الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

يكفي الإذن هناك إيقاعا.

كلّ ذا بالنسبة إلى الموت والجنون والإغماء ، وكذا عدم البلوغ الّذي يرجع إلى عدم المقتضي للعقد لسلب العبارة من متّصفيهم ، ولا يختصّ بالوكالة بل في جميع العقود والإيقاعات من العبادات والمعاملات.

وأمّا غيرها ممّا يرجع إلى وجود المانع كالسفه والفلس والإحرام والمرض والرقّ ووجود المانع في متعلّق الوكالة كالحيض والخمريّة في الموكّل وعدم المالكيّة لما يوكّل فيه فيهما ـ أي في الموكّل والوكيل ـ فوجودها على ما ذكر في حال العقد ، مع وجودها زمان التصرّف.

وأمّا إن علّق التصرّف بزمان يرفع المانع في ذلك الزمان ؛ فإن ثبت من دليل كون المانع مانعا ارتفاع المالكيّة والتأهليّة به ، فمن هو فيه لم تصحّ الوكالة كالإحرام ، فإنّ النساء حرام عليه بكلّ استمتاع ، وهو غير قابل لملك الصيد ، فليس المحرم مالكا لها وللصيد ، فليس لها التوكيل والتوكّل ، لما عرفت من معنى الوكالة من كونه إثبات ولاية لغيره في أمر للموكّل الولاية فيه بنفسه ولغيره ، وللوكيل التولّي فيه بنفسه ولو لغيره ، والإحرام مانع من الولاية ، وإن لم يثبت ذلك كسائر الموانع.

ولعلّ الرقّ من قبيل الإحرام ، كما هو الأقوى ، فتصحّ الوكالة ، بل ولو كان مانعا في الموكّل دون الوكيل كما لو وكّل الجنب أو الكافر غيره الطاهر أو المسلم في إيقاع عقد في المسجد ، وأمّا عروض الموانع في الأثناء ـ أي بعد الوكالة الواقعة صحيحة ـ فالظاهر عدم الفرق بين الموانع في عدم بطلانها إلى أن يزول المانع حتّى الإحرام حتّى في زمان الإحرام إذا كان الموكّل مالكا له ، كالنائي عن

٣٨١

بلد الصيد ، فإنّ وكالة وكيله في بلده لا تبطل بإحرامه.

وأمّا وجود المحرّمات فبالنسبة إلى الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي المسبّب عن حصول سبب في المباشر يوجب ذلك الحكم ـ كالإثم والضمان ـ فغير قابلة للوكالة.

وأمّا لو كان لأحدهما بالنسبة إلى الموكّل أثر ، كما لو وكّل الناذر لعدم بيعه عبده ـ مثلا ـ غيره في بيعه ، فإنّ الإثم والحنث يحصل بالنسبة إلى الموكّل ، لكن هذا المثال غير صالح للنقض ، كما قيل ، لتعلّق حقّ الله بالعبد الموجب لبطلان البيع (١).

والمسألة غير مستحضرة عندي ، فليفرض فيما كان كذلك ، وهو ما إذا حلف على نفي البيع وقصد النقل والانتقال لا المعنى العرفي وهو العقد ، وكما لو وكّل الراهن أو الواهب في إقباض المشاع ، فإنّ الإثم وإن اختصّ بالمباشر لكن صحّة العقد ولزومه بالنسبة إلى الموكّل أثر شرعي للإقباض على القول بكفاية قبض الشريك الراهن بغير إذن شريكه في الحكم الوضعي.

وأمّا الفرق بين ما لو قال : وكّلتك في طلاق امرأة سأنكحها ، وبين ما لو قال : وكّلتك في تزويج امرأة وطلاقها ، أو شراء عبد وعتقه ، فلأنّ العقود المترتّبة في كلّ عقد لو جازت لوجب أن لا يشرط في العقود المترتّبة بالشرط في الاستقلاليّة ، ومنها العقود المترتّبة عليها عقود اخر ، وإلّا فلا معنى لتشريع مثل تلك العقود.

مثلا إذا صحّ الوقف المؤبّد على أشخاص بالدليل المستلزم لكون بعض

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ٧ / ٥٢٩ و ٥٣٠.

٣٨٢

الموقوف عليهم في بعض الطبقات غير موجودين حال العقد ، اقتضى ذلك الدليل سقوط اشتراط الوجود في الموقوف عليهم لو كان أصلا في الموقوف عليهم تبعا وكذا القبول والقبض ، وكذا إذا اقتضى الدليل صحّة البيع ورهن المبيع بعقد واحد ، كقوله : بعتك الدار وأرهنتكها فلا بدّ من الاكتفاء بتقدّم ملك المرتهن للرهن بحسب الذات وإن كان مقارنا للرهن زمانا ، فافهم!

وكذا الوكالة المترتّبة ، وإن كانت معلّقة بل غير مملوك للوكيل متعلّق الوكالة ، فعلى هذا لو وكّل في أمر يصحّ فيه الوكالة ووكّل في امور اخر مترتّبة عليه ، وإن لم يكن له ذلك لو كانت الامور غير مترتّبة.

فهذا هو الفرق في الوقف بين الوقف على المعدوم ابتداءً والوصيّة وبينها عليه تبعا ، وفي الوكالة بين التوكيل في طلاق امرأة سينكحها والتوكيل في التزويج والطلاق أو الشراء والعتق.

ما تصحّ الوكالة فيه

قالوا : وكلّ أمر لا يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر معيّن تصحّ الوكالة فيه (١).

أقول : كلّ أمر يقع في الخارج ، إمّا فعل من أفعال الجوارح ، وإمّا إنشاء ونيّة ، فإن كان فعلا ؛ فإمّا أن يكون الأثر المترتّب عليه شرعا أو عرفا مترتّبا على فاعله من حيث صدوره منه ، بحيث لا يكفي في ترتّبه عليه انتسابه إليه ، فذلك لا تصحّ الوكالة فيه ، وذلك واضح وجهه.

__________________

(١) مفتاح الكرامة : ٧ / ٥٢٧.

٣٨٣

وإمّا أن يكفي في ترتّبه عليه انتسابه إليه ، فهذا تصحّ فيه الوكالة ، وكذا النيّة والإنشاء ، منها ما يترتّب عليه الأثر المترتّب عليه من حيث صدورها من المنشئ والناوي ، ومنها ما يترتّب على المنتسب إليه الإنشاء والنيّة.

فالطهارة فعل يرتّب الأثر الشرعي ، وهو استباحة الصلاة أو الطهارة من القذارة على الصادر منه هذه ، لا المنتسب إليه.

وكذا الصلاة الواجبة حال الحياة ، فإنّ الأثر الّذي يترتّب عليها وهو التذلّل والانقياد وحصول الكمال والتقرّب إنّما هو على الصادرة منه ، يعني أنّ مباشرة الصلاة يوجب التذلّل والكمال.

وكذا الصلاة المندوبة ، كصلاة الليل ـ مثلا ـ فالتقرّب لازم لفعله بنفسه ، بخلاف الزكاة مطلقا ، فإنّ الغرض منها ارتفاع شحّ النفس وارتفاق الفقراء والمستحقّين لها ، فيحصل هذان الأثران بمجرّد حصول الفعل ، وهو التزكية ولو من الغير ، لحصول الارتفاق وارتفاع الشحّ من المالك ، ولو أخرج زكاته غيره.

وأمّا النيّة وقصد التقرّب ، فحيث إنّ التقرّب أثر يترتّب على المنتسب إليه التزكية وهو المالك ، فيجزي قصد الوكيل تقرّبه حين دفعه إلى مستحقّه.

ومن ذلك ؛ الوقف والعتق ، فيجزي قصد الوكيل تقرّب الواقف والمعتق.

نعم ؛ لو لم يكن مأذونا منه ، بل واليا عليه من قبل الشارع ، كمن وقع مال غيره في يده غير مزكّى وهو ممتنع فزكّى منه ما يجب على المالك ، فيترتّب على قصده بها تقرّب المالك تقرّبه إلى الله تعالى أيضا.

ومن هذا القبيل الجهاد ، حيث جازت الاستنابة فيه ، فإنّ الغرض من تكليفه على العباد إقامة الإسلام وإظهار شعائره ، فيحصل هذا الغرض من

٣٨٤

المباشر وإقامة غيره مقامه وينوي في ذلك تقرّب المنوب عنه كالزكاة ، لكن يشترط أن لا يكون واجبا على النائب ولو كفائيّا ، وإلّا لم يجز التوكيل فيه.

وقيل : إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا القبيل لو لم يكن واجبا على النائب ، لكنّه محلّ نظر ، لأنّ هذا التوكيل نوع من الأمر بالمعروف لا استنابة فيه ، فتدبّر!

وأمّا الحجّ الواجب ، فالمقصود والأثر المترتّب عليه هو إنفاق المال في هذه الجهة وإذلال النفس والانقياد بإتيان الواجب بنفسه ، فلا تجزي الاستنابة ؛ لعدم حصول الغرض بتمامه فيها ، وقصد القربة من النائب ، بعد ما كان التقرّب غير حاصل إلّا من المباشر ، غير مفيد له.

نعم ؛ لو عجز بنفسه سقط الغرض الأخير ، فيحصل التقرّب ولو بفعل غيره ، ويترتّب عليه الغرض الأوّل ، فينوي النائب القربة في حجّه ويترتّب عليه تقرّب المنوب عنه عكس الزكاة ، إذ التقرّب بهذه الأفعال تابعة لصدورها أوّلا وإلى السبب المنتسبة إليه هذه الأفعال ويشير إلى هذا ما ورد من أنّ للنائب تسعة أعشار أجر الحجّ وثوابه ، وللمنوب عنه والسبب أجر (١).

وأمّا الحجّ المندوب ، فلمّا كان أصل الحجّ هو زيارة بيت الله جاز التوكيل فيه كسائر الزيارات المستحبّة ، والسرّ في ذلك أنّ الزيارة مركّبة من امور : طيّ الطريق ، وإبلاغ السلام ، والإهداء.

فأمّا طيّ الطريق ؛ فحيث إنّ الغرض منه التوصّل إلى الأمرين الأخيرين كان مقتضى الأصل جواز الاستنابة فيه ، إلّا أن تكون أصل الزيارة واجبا ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١١ / ١٦٥ الحديث ١٤٥٣٧.

٣٨٥

فيلاحظ فيها مباشرة طيّ المسافة لتبادرها من الواجب ، كما في الحجّ الواجب ، لوجود غرض في تعلّق الوجوب بها الموجب لمباشرتها بتمام أجزائها.

وأمّا الغرضان الآخران فممّا يحصل بالنيابة مطلقا ، كما هو معمول الآن في تفقّد الأكابر من أحوال أمثالهم ، أو ممّن هو دونهم بإرسال خادمهم وتبليغ السلام وسؤال أحوالهم ، فهذا النائب للزيارة يبلّغ سلامه إليه.

وأمّا صلواته المهدى بها فينوي بها لنفسه ويقصد تقرّب نفسه بها لحصول زيارته لنفسه أيضا بنيابته للغير لكنّه يهدي بهذا الفعل المتقرّب به عن المنوب عنه ، ويمكن أن ينوي النائب جميع أفعاله وسلامه لنفسه ويهدي ثواب المجموع إليه أي إلى المنوب عنه.

ويستفاد من الأخبار (١) كلا القسمين في الاستنابة للزيارة لقبور الأئمّة عليهم‌السلام وبيت الله لكن ما ورد من جواز أن يستنيب جماعة شخصا واحدا للحجّ المندوب (٢) منزّل على القسم الثاني ؛ لعدم جواز استنابة شخص إلّا عن واحد ، فتدبّر! فيجوز في الحجّ المندوب الاستنابة فينوي في جميع الأفعال تقرّب نفسه ويترتّب عليه تقرّب المنوب عنه ، فيستأجره لأن يفعل هذه الأفعال لنفسه متقرّبا بها إلى الله بتقرّب هذا الشخص إليه ، أو ليفعلها ويفوّض ثوابها إليه.

وأمّا في الواجب لمّا كان التذلّل مسبّبا عن مباشرة طيّ الطريق وإتيان الأفعال بنفسها لم يجز التوكيل فيه ، وكذا لو نذر الزيارة ـ مثلا ـ اشترطت المباشرة قطعا ، إلّا أن يكون متعلّق النذر أعمّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٤٢ الباب ٤٢ من أبواب المزار وما يناسبه.

(٢) وسائل الشيعة : ١١ / ٢٠٢ الباب ٢٨ من أبواب النيابة في الحجّ.

٣٨٦

وممّا ذكرنا في صلاة الإهداء اتّضح جواز الصلاة المندوبة بقصد الثواب الدنيوي كتوسعة الرزق وصلاة الحاجة ، فإنّ هذا الأمر إنّما هو على الفعل المتقرّب به ، لا على المطلق ، فهو ينوي ترتّب الأثر الدنيوي ويطلبه من الله بهذا الفعل الّذي يتقرّب به ، وكذا مثل الجنّة والنار اللتين ادّعى الشهيد الأوّل في قواعده ـ على ما قيل ـ (١) الإجماع على بطلان العبادة بجعلهما غاية لها ، فإنّ قصدهما ـ على ما قلنا ـ غير مضرّ إجماعا ، ومراده قدس‌سره قصدهما على وجه يجعلهما غاية للعبادة بلا توسّط القربة ، بأن يصلّي للجنّة لا لله ، ويقصد بهذه الصلاة المتقرّب بها الجنّة أو الخلاص من النار ، فافهم!

وأمّا الحجّ الواجب عن الميّت وكذا الصلاة الواجبة بعد الحياة ؛ فالاستيجار والتوكيل غير مناف لقصد قربة الفاعل ، فإنّ الفعل بعد ما كان مشروعا مطلوبا للشارع وهو إتيان واجب الغير بعد حياته ، ورتّب الشارع عليه الأثر الّذي كان يترتّب على المفعول له لو كان فاعلا على فعل هذا النائب وهو البراءة جاز أخذ الاجرة على هذا الفعل.

فكما أنّه قبل الاستيجار لو ينوي بفعله له تقرّبه وتقرّب غيره مترتّبا وكان يبرئ ذمّته لو كان واجبا عليه ، فكذا يجوز أخذ الاجرة عليه ، كما أنّ متعلّق النذر قبل النذر لا بدّ أن يكون مطلوبا ومشروعا وبه يصير واجبا ، فكلّ قيد كان فيه قبله فهو باق بعده حتّى الوجوب والندب.

وهل يجب في نذر الواجب والمندوب حين فعلهما أن ينوي وجوبهما النذري غير الوجوب أو الندب الأصلي؟ قولان ، ولعلّ الاكتفاء بالفعل لو كان

__________________

(١) الأربعون للشيخ البهائي : ٢٢٥ و ٢٢٦.

٣٨٧

غافلا حينه أقوى ، أمّا لو كان ملتفتا به حينه فغير شرط جزما.

فالحاصل ؛ أنّ الأجرة على هذا الفعل المتقرّب به الّذي يأتي به بقصد النيابة وبراءة ذمّة المنوب عنه ، فهذا معنى قولهم : إنّ الاجرة على جعله نفسه نائبا لا على أصل الفعل ، لكن لو كان هذا الفاعل الّذي يجعل نفسه نائبا ممّن يجب عليه ذلك لم يجز أخذ الاجرة عليه كالوليّ ، لكنّه يجوز استيجار غيره.

وأمّا الغرض الّذي كان في الحجّ والصلاة الواجبين حال الحياة ، فقد انتفى بعدها ، حيث إنّ الشارع حكم بوجوبهما على الوليّ عنهما ، ومنفعة هذه الأفعال الّتي واجبة على الوليّ وإن كان غير راجعة إليه حقيقة ، لكنّها راجعة إليه حكما ، لسقوطها عنه بفعله.

وهذا المقدار كاف في تملّك المستأجر للمنفعة ورجوعها إليه ، كما لو استأجر شخص من شخص داره ليسكن المؤجر فيها ، فإنّها بمنزلة العارية من مالك المنفعة ، إلّا أن يشترط فيها ذلك ـ فتأمّل ـ وأمره ببناء دار غيره لا ببناء دار نفسه ، فافهم!

وأمّا الأذان والإقامة والصلاة المندوبة ؛ فلمّا لم يكن أصلها عن الغير مشروعا لم يجز الاستنابة فيها ولو على نحو ما ينوي في الصلاة عن الميّت وزيارة قبور الأئمّة عليهم‌السلام ، فلا تغفل! فإنّ ضابطة الاستنابة ما كان للمنوب عنه التولّي بنفسه وبغيره ، وللنائب أن يتولّاه عن غيره ، ولم يثبت ولم يدلّ دليل على ذلك في ما نحن فيه ، كما في الواجبات بعد حياة المنوب عنه.

فروع

من العبادات ما يثبت من الشرع الإتيان بها وإهداء ثوابها إلى الغير ، ومن

٣٨٨

ذلك تلاوة كلام الله المجيد والحجّ المندوب على أحد الوجهين ، ولا يجوز في مثل التلاوة النيابة ، لعدم قيام دليل على مشروعيّته وجواز التولّي في القراءة.

وأمّا صلاة ليلة الدفن وإن كان المكلّف بها جميع المسلمين سوى الوليّ ، لكن حيث شرّع ذلك بقصد الإهداء لا بقصد النيابة عن الوليّ ـ فافهم ـ جاز أخذ الاجرة من الوليّ لهذا الفعل المتقرّب به على نحو ما حقّقناه في صلاة الاستيجار.

وأمّا النذر فغير قابل للنيابة ، إذ الأثر وقصد القربة مترتّب على الفعل من حيث صدوره ، لا من حيث الانتساب كما في المعاملات ، فإنّ حقيقة البيع ـ مثلا ـ إدخال المبيع في ملك الغير بإزاء الثمن ، وهذا لا يشترط فيه صدور الإيجاب من المالك ، بل يكفي إنشاء الوكيل ولو لم يقصد النيابة ، بخلاف النذر ، فإنّه لا يمكن أن يقصد الوكيل تقرّب الموكّل بهذا اللفظ الّذي صدر منه ويحصل به تقرّب اللافظ.

وأمّا الظهار فلمّا كان معصية ـ وقد مرّ عدم جواز التوكيل في المعاصي ـ لكنّه حيث يكون هذا الفعل من الوكيل أيضا معصية ، وليس كذلك الظهار.

وأمّا حرمة الطلاق للحائض من الوكيل ، القول بوقوعه وإن أثم المطلّق ـ كما هو مذهب العامّة (١) ـ فلإيجاده هذا الفعل المحرّم وإعانته على الإثم.

وأمّا الظهار ؛ فلمّا لم يصحّ التوكيل فيه ولم يترتّب عليه أثره بالنسبة إلى الزوج لم يكن هذا الفعل من الوكيل محرّما ، فتأمّل!

ولكنّ التحقيق أنّه لو لا الإجماع على عدم جواز التوكيل فيه لأمكن المناقشة فيه ، والمناقضة بمثل طلاق الحائض على مذاهب العامّة حيث يقولون

__________________

(١) الأم : ٥ / ١٨١ ، المغني لابن قدامة : ٨ / ٢٣٧ و ٢٣٨ ، الشرح الكبير : ٨ / ٢٥٣ و ٢٥٤.

٣٨٩

بانعقاده مع كونه محرّما (١).

فمقتضى ذلك تأثير التوكيل هنا وإن كان محرّما بالنسبة إلى الموكّل بل هنا أولى ، لما ذكرنا من عدم المعصية بالنسبة إلى الوكيل بخلافه هناك ، إلّا أن يقال : إنّ الحكم الوضعيّ للظهار تابع لحرمته ، بمعنى أنّ الظهار المحرّم موجب للفراق ووجوب الكفّارة ، وليس الظهار الواقع من الوكيل محرّما.

وهذا أيضا ضعيف ، لكونه بالنسبة إلى الموكّل محرّما لو جاز التوكيل فيه ، ووجوب الكفّارة لازم له لا للوكيل.

فالعمدة هو الإجماع في المسألة.

وبالجملة ؛ المسألة محتاجة إلى التأمّل وليس مجال لنا الآن.

وأمّا اللعان ؛ فمبنيّ على أنّه شهادة أم يمين ، فينبغي التكلّم أوّلا في الشهادة ، فنقول : إنّ الإخبار إن كان عن حقّ للغير على نفسه ، فهو إقرار ، وإن كان عن حقّ له على غيره ، فهو ادّعاء ، وإن كان عن حقّ الغير على الغير ، فهو شهادة ، ولا يمكن التوكيل في الإخبار ، لأنّ كاشفيّة الخبر عن الواقع أمر قائم بصدور الخبر ، فالتوكيل في الإخبار غير مفيد ، لعدم حصول الكشف في إخبار الوكيل.

نعم ؛ إخباره يكشف عن أنّ المخبر قد أخبر بذلك ، لأنّ المخبر به للوكيل هو إخبار الموكّل.

وأمّا شهادة الفرع ، فهي من هذا القسم ، ولكن لمّا كان حضور الشاهد عند الحاكم شرطا لم يجز التوكيل إلّا عند الضرورة ، فتدبّر! حتّى يتّضح أن ليس ذلك توكيلا ، لأنّ الشهادة نوع من الإخبار ، ولا يصحّ التوكيل فيه حسب ما مرّ.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٦٤.

٣٩٠

وأمّا التوكيل في الدعاوى ؛ فهو توكيل في الخصومة والترافع وإقامة الشهود وجرحهم ، وهذه امور يكون له التولّي بنفسه وبغيره ، لأنّ هذه ولاية فله إرجاعها إلى غيره ، بخلاف أصل تحرير الدعوى فقط ، إلّا أن يكون من باب المقدّمة ، فيصحّ التوكيل فيه تبعا للامور المذكورة.

فلو وكلّه فيه لا فيها بطلت قطعا ، لأنّه إن حرّر الدعوى من قبل نفسه ، بأن يقول : فلان يدّعي عليك كذا ، فهذه الدعوى غير مسموعة ، لعدم الخصومة معه.

وإن قال : أنا وكيل في هذه الدعوى فقد عرفت بطلانه ، لعدم ولاية للمخبر في الإخبار حتّى يفوّضها إلى غيره ، وأمّا الإقرار فكذلك غير قابل لها إجماعا ، وإنّما النزاع في أنّ التوكيل فيه إقرار أم لا؟

ولعلّه من باب الإقرار المعلّق ، كأن يقول : إن جاء رأس الشهر فله عليّ كذا.

فنقول : إنّه إذا قال : اذهب وأقرّ عنّي لفلان ، معناه : إنّه إذا أقرّ الوكيل بكذا ، فله عليّ كذا ، فافهم.

فلعلّ هذا مراد الشيخ رحمه‌الله حيث حكم بأنّ التوكيل فيه إقرار (١) ، قال العلّامة في «القواعد» : وفي التوكيل على الإقرار إشكال ، فإن أبطلناه ففي جعله مقرّا بنفس التوكيل نظر (٢) ، انتهى.

والحاصل ؛ إنّ التوكيل غير معقول في الإخبارات ، بل مختصّ بالإنشاءات ، إذ لا ولاية للموكّل في الإخبارات حتّى يوكّلها ويفوّضها إلى غيره ،

__________________

(١) المبسوط : ٣ / ٣٢.

(٢) قواعد الأحكام : ١ / ٢٥٤.

٣٩١

لأنّ الإخبار إن كان عن حقّ للغير على غيره وهي الشهادة ، فإخبار الشهادة فيه قد اخذ على وجه الموضوعيّة للحكم وحضور الشاهد جزء الموضوع ، فلا يمكن التوكيل فيها.

أمّا شهادة الفرع فعلى ثلاثة أقسام :

أعلاها : الاستدعاء (١) ، وهو أن يقول : اشهد عنّي عند الحاكم بكذا.

وثانيها : أن يسمع شهادته عند الحاكم فينقلها عند غيره.

وثالثها : أن يكون التقاول والشهادة بين الشاهد والسامع.

وهذان القسمان وإن كانا أخفض من الأوّل ، لكنّهما معتبران إلّا القسم الأخير ، إذ لم يشتمل على ذكر السبب ، مثل أن يقول عن ثمن ثوب أو عقار ، وكذا القسم الأوّل لكن إن كان مقام الاضطرار ، فليس من باب التوكيل ، لأنّ حجّية الإخبار من جهة كاشفيّة الخبر عن الواقع ، وهذه الصفة غير قائمة بخبر الوكيل.

نعم ، يكشف خبره عن خبره الكاشف عن الواقع ، وليس هذا توكيلا في شي‌ء ، وإن كان عن حقّ لازم على نفسه للغير وهو الإقرار ، فهو وإن كان إنشاء في وجه لكن حجّيته باعتبار كاشفيّته عن الواقع ، فلا يمكن التوكيل فيه.

وأمّا شاهد الإقرار ؛ فهو كاشف بنفسه عن إقراره لا عن الواقع ، فتدبّر!

والحاصل ؛ أنّ إخبار الوكيل بإقرار الموكّل إمّا إخبار عن حقّ الغير على الغير ، وإمّا إخبار عن حقّ لازم للغير على المخبر ، والأوّل شهادة ، وبطلان الثاني بيّن ، وبطلان اجتماعهما أبين.

__________________

(١) لا لتماس الشاهد الأصل رعاية شهادته والشهادة بها «منه رحمه‌الله».

٣٩٢

فلو قال : اشهد عنّي أنّ لفلان عليّ كذا ، لا يدلّ على الإقرار ، لأنّ التوكيل إنشاء وهو إخبار حقيقة إلّا أن يقال بدلالته عليه التزاما ، حيث إنّه يضمّ الإخبار فيكون إقرارا.

قال المحقّق الثاني في شرح قول العلّامة المتقدّم ذكره بعد ما ذكر وجهي الإشكال : وفيه نظر ، أي في دليل كونه إقرارا بما أشرنا إليه أخيرا من أنّ التوكيل يتضمّن الإخبار.

قال : لأنّ ما تضمّنه التوكيل هو صورة الإخبار ، وليس إخبارا حقيقة ، للعلم بأنّ قوله : لزيد عندي كذا ، في قوله : وكّلتك بأن تقرّ عنّي بأنّ لزيد عندي كذا ، لم يأت به للإخبار ، بل لبيان اللفظ الّذي يخبر به ، فهو في الحقيقة من تتمّة بيان الموكّل فيه ، والأصحّ أنّه لا يكون إقرارا (١) ، انتهى.

قد سبق أنّه يحتمل أن يكون هذا من باب الإقرار المعلّق ، وسيجي‌ء ما يدلّ عليه وإن كان في إطلاقه نظر ، وإن كان الإخبار ادّعاء فقد ظهر وجهه ـ أي وجه عدم التوكيل فيه ـ ممّا ذكر في الإقرار والشهادة ، بل في مطلق الإخبار (٢).

__________________

(١) جامع المقاصد : ٨ / ٢٢٠.

(٢) قال في محكي «الخلاف» يصحّ إقراره ويلزم الموكّل بالمقرّ به إذا كان معلوما ، وبتفسيره إن كان مجهولا ، لعدم المانع منه والأصل جوازه.

مضافا إلى عموم «المؤمنون عند شروطهم» (الخلاف : ٣ / ٣٤٤ المسألة ٥) ، وهذا شرط أنّه يلزم ما يقرّبه الوكيل.

أقول : الظاهر أنّ مراده من الأصل هو الصحّة والجواز المستفاد من عمومات الوكالة ، فمعارضته بأصالة البراءة ـ كما قيل ـ في غير محلّه ، لما حقّق في محلّه من ورود الأدلّة الاجتهاديّة على الفقاهتيّة ، لأنّها دليل حيث لا دليل ، إذ موضوعها ـ وهو المشكوك ـ يرتفع بها. ـ

٣٩٣

__________________

ـ وقول السيّد صاحب «الرياض» : إنّ في هذا الأصل نظرا ، لعدم الدليل عليه (رياض المسائل : ٦ / ٦٤) لعلّه من جهة أنّه فهم منه أصل الجواز الغير المستفاد من العمومات.

وأنت خبير بأنّ الحكم التكليفي الّذي يستنبط منه الحكم الوضعي كإباحة التصرّف وحلّيته وتسلّط الناس على أموالهم إنّما هو في الحكم المستفاد من دليل اجتهاديّ ، لا من دليل فقاهتي ، فتدبّر!

فلا ينبغي للشيخ البناء في الصحّة على مثل هذا الأصل الفقاهتي الّذي فهمه هذا السيّد السند مع ظهور قوله ولا مانع من إرادة المقتضي من الأصل ، وإن كان استدلال الشيخ محلّ نظر ، وبيانه موقوف على مقدّمة ، وهي : المخصّص المجمل ، إمّا مجمل من حيث المصداق ، وإمّا من حيث المفهوم.

ففي الأوّل ؛ قيل : يتمسّك بالعموم ، كما هو منقول بناء القدماء ، إذ لا يرفع اليد من العموم إلّا بمخصّص متيقّن ، فكأنّه قال مثلا : أكرم العلماء إلّا زيدا المعلوم ، أو كقولك : أكرم العلماء لا تكرم الفسّاق ، فشكّ في أنّ زيدا ـ مثلا ـ فاسق أم غير فاسق؟ فالمشكوك أنّه زيد أو لا ، غير مخرج عن العموم ، بل الأصل عدم كونه زيدا.

والّذي بنى عليه المحقّقون من المتأخّرين هو الوقف ، لأنّ الكبرى لا يثبت الصغرى ـ فتأمّل ـ ولأنّ مرجع هذا التخصيص إلى تنويع العامّ ، فكأنّه قال : لا تكرم زيدا العالم ، وأكرم العلماء غير زيد ، فأصالة عدم كونه زيدا معارض بعدم كونه غير زيد ، لكونهما أمرين وجوديّين.

وأمّا المشكوك بالمخصّص المجمل المفهومي فالتحقيق فيه ـ كما عليه أهله ـ هو الأخذ في التخصيص ، والعمل بالعموم بالمتيقّن ، والوقف في المشكوك ، لأنّ إجمال المخصّص يوجب الإجمال في العامّ ، فلا مجال للتمسّك به ، فافهم ، وتمام الكلام في محلّه.

فإذا تمهّدت هذه فنقول : مع أنّه لا عموم ولا إطلاق في باب الوكالة ، بل مشروعيّتها تثبت من موارد خاصّة ورد من الشارع إمضاؤها فعلا أو قولا أو تقريرا لو سلّمنا العموم ، ولو من عموم الحكمة في بعض الإطلاقات ـ كما قيل ـ لا شكّ في تخصيصها بما لا يقبل النيابة لترتّب الشارع الغرض والأثر على المباشرة ، فهذا أمر مجمل مفهوما أو مصداقا ، فلا يجوز في ما شكّ أنّه ممّا يقبلها أو ممّا لا يقبلها التمسّك بالعموم.

وهذا نظير أنّه لو شكّ ـ مثلا ـ في أنّ بعض الأشياء مال أم لا؟ فلا يجوز التمسّك لجواز بيعه بعموماته ، لأنّ بالكبرى لا يثبت الصغرى. –

٣٩٤

هذا ، وأمّا النذور والأيمان والعهود فهي من العبادات غير قابلة للتوكيل ، وتحقيق المقام يقتضي بيان حقائقها ، فنقول : إنّ النذر هو الالتزام وإلزام أمر على النفس من قبل الله تعالى ، فمعنى «لله عليّ كذا» : أنّه بعد ما أذن الشارع بأدلّة تشريعيّة النذر أن يلتزم عنه تعالى بأمر ، ويلزمه عنه على نفسه ، مثل : أن فوّض تشريع بعض العبادات على الناس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على نفسه ، فإذا أوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا عليهم عنه تعالى فقد فعل هذا بأمره وصار هذا واجبا يكون أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره تعالى.

فكما أنّ أحدا لو فوّض تعيين أمر إلى غيره فعيّن ، يقال : إنّه معيّن ، فكذلك ما شرّعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإذنه تعالى الكلّي كان تشريعا من الله ، فانظر إلى ما يشرّعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول مثلا : من فعل كذا فله أجر كذا ، فهذا إنشاء منه في جعل الحكم وفي جعل الثواب المعيّن ، وليس إخبارا قطعا ، إذ لو لا تشريعه ذلك الحكم لم

__________________

ـ نعم ؛ عند الشكّ في شرطيّة شي‌ء أو مانعيّته يجوز التمسّك بالعموم ، لأنّه شكّ في المخصّص رأسا ، لا عند الشكّ في وجود ركن العقد وعدمه ، فالإقرار مشكوك في قابليّته لها ، فلا يجوز التمسّك بعموماتها ، لأنّ الموضوع غير محرز ، فإجراء الحكم غير مقدور ، فلا أصل يقتضي الجواز ، لا أنّ المانع محتمل حتّى يدفعه عموم المقتضي.

وأمّا التمسّك بالشرط ؛ فالشرط هو الالتزام في عقد لازم كالبيع ونحوه لو اريد ظاهر هذا الكلام ، وهو الأخذ بالوجوب ، لعدم وجوب الوفاء بمطلق الشرط إلّا ما ذكرنا.

ولو قيل : إنّه العهد والالتزام لوجب حمل الخبر (الاستبصار : ٣ / ٢٣٢ الحديث ٨٣٥) على مطلق الرجحان ، أو طرحه ؛ للإجماع على عدم بقائه على عمومه بخروج أكثر أفراده الموهن للتمسّك به ، مع بناء العلماء على التمسّك به للوجوب ، فنحو هذا الشرط غير لازم الوفاء قطعا ، لعدم كونه مشروطا في ضمن عقد لازم ، ولا يلزم من استحباب الوفاء التزامه بذلك ، وعدم وجود الإجماع على الوجوب في المقام الموجب لتخصّصه لو لم يحمل على الوجوب بالوجه الّذي ذكرنا من حمل الشرط على المعنى المذكور ، وهو الالتزام في ضمن عقد لازم كالبيع ونحوه «منه رحمه‌الله».

٣٩٥

يكن الثواب مترتّبا على فاعله.

وهذان الإنشاء ان بعد إذنه تعالى له في التشريع ، فكأنّه قال : اجعل عنّي كلّ حكم تريد وتراه صلاحا ، واجعل ثوابا تراه عليه ، فما جعله هو ما جعله الله تعالى ، فهذا الناذر قد أذن الله تعالى أن يجعل ، ويوجب عنه عليه أمرا لكن لا مطلقا بل ما لم يكن محرّما وكان مأذونا عنّي مع قطع النظر عن التزامك به ، فهذا يقول : قد أوجبت عن الله على نفسي كذا ، المستفاد هذا من قوله : لله عليّ كذا ، كما يقال : لك عليّ أن أفعل كذا.

فكما أنّه لو أمرك شخص بأن تفعل كذا بكذا فقلت : لك عليّ أن أفعل كذا بكذا ، يصير هذا التزاما منك عنه ، لكنّه بالأخرة التزام منه عليك ، فكذلك ما نحن فيه بعد تشريع أن يلتزم الإنسان أمرا راجحا على نفسه يكون ذلك الأمر الملتزم ملتزما من الله تعالى ، غاية الأمر بلسانه واختياره ، حيث إنّ معنى قوله : لله ، هو امتثال أوامر تشريع النذر ، فلا احتياج إلى قصد القربة ، إذ دليل اشتراطها لم يدلّ إلّا على كون الفعل لله تعالى غير محتاج إلى اللفظ بالتقرّب أو إخطار هذا المعنى ، بل المحتاج إليه في حصولها هو إتيان الأمر في الخاطر حين الفعل وقصده امتثاله.

وهذا أمر حاصل بقوله : لله ، كما يقول : أصلّي صلاة الصبح لأنّ الشارع أمرني بها ، ولهذا لم يذكر جماعة في النذر اشتراطها غاية ، كالشهيد الأوّل في «اللمعة» (١) مع كونها شرطا فيه في الجملة إجماعا ، واستقر بهما الشهيدان في «الدروس» و «الروضة» (٢) ، لكنّه قد يقال : بأنّ قوله : لله ، لبيان أن الالتزام من قبل

__________________

(١) اللمعة الدمشقيّة : ٩٧.

(٢) الدروس الشرعيّة : ٢ / ١٥٠ و ١٥٤ ، الروضة البهيّة : ٣ / ٣٦.

٣٩٦

الله وبإذنه ، وأمّا أنّ هذا الالتزام للتقرّب إليه تعالى أو لغيره فأمر آخر لا بدّ منه.

فلو نوى في صلاته الصبح ـ مثلا ـ كونه مأمورا به غير ناو بفعله التقرّب ، لم تكن صحيحة.

أقول : إنّما الكلام في انفكاك حصول التقرّب عن قصد الامتثال للأمر وإتيان الفعل بعنوان أنّه مأمور به ، قال الله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ولم يقل إلّا ليقصدوا التقرّب والإخلاص في الأوامر.

نعم ؛ حصول الإخلاص متوقّف على إتيان المأمور به بعنوان أنّه مأمور به.

وبالجملة ؛ المسألة غير خالية عن الإشكال ولم يحصل الترجيح لنا الآن فلا بدّ من ملاحظة الاحتياط حين النذر وبعده ، فتأمّل!

فحيث قد حقّق كون النذر عبادة ومأمورا به فقد يناقش فيه ، بناء على كونه مكروها مع عدم اجتماع الكراهة مع العبادة ؛ لكونها راجحة في ذاتها ، ومعنى الكراهة هو المرجوحيّة في حدّ ذاتها ، والكراهة في بعض العبادات كالصلاة في الأرض السبخة ـ مثلا ـ معناها المرجوحيّة بالنسبة المعبّر عنها بالأقليّة ثوابا ، فالصلاة فيها مرجوحة بالنسبة إليها في غيرها ، عكس الاستحباب في الواجب.

فنقول : إنّ معنى كراهة النذر معناها مرجوحيّة الالتزام وفعل الملتزم به بالنسبة إلى عدم الالتزام ، وفعله بأمره الندبي وأرجحيّة المندوب على الواجب في نظر الشارع غير مستبعد ، كما يومي إلى ذلك ما ورد من أنّ ثواب زيارة قبر

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.

٣٩٧

الحسين عليه‌السلام أضعاف ثواب الحجّ والعمرة (١).

وإن قيل في جواب الإشكال الوارد في المقام من أنّ ثواب المندوب كيف يكون أضعاف ثواب الواجب ، مع كون الأوامر والنواهي تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة؟ فلو كان مصلحة المندوب أكثر لوجب أن يكون هو الواجب بأنّ المراد من الحجّ ، الحجّ المندوب لا الواجب؟

لكنّ المحقّقين أعرضوا عن هذا الجواب ، وقالوا : إنّ وجود المفسدة في ترك أمر مع وجود مصلحة فيه كافية في الوجوب ، مع كون بعض الأفعال المندوبة غير مشتمل على الفساد في تركها ذا مصالح متعدّدة متكثّرة ، توجب أضعاف ثواب الواجب المترتّب على مصلحة.

وهذا ممّا يشهد به العقل أيضا ، فإنّ إتيان الفعل المأمور به غير إلزامي ، بل غير مأمور به ، لكنّه مرضيّ للآمر ، يدلّ على أطوعيّة المأمور الفاعل للآمر من إتيانه المأمور به الإلزامي ، وقد ورد في الأخبار أنّه تعالى يباهي ملائكته إذا صلّى العبد صلاة الليل ، فيقول : انظروا إلى عبدي مع أنّي ما أوجبت عليه كيف يقوم في هذه الظلمة والبرد ويحرّم على نفسه النوم ويلزمها بالسهر (٢).

وقد ورد فيها وجه ومعنى آخر للكراهة ، وهو مرجوحيّته من جهة تضييقه الأمر على نفسه ، واحتمال أن لا يفعل ويعصي ولم تكن المعصية حاصلة لو لا الالتزام.

وهذا نظير الأوامر بإقامة المعروف وكراهة الالتقاط ونظير الأعمال

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٤ / ٤٤٥ الباب ٤٥ من أبواب المزار وما يناسبه.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ١٥١ الحديث ١٠٢٧٧ و ١٥٧ الحديث ١٠٢٩٧ ، نقله بالمضمون.

٣٩٨

والصناعات المكروهة ، مع كونها واجبة كفائيّة وتوهّم كونها واجبة توصّليّة فلا منافاة لها مع الكراهة ، لعدم كونها عبادة ، فاسد ، كيف لا؟ وعدم اجتماعها معها من جهة اشتمالها على مصلحة راجحة والكراهة حاصلة من مفسدة راجحة غير ملزمة.

وهاتان الجهتان قد حصلتا من الأمر والنهي والتوصّليّات المكروهة من هذا القبيل ، ومجرّد اشتراط القربة فيها دونها غير فارق ، فتدبّر!

وأمّا العهد ؛ فمعناه الجعل بينه وبينه تعالى ، فكأنّه بعد ما أذنه تعالى في أن يعاهد معه تعالى ، صار وكيلا عنه تعالى ، فيقول : عاهدت وأوجبت له عليّ أن أفعل كذا ، قالوا : ولا يشترط فيه وفي اليمين القربة ولا كون متعلّقهما طاعة.

وممّا يدلّ على كفاية قوله : لله عليّ كذا في النذر وعدم لزوم قصد القربة غاية للفعل ، هذا الّذي ذكروه من اشتراطهم كونه في النذر طاعة ، بخلافه فيهما ، إذ لا يمكن أن يلزم على نفسه عنه شيئا إلّا وكان مرضيّا له وراجحا عنده ، وليس الراجح والمرضيّ عنده إلّا ما يقرّب العبد (وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى * إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٢).

واليمين على أمر مستقبل معناه فقدان الله (٣) لو تخلّف عن المحلوف عليه ، لأنّ معنى القسم في قوله : أقسم بالله أفعل كذا هو الفقدان (٤) ، والمراد منه هنا هو البعد عنه تعالى.

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.

(٢) الليل (٩٢) : ١٩ و ٢٠.

(٣) كذا في النسخة.

(٤) كذا في النسخة.

٣٩٩

وأمّا اليمين والدعاوى ؛ فهي إخبار لا إنشاء ، لأنّها حلف على أمر ماض.

إذا تحقّق ما ذكر فنقول : إنّ الالتزام والمعاهدة والحلف أمر ربطيّ بينه تعالى وبين الناذر وامتثال للأوامر الإذنيّة والتشريعيّة ، وظاهر الأمر هو المباشرة ، ولذا قلنا : إنّ الأصل في العبادات عدم جواز الاستنابة حتّى يستفاد من الدليل إلغاء جهة المباشرة ، كما أمر الشارع عليه‌السلام الوليّ بإيجاد الحجّ من مال الميّت بالاستيجار وقضاء صلواته الفائتة حتّى أنّا مع أنّه جوّزنا في الحجّ المندوب والزيارات المندوبة الاستئجار ابتداءً ، بخلاف الواجبة بالنذر ، فإنّها تجب فيها المباشرة.

وإن أردت توضيح المطلب فانظر إلى حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المأذون له التشريع في الأحكام هل له أن يوكّل غيره في امتثال أمر الله الّذي مفاده الإذن في التشريع؟ وقصد الوكيل قربة الموكّل غير ممكن لعدم حصول امتثال أوامر النذر منه.

والحاصل ؛ أنّ الإذن والأمر لشخص في فعل ، ظاهر في المباشرة ، ولذا حكموا بعدم جواز التوكيل من الوكيل إلّا بالإذن من الموكّل ، أو قيام القرينة ، لأنّ الإذن نوع ولاية مطلقا وإثبات ولاية خصوصا في غير العبد ولا يثبت إلّا لمن نصّ له بذلك.

التوكيل في المباحات

وأمّا التوكيل في المباحات ؛ فمنها ما هو مباح الأصل.

ومنها ما هو مسبوق بملك الغير كالالتقاط والإحياء.

فالقسم الأوّل قد وقع فيه الخلاف من جهة دلالة أدلّة الإباحة مثل : «من

٤٠٠