة ، فكذلك ربّما يكون جملة منها محتاجة إليها عرفا أيضا ، بحيث لو لم يتحقّق لم يوجد أصل موضوع المعاملة عند العرف ، فلا يعقل أن يترتّب النتيجة ، كما لا يخفى.

فعلى ذلك ؛ لو شكّ في تحقّق الموصى به بلا سبب خاصّ عرفا مع قطع النظر عن الاحتياج إليه شرعا فلمّا يرجع الشكّ إلى الشكّ في تحقّق الموضوع والمصداق ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالعمومات والإطلاقات إلّا على مذهب من

٤٧٢

جوّز التمسّك بها في إحراز شرط الصحّة عند الشكّ فيها ، كما في باب النذر إذا شكّ في موضوع كونه راجحا ـ حتّى يصحّ تعلّق النذر به ـ أم لا ، قد تمسّك بعض (١) في صحّة مثله بعموم : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (٢).

وهذا مبنيّ على أن يكون العامّ ـ مضافا إلى كونه متكفّلا لبيان الحكم الكلّي أيضا ـ مشتملا على بيان الصغرى.

وبعبارة اخرى ؛ على بيان كون المحلّ قابلا لتعلّق هذا الحكم الكلّي من النذر وغيره به ، فكذلك في المقام يتمسّك لصحّة مثل الوصيّة المذكورة بعمومات الوصيّة ، وأمّا لو قلنا بعدم جواز التمسّك بالعمومات في مثل هذه الموارد ـ كما هو التحقيق ـ فلا محيص عن الحكم ببطلان الوصيّة المذكورة ، لما عرفت.

وأمّا إن لم يرجع الشكّ إلى المعنى العرفي ، بل احرز عدم احتياج تحقّق الموصى به عند العرف إلى السبب الخاصّ ، ولكن شكّ في احتياجه إليه شرعا فالظاهر أنّه لا مانع من الحكم بالصحّة تمسّكا بأصالة عدم احتياجه ، كما تمسّكوا في باب الشرط عند الشكّ في صحّته من جهة كونه مخالفا للكتاب والسنّة بأصالة عدم المخالفة (٣).

ولمّا يرجع الشكّ في ما نحن فيه أيضا إلى كون الوصيّة المعهودة مخالفة لهما ؛ لاحتياج تحقّق الموصى به إلى السبب الخاصّ وعدم تحقّقه بصرف الوصيّة ، فكذلك لا بأس بالتمسّك بأصالة عدم المخالفة فيه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٥ / ٣٥٦.

(٢) الإنسان (٧٦) : ٧.

(٣) على الإشكال المعروف فيه ، «منه رحمه‌الله».

٤٧٣

ثمّ اعلم! أنّ حال النذر المتعلّق بالفعل أو النتيجة كحال الوصيّة في ما ذكر ، إلّا أنّه فيه إشكال من جهة اخرى ، وهو أنّه لا شبهة في أنّ التمليكات القصديّة الاختياريّة لا تتحقّق بدون القبول ، وإن كان التملّك القهري يقع بدونه ، كما في الإرث ، فعلى ذلك ؛ كيف يلتزم بتحقّق النذر المتعلّق بالتمليك المطلق؟ ولو كان غير محتاج إلى السبب الخاصّ إلّا أنّ تحقّق أصل التمليك موقوف على قبول المتملّك ، فلا بدّ في الحكم بصحّة النذر المفيد للتمليك إمّا بالالتزام باشتراط النذر المذكور وصحّته بالقبول ، أو عدم احتياج التملّك الاختياري إلى القبول ، ولا ريب أنّ كليهما مخالف للارتكاز والإجماع.

فمن ذلك ظهر أنّ الإشكال سار في باب الوصيّة التمليكيّة أيضا بناء على القول بعدم احتياجها إلى القبول ، وكونها من مقولة الإيقاع ، إلّا أنّ الّذي يسهّل الأمر فيها احتياجها إلى القبول إجماعا ، إمّا بعنوان الشرطيّة أو الجزئيّة ، وإن كانت الاولى أقوى ، لأنّ الظاهر كون الوصيّة من سنخ الإيقاعات لا العقود.

أقول : أوّلا في انقسام الوصيّة التمليكيّة إلى ما ذكر نظر ، وذلك لأنّ الوصيّة التمليكيّة على ما يستفاد من أدلّتها ، ويظهر من كلمات الأصحاب هي ما تفيد نقل الشي‌ء بلا عوض ، فالمأخوذ في موضوعها هو التبرّع ، ولذلك جعل بعض الأساطين من جملة أجزاء تعريفها قيد التبرّع (١).

فعلى ذلك كيف يلتزم بإفادتها في بعض الموارد الانتقال مع العوض ، إلّا أن يرجع ذلك إلى أقسام الوصيّة العهديّة ، فيكون مرجعها إلى جعل الولاية للوصيّ على تبديل بعض أمواله بأحد عناوين المعاملات إلى شي‌ء آخر.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٥٢ ط. ق ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٢٤٢.

٤٧٤

وثانيا : أنّه قد اتّضح في باب الشرط ونحوه أنّ الالتزام بأمر يحتاج وقوع الملتزم به إلى إقدام شخصين وقيامهما عليه ، يكون مرجع التزام أحد بإيجاد مثل هذا الأمر إلى الالتزام بإيجاد المقتضي من قبل نفسه ورفعه مانع وجوده ، فمثل الالتزام بالبيع يكون مفاده الالتزام بإنشائه الإيجاب ـ مثلا ـ وكذلك غيره من الامور المتوقّف تحقّقها على قيام شخصين على إيجادها ، فعليه يرتفع إشكال النذر المتعلّق بالتمليك ، لأنّ مرجعه إلى الالتزام بإيجاد ما هو تحت اختياره ، وأمّا تملّك الغير وقبوله فليس متعلّقا للنذر رأسا.

مضافا إلى أنّه يمكن الدعوى بأنّ مفاد مثل هذه النذور وكذلك الوصيّة بناء على عدم احتياجها إلى القبول مطلقا إنّما هو الالتزام بالبذل والإباحة ، غاية ما فيه أنّه بذل معلّق ، فبناء على عدم الإشكال من هذه الجهة فعليه يرتفع الإشكال أيضا ، لعدم احتياج البذل إلى القبول ، فافهم!

متعلّق الوصيّة

ثمّ إنّ متعلّق الوصيّة التمليكيّة إمّا تبرّعي أو واجب ، ولا إشكال في خروج الأوّل من الثلث ، وأمّا الثاني فيظهر حاله بعد ذكر أقسامه.

فنقول : إنّ له أقساما أربعة ، وذلك لأنّ متعلّقها إمّا واجب مالي وحقوق خلقيّة ، مثل الدين ، وكذلك الوصيّة بالزكاة والخمس ونحوها ، ممّا هي أموال مستقرّة على الذمّة المنتزعة عن ثبوتها على العهدة الحكم التكليفي ، بحيث يكون الأثر الثابت أوّلا وبالذات اشتغال العهدة بالمال وتحقّق الحكم الوضعي ، ثمّ يترتّب عليه وجوب الردّ وتحصيل البراءة عمّا اشتغلت الذمّة به ، فقد يكون

٤٧٥

متعلّق الوصيّة مثل هذه الامور.

وإمّا أن يكون الدين الثابت على الذمّة العمل الّذي يبذل بإزائه المال فيوصي بأداء مثل هذا الدين ، كما إذا أوصى بخياطة ثوب مشخّص المشتغل بها في حياته ، ونحوها من الأعمال المتعلّق بها الإجارة الموجب لاشتغال الذمّة لصاحب العمل.

وإمّا أن يكون متعلّق الوصيّة التطبيق ، كما إذا أوصى بأداء دينه من ماله الخاصّ ، مثل داره أو بستانه وغيرهما.

وإمّا أنّ متعلّقها مثل أداء الكفّارات الواجبة على الموصي ، أو إكرام من أمره والداه بإكرامه ، أو تأدية الصدقة المنذورة ، ونحوها ممّا ليس الثابت بها على الذمّة أوّلا وبالذات مال ، بل إنّما أثرها الحكم التكليفيّ المحض لا أن يثبت على عهدته لأحد حقّ حتّى يدخل في الواجبات الماليّة بمعنى الديون ، كما في الأمثلة المذكورة ، فإنّ التحقيق أنّ في مثل الكفّارات بل وكذلك النذر وغيره ولو كان مورد النذر شخصيّا معيّنا ، لا يثبت بسبب وجوب الكفّارة والنذر حقّ لأحد على المكفّر والناذر ، ولذلك ليس للفقير ولا للمنذور له مطالبتهما الكفّارة والمال المتعلّق للنذر.

وبالجملة ؛ فليس هذه الأصناف من الواجبات الماليّة من سنخ الديون ، بل إنّما هي واجبات وتكاليف شرعيّة نشأت من أسبابها ، فتثبت على عهدة المكلّف بلا إحداث حقّ ماليّ لأحد عليه.

نعم ؛ لمّا يتوقّف امتثال مثل هذه التكاليف على صرف المال فصار مقدّمة له ، فعدّ من الواجبات الماليّة ، لا أن يكون حقيقتها متقوّمة بالمال حتّى يكون

٤٧٦

التكليف منتزعا من الوضع ، كما في القسمين الأوّلين ، فهذه أصناف متعلّق الوصيّة التمليكيّة.

موارد إخراج الدين من الأصل أو الثلث

ثمّ لا خفاء في كون الدين مخرجا من أصل المال في الجملة ، ولكن لمّا كان بعض الصور مشكوكة فلا بدّ من تأسيس الأصل أوّلا في أنّ الأصل يقتضي إخراج الموصى به من الأصل أو الثلث ، حتّى يرجع إليه عند الشكّ.

فنقول : إنّ الأصل في الباب هو ما ذكروا في باب الدين من أنّ الدين [هل هو] مانع عن أصل انتقال مال المورّث إلى الورثة بمقدار الدين ، أم لا ، بل المال ينتقل إلى الورثة ، وإنّما الدين مانع عن التسهيم؟

فإن بنينا على الأوّل فلمّا كان حال الوصيّة حال الدين ولازمه عدم انتقال المال إلى الورثة رأسا إلّا ما زاد عن الوصيّة ، فمقتضى القاعدة خروج الموارد المشكوكة عن الأصل ، لأنّ الشكّ ـ فيما لو أوصى بتطبيق الدين على مال خاصّ للموصي ، مثلا : الّذي كان نفوذ مثله في ما زاد عن الثلث من الموارد المشكوكة ـ هو في أصل انتقال عين المال إلى الورثة ، ولا خفاء أنّ الأصل (١) عدمه إلّا ما زاد عن الوصيّة.

هذا ؛ بناء على عدم تماميّة الأدلّة الاجتهاديّة ، مع أنّ الظاهر أنّه لا قصور فيها ، حيث إنّه ولو نوقش في آية الإرث (٢) من جهة كونها مقيّدة بعدم الوصيّة

__________________

(١) بمعنى استصحاب عدم الانتقال الثابت حال حياة الموصي ، «منه رحمه‌الله».

(٢) النساء (٤) : ١١ و ١٢.

٤٧٧

والدين ، إلّا أنّه لا قصور في عموم «ما تركه الميّت فهو لوارثه» (١).

وأمّا إن بني على الثاني ـ كما هو التحقيق ـ فمقتضى ذلك خروج المشكوك عن الثلث ؛ إذ المفروض أنّ أعيان المال انتقل إلى الورثة فثبت كونها مالا لهم ، فقاعدة السلطنة لمّا كانت محكّمة فلا يجوز الخروج عنها إلّا بالمقدار المتيقّن وهو الثلث ، كما لا يخفى ، هذا ما يقتضيه الأصل.

وأمّا الحكم بحسب الدليل ؛ فنقول : إنّ الحكم في الواجبات الماليّة ـ أي التكاليف الّتي مآلها يكون إلى الالتزام بصرف المال في مثل الكفّارات ونحوها من القسم الرابع في الوصيّة بخروجها من صلب المال أو ثلثه ـ لمّا كان تابعا لصدق الدين عليها (٢) وعدمه ، فلا بدّ من البحث في ذلك.

فنقول : إنّ الدين عبارة عن اشتغال الذمّة بالمال ، بحيث إذا يتحقّق الدين فالعهدة يفرض عند العرف بمنزلة وعاء في الخارج موضوع عليها الشي‌ء الموجود فيه ، بحيث يوجد أوّلا علقة بين المال والعهدة ، فيكون أثر ذلك ثبوت الحقّ للغير على الذمّة ، ثمّ يترتّب على ذلك الحكم الشرعي التكليفي بالأداء.

ولا ريب أنّ هذا المعنى لا يعقل في الأحكام التكليفيّة لأنّه قد أوضحنا في محلّه أنّ التكاليف إنّما يتعلّق بالأمر المعدوم لا بالموجود ، وإلّا يلزم تحصيل الحاصل ، فالمتعلّق به التكليف وإن لم يكن معدوما مطلقا ؛ لأنّه إنّما يتعلّق بالصور الذهنيّة الثابتة في ذهن المكلّف فيأمر بإيجادها في الخارج ، إلّا أنّ ذلك

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٤٥٣ ، سنن ابن ماجة : ٢ / ٩١٤ الحديث ٢٧٣٨ ، مع اختلاف يسير.

(٢) الّذي وقع في كلمات الأصحاب ومعاقد الإجماعات هو إنّما يخرج من صلب المال الواجبات الماليّة ، وعليه يمكن أن يختلف مع ما في لسان الأدلّة ، ولكنّ الظاهر رجوع كلماتهم إليها أيضا ، فراجع! ، «منه رحمه‌الله».

٤٧٨

لا يوجب تحقّقه في الخارج قبل إيجاده المكلّف [به] ، فالخارج ظرف لسقوط المأمور به لا لثبوته ، فإذا امتنع وجود المأمور به في الخارج قبل إيجاده فلا يتصوّر في الأحكام التكليفيّة ما هو الملاك في معنى الدين وصدقه ، بل هو مختصّ بالوضعيّات الّتي لها نحو ثبوت واعتبار وجود في الخارج ، بخلاف التكاليف الّتي لا يعقل الوجود لها في الخارج لا في الذمّة ولا في غيرها.

بل بعد تعلّق التكليف من طرف الشارع بها وحكم العقل حينئذ بلزوم الإطاعة ، فحينئذ يعتبر أمر كلّي ليس له مساس بالغير لا تكليفا ولا وضعا ، فلا يطلق الدين إلّا على المال الثابت في الذمّة ـ الّذي قد عرفت أنّ الحكم التكليفي يكون تابعا له ـ لا في الواجبات الّتي يكون بذل المال مقدّمة لامتثالها بلا أن تكون الذمّة مشتغلة بالمال في الحقيقة ، كما في الديون.

أقول : يمكن الدعوى بأنّه كما أنّه عند تعلّق حقّ الغير على الذمّة بسبب أخذ ماله أو التصرّف في حقّه يرى عند العرف اشتغال العهدة بالمأخوذ بحيث يرى لذلك بعناية نقلا على العهدة في الخارج ؛ كذلك بتلك العناية أيضا يرى ثبوت شي‌ء على العهدة عند تعلّق التكليف الشرعي بالشخص ، خصوصا إذا كان متعلّق التكليف هو بذل المال ، ولذلك يعبّر عند تعلّق الطلب ؛ بالتكليف المشتقّ من الكلفة المساوق مع النقل.

وإن أجاب عن ذلك ـ دام ظلّه ـ بأنّ التكليف عبارة عن إلزام العقل في أثر إلزام الشرع.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ إلزامه بالامتثال ليس إلّا أنّه يرى عهدة العبد مشتغلا بالمأمور به عند تعلّق طلب الشارع ، فالتعبير عن التكليف أيضا هو بهذه العناية.

٤٧٩

وأمّا أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بما ليس بموجود ؛ فلا ينافي ذلك ما ادّعيناه ، لأنّ امتناع تحقّق المكلّف به في الخارج لا يستلزم عدم اعتبار وجوده (لا يمنع عن اعتبار وجود) على العهدة ، ضرورة أنّ تحقّقها في الخارج يوجب تعلّق الطلب بالموجود ، لا في الذمّة ، كما لا يخفى.

ثمّ أفاد ـ دام ظلّه ـ بأنّه بعد أن اتّضح حال الدين وحقيقته ، وأنّ سنخ وجوده غير سنخ التكاليف والواجبات ، فظهر ذلك أنّ الّذي تقتضيه القاعدة من الحكم بخروج الواجب المالي من الأصل في الأقسام الأربعة من الوصيّة ، هو في القسمين الأوّلين ؛ لما عرفت من تطبيق معنى الدين عليهما ، وأمّا غيرهما محلّ إشكال ، بل الأقوى الحكم في القسم الرابع من الواجبات الّتي تؤول إلى صرف المال بخروجها من الثلث ، ولذلك لو لم يوص بالأوّلين أيضا يجب تأديتهما وإخراجهما من أصل المال ، بخلاف الآخرين.

وأمّا الكلام في النذر فيما لو كان واجبا عليه عتق رقبة ، فأوصى بإعتاقه ـ مثلا ـ أو نذر أن يهب شيئا لأحد ، فأوصى بالهبة.

وبالجملة ؛ فيما لو كان النذر متعلّقا بالفعل فإن قلنا بأنّه يعتبر لنفس هذا الفعل ـ أي الهبة مثلا ـ الماليّة العرفيّة ، كما قيل بمثله في بعض الأعمال أيضا ولو لم تكن بصيغة ، فتصير حكم نذر مثل هذه الأفعال حكم القسم الثاني.

وإن لم نقل بذلك ، بل بني على كون اعتبار الماليّة في نتيجته ، لا في أصل العمل ، فحكمه حكم سائر الواجبات الّتي مآلها يكون إلى صرف المال.

بقي الكلام في تحقيق ما يظهر من بعض الأخبار من إطلاق الدين على

٤٨٠