الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

بصدق إخباره يجوز تقليده ، وإن كان فاسقا (١).

وجه الغرابة : أنّه أيّ منصب أعظم من مسألة تولّي الإفتاء؟ مع أنّه قال عليه‌السلام لأبان : «اجلس أفت الناس فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» (٢) حيث خصّ عليه‌السلام هذه الوظيفة بمثل أبان.

وأظهر منه ما في «الاحتجاج» عن «تفسير العسكري عليه‌السلام» (٣) ، بل المستفاد من الأوصاف الأربعة المذكورة فيها كون العدالة [شرطا].

هذا كلّه ؛ مع أنّه ليس لنا إطلاق أصلا يمكن التمسّك به في باب التقليد بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن كما لا يخفى.

وهكذا مسألة القضاء فإنّه مضافا إلى كونه منصبا يستفاد من مقبولة عمر ابن حنظلة (٤) صدرا وذيلا أنّ اعتبار العدالة أمر مسلّم ، وهكذا يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : «لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ أو شقيّ» (٥).

وأمّا باب الشهادة ، فهي لمّا كان من صغريات قاعدة الإحراز فالمناط فيها العدالة الظاهريّة.

توضيح ذلك : أنّه في الموارد (٦) الّتي اعتبر إحراز العدالة وغيرها من

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ٢٧٨.

(٢) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣١٥ الحديث ٢١٤٥٢ ، وفيه : اجلس في مسجد المدينة.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ٥٢ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٧ الحديث ١٠٧٧٧.

(٤) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٠٦ الحديث ٣٣٣٣٤.

(٥) وسائل الشيعة : ٢٧ / ١٧ الحديث ٣٣٠٩١ ، وفيه : أو وصيّ نبيّ.

(٦) ما أفاده هنا ـ دام ظلّه ـ وإن أصرّ عليه في موارد اخر أيضا إلّا أنّه من حيث الكبرى والصغرى لا يخلو عن التأمّل كما يظهر بالمراجعة إلى كلمات الأصحاب في مظانّها ، فتدبر! ـ

٢٠١

العناوين مثل المصلحة في التصرّف في مال الصغير أو المسافة في توجّه تكليف القصر ؛ نظر المحرز يكون تمام الموضوع في إثبات الحكم المترتّب على تلك الامور ، لأنّه إذا اوكل عنوان إلى شخص وخوطب به فلازم ذلك عرفا أن يكون إحرازه لذلك العنوان موضوع الحكم ومنشأ الأثر.

ومنها ؛ مسألة عدالة الشهود المستفاد من قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (١) وغيره ، فالمناط فيها العدالة عند المطلّق ، سواء كان هو الزوج أو الوكيل المفوّض إليه ، فلو كان الشهود عنده عدولا يكفي ، ولو لم يحرزه الزوج بنفسه ، فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه ، غايته أنّ هنا الأخبار الخاصّة مثل قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق به» (٢) موافقة أيضا لما تقتضيه القاعدة في أمثاله.

وبالجملة ؛ في الموارد المذكورة لمّا كان اعتبار العناوين مثل العدالة والوثوق والمصلحة ونحوها بما لها من الواقع يوجب الهرج والمرج ولا تستقرّ الامور أصلا ؛ فهي بنفس إحرازها تكفي وتترتّب الآثار عليها مطلقا.

ومن العجب أنّ في «الجواهر» ألحق مسألة الشهود في الطلاق إلى باب

__________________

ـ والظاهر أنّ الأمر مسلّم عندهم بالنسبة إلى باب متولّي الأوقاف وهكذا في باب الأولياء ، وإن عثرنا على مورد نقض بالنسبة إليهم ، فإنّ ظاهر الأصحاب فيما لو زوّج الوليّ الصغيرة من به أحد العيوب السبعة مع العلم والمصلحة أنّه إذا كبرت لها الخيار ، وأمّا في باب الشهود في الدعاوي والمرافعات فبناؤهم مطلقا على أنّه إذا تبيّن فسق الشاهدين نقض الحكم.

مع أنّه يمكن تقريب ما أفاده ـ دام ظلّه ـ بالنسبة إليه أيضا ، حيث إنّه أو كل عنوان أمر عدالة الشهود إلى شخص وهو الحاكم ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(١) الطلاق (٦٥) : ٢.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧١ ، وفيه : من تثق بدينه.

٢٠٢

المناصب واعتبر فيها العدالة الواقعيّة (١) ، مع أنّه أنكرها في المفتي مطلقا (٢) ، كما سمعت والله العالم.

حقيقة العدالة

الجهة الثالثة : في حقيقة العدالة ، وقد نقل فيها أقوال ثلاثة : من كونها الملكة الباعثة على ترك المعاصي أو نفس ترك المعاصي ، ولو لم تكن عن ملكة ، أو الملكة الملازمة مع تركها فعلا.

فهذه الأقوال الثلاثة هي الّتي يمكن عدّها اختلافا وقولا في حقيقة العدالة ، وأمّا القولان الآخران فالظاهر أنّهما ليسا اختلافا فيها ، كما استظهر كذلك شيخنا قدس‌سره ، وغيره من كلماتهم (٣).

من أنّها هي الإسلام ، أو مطلق حسن الظاهر ، إنّما هما اختلاف في طريق العدالة ، كما يدلّ عليه كلمات القائلين بهما ، ففيها شواهد على أنّ من عبّر عنها بهما فليس مراده أنّ حسن الظاهر أو ظهور الإسلام هما نفس العدالة.

هذا ؛ بل نقول : إنّ الأقوال الثلاثة الاولى أيضا راجعة إلى واحد ، وإنّ العدالة ليست إلّا الملكة الباعثة على ترك المعاصي فعلا ، لا أحدهما فقط ، وليس أحد من أصحابنا يلتزم بالتفكيك ، وذلك لأنّه ما أظنّ أحدا يلتزم بأنّ من له ملكة العدالة ولم يكن فعلا مجتنبا عن المعصية باقيا على عدالته ، وهكذا عكسه.

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ٢٧٩.

(٢) جواهر الكلام : ١٣ / ٢٧٨.

(٣) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٤٨.

٢٠٣

فأيضا لا يلتزم أحد بأنّ من لم يكن ذا ملكة ولكن اتّفق أنّه ترك المعاصي برهة من الزمان إما لعدم المقتضي لها أو لوجود الموانع ؛ أنّه عادل ، فمن هنا يستكشف أنّ من عبّر عن العدالة بأحد الأمرين فليس بناؤه على التفكيك ، بل إنّما عبّر بأحد المتلازمين أو وقعت المسامحة في التعبير.

وبالجملة ؛ فالظاهر أنّ العدالة عند الجميع هي عبارة عن كلا الأمرين ، من الباعث ، وهو الملكة ، والمنبعث ، ولا يكتفى بأحدهما.

وأمّا ما يتوهّم من أنّ صدور المعصية لمّا لا يضرّ بالملكة إذا تعقّبت بالتوبة فيمكن الالتزام بالتفكيك والبناء على أنّ العدالة هي نفس الملكة ؛ ففيه أنّه لا إشكال في أنّ التوبة توجب عدم مضرّيّة المعصية ، وإلّا فما لم يتب العدالة زائلة ، وأمّا إذا تاب فلمّا يصدق الترك فعلا فمحكوم بالعدالة فعلا ، ولكن لا مطلقا ، بل فيما إذا كان تركه سابقا مستندا إلى الملكة ، فالأمران من كلا الطرفين متلازمان ، كما لا يخفى.

فعلى هذا ؛ العدالة عبارة عن قوّة نفسانيّة باعثة للملازمة على التقوى الموجبة للاجتناب عن محارم الله ، والقيام بأوامره عادة ، واحترزنا بالأوّل عن أنّها ليست صرف الاجتناب ، كما أنّه من القيد الثاني يستفاد لزوم الاجتناب عن المعصية فعلا ، وأردنا من الثالث الاحتراز عمّا يصدر عن العباد في بعض الأوقات ما هو الخارج عن العادة البشريّة بحيث يحتاج إلى إكمال نفس فوق العادة يقرب إلى افق العصمة حتّى يحترز الشخص عمّا يتقدّم إليه مثل ما وقع من السؤال والجواب بالنسبة إلى المقدّس الأردبيلي قدس‌سره (١).

__________________

(١) روضات الجنّات : ١ / ٨٩ و ٩٠.

٢٠٤

فهنا امور أربعة من أنّ القوّة الّتي تعتبر هي القوّة العادية لا ما يقرب إلى افق العصمة ، وأنّ الامور الّتي لا بدّ من أن يجتنب عنها هي أيضا تكون من الامور (١) العادية بحيث يمكن التحرّز عنها لنوع الناس.

وهذان الأمران وجههما واضح ، ضرورة أنّ العدالة هي الأمر الّذي تعمّ به البلوى كما وردت من الترغيبات الكثيرة بالنسبة إلى صلاة الجماعة وكذلك أمر محتاج إليها بالنسبة إلى سائر المقامات لباب الشهادات للمرافعات والطلاق وغيرها ، فحينئذ لا يمكن أن تكون هي أمرا وجودها كالعنقاء ، بل لا بدّ وأن تكون أمرا تناله اليد غالبا ، فهي من حيث الباعث والمنبعث لا مجال لاعتبارها أزيد ممّا هو مجرى العادة ، بأن تكون المعصية ناشئة عن الدواعي العادية ، فحينئذ يضرّ بالعدالة وإن لم يوجب زوال الملكة ، لأنّها بمرّة واحدة من المعصية لا تزول ، وإلّا جعل العدالة مركّبة من أمرين غلط ، بل تكون هي الملكة فقط.

الأمر الثالث : مسألة اعتبار وجود الملكة فعلا بحيث تزول بالمعصية.

والرابع : أنّها تعود بالتوبة ، فهي توجب بقاء عدالة من كان مسبوقا بالملكة لا مطلقا ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : «التائب عن الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ناظر إلى ذلك أيضا.

وبالجملة ؛ فعلى الملازمة الّتي ادّعيناها بين الملكة والاجتناب الفعلي في حقيقة العدالة وحملنا عليها كلمات الأصحاب أيضا ، فالنزاع في أنّها هي الملكة

__________________

(١) وإن كانت المعصية مطلقا توجب زوال العدالة وإن لم تضرّ بالملكة ، وكذلك لا بدّ من التوبة ، كما هو واضح ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٦ / ٧٤ الحديث ٢١٠١٦ و ٧٥ الحديث ٢١٠٢٢.

٢٠٥

الباعثة أو الاجتناب المنبعث عنها يكون بحثا علميّا ، ولا يترتّب عليه أثر عملي.

ثمّ إنّ البحث في استفادة ما ذكرنا من الأدلّة ، فنقول ـ ومن الله التأييد ـ : إنّ الأقوى والأظهر من الأدلّة بالنسبة إلى ما نحن فيه هو رواية عبد الله بن أبي يعفور (١) الّذي هو من أجلّاء الأصحاب ، وقد ورد توصيفه عن المعصوم بما لا يرد لغيره (٢).

وكيف كان ؛ لا مناقشة فيها سندا أصلا ، ودلالتها على المطلوب واضحة المطلوب ، وذلك ؛ لأنّ ظاهر السؤال عن الراوي في صدرها أنّه «بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين؟» .. إلى آخره ، هو السؤال عن «ما» الحقيقيّة على اصطلاح أهل المعقول والاستعلام عن حقيقة المفهوم ، فأجاب عنه الإمام عليه‌السلام أوّلا : «بأن تعرفوه بالستر والعفاف».

ومن المعلوم ؛ أنّ المراد بالستر في المقام ليس الاستتار الظاهري ، بل المراد منه هي الحالة النفسانيّة الّتي يعبّر عنها بالحياء الّذي إذا وجد في العبد يستحيي من الله تعالى فيجتنب عمّا يسخطه ، كما يدلّ على ذلك ما أردفه بقوله عليه‌السلام : «والعفاف» فهذه هي الّتي نعبّر عنها بالملكة ، ثمّ قال عليه‌السلام وعطف عليه قوله : «وكفّ البطن والفرج» والبطن في هذا تتمّة لما سبق ، وأنّه مضافا إلى الصفة النفسانيّة الباعثة على ترك المناهي يعتبر عدم صدورها فعلا اختياريّا ، بأن يكفّ جوارحه عن المحرّمات ، فدلالة هاتين الفقرتين على المطلوب واضحة ، ولا يحتاج إثباته واستظهار أنّ في العدالة يعتبر الأمران إلى مئونة زائدة وتطويل بلا

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

(٢) جامع الرواة : ١ / ٤٦٧.

٢٠٦

طائل ، كما صنعه الشيخ قدس‌سره في المقام (١).

ثمّ إنّه عليه‌السلام ما اكتفى بذلك ـ أي بيان حقيقة العدالة وما هو محقّق لها واقعا ـ بل بيّن علامة لها إمّا من جهة اشتمال السؤال عنها أو أنّه عليه‌السلام بنفسه أبدع فقال : «وتعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار» (٢) أي يعرف الأمران بذلك ، فهذه علامة للمعرّف ولا ربط له بالمعرّف أصلا حتّى يشكل الأمر من جهة كونها مخالفة لما ذكره عليه‌السلام أوّلا ، أو غيرها ، كما قد يتوهّم.

هذا تمام الكلام في حقيقة العدالة ، وأمّا مسألة اعتبار المروّة وعدمها فسيأتي البحث فيها.

تحديد الكبائر وبيان الإصرار على الصغائر

بقي الكلام في تحديد الكبائر الّتي انيطت العدالة بالاجتناب عنها ، ولقد أحسن شيخنا قدس‌سره في تحقيق هذه المسألة ، حيث جعل الضابط لها أحد الوجوه الخمسة (٣) فهي الّتي تسلم عن الإشكال طردا وعكسا ، إذ من تقدّم عليه اكتفى ببعضها فحينئذ أورد بعدم الجامع أو عدم المانع (٤) ، فهو إذا جعل جميع الخمسة الّتي ثلاثة منها يرجع إلى تعيّنها بالنصّ الصريح ، وواحدها بحكم العقل ، والآخر بالاستفادة من الدلالة الالتزاميّة من النصّ وهو ما ورد النصّ بعدم قبول شهادة من ارتكبه ، أو عدم جواز الصلاة خلفه وغير ذلك ممّا يعتبر فيه العدالة ، حيث إنّ ذلك

__________________

(١) المبسوط : ٨ / ٢١٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

(٣) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦.

(٤) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦.

٢٠٧

من قبيل عكس النقيض يكشف عن أنّ العمل الّذي ارتكبه يضرّ بالعدالة فيعتبر عدمه فيها.

ومن المعلوم ؛ أنّه حينئذ لا يرد شي‌ء على التحديد كما هو واضح ، فلقد أجاد قدس‌سره حيث رفع الإشكال والاختلاف رأسا (١).

وإنّما الإشكال في تحديد الإصرار بالصغيرة الّتي هي أيضا تضرّ بالعدالة وتعدّ من الكبائر ، كما نصّ عليه الأخبار (٢) ، فهل يعتبر في تحقّق الإصرار تكرّر الفعل خارجا ، بأن يكون باقيا على معناه العرفي ، أو يتحقّق بصرف العزم على التكرّر ، أم يكفي عدم تعقّب الصغيرة بالندم والتوبة؟ فهذه هي الوجوه المحتملة ، والّذي يبدو في النظر هو الاحتمال الأخير لأنّ ترك التوبة معصية فيتحقّق الإصرار بنفسه إذا لم يتعقّب المعصية به.

ولكنّ الإشكال في أنّ وجوب التوبة بحكم العقل أو الشرع ، وليس للشرع تصرّف فيه ، وقد جعلنا في محلّه الضابط للأحكام العقليّة المستقلّة أنّه كلّما كان الحكم منجعلا بالذات ، بحيث كان سائر التكاليف بالنسبة إليه غيريّا ولولاه لم تجب كباب الإطاعة ، حيث إنّها أمر عقليّ لزوم امتثال التكاليف يتوقّف عليها وحكم العقل بها ، ولذلك لا يترتّب عليها من الثواب والعقاب سوى ما يترتّب على نفس التكليف الممتثل وتركه ، فمثل ذلك من الأحكام العقليّة الّتي منجعلة بالذات ، نظير حجيّة القطع وتعلّق الحكم الشرعي بها غير معقول.

فحينئذ مسألة لزوم التوبة إن كانت من شئون الإطاعة ، كما هو الظاهر ،

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٢٩ الحديث ٢٠٦٦٠ و ٣٣١ الحديث ٢٠٦٦٣ ، و ٣٣٥ الحديث ٢٠٦٧٤.

٢٠٨

حيث إنّها إمّا من جهة حطّ الذنب السابق بها ، وإمّا من جهة الرجوع بها إلى الطاعة ، حيث إنّ بالمعصية خرج عنها ، وكلاهما من سنخ الإطاعة ولا يترتّب لا على الأوّل ولا على الثاني عقاب على تركه سوى ما يترتّب على الذنب الصادر أوّلا.

وأمّا الاحتمال الثالث بأن تكون التوبة بنفسها مطلوبة حتّى يجب تعبّدا ، فلا دليل عليه.

وبالجملة ؛ فتصير التوبة من المستقلّات العقليّة ، لا من قبيل الصدق الّذي قابل لأن يتعلّق به التكليف المولوي ، فعلى هذا ترك التوبة عن الصغائر ـ لو سلّمنا أنّه يلزم ذلك ـ مع أنّ فيه ما سيجي‌ء من أنّه لا عقوبة على الصغائر يشكل كونه معصية حتّى يصدق الإصرار به الّذي هو المدّعى ، إلّا أن يقال : إنّ صدق الإصرار به لا يتوقّف على كون الترك بنفسه معصية ، بل يكفي لصدقه إمّا استكشافه عن بناء التارك على الاستمرار على المعصية الّتي أتى بها ، وإمّا لتركه ما يستحسنه العقل ويلزم من الرجوع إلى المولى بالتوبة بعد الانقطاع عنه ، فتأمّل!

هذا ؛ مضافا إلى أنّه جملة من الأخبار نطقت بلزوم التوبة من الصغيرة وأنّ تركها إصرار (١) ، حيث إنّ بعضها وإن كان ظاهرها الاختصاص بالكبيرة ، ولكن بعضها مطلقة دالّة على أنّ ترك التوبة إصرار على المعصية ، كما أنّ فعلها ترك الإصرار ، فحينئذ يتحقّق الوجوب الشرعي للتوبة عن الصغائر.

ولكن الإشكال أوّلا : في استلزام الصغائر العقاب حتّى يلزم التوبة ، مع أنّه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٣٧ الباب ٤٨ من أبواب جهاد النفس.

٢٠٩

قال الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١).

وثانيا : قد عرفت أنّ ملاك التوبة هو الأمر العقلي الّذي يرجع إلى شئون الإطاعة ، فلا موقع لتعلّق التكليف المولوي به لكونه تحصيلا للحاصل ، فلا بدّ من حمل الأخبار الدالة على لزوم التوبة (٢) على الإرشاد (٣).

ثمّ إنّه يقع الكلام في صدق الإصرار عرفا وأنّه لا بدّ من تكرّر الفعل في الخارج أم يكفي العزم على التكرّر؟

ثمّ إنّ ذلك هل يعمّ العزم على الأعمّ من المعصية الاولى وغيرها ، أو يختصّ بالعزم على الإتيان بنوع المعصية الاولى؟ قد جعل شيخنا قدس‌سره المدار على الأعمّ (٤) ، مع أنه لا يخلو عن الإشكال ، وبالجملة ؛ أصل المسألة بعد يحتاج إلى التأمّل ، والله الهادي.

اعتبار المروءة في العدالة

بقي الكلام في مسألة المروّة وأنّها هل تعتبر في العدالة ثبوتا أم لا؟ وهذا الأمر اعتباره يظهر من كلمات المتأخّرين (٥) ، وأمّا الّذي عليه المتقدّمون فهما

__________________

(١) النساء (٤) : ٣١.

(٢) والّذي يسهّل الخطب ؛ أمّا بالنسبة إلى الشبهة الاولى أنّ التكفير لا يلازم عدم العقاب ، إذ من يطمئنّ بنفسه أنّه يجتنب الكبائر ، وأمّا بالنسبة إلى الثانية ؛ فإنّ عدم وجود الملاك الشرعي للتوبة لا ينافي كون تركها إصرارا تعبّدا ولو لم يكن معصية ، فلا مجال لرفع اليد عن الأخبار ، فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

(٣) وسائل الشيعة : ١٥ / ٣٣٧ الباب ٤٨ من أبواب جهاد النفس.

(٤) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٢٦٦ و ٢٧٠.

(٥) ذخيرة المعاد : ٣٠٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٣٠١.

٢١٠

الأمران اللذان تقدّما من الملكة والاجتناب عن الكبائر (١).

وكيف كان ؛ الشأن في استظهارها من الأدلّة ، وأنّها هل يعتبر في مرحلة الكاشف ، أو هو والمنكشف ، أم لا؟ وسيأتي الكلام فيه واستفادة بعض السادة الأجلّة إيّاها من رواية عبد الله بن أبي يعفور (٢) ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل وهو البحث عن حقيقة العدالة في مرحلة الثبوت.

وأما المقام الثاني ؛ وهو مرحلة الإثبات وما هو الكاشف عن العدالة ، فنقول : إنّه قد تقدّم في صدر البحث قد يظهر من بعض عبارات القدماء كالشيخ رحمه‌الله أنّ العدالة ثبوتا وإثباتا بمعنى واحد ، وأنّه ليس عبارة إلّا عن حسن الظاهر وعدم ظهور الفسق (٣).

بل قد يستظهر من بعض كلماته : أنّ الأصل في كلّ مسلم هو العدالة ، لأنّها ليست عبارة إلّا عن الإسلام (٤).

ولكنّك قد عرفت في المرحلة الاولى أنّه ليس الأمر كما توهّم ، بل في عباراتهم ما يكون شواهد (٥) أنّ العدالة هي الملكة ، وأنّه لا بدّ من الاجتناب من الكبائر أيضا ، كما هو مذهب الجلّ بل الكلّ ، وإنّما مرادهم في ما ذكر هو في مرحلة الكاشف ، وأنّ الطريق إلى العدالة ليس إلّا حسن الظاهر مثلا وعدم ظهور

__________________

(١) المبسوط : ٨ / ٢١٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

(٣) الخلاف : ٦ / ٢١٧ المسألة ١٠.

(٤) الخلاف : ٦ / ٢١٧ المسألة ١٠.

(٥) أحسن ما يكون من الشواهد هو الّذي أوردها قدس‌سره في «الجواهر» في كتاب الطلاق (جواهر الكلام : ٣٢ / ١٠٨ ـ ١١٢) ، «منه رحمه‌الله».

٢١١

الفسق ، وأنّ إحراز الاجتناب عن الكبائر أو غيرها ممّا سنذكر ، لا يعتبر في إثباتها.

وبالجملة ؛ ينبغي البحث هنا في مفاد الأدلّة أيضا لكونها متكفّلة لهذه المرحلة أيضا.

أمّا جملة من الأخبار بل كثير وإن كانت توافق ما بنى عليه شيخ الطائفة قدس‌سره (١) ، مثل قوله عليه‌السلام : «من صلّى الخمس في جماعة فظنّوا به كلّ خير» (٢) أو «فظنّوا به خيرا وأجيزوا شهادته» (٣).

وقوله في رواية اخرى أنّه يقول عليه‌السلام : «إذا كان الرجل لا تعرفه يؤمّ الناس يقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه» (٤) وغير ذلك من الأخبار الكثيرة (٥) الظاهرة في ما ذكر ، بل في النبوي أنّه : «لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء [والأوصياء عليهم‌السلام(٦).

ولكن لا بدّ من الخروج عن هذه الإطلاقات لظاهر رواية ابن أبي يعفور وغيره ، حيث إنّ ذيله بل وما قبله ، وهو قوله عليه‌السلام : «ويعرف ذلك باجتناب الكبائر التي أوعد» (٧) وقوله عليه‌السلام : «والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه بحيث لا يجوز التفتيش [عنه] وإذا سئل عنه [في قبيلته و] محلّته قالوا : إنّا لا نعرف منه إلّا

__________________

(١) الخلاف : ٦ / ٢١٧ المسألة ١٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٨٦ الحديث ١٠٦٧٨ ، مع اختلاف يسير.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩٥ الحديث ٣٤٠٤٣ مع اختلاف.

(٤) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٩ الحديث ١٠٧٨١ ، مع اختلاف يسير.

(٥) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٣ الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة.

(٦) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩٥ الحديث ٣٤٠٤٤ وهو عن الصادق عليه‌السلام.

(٧) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢ ، مع اختلاف يسير.

٢١٢

خيرا» (١) .. إلى آخره ؛ لأنّه بعد أن بيّن الإمام عليه‌السلام حقيقة العدالة فذكر له طريق إثباتها أيضا بما ذكر من الفقرتين بإحراز الاجتناب عن المعاصي وستره عيوبه ، وهكذا غيرها من الأخبار الّتي دالّة على اعتبار الإحراز.

فمن هذه الجهة لا إشكال في المسألة ، إنّما الكلام في أنّ الإحراز اعتباره من باب التعبّد أم من جهة الوثوق؟

وبعبارة اخرى : أنّه مضافا إلى إحراز الاجتناب والستر هل يعتبر حصول الوثوق والظنّ بوجود الملكة أيضا؟ أمّا بالنسبة إلى المقام وعدالة الإمام فالظاهر أنّه يعتبر ذلك ؛ لدلالة قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه» (٢) ونحوه (٣) فحينئذ مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد أيضا تقييد الإطلاقات الثانية الّتي ظاهرها الاكتفاء بالإحراز.

نعم ؛ يمكن الدعوى بأنّ مثل هذه الرواية ليست في مقام التقييد ، بل ناظرة إلى التوسعة في باب الجماعة وأنّه يكفي فيها الوثوق بالأمانة ، ولكنّ هذا احتمال لا يوجب رفع اليد عن مقتضى الصناعة.

ثمّ إنّه إذا ثبت ذلك في باب الجماعة يثبت اعتباره في سائر المقامات أيضا لعدم التفصيل في حقيقة الجماعة ، كما لا يخفى.

وبالجملة ؛ فهنا ثلاث درجات بل أزيد من حيث الإطلاق والتقييد ، مقتضى الصناعة والجمع بينها هو أنّه بالنسبة إلى مرحلة الإثبات للعدالة لا بدّ من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢ ، مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٥ الحديث ١٠٧٧١.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٣١٣ الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة.

٢١٣

إحراز الاجتناب عن المعاصي وستر العيوب وحصول الظنّ والوثوق.

بقي الكلام في أنّه هل يكتفى في ثبوت العدالة بالفعل ، كما لو رأى أنّه يقتدي عادلان بشخص ، أم لا بدّ من الإشهاد والتعديل باللفظ؟

أمّا بالنسبة إلى المقام ـ أي عدالة الإمام ـ فالأقوى أنّه يكفي العمل والفعل إذا أوجب الوثوق ، ولا فرق بينه وبين القول ، حيث إنّه قد عرفت أنّ ما يعتبر هنا بالأخرة هو الوثوق والظنّ ، فحينئذ لا وجه للاختصاص بسبب دون آخر ، ولكن يشكل الأمر بالنسبة إلى سائر الأبواب كالشهادة ، حيث إنّ ظاهر أدلّتها ولزوم تصديق العادل تصديقه في شهادته وقوله ، كما أنّ أخبار العادل الّذي يلزم تصديقه ظاهرها التلفّظ فآية النبأ (١) لا تدلّ على أزيد من لزوم تصديق النبأ الّذي لا يشمل الفعل.

وأمّا مسألة تعديلات أهل الرجال وتصديق الرواة ففيه بحث عظيم ، والّذي ثبت في وجه حجيّة تعديلاتهم هو كونها من باب الظنون الاجتهادية ، ولا ربط له بمسألة الشهادة.

وبالجملة ؛ أدلّة باب الشهادة قاصرة لأن تشمل التصديق والتعديل الفعلي ، فلذلك تسرية الحكم ممّا نحن فيه إلى سائر الأبواب ممنوع ، إذ مثل ما ورد هنا من أنّه : «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه وأمانته» (٢) لم يرد في سائر الأبواب حتّى يكتفى فيها أيضا بكلّ ما يحصل الوثوق ، وغاية ما تثبت من الاشتراك بين عدالة المقام وسائر المقامات هو أنّها من حيث الحقيقة واحدة ، ولا فرق فيها من

__________________

(١) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٠٩ الحديث ١٠٧٥٠.

٢١٤

حيث إنّها هي الملكة الباعثة على ملازمة التقوى مطلقا ، وأمّا من حيث الطريق وأنّها تثبت بالوثوق مطلقا فلا ، فتختصّ العدالة الثابتة بالفعل بهذا الأثر فقط ، وهو جواز الجماعة ، خلفه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى بوجود دليل في باب الشهادات بكونها تثبت بكلّ ما ينبئ عن الواقع ويكشف عن العدالة وغيرها من الامور ، فتأمّل!

ثمّ إنّه هل يعتبر المروّة في باب العدالة أم لا ، من حيث الكاشف أو المنكشف أيضا؟ هذا الأمر في المقام من المشكلات ، وذلك : لأنّ اعتبارها قد وقع في كلمات المتأخّرين (١) ولم يظهر من القدماء اعتبارهم ذلك في مفهوم العدالة ، مع أنّ الظاهر عدم مساعدة دليل لما عليه المتأخّرون.

نعم ؛ ذكر في ذلك وجها السيّد الجليل محمّد باقر الأصفهاني قدس‌سره في كتابه «الفقه» (٢).

وحاصله : أنّ ظاهر الفقرة الّتي في ذيل حديث ابن أبي يعفور (٣) من أنّه : «والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساترا لعيوبه» .. إلى آخره ، هو مطلق العيوب أعمّ من العيوب الشرعيّة والعرفيّة ، حيث إنّ عدم الاجتناب عمّا هو قبيح عند الناس من مثل الأكل في السوق ونحوه يكشف عن أنّ الشخص ليس مالكا لنفسه بحيث تقاوم في مقابل مشتهياتها سرّا وعلانية.

فمن هنا يستكشف إنّا أنّ المروّة معتبرة في حقيقة العدالة وأنّ الستر

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٠٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٣٠١.

(٢) لم نعثر على هذا الكتاب.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٩١ الحديث ٣٤٠٣٢.

٢١٥

والعفاف الّذي يكون في صدر الرواية هو الستر والعفّة عن مطلق العيوب ، فعلى هذا تعتبر المروّة في كلا المقامين.

وناقش فيه شيخنا الأنصاري قدس‌سره بأنّ المراد من الستر والعفاف ـ حسبما تقدّم ـ لمّا كان الاستحياء في مقابل المناهي الشرعيّة والعيوب المأثورة لا مطلقا فيكشف من ذلك لمّا عدم اعتبار غير العيوب الشرعيّة بالنسبة إلى مرحلة الإثبات (١) أيضا.

ولكن الإنصاف بطلان هذه المناقشة حيث إنّ ما أفاده السيّد من أنّ الملكة لو كانت محقّقة فلا يفرق بين العيوب الشرعيّة والعرفيّة ، بل لمّا كانت القوّة العقليّة صارت كاملة فتقاوم في مقابل جميع المشتهيات مطلقا ، وإلّا فلا يمكنه الاجتناب مطلقا (٢) ، في كمال المتانة.

مضافا ؛ إلى عموم اللفظ ، بل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في لفظ الستر تخصيص بلا وجه ، فحينئذ الأقوى ما بنى عليه المتأخّرون ، وأنّ العدالة عبارة ممّا تقدّم في المقام الأوّل والمروّة ، وبالنسبة إلى عالم الكاشف أنّه لا بدّ من استكشاف وجود اللجام الإلهي للشخص ، بحيث يردعه عن الإقدام إلى المشتهيات النفسانيّة المخالفة للشرع والعرف بإعانة الله تعالى وهو وليّ التوفيق.

هذا تمام البحث في العدالة ، ولم يبق من شرائط الإمام أمر يحتاج إلى البحث فيه ، إذ الذكوريّة في الجملة والبلوغ واضحان حكما وموضوعا.

__________________

(١) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : ٧ / ٥٤٨.

(٢) لم نعثر عليه كتابه.

٢١٦

أحكام الجماعة

بقي امور راجعة إلى أحكام الجماعة نذكرها في طيّ مسائل :

الاولى : الأقوى جواز الانفراد في أثناء الجماعة مطلقا ، لأنّه مضافا إلى أنّه موافق للأصل ، إذ لا يتصوّر محذور له بعد أن كانت الجماعة من قبيل العامّ الاصولي لا المجموعي ، حيث إنّ الصلاة مركّب تدريجي ، فهكذا الجماعة شرّعت بالنسبة إليها وليست أمرا يوجب التنويع حتّى يلزم محذور من هذه الجهة أيضا ، بل هي من الخصوصيّات الخارجة عن حقيقة الصلاة وتوجب زيادة الفضل بالنسبة إليها كالمسجديّة ونحوها.

وبالجملة ؛ فالأصل يقتضي جواز قصد الانفراد وتدلّ عليه الروايات (١) مثل : ما ورد في جواز التقدّم على الإمام في التشهّد الأخير ؛ والخروج عن الصلاة بالسلام إذا كان الإمام يطيل تشهّده ، حيث إنّه وإن لم يكن فيها لفظ الانفراد ، ولكن من المعلوم انطباق هذا العنوان على الفعل المذكور قهرا ، كما يكون كذلك بالنسبة إلى جملة من العناوين في كثير من الموارد ، كما في مسألة الفسخ بالفعل ، وهكذا المعاطاة ومسألة الرجوع في العدّة بالفعل وغيرها من الأمور.

فجميع هذه الموارد ترتضع من ثدي واحد ، بمعنى أنّه إذا كان يؤتى بهذه الأفعال عن قصد واختيار ينطبق عنوان الفسخ والبيع والرجوع عليها قهرا ، بلا احتياج إلى قصد العناوين بخصوصيّاتها ، فهكذا في المقام ؛ لأنّ الخروج عن الصلاة بالسلام قهريّ فالانفراد يتحقّق تكوينا ، فدلالة الرواية على المدّعى واضحة ، من جواز الانفراد اختيارا في جميع الأحوال ، غاية الأمر أنّ في سائر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٣ الباب ٦٤ من أبواب صلاة الجماعة.

٢١٧

الموارد صرف التقدّم والتأخّر بلا قصد الانفراد لا يكفي ، إذ المفروض عدم الخروج عن الصلاة بهما حتّى يكون انطباق العنوان قهريّا ، كما في تلك الصورة.

هذا ؛ فيما إذا عرض له القصد في الأثناء ، أو كان قاصدا من أوّل الصلاة لا على نحو التحديد ، وأمّا لو كان قصده ذلك من الأوّل بنحو يرجع إلى التحديد والتقييد فلا تخلو عن الإشكال ؛ للشكّ في مشروعيّة الجماعة كذلك ، فالاحتياط أن يأتي فرادى من أوّل الأمر.

الثانية : الظاهر أنّه لا إشكال في مشروعيّة الجماعة ابتداءً واستدامة بأن يأتي بعض صلاته منفردا ثمّ يقصد الائتمام من أثنائها ، لما عرفت من الأصل في الجماعة وكيفيّة تشريعها ، فعليه لا فرق بين الصورتين من أن يأتي جماعة الجزء الأوّل من صلاته أو الجزء الآخر منها ، ولما هو مقتضى الدليل الدالّ على جواز الاقتداء في بقيّة الصلاة إلى إمام آخر ، إذا عرض له العذر في الأثناء ، حيث يكون عليه أن يعيّن إماما آخر من المأمومين أو من الخارج.

فلو نوقش بأنّ الأوّل لا ربط له بالمقام ، إذ الإمام اللاحق لمّا كان من جزء الجماعة مع أنّ صلاتهم بمنزلة صلاة واحدة فكأنّ إمامته كانت من أوّل الأمر فلا يصير دليلا لما نحن فيه.

الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الإمام الثاني شخصا خارجيّا هي عين ما نحن فيه ، إذ المفروض أنّه مع إمكان قصدهم الانفراد والإتيان ببقيّة الصلاة منفردا يجوز لهم الاقتداء بالنسبة إليها بإمام آخر اختيارا ، فالمسألة من حيث الدليل لا إشكال فيها ، ولكن لمّا لم يثبت ذهاب الأساطين إليها فالاحتياط لا ينبغي تركه.

الثالثة : صلاة المعاداة لا تخلو عن صور ، فإمّا أن يكون المنفرد ـ أي الّذي

٢١٨

أتى بصلاته كذلك ـ يعيد بأن يصير إماما أو مأموما ، وإمّا أن يكون من أتى بصلاته جماعة يعيدها على أحد الوجهين ، وإمّا أن يكون من أتى بها إماما يريد أن يعيد بأحد الوجهين أيضا ، فالصور ستّ.

فالظاهر ؛ أن الإعادة في جميعها مشروعة ؛ لإطلاق دليلها إلّا فيما إذا كان المعيد إماما كان أتى بصلاته أوّلا أيضا كذلك ، لأنّ في شمول الدليل له تأمّل ، ولكنّ الرواية الّتي مضمونها أنّه ورد شخص في المسجد للجماعة مع أنّها انتهت فقال عليه‌السلام : من يتصدّق على هذا الرجل بأن يعيد صلاته جماعة (١) مع أنّ فيهم من هو شأنه الإمامة مشعر بجواز إعادة للإمام مطلقا.

وبالجملة ؛ ينبغي رعاية أخبار الباب (٢) ، فتدبّر فيها!

الرابعة : المأموم المسبوق بركعة أو ركعتين أو أزيد يجعل الركعات الأخيرة للإمام أوّل صلاة نفسه ، فيأتي فيها بالقراءة كما هو المعروف عندنا بلا كلام ، إنّما الاشكال في أنّه إذا لم يمهله الإمام لإتمام القراءة والسورة ودخل في الركوع يجوز له إتمامها ثمّ اللحوق به ولو بعد الركوع ، أم عليه أن يقطعهما ويتركهما فيدرك ركوع الإمام؟

الأقوى الثاني ؛ لأنّه قد تقدّم في صدر الباب في ما يدرك به الجماعة أنّ المستفاد من أدلّة الباب أنّ للركوع بالنسبة إلى سائر الأجزاء خصوصيّة بها يجب ادراكه مع الإمام ولا يجوز تأخيره عنه ، فهكذا في المقام وإن كان التزاحم بين واجبين وهما القراءة والمتابعة ، إلّا أنّ مذاق الفقاهة يقتضي ترجيح الثانية ،

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٩٥ الحديث ٧٣٤٥.

(٢) مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٩٥ الباب ٤٣ من أبواب صلاة الجماعة.

٢١٩

مضافا إلى دلالة بعض الأخبار عليه أيضا كالمنقول عن «الدعائم» (١) وصحيحة معاوية بن وهب (٢).

__________________

(١) دعائم الإسلام : ١ / ١٩١ ، مستدرك الوسائل : ٦ / ٤٨٩ الحديث ٧٣٣٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٣٨٨ الحديث ١٠٩٧٨ ، إلى هنا تمّت الرسالة.

٢٢٠