الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

مطلق الواجبات (١) ، فإنّه قد يتوهّم أنّه يستفاد منها كون حكمها حكم الدين ، مثل ما ورد في أخبار الحجّ من أنّه دين الله ودين الله أحقّ أن يقضى (٢).

وقد يجاب عن ذلك بأنّ تنزيل الحجّ منزلة الدين لا يدلّ على كون مطلق الواجبات حالها حال الدين وكونها بمنزلته ، فيمكن أن يكون له نحو خصوصيّة ، بحيث صار لذلك من الوضعيّات حتّى يكون الوجوب التكليفي له منتزعا من الوضع ، ولذلك أجمعوا على كونه مخرجا من صلب المال.

وفيه : أنّه ورد في باب أخبار الصلاة أيضا ما يستفاد منه هذا المضمون ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا تؤخّر الصلاة فإنّها دين الله» (٣) ، ومن جهة عدم القول بالفصل يتمّ المدّعى في سائر الواجبات.

فحقّ الجواب أن يقال : أوّلا ؛ بأنّه إنّما يتمّ المدّعى إذا ثبت عموم المنزلة ، بمعنى أن يكون التكليف الإلهي مثل الدين في جميع الآثار (٤) ، أي حتّى من حيث اعتبار الوجود لها في الذمّة ، حتّى يكون لازم ذلك تأديته من أصل المال.

ومن المعلوم ؛ أنّه لم يثبت ذلك ، إذ يحتمل أن يكون التنزيل بلحاظ وجوب القضاء فقط ، كما يمكن أن يكون تنزيل الصلاة أيضا بلحاظ عدم جواز تأخيره ، لا من جميع الجهات ، إذ لا يستفاد من التنزيلين عموم أو إطلاق.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٩ / ٤٢٦ الباب ٩١ من أبواب الوصايا.

(٢) كنز العمّال : ٨ / ٤٩٥ الحديث ٢٣٨٠٤ ، تذكرة الفقهاء : ٧ / ٩٩.

(٣) الكافي : ٨ / ٣٤٨ الحديث ٥٤٧ ، مع اختلاف في الألفاظ.

(٤) ويشهد على ذلك أنّهم ما التزموا بمطلق الآثار الّتي للديون العباديّة ؛ للديون الإلهيّة كخروج المستثنيات (كعدم خروج المستثنيات في مثل الكفّارات) في الكفّارات وغيرها ؛ للانصراف وغيره ، كما هو الظاهر ، والمسألة تحتاج إلى المراجعة ، والله وليّ التوفيق ، «منه رحمه‌الله».

٤٨١

وثانيا : مع تسليم استفادة عموم التنزيل ، يمكن أن يكون ذلك في خصوص الحجّ ، بالبيان الّذي احتمله كلام المجيب ، كما يؤيّد ذلك ورود الأخبار المتظافرة في وجوب إخراجها من صلب المال (١) فتأمّل!

وثالثا : أنّه لا بدّ أن يعلم المراد من أنّ المفضّل عليه المستفاد من لفظ «أحقّ أن يقضى» (٢) أيّ شي‌ء؟ فإن كان المراد تفضيلها على مطلق الديون حتّى حقوق الناس وديون العباد فهو ليس بمراد قطعا ، للإجماع على تقدّم الدين على الحجّ ، فتعيّن أنّ المراد به إمّا التجريد من معنى التفضيل مطلقا ، أو الترجيح على التبرّعيّات ، فيكون المراد : أنّه إذا أوصى بثلث ماله لصرفها في التبرّعيّات والحجّ ، ولم يف ثلث المال بالمجموع ، فالحجّ مقدّم ، فعلى ذلك يسقط الاستدلال بمثل هذه الفقرة على وجوب إخراج الواجب المالي من الأصل ، إذ ليس ناظرا إليه.

أقول : وفيه ما لا يخفى ، لأنّه أوّلا من قال بتقدّم الدين على الحجّ؟ بل الحجّ مشارك مع الغرماء على ما عليه الأصحاب ، وثانيا إنّ الحجّ لا يزاحم التبرّعيّات لو أوصى بصرف ثلث المال فيها ، بل الحجّ عند ذلك يستخرج من الأصل لو لم يف الثلث بهما ، فظهر من ذلك إشكال ثالث ، وهو : أنّه لا مجال لتنزيل هذه الفقرة على مورد الثلث لا الأصل ، مضافا إلى تظافر الأخبار في إطلاق الدين على الحجّ (٣) عند الحكم بوجوب إخراجها من أصل المال ، ولا يختصّ التعبير به بالمضمون المتقدّم ، كما يظهر ذلك لمن راجع أخبار باب الحجّ.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٥٧ الباب ٤١ من أبواب الوصايا.

(٢) مرّ آنفا.

(٣) مرّ آنفا.

٤٨٢

فرع : لو أوصى أحد بإعطاء زيد دينارا وتردّد أمر ذلك بين كونه إعطاء تبرعيّا أو دينا واجبا عليه أداؤه ، ولم يظهر منه ما يدلّ على أحدهما ، هل الأصل يقتضي كونه تبرعيّا ، ولازمه الخروج من الثلث ، أو دينا واجبا ، حتّى يستخرج من الأصل؟

قد يقال بالثاني ، نظرا إلى أنّ عمومات الوصيّة تقتضي خروج الوصيّة من الأصل مطلقا ، ثمّ خصّص ذلك بالتبرعيّات ، فإذا ارتفع كونها تبرعيّا بالأصل فتصير عمومات الوصيّة محكمة.

ولكن ذلك خلاف التحقيق ، وذلك لأنّه لا إشكال في أنّ لنا عمومات اخر في مقابل عمومات الوصيّة ، وهي ما يدلّ على ردّ الوصيّة إلى الثلث الّتي أوجبت تخصيص عمومات الوصيّة ، ثمّ خصّصت هذه العمومات أيضا بما دلّ على وجوب إخراج الزكاة من صلب المال ، لكونها واجبا ماليّا ، فلمّا تصير نتيجة الطوائف الثلاثة من العمومات أنّ الوصيّة تستخرج من الثلث إلّا ما هي واجب ماليّ ، فيصير تمام الموضوع للحكم بالخروج من الصلب هو كون الوصيّة على الواجب المالي ، فلا يبقى أثر للتبرّعيّة وعدمها ، فيصير مقتضى القاعدة الخروج من الثلث حتّى يثبت كونها واجبا ماليّا ، ومن المعلوم ؛ أنّ الأصل موافق مع عدمه.

وبالجملة ؛ فيصير المرجع عند الشكّ هو العمومات الدالّة على ردّ الوصيّة إلى الثلث ؛ لسقوط عمومات الوصيّة عن المرجعيّة بعد ثبوت التخصيص.

أقول : يظهر من السيّد قدس‌سره في المقام عدم جواز التمسّك بالعمومات مطلقا في المقام ، لكونها من باب التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة ، ولذلك جعل

٤٨٣

المرجع هي الأصول العمليّة عند الشكّ ، فجعل الأصل في المقام هي أصالة عدم النفوذ والإنفاذ وعدم انتقال الموصى به إلى الموصى له.

وأنت خبير بأنّ الرجوع إلى العمومات ليس من جهة تعيين المصداق ، لما ظهر لك من أنّ المشكوك فيه لمّا كان أمره مردّدا بين أن يكون من أفراد المخصّص بالفتح أو المخصّص بالكسر ، ثمّ بالأصل أثبتنا عدم كونه من أفراد الثاني ، فجعل بعد ذلك المرجع [هي] العمومات الدالّة على الردّ بالثلث ، ففي الحقيقة تعيين الموضوع إنّما يثبت بمئونة الأصل ، والتمسّك بالعامّ إنّما هو لإثبات الحكم كما هو الدأب في كلّ ما لو كان منشأ الشكّ هو احتمال كون الفرد المشكوك فيه من مصاديق المخصّص وأمكننا نفيه عنها بالأصل ، فتأمّل! (١).

ثمّ إنّه جعل ـ دام ظلّه ـ خاتمة البحث في الوصيّة التكلّم في سائر أنواع التصرّفات المعلّقة على الموت مثل العتق المعلّق عليه المسمّى بالتدبير ، أو النذر المعلّق عليه أيضا ، وصار محصّل إفاداته كونهما من أفراد الوصيّة في الجملة أيضا ، بشرط ما لو كان النذر معلّقا على موت الناذر لا مطلقا ، فافهم!

معنى التنجيز

فلنصرف الكلام إلى ما هو المقصد بالبحث فنقول : جهات من البحث في المنجّزات ينبغي التكلّم فيها ، فقولهم : وفي منع المريض من التبرّع المنجّز .. إلى آخره (٢).

__________________

(١) وذلك مبنيّ على دفع الإشكال المعروف في مثل أصالة عدم القرشيّة ونحوها ، «منه رحمه‌الله».

(٢) تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٨٧ ، جواهر الكلام : ٢٨ / ٤٦٨.

٤٨٤

الجهة الاولى ؛ في تحقيق المراد من ألفاظ هذا العنوان ، فهل المراد من التنجيز هو المنجّز بقول مطلق ، بحيث لم يكن في التصرّف الواقع في حال المرض تعليق من جهة أصلا ، حتّى فيما لو نذر فعلّقه على أمر واقع في حال حياته يخرج عن المنجّز وعن محلّ الخلاف ، أم لا ، بل المراد من المنجّز أن لا يكون التصرّف معلّقا على الموت؟

الظاهر ؛ أنّه لا ينبغي التأمّل (١) في أنّ ملاك المنجّز هو المعنى الثاني ، لا الأوّل ، فالنذر المذكور ليس داخلا في التصرّفات المعلّقة حتّى يدخل في عنوان الوصيّة ، بل التحقيق [أنّه] من مصاديق المنجّزات ، وداخل في محلّ الخلاف.

وإنّما الكلام في بعض الأفراد ، مثل ما لو نذر وعلّقه على موت نفسه ، ففي مثله يقع الإشكال في كونه وصيّة معلّقة ، أو معدودة من المنجّزة ، إذ الوصيّة عبارة عن التصرّفات المعلّقة على الموت بحيث يقع الموصى به بعده ، لا ما إذا كان الموت مشروطا عليه ، إذ المفروض أنّه نذر أنّه لو مات في المحلّ الفلاني ـ مثلا ـ فيكون مقدار من ماله لزيد ، لا أن يكون المال المعيّن لزيد بعد موته ، بحيث يكون «بعد الموت» ظرفا لوقوع التصرّف وأثره في الخارج.

ولا ريب أنّ المنساق من أدلّة الوصيّة هذا المعنى ، لا ما إذا كان الموت شرطا له بالمعنى المذكور ، فلذلك يستشكل في كونه وصيّة ، وكذلك ليس منجّزا ، إذ المستفاد من دليله أيضا غير هذا المعنى ، إذ التصرّف وإن لم يكن معلّقا وقوعه على بعد الموت ، إلّا أنّه ليس واقعا قبل الموت أيضا ، كما هو الظاهر من معنى التنجيز.

__________________

(١) كما يظهر ذلك بالمراجعة في أدلّة الباب وكلمات الأصحاب ، «منه رحمه‌الله».

٤٨٥

ولكن لا ريب أنّ مناط المنجّز هو كون مثل هذا التصرّف في حال مرض الموت إضرارا على الورثة ، وكذلك يشمله ما يدلّ على أنّ المريض محجور عن التصرّف في ما زاد عن الثلث ، وإن لم تشمله العناوين الخاصّة للمنجّزات ، مثل الهبة والعتق والصلح ونحوها ، وكذلك فيما لو نذر وعلّقه على موته ، كما لو نذر أن يكون مقدار من ماله لزيد بعد موته ، أيضا في كونه من مصاديق التصرّف المعلّق أو المنجّز غموض ، إذ قد عرفت أنّ الوصيّة عبارة عن الإنشاء الفعلي المعلّق على الموت.

وأمّا النذر بأن يكون ماله الفلاني موهوبا لزيد بعد وفاته ؛ فهذا يرجع في الحقيقة إلى النذر بالوصيّة ، لا أن يكون وصيّة ، وكذلك ليس منجّزا ؛ لعدم انطباق أدلّته الخاصّة له وإن شملته أدلّته العامّة ، وكذلك فيما نذر هبة شي‌ء لأحد وعلّقه على أمر اتّفق وقوعه بعد موته ، وأيضا فيما لو نذر وتحقّق المعلّق عليه في حياته وحال مرضه الّذي هو محلّ الكلام في جميع الأمثلة.

وكيف كان ؛ فعدم كونهما من التصرّف المعلّق حتّى يدخل في الوصيّة معلوم ، وكذلك دخولهما في مصاديق المنجّز إشكال.

ففي جميع هذه الصور ، وكذلك مثلها ، فإن بنينا على كونها من أفراد المنجّز فيدخل في محلّ الخلاف ، وإن بنينا على كونها شقّا ثالثا ، فالتحقيق هو الحكم بالنفوذ مطلقا وخروجها من الأصل ؛ لجريان الأصول المقتضية لذلك في جميع الأفراد المشكوكة من قاعدة «السلطنة» لو كان منشأ الشكّ قصور السلطنة ، وكذلك أصالة عدم تعلّق حقّ الغير ، لو كان المنشأ تعلّق حقّ الورثة ،

٤٨٦

وأدلّة المعاملات ونحوها من العمومات مثل : «أوفوا بالنذر» (١) ، وغيره (٢) ، لو كان المنشأ تحقّق المسبّب ، وسيأتي البحث عن كلّ واحد من هذه الاصول إن شاء الله تعالى.

معنى الحجر

وأمّا المراد من التصرّف الممنوع ؛ فلا خلاف في كون التبرّعيّات مطلقا منه ، وكذلك المعاملات المحاباتيّة ، أي ما يكون الثمن المسمّى فيها أقلّ من ثمن المثل ، وإنّما الإشكال في بعض أنواع التصرّف من إسقاط بعض الحقوق وغيرها ، ولكنّ الضابط المستفاد من أدلّة الباب الّذي هو الجامع للمصاديق هو التصرّف المستلزم للإضرار على الورثة مع انطباقه على العناوين الخاصّة في الباب ، فافهم!

وأمّا المراد بالمرض ؛ فقد وقع الخلاف فيه من جهتين ، بل جهات ، الاولى : في أنّه هل المناط في الحجر وعدمه هو المرض أم لا ، بل الإنسان عند موته مطلقا محجور عن التصرّف في ما زاد عن الثلث؟

الثانية : بعد البناء على الأوّل ، هل المرض مطلقا مناط ، أم المخوف منه؟

الثالثة : هل الحكم مختصّ بأواخر المرض ممّا هو قريب بالموت ، أم يكون أعمّ منه وأوائله وإن طال المرض.

وتنقيح البحث يظهر بعد التكلّم في المنساق من أدلّة الباب.

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) الإنسان (٧٦) : ٧.

(٢) ولعلّه إشارة إلى قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) الحجّ (٢٢) : ٢٩.

٤٨٧

فنقول : إنّ أخبار الباب بين طوائف ثلاث :

إحداها : ما يستفاد منها حجر المريض عمّا زاد عن الثلث.

اخراها : المستفاد من سؤال الراوي وجواب الإمام عليه‌السلام أنّ الرجل إذا حضره الموت فمحجور عمّا زاد عن الثلث.

ثالثها : قريب ذلك من قبيل «عند موته» أو «عند وفاته» (١).

ثمّ إنّ كلّ واحد من هذه العناوين الواقع في لسان طائفة خاصّة من الأخبار مطلقة ، بمعنى أنّه ليس أحدها مقيّدا بالآخر ، ولا ريب أنّ النسبة بينها عموم من وجه ، فلا وجه لحمل أحدها على الآخر بحسب المدلول اللفظي ، وإنّما الإجماع قائم على كون المراد بالمرض ، ليس مطلقا ، بل هو المرض المتّصل بالموت ، وإن أمكن استفادة ذلك من اللفظ بعناية أيضا ، وأمّا العنوان الآخر ـ وهو حضور الموت أو عند الوفاة ـ وإن كان أيضا مطلقا يشمل مثل المحكوم بالقتل بالقصاص أو الحدّ ، أو من كان في مرماة ، فلازم ظهوره عدم نفوذ وصيّتهم في ما زاد عن الثلث أيضا.

ولكنّ الّذي يبعّد كون الإطلاق مرادا دعوى الانصراف في هذه الألفاظ وغلبة إطلاق «من حضره الوفاة» وكذلك لفظ «عند الموت» على المريض ، وندرة تلك الموجبات وجودا وإطلاقا ، ومن ذلك ظهر أمر آخر ، وهو عدم كون المرض بإطلاقه مناطا ، بل لا بدّ وأن يكون مخوفا منه حتّى يؤثّر في الحجر ؛ إذ قول السائل : (حضره الوفاة) (٢) لا يسأل إلّا عن حال مريض يكون مخوفا منه ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ٤١٢ الباب ٣ من أبواب الحجر.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٢٧٦ الحديث ٢٤٥٨٢ و ٢٤٥٨٣ و ٣٠١ الحديث ٢٤٦٤٧.

٤٨٨

فظهور السؤال مع الجواب المنزّل عليه دالّ على ذلك ، فمرجع هذا يكون إلى دعوى انصراف آخر.

فانقدح ممّا ذكرنا ؛ أنّ التحقيق هو ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره (١) من اشتراط مخوفيّة المرض ، وأيضا عدم كون حضور الموت علّة مستقلّة للحجر كما زعمه بعض (٢) ، نظرا بالإطلاق الصوري ـ لما عرفت من الأدلّة ـ غفلة عن القرينة الحاليّة الّتي احتفّ الكلام به الموجب لانصراف اللفظ إلى الوجه الأخصّ ، فالموضوع لعنوان المسألة ـ الّذي هو محلّ للخلاف ـ هو المرض المتّصل بالوفاة ، لا المرض المطلق ، بلا خلاف ، ولا مطلق حضور الموت ؛ لعدم مساعدة الدليل عليه ، كما أوضحنا.

بقي الكلام في أنّه بناء على الحجر ، هل الحكم ثابت لمطلق أيّام المرض ، أم مختصّ بآخره القريب بالوفاة؟ فمثل مرض الدقّ ونحوه الّذي يمكن أن يطول مدّة من الزمان ، فلو أوصى في أوائله ، فحكمه مثل حمّى العفن الّذي لو انتهى إلى الموت لا يطول غالبا ، أم لا ، بل الحجر في مرض الدقّ وأمثاله منحصر بالأواخر الّذي يقال عرفا : إنّه قرب موته؟ فهذه المسألة أيضا صارت منشأ للإشكال والخلاف.

ثمّ لا يخفى أوّلا أنّ مقتضى ظواهر الأدلّة أيضا الإطلاق ، ولا مجال لدعوى الانصراف ونحوه للاختصاص من اقتضاء الإطلاق والتقييد ذلك ، إذ قد يتوهّم أنّه بعد البناء على كون المراد من حضور الموت والوفاة هو المرض الّذي

__________________

(١) حكى عنه في جواهر الكلام : ٢٦ / ٧٤ وفي جامع المقاصد : ١١ / ٩٦.

(٢) نقل عن القواعد في جواهر الكلام : ٢٦ / ٧٤.

٤٨٩

انتهى إليهما ، فعلى ذلك ؛ لا يستفاد منها إلّا ثبوت الحكم للمريض الّذي قرب موته ، فلا بدّ لذلك من رفع اليد عن ظهور الإطلاق في سائر الأدلّة الدالّة على الحجر في مطلق المرض.

ودفع ذلك ؛ هو أنّه إنّما يصار إلى التقييد إذا ثبتت وحدة المطلوب ، وأمّا إذا لم يثبت تلك كما في ما نحن فيه ؛ بل أمكن أن يكون كلّ واحد من المرض بإطلاقه ـ أي ولو كان أوائله الّتي بعيدة عن الموت ، وآخره المتّصل بالوفاة ـ موجبا للحجر [فلا يصار إلى التقييد].

وبالجملة ؛ فإن لم نلتزم بالمفهوم في ظواهر الأدلّة ، مثل ما يعبّر فيه «بحضور الموت» (١) أو «عند الوفاة» قلنا : إنّها من قبيل اللقب ولا مفهوم لها ، فلا تعارض بين الأدلّة أصلا ، أو يصير ـ على ذلك ـ مناط الحكم هو المرض المتّصل بالموت بجميع أحواله.

وإن قلنا بأنّ هذه الألفاظ لمّا كانت واردة في مقام التحديد فلا بدّ من الالتزام بالمفهوم فيها الموجب لإثبات خصوصيّة في التعبير «بحين الموت» ولكن مع ذلك أيضا لا موجب للحمل ؛ لعدم ثبوت وحدة المطلوب ، ولكن ؛ لمّا كان مناط وحدة المطلوب ثابتا في المقام ، فلا بدّ من الحمل.

وتوضيح ذلك : هو أنّه لو أخذنا بإطلاق ما يدلّ على كون المرض موجبا للحجر ، ولو كان أوائله ، فلا يبقى محلّ لكون المرض مقيّدا بحال الوفاة ـ الّذي يدلّ عليه الطائفة الاخرى ـ سببا للحجر أيضا ؛ بحيث يكون ذلك سببا آخر.

__________________

(١) أي : عدم الالتزام بخصوصيّة في هذه الألفاظ ، بل هي عبارة عن المرض المقارن للموت ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

٤٩٠

ضرورة ؛ أنّه بعد أن كان المرض بإطلاقه مؤثّرا في ذلك ، فلا يعقل أن يؤثّر حين الموت منه بخصوصيّة في الرتبة المتأخّرة في ما أوجبه أوائل المرض ، لعدم إمكان توارد العلّتين المستقلّتين الّذي هو محلّ النزاع في ذلك ، فلا بدّ وأن يكون أحدهما ملغى عن التأثير.

ولا يتوهّم أنّ تأثير الثاني إنّما هو إذا لم يكن مسبوقا بالأوّل ، إذ مع ذلك لا يعقل أن يؤثّر الخصوصيّة المدّعاة ، ضرورة أنّ محلّ البحث إنّما هو الواقع لا الخارج ، فإنّا [إذا قلنا] بأنّه لا بدّ وأن يكون أحد المقتضيين مؤثّرا في الوجود ، فإنّه بناء على الالتزام يكون المرض مطلقا علّة للحجر ، ففي الفرض المذكور فهو أوجب الحجر لا خصوصيّة حين الموت ، فسقوطه عن التأثير ليس مختصّا بما لو كانت الوصيّة حين الموت مسبوقة في الخارج بالوصيّة أوّل المرض.

وبالجملة ؛ فيدور الأمر ـ على ذلك ـ بين رفع اليد عن إطلاق المرض وتقييده بالحالة المقارنة للموت ، أو الأخذ بإطلاقه ورفع اليد عن سائر الأدلّة وإلغائها ، ولا ريب أنّه عند ذلك ، الأوّل متعيّن ؛ لصيرورته موجبا للعمل بالدليلين في الجملة.

فالتحقيق : هو البناء على كون الموجب للحجر آخر المرض الّذي يقال عرفا : إنّه قريب بالموت وحضرت وفاته ، وفي كلّ ما إذا شكّ فالمرجع هو الاصول الّتي سنحرّرها لأصل المسألة.

هذا ؛ وهل يكون مطلق الموت الواقع في حال المرض موجبا للحجر بناء عليه ، وإن لم يكن مستندا إلى ذلك المرض ، أم لا ، بل المناط هو كون المرض مستندا إليه الموت ، وإلّا ففيما لو قتل المريض قاتل أو لدغته الحيّة فمات ،

٤٩١

ونحوه كلّ ما لم يكن الموت مستندا إلى المرض بحيث يكون هو سببه ، لم يوجب مثل ذلك الحجر؟

قد يقال بالثاني بدعوى انصراف الأدلّة إليه ، بمعنى أنّه لا يقال : مرض الموت إلّا لمّا كان الموت مستندا إلى نفس المرض لا إلى أمر خارجي ، ولكن لا يتمّ هذا الكلام بإطلاقه ، فإنّ إنكار الاستناد في مثل ما لو لم يكن المرض مهلكا ، ولكن انتهى إليه ، كما لو أخطأ الطبيب في العلاج والدواء حتّى أوجب ذلك انقلاب المرض إلى المرض المهلك ، باطل ، إذ لا يخفى أنّ في مثله الموت مستند إلى كلا الأمرين ؛ أي المرض الأوّل والمرض الثاني ، فإنّ المرض الأوّل هو بمنزلة المقتضي لإيجاب الثاني الموت ، حتّى لو لم يكن لم يوجب الأمر الخارجي تحقّق المرض الثاني.

فالإنصاف ؛ أنّ في مثله لمّا يستند الموت إلى كلا المرضين فالحكم جار فيهما ، حتّى لو أوصى في المرض الأوّل يدخل في محلّ النزاع.

أقول : لا يخلو ذلك عن تأمّل ؛ إذ كون المرض الأوّل مقتضيا لتحقّق الثاني لم يوجب استناد الموت إليهما ؛ إذ الشي‌ء يستند إلى الجزء الأخير من علّته ، وما قبلها إنّما هو المعدّات الّتي لا تطلق عليها العلّة ، ولا يراها العرف سببا ، فعلى ذلك ضمّ المرض الأوّل إلى الثاني هو كالحجر الموضوع في جنب الإنسان لا أثر له في الاستناد ، كيف ولو كان مستندا إليه ، لا بدّ وأن يكون كذلك عند التفكيك أيضا ، فتأمّل!

إذا تبيّن ذلك ؛ فلا بدّ من البحث في أصل المسألة ولنقدّم أوّلا ما يقتضيه الأصل في المقام ، بحيث يكون هو المرجع عند تعارض الأدلّة ، وهذه [هي]

٤٩٢

الجهة الثانية من البحث.

فنقول : لا إشكال في أنّ الاصول تختلف بحسب اختلاف الاحتمالات ممّا يحتمل كونه مانعا عن تأثير الوصيّة ونفوذها في ما هو المتنازع فيه ، والاحتمالات الموجبة لعدم النفوذ عن أحد امور ثلاثة :

أحدها : هو ثبوت إضافة بين المال والورثة بحيث أوجب ذلك قصر سلطنة المالك المتصرّف ، ومنع عن استقلاله فيه الّذي كان له قبل أن يمرض ، وكان له أن يفعل به كيف شاء ، فالآن ـ أي عند عروض المرض ـ لمّا انقلبت إضافته التامّة ؛ لتحقّق إضافة بين المال والورثة أيضا فانقطعت سلطنته التامّة ، فلا تنفذ تصرّفاته في ما زاد عن الثلث ، كما لو كان أوصى بها.

وبالجملة ؛ العلقة الحادثة بين الورثة وأعيان الأموال ـ المسمّاة هذه العلقة بالحقّ ـ منعت عن نفوذ التصرّف في ما زاد عن الثلث.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم هذه الكيفيّة من العلقة الّتي يعبّر عنها بالحقّ قابليّتها للسقوط بإسقاط الورثة وقابليّتها للردّ أيضا كلاهما في حياة المالك المتصرّف.

ثانيها : ثبوت هذه العلقة والإضافة أيضا ، ولكن لا بحيث يوجب ثبوت الحقّ القابل للإسقاط ، بل يدّعى الاستفادة من أدلّة المنع حدوث العلاقة الموجبة لإخراج المال عن الطلقيّة ، ومنع صاحب المال عن الاستقلال في التصرّف المسمّى ذلك بالحكم ، ولازم هذه الكيفيّة من الإضافة قابليّتها لإمضاء التصرّف [و] عدم قابليّتها للإسقاط ، كما في مطلق الأحكام ، مثل حجر الصغير والمجنون الموجب لثبوت إضافة وعلاقة بين أمواله ووليّه ، وهذه الولاية حكم شرعيّ غير قابل للسقوط.

٤٩٣

ثالثها : كون المرض مانعا تعبّدا ، بلا أن يحدث الحجر علاقة وإضافة بين المال والورثة ، بل يكون المرض العارض القريب بالموت حاجزا عن استقلال المالك في تصرّفاته.

ثمّ إنّ المنشأ إن كان الأخير ؛ فيمكن التمسّك بالأصول بأنواعها لإثبات نفوذ التصرّف وارتفاع مانعيّة ما يحتمل كونه مانعا من قاعدة سلطنة الناس على أموالهم ، فإنّ من شأنها رفع المانع عن نفوذ التصرّفات الصادرة عن المالك على ماله التامّ الماليّة ، وكذلك عمومات المعاملات ، فإنّ المفروض صدور عقد الهبة أو البيع ـ مثلا ـ من أهله مع كونه مجتمعا للشرائط الشرعيّة ، فاحتمل كون حال خاصّ من أحوال المتعاقدين مانعا عن تأثير العقد ، فما لم يثبت مانعيّته فأدلّة وجوب الوفاء بالعقد تقتضي لزومه المترتّب عليه النفوذ وصحّة التصرّف ، وكذلك استصحاب حال صحّته من بقاء سلطنته ونفوذ تصرّفاته لو كان ناقلا لما له في تلك الحالة ـ مثلا ـ الّذي يرجع ذلك إلى الاستصحاب التعليقي على إشكال فيه سنشير إليه.

وأمّا على الاحتمال الثاني وكذا الأوّل ، فلمّا يرجع الشكّ إلى تعلّق حقّ الغير بالمال وخروج المال عن الطلقيّة ، فلا يبقى المجال للتمسّك بالاصول السابقة.

ضرورة ؛ أنّ قاعدة السلطنة محلّها ما إذا ثبتت الماليّة التامّة حتّى تجري هي فيثبت بها نفوذ التصرّفات الواردة على المال ، وأمّا على الفرض المزبور فأصل الموضوع مشكوك فيه ، فكيف يمكن التمسّك بها؟ لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم ، لازم ذلك كون المال طلقا ، لا على مال الغير ، وكذلك أدلّة العقود

٤٩٤

ليس لها مجرى عموما وخصوصا ، وذلك لانصرافها إلى ما يكون موضوعها الأموال الّتي سلطنة المتعاقدين عليها تامّة ، بل ينحصر الأصل على هذين الاحتمالين بالأصل الموضوعي واستصحاب عدم تعلّق حقّ الغير الثابت للمال في زمن صحّة المالك ، واستصحاب سلطنة المالك كذلك ، الموجبان لرفع الشكّ وإثبات النفوذ.

نعم ؛ قد يستشكل هذا الاستصحاب الّذي مرجعه إلى استصحاب القدرة التامّة للصحيح لإثباتها في حال المرض بما لو كان المريض مسبوقا بالصغر أو الجنون ، فإنّه ليس له سلطنة في الزمان السابق على الزمن المشكوك فيه السلطنة حتّى يستصحب تلك السلطنة الثابتة ، فكيف يمكن جعل ذلك أصلا كليّا يرجع إليه مطلقا؟

وأمّا الفرق بين المريض الّذي كان مسبوقا بأحد الحالين ، ومن كان مسبوقا بالبلوغ والعقل فهو باطل ؛ ضرورة أنّا نعلم أنّ حكم المريض ليس مختلفا إجماعا ، بل إمّا محجور عن الزائد على الثلث مطلقا ، أو ليس كذلك مطلقا.

ولكن يمكن دفع ذلك أوّلا ، بأن يقال : إنّ عدم التفصيل في الحكم الواقعي لو كان موجبا لقيام الإجماع على عدم التفصيل في الحكم الظاهري أيضا ، فلا ريب أنّ الإشكال لا مدفع له من هذه الجهة ، وأمّا لو منعنا ذلك وقلنا بأنّ الإجماع على عدم التفصيل في الحكم الواقعي لا يلازم عدم جواز التفصيل في الحكم الظاهري ، فلا مانع من إجراء الأصلين على حسب المقامين.

ولكنّ ذلك بهذا المقدار لا يتمّ ، بل هو مبنيّ على أن نقول : إنّه لا مانع من إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي ما لم ينته إلى المخالفة العمليّة ، وأمّا لو

٤٩٥

بني على المنع عنه مطلقا ، فلا.

بيان ذلك : أنّه إنّا نعلم إجمالا بأنّ تصرّفات المريض في ما زاد عن الثلث إمّا نافذ مطلقا ، أو ليس بنافذ كذلك ، فيكون من باب العلم الإجمالي بدوران الأمر بين المحذورين ، وقد ظهر أنّ إجراء أصالة عدم النفوذ في المريض المسبوق بالصغر والجنون ، وأصالة النفوذ في المسبوق بالبلوغ والعقل ، يوجب مخالفة هذا المعلوم بالإجمال.

ولكن لمّا كان التحقيق في إجراء الأصل في أطراف العلم الإجمالي هو الاحتمال الأوّل ، فبعد تماميّة المقدّمة الاولى وهذه الأخيرة أيضا فلا بدّ من الرجوع إلى الأصلين على ما يقتضيه المقامان ، لعدم لزوم المخالفة العمليّة ، وعدم ابتلاء أحد الموردين بالآخر.

نظير ما لو توضّأ بالماء المشتبه بالبول ، فبنوا على إجراء أصالة طهارة البدن واستصحاب بقاء الحدث بلا محذور ، مع أنّ مقتضى العلم الإجمالي عدم جواز التفكيك فيه ، بل لا بدّ من البناء إمّا على طهارة البدن وارتفاع الحدث ، وإمّا على نجاسته وبقائه ، ولكن لجريان الملاك المذكور وعدم لزوم المخالفة العمليّة تعدم المعارضة.

جريان الاستصحاب في المقام

وثانيا بإجراء استصحاب القدرة والسلطنة في كلتا الصورتين بتقريب أن يجرى الاستصحاب في الموضوع الكلّي ـ وهو بقاء سلطنة العاقل البالغ الّتي تكون له حين صحّته إلى حين مرضه ـ ثمّ ينطبق ذلك على المورد ، لأنّ التحقيق

٤٩٦

هو ثبوت الأحكام للطبائع الكليّة ثمّ منها يسري إلى الأفراد ، ففي ما نحن فيه لمّا كان الحكم ـ وهو السلطنة ـ ثابتة لطبيعة العاقل البالغ فإذا شكّ في بقاء سلطنة هذه الطبيعة في حال من أحوالها فلا بأس باستصحابها في تلك الحالة ، فإذا أجرينا الاستصحاب في الطبيعة وأثبتنا الحكم لها في الحالة اللاحقة فيتبيّن حال الفرد المشكوك فيه قهرا ، لانطباق تلك الطبيعة له حسب الفرض.

ولا ريب أنّه يكفي في الاستصحاب انطباق الحكم على الموضوع في أحد جزئي الزمان ، فلا يتوهّم أنّه إذا لم تكن السلطنة لشخص المريض المشكوك فيه في الحالة السابقة رأسا موجودة [لا يجري الاستصحاب] ، لأنّ المفروض أنّه لم يكن قابلا لها ، إذ يكفي انطباقه عليه في الآن اللاحق ، بعد كون المفروض كون الحكم في الحقيقة ثابتا للطبيعة ، وهي في كلا الزمانين مورد للحكم.

نظير ذلك ما لو أمر بإكرام العلماء ثمّ شككنا بعد زمان في تقيّده بالعدول ، ولذلك ارتفع الحكم عن العالم المطلق ، ولذا نشكّ في إكرام زيد الّذي لم يكن بعالم في سابق الزمان والآن صار عالما مع اتّصافه بالفسق ، فلا إشكال أنّ مقتضى «لا تنتقض اليقين» (١) عدم جواز رفع اليد عن الحكم الثابت أوّلا ، وعدم الاعتناء باحتمال التقيّد المذكور فيجب إكرام مطلق العلماء فيستكشف حال زيد.

نعم ؛ قد يردّ هذا الاستصحاب لمعارضته باستصحاب الحالة السابقة لشخص المستصحب لأنّ المفروض أنّ شخص هذا المريض الّذي مسبوق بالصغر أو الجنون كان قبل مرضه محجورا عن التصرّف ، وممنوعا عن

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٧ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١.

٤٩٧

الاستقلال ، فبعد بلوغه مع اتّصافه بالمرض يشكّ في ارتفاع حجره وعدمه ، ولا ريب أنّ المتيقّن منه هو ارتفاعه في الثلث والباقي مشكوك فيه فيستصحب الحكم الثابت فيه له قبل مرضه.

وأنت خبير بضعف ذلك ؛ لأنّ الشكّ في شخص المريض وتصرّفاته إنّما هو ناشئ عن الشكّ في الحكم الكلّي المتعلّق بطبيعة العاقل البالغ الّذي عرضه المرض ، بحيث لو ارتفع الشكّ عن ذاك الموضوع الكلّي لا يبقى الشكّ في هذا الشخص أبدا.

ضرورة ؛ أنّ مفروض الكلام عدم كون أفراد المريض مختلف الحكم حتّى يوجب ذلك خصوصيّة في الشخص ، فإذا كان ارتفاع الشكّ عن الفرد يرتفع بتبيّن حكم الموضوع الكلّي ، فالاستصحاب فيه يكون حاكما على الاستصحاب الجاري في الفرد ، لكونه رافعا للشكّ عنه ومتكفّلا لبيان حكم استصحاب حال الفرد.

فانقدح من ذلك ؛ صحّة استصحاب الحكم الكلّي الثابت لطبيعة العاقل البالغ ، وعدم المانع عنه ، حتّى لاستظهار حكم المريض الّذي غير مسبوق باستقلال التصرّف في أمواله ، وعدم انطباق هذا الحكم الكلّي للموضوع المشكوك فيه سابقا لا يضرّ بالاستصحاب إذا كان منطبقا عليه في الزمان اللاحق ، إذ قد أشرنا إلى أنّه ثبت في محلّه أنّه يكفي في الاستصحاب انطباق الحكم على الموضوع في أحد عمودي الزمان فثبت من ذلك ؛ أنّ الأصل نفوذ تصرّفات المريض مطلقا في مرضه ، لو كانت منجّزة.

وقد يتمسّك لدفع الإشكال بالاستصحاب التعليقي ، كما أنّه تمسّك به

٤٩٨

لإثبات الحكم في أصل المسألة أي استصحاب حكم حال الصحّة مطلقا ، وتنقيح المقام موقوف على ذكر جملة من الكلام في أصل الاستصحاب التعليقي.

فنقول : إنّ المستصحب كذلك إمّا هو حكم تكليفي أو وضعيّ ، أمّا في الأوّل ؛ فالاستصحاب التعليقي وجوازه فيه موقوف على ما هو التحقيق عندنا من كون الحكم والإرادة فيها متعلّقة بالصورة الذهنيّة دون الخارجيّة ، إذ قد سبق أنّ تعلّق الإرادة بالخارجيّات يكون تحصيلا للحاصل ، بل إنّما المتعلّق به في الأحكام التكليفيّة هو الخارج الزعمي.

فعلى ذلك ؛ لما كان الموضوع فيها كذلك محقّقا دائما ، ولذلك بنينا في محلّه على عدم صحّة ما هو المعروف من أنّ الواجبات المشروطة بعد تحقّق شرطها تنقلب وتصير مطلقة ، وليس ذلك إلّا توهّم كون متعلّق الأحكام هو الخارجيّات ، ومنها المعلّق عليه في الواجبات المشروطة ، وهذا توهّم فاسد ، بل الإرادة فيها ، سنخها غير سنخ الإرادات المطلقة ، إذ هي في الواجبات المشروطة إنّما هي الإرادة المنوطة ، بمعنى أنّه قد يتعلّق الطلب المطلق بالصلاة ، وقد يكون الطلب مقيّدا بشي‌ء أو حال متعلّقا [بشي‌ء] ، مثل الطلب المتعلّق بالصلاة عند دلوك الشمس ، لا بأن لا تكون الإرادة قبل الدلوك محقّقة ، ولا بأن يكون المتعلّق به ، الدلوك الخارجي ، بل الإرادة من أوّل الإنشاء محقّقة بحيث يرى الدلوك موجودا فعلا ، ففي ظرف وجوده تطلب الصلاة عنده.

فلمّا كانت هذه الإرادة من حين تحقّقها موجودة بلا أن تنقلب عن كيفيّتها من الإناطة وردّ المنوط عليه في ظرف الإناطة ـ وهي عالم الإنشاء ـ مفروض الوجود ، ففي مثل هذه الأحكام والإرادات لا بأس باستصحابها ، ولو لم يكن

٤٩٩

معلّق عليه الإرادة موجودا في صفحة الخارج.

نعم ؛ تحقّقه في الخارج موجب للتنجّز وبعث العقل إلى العمل ، وهذا لا ربط له بمقام الإرادة ، حتّى لا تكون لها الفعليّة إلّا بذلك ، كما توهّم ، بحيث تكون ـ قبل تحقّق المعلّق عليه في الخارج ـ الإرادة شأنيّة محضة.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب التعليقي في الأحكام التكليفيّة على ما هو التحقيق من كيفيّة الطلب فيهما لا محذور ، وأمّا على القول بكون المتعلّق للطلب فيها الخارجيّات بحيث لا تكون فعليّة للطلب ما دام لم يوجد المتعلّق عليه في الخارج حتّى يكون الخارج ظرفا للتنجّز أو البعث العقلي ، بل الخارج ظرف لتحقّق الطلب فتكون الأحكام التكليفيّة حكمها مثل الوضعيّة على ما سيجي‌ء.

وأمّا الأحكام الوضعيّة فلا إشكال في كون متعلّقاتها إنّما هي الخارجيّات أو السلطنة ثابتة للشخص على المال الموجود في الخارج ، وكذلك النجاسة ثابتة للعصير الغالي الخارجي ، وكذلك الوفاء متعلّق بالعقد الموجود في الخارج ونحوها من الوضعيّات.

فنقول : إنّما يصحّ الاستصحاب التعليقي فيها على القول بكون المراد من «لا تنقض اليقين» هو المتيقّن ، فيكون مفاد الاستصحاب هو التنزيل وجعل المتيقّن.

فعلى ذلك ؛ فبعد أن أوضحنا بأنّه لا بأس بتصرّف الشارع في الامور العقليّة رفعا ووضعا إذا كان منشأ الأمر الشرعي ، فلا مانع من استصحاب الملازمة الثابتة بين العصير المغليّ والنجاسة ، وكذلك وجوب الوفاء بالعقد الواقع

٥٠٠