الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

كالكتابة أو البصر ، فيأخذ حاكما جامعا له.

وقد يتصوّر على القول بإمكان التجزّي ، وعدم حجّيّة لدلالة دليل حجّيّة قول المجتهد على المطلق ، لظهور قوله عليه‌السلام : «عرف أحكامنا» (١) في العموم ، وكذا سائر سياقاتها ، فيأخذ المطلق المتجزّي في المسألة المجتهد فيها ، فتأمّل!

وأمّا استحلاف المقلّد في نفس [الأمر] ؛ فغير صحيح إجماعا ، لكونه من وظائف الإمامة فلا يجوز من غير إمام ومن نصبه لذلك ، وأذن له عموما أو خصوصا.

وأمّا في استماع البيّنة بعد علمه بشرائطها ، لأنّ المناط قيامها بعد التماس المدّعي وإذن الحاكم ، وكذا الحلف إذا تعذّر حضور الحالف.

وأمّا التوكيل في الإقرار ؛ فغير جائز ، لأنّ أثر الإقرار ليس مترتّبا على سماعه حتّى يوكّل فيه ، بل على ثبوته عنده ولو بغير الشاهد بخلاف البيّنة ، فإنّ المناط فيها هو استماعها ، فلا يكفي علم الحاكم بشهادتها.

نعم ؛ لو عيّن شاهدين على استماع إقراره ثبت إقراره بشهادتهما ، ولا يثبت بشهادة الواحد ، لأنّ المناط ثبوته وهو به غير ممكن ، فتدبّر!

وتمام الكلام في باب القضاء والشهادات.

اشتراط العقل في الوكيل والموكّل

قالوا : ويشترط في كلّ من الوكيل والموكّل كمال العقل (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ٢٢٠ و ٢٢١.

(٢) المختصر النافع : ١٧٩.

٤٢١

توضيح الفرق بين المجنون والسفيه والمغفّل والمغصوب الّذي حكموا ببطلان بعض الألفاظ الصادر منه في ذلك الحال ، كالظهار والإيلاء ، ويتوقّف على رسم مقدّمة ، وهي أنّ الأفعال الصادرة عن الإنسان على ثلاثة أقسام ـ كما حكي عن الغزالي ـ : اضطراري ، وإرادي ، واختياري.

فالاضطراري : ما لا يستند الفعل إليه ، كوقوع النازل من شاهق ـ مثلا ـ.

والإرادي : ما يصدر عن إرادة ومقتضى الطبيعة من غير سبق بالاختيار ، كحركة الأجفان عند وصول سهم إليها ، أو إرادة إهراق شي‌ء في العين.

فالتكليف بالنسبة إلى الأفعال الاضطراريّة قبيح ، لأنّه تكليف بالمحال ، وبالنسبة إلى الثاني إن كان ممّا يمكن إزالته ولو بالرياضات أو بغيرها من الامور القاهرة على مقتضى الطبيعة فليس التكليف به محالا ، وإلّا فلا.

والفعل الاختياري ما يصدر منه باختيار وتروّؤ والالتفات إليه.

وتوضيح ذلك : أنّ كلّ فعل غير اضطراري إنّما يصدر من الشخص الملتفت بعد الالتفات إليه والعلم به ، ثمّ الالتفات والعلم بآثاره المحبوبة عنده ، ثمّ توجب ذلك الأثر المحبوب المرضيّ عنده إرادته إلى الفعل الموجب له ، بمعنى العزم عليه ، فإن كان ذلك الفعل محتاجا حصوله إلى مقدّمات فيشتغل الإنسان بإيجادها ثمّ بعدها لا بدّ من حصولها من إرادة مقارنة له ، ليخرج بها عن الغافل والساهي ، فإنّ الاعتبار بالغفلة وعدم الغفلة بالفعل بتلك النسبة والقصد والإرادة بالفعل ، لا الإرادة الأوّليّة الداعية إلى تحصيل الفعل بمقدّماته.

ولا ينافي ذلك ما بنينا عليه في العبادات من كون النيّة فيها هو الداعي لا الإخطار ، فإنّ المقصود الالتفات إلى الغرض والأثر الموجب للإرادة عند الفعل ،

٤٢٢

كما عرّفوها بأنّها الإرادة المنبعثة المؤثّرة في إيجاد الفعل المنبعثة عمّا في نفسه من الغايات على وجه يخرج بها عن الساهي والغافل ، ففي الحقيقة مقارنة تلك الإرادة المذكورة للفعل موجب لإيجاد نفس [النيّة] بها يكون الفاعل قاصدا ، ولذا اعتبروا المقارنة فيها بعد اعتبار النيّة ، وليس هي إلّا القصد.

وأمّا الإرادة المنبعثة على تحصيل مقدّمات الفعل المسبوق بالعلم إلى الغاية فهو من لوازم العقل وعدم صدور الفعل من العاقل من غير ملاحظة فائدة ، ووجود ذلك غير مقارن لنفس الفعل حين وجوده لا يخرج الفاعل عن الساهي والغافل إلى القاصد.

لكنّ المراد بالنيّة في العبادات أمر مركّب من القصد إلى الفعل ـ كما فصّلناه ـ وإلى التقرّب لاشتراط تحقّق العبادة بقصد إتيانها على وجه الامتثال ؛ لأنّها ما يتوقّف على قصد القربة.

وأمّا نيّة المأمور به وأوصافه فلم يدلّ دليل على وجوبها ، كما صرّح به الشهيد الثاني في «الروضة» (١).

نعم ؛ لو كان المأمور به متعدّدا اشترط التعيين ؛ لتوقّف الامتثال عليه ، ولذا ذكر صاحب «الجواهر» في شرح «الجواهر» المسمّى ب «نجاة العباد» في كتاب الصوم وغيره : بعد ما ذكرنا أنّه لو نوى شيئا من الأوصاف في محلّ ضدّه على وجه لا ينافي التعيين ولا يقتضي تغيير النوع صحّ ، حتّى لو كان مشرّعا وإن أثم بتشريعه (٢).

__________________

(١) الروضة البهيّة : ١ / ٧٢.

(٢) نجاة العباد في يوم المعاد : ٤٢ و ١١١ و ١٩٠.

٤٢٣

وصدر عن بعض المحشّين عليه من الفحول كالشيخ الراضي والمرتضى ما أوجب إشكالا في العبارة ، وإن كان كلامهما أيضا محلّ إشكال ، لكنّ المقصود ذكر كلامه قدس‌سره تقريبا لما ذكرنا ، وإن اتّفق مجال نحرّر إن شاء الله كلاما مبسوطا لشرح كلامهم ، وليس الآن [مجاله].

وأمّا الاستدامة الحكميّة فمعناها أن لا يقصد في جزء من العبادة غير التقرّب الّذي هو أحد أجزائها ، وأن لا يقصد بفعله فعلا يغيّر تلك الإرادة المنبعثة ، لكنّ الالتفات إليها في كلّ جزء منها غير لازم ، لعدم الإمكان ، و [لزوم] العسر والحرج ، بل يكفي وجود تلك الإرادة حكما ، بحيث لو سئل لقال بها ، ولذا لو غفل بحيث خرج عن ذلك بطل.

وكذا لا يقصد بفعله غير الأمر الأوّل الذي نوى امتثاله أوّلا وهذا مراد قولهم : أن لا يقصد في بعض أفعاله ما ينافيها أو خلافها.

وممّا ذكرنا في معنى النيّة للأفعال والمقارنة ظهر أنّه لو نوى الجنب الغسل وذهب إلى الحمّام ونسي حين الغسل النيّة لم يجز ذلك الغسل.

هذا كلّه في العبادات ، وأمّا المعاملات ؛ فاللازم فيها كسائر الأفعال الصادرة عن التفات لا بدّ فيها من العلم بالشي‌ء ، ثمّ بغرضه ثمّ الإرادة والعزم عليه الموجب للاشتغال بمقدّماته ، فإن كان مقدّمته فعلا كاشفا عنه اعتبر الالتفات إلى ذلك الفعل الدالّ الكاشف ، كلفظ البيع ونحوه ، فلو صدر من غير التفات كالساهي لغى ، والالتفات إلى المعنى المكشوف عنه فلو لم يلتفت إليه لغى أيضا كالهازل وكون اللفظ كاشفا ـ أي صريحا ـ في المعنى المراد.

ثمّ إنّ الأثر والغرض الداعي إلى الفعل ، ولو حصل من أمر غير مرضيّ ـ أي

٤٢٤

صار أمر غير مرضيّ سببا وداعيا لمحبوبيّة أثر ذلك الفعل ـ كأن يجبر على إعطاء مال لظالم فيبيع داره من غير [أن] يجبر عليه ، فهذا النوع من البيع صحيح ، لأنّ الإكراه على مقدّمات الفعل لا على نفسه.

وقد صرّحوا بأنّ مثل هذا الإكراه خارج عن بيع المكره المنعقد على بطلانه الإجماع (١) ، والنصّ (٢) ، ولو لم يحصل الغرض والداعي ولو من أمر غير مرضيّ على بيع ماله بل أوجد الفعل بغير داع فهذا هو المكره الّذي باطل عقده.

ثمّ إن كان الإكراه لحقّ كأن يجبر المحتكر على بيع الطعام ، والممتنع عن إنفاق واجبي النفقة أو المملوك أو قضاء الدين مع يساره ، صحّ هذا البيع بلا إشكال ، لأنّ المعتبر في الأفعال الإرادة والقصد إليها بحيث يخرج بها عن الساهي واللاغي ولم يثبت من الأدلّة العامّة غير ذلك.

وأمّا لزوم كون ذلك لداع وغرض ، فلم يثبت دليل عليه.

نعم ؛ يثبت في المكره لغير حقّ بالنصّ والإجماع عدم إمضاء الشارع لعقده ، فهو يريد في قوله : بعتك ، النقل والانتقال بهذا اللفظ الكاشف ، لكن لا يريد ترتيب الأثر عليه ، لعدم داع له إلّا الإكراه ، فلم يمض الشارع إلّا أن يرضى به ولو بعد ذلك ، فهو حين العقد كالفضولي ، فإنّه أيضا قاصد إلى اللفظ والمعنى باللفظ الكاشف.

وهذا من شروط العاقد لا المالك ، لكنّ الرضا بالاشتراط لا بدّ أن يصدر من المالك ، فحيث حصل أثّر العقد أثره ، فمقتضى إرادته المعنى باللفظ الكاشف

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٣ / ١٠.

(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٣٣ الباب ١ من أبواب عقد البيع.

٤٢٥

فأثره في الانتقال ، لكنّ الشارع اعتبر الرضا وطيب النفس بأثر الفعل في بعض الموارد.

فظهر أنّ بيع المكره جوازه خارج عن مقتضى القاعدة بالإجماع والنصّ (١) ، ولولاه لما كان للرضا بعده وتأثيره معنى ، وتمام الكلام في البيع قد حرّرناه.

وإذ قد ظهر معنى الفعل الاختياري بأنّه الصادر عن عمد وقصد سواء كان بداع أو بغير داع ، فالفاعل لا عن قصد غير عاقل ، فإن كان بحيث يكون في جميع أفعاله التكليفيّة والمتعلّقة بالأموال وغيرها وأقواله غير قاصد إلى ما يصدر منه ، ولو كان في بعض أفعاله أو أقواله مميّزا ، فهذا هو المجنون المحجور عليه المرفوع عنه القلم في العبادات وغيرها ، وإن كان في بعض أفعاله المتعلّقة بالعبادات ككثير السهو ، فهذا معفوّ عنه قلم السهو وحكمه ، فلا حكم فيه في العبادات دون غيرها لأنّه قاصد في أفعاله.

ولو كان قاصدا في ما يصدر عنه لكنّه لغير داع أو لداع غير الدواعي الّتي توجب صدور الأفعال من العقلاء ، فهذا نوع من الجنون ، فإن كان في خصوص الأموال وما يتعلّق بها كذلك دون ما يتعلّق بالبدن أو بغيره كالسفيه ، فإنّه قاصد في أفعاله وأقواله مطلقا ، لكن قصده في ما يتعلّق بالمال غير مقترن بداع عقلائي دون ما يتعلّق بالبدن ، فهذا محجور في ماله ، لأنّه نوع من الجنون ، وغير محجور في ما يتعلّق بالبدن ، فهو مكلّف في الأحكام البدنيّة دون الماليّة.

لكن لو استلزم الأحكام البدنيّة على المال تصرّف الوليّ في المال.

نعم ؛ لو أوجب أمرا يوجب أمرا بدنيّا أو ماليّا مخيّرا كالنذر فحنث ، كفّر بما

__________________

(١) مرّ آنفا.

٤٢٦

يتعلّق بالبدن ، وليس الوليّ مكلّفا بإخراج المال عنه ، فحيث إنّ المانع فيه عدم الداعي العقلائي في أمواله وكان محجورا عليه ، فلا مانع من توكّله فيما يتعلّق بها لغيره ، أو في ماله بإذن الوليّ.

لكن على تفصيل في مال الغير ، وهو أنّه إن فوّض إيقاع العقد دون النظر ، فلا ريب في صحّته ، وإن فوّض النظر مع ذلك فخلاف ، أقربه ذلك ، لأنّ الموكّل عاقل قاصد ، فلعلّه رأى مصلحة في ذلك لنفسه أو لغيره ولا أقلّ من إتلاف ماله لمصلحة عقلائيّة ، والسفيه كان ممنوعا من التصرّف في ماله لعدم مبالاته في إتلافه لغير غرض عقلائي. وهذا التفصيل جار بعينه في ماله بالنسبة إلى إذن الوليّ.

قال في «القواعد» : ولو أذن له الوليّ فإن عيّن صحّ ؛ لعدم تفويض النظر إليه أو فوّض ورأى المصلحة في ذلك وإلّا فلغو إلّا أنّ الوليّ غير مأذون في إتلاف ماله (١) ، فتأمّل!

نعم ؛ لو فرض أنّ هذا التوكيل منه سفاهة وليس فيه مصلحة بطل التوكيل ، لأنّه داخل في المعاملات السفهيّة الّتي لا يجوز التوكيل فيها لعدم الولاية للموكّل في متعلّق الوكالة.

والفرق بين معاملة السفيه والمعاملة السفهيّة أنّ السفيه لكونه غير قاصد في فعله لغرض عقلائي صار محجورا عليه كليّا ، ولو اتّفق في قضيّة شخصيّة إن كانت المعاملة عقلائيّة ، والمعاملة السفهيّة ما كانت لغير داع ومصلحة في تلك المعاملة الخاصّة وإن كان المعامل عاقلا ، والدليل على بطلانها عدم شمول الأدلّة

__________________

(١) قواعد الأحكام : ١ / ١٦٩ ، ط. ق.

٤٢٧

لها ، فالبيع المحاباتي إن اشتمل على مصلحة صحّ وإلّا فلا.

فمن هذا البيع الخاصّ لا يحكم بسفهه ، وإن حكم ببطلانه ، إلّا أن يحرز ذهاب الملكة المعتبرة في الرشد ، كما أنّه لا يحكم في معاملة السفيه ـ المشتملة على الإصلاح والمصلحة في تلك المعاملة الشخصيّة ـ برشده ، إلّا أن يحرز كشفه عن الملكة فيتبعه صحّة المعاملة وعدمها.

لكنّ الفرق بين العقل والسفه ثابت في ابتداء البلوغ ، فيحكم بالعقل مع الشكّ ، دون السفه ، وذلك لأنّ الأصل في الإنسان العقل ، وذلك من جهة الغلبة أو من جهة أنّه بمقتضى الآيات (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (١) وغيرها (٢) والأخبار (٣) لتخمير الإنسان من العقل ، قد ثبت أنّ الاستعداد ثابت في كلّ إنسان ، فكلّ إنسان عاقل ، إلّا أنّ الصبيّ المميّز قد الغيت أفعاله وإن كان عاقلا ، فإذا بلغ ارتفع الحجر عنه مع وجود المقتضي فيه ، والشكّ في الرافع هل اختصّ ذلك الاستعداد أم لا؟ والأصل عدمه.

وأمّا السفه ، وإن كان مقتضى القاعدة كذلك ، إلّا أنّ الشارع أوجب إحراز عدم المانع قبل البلوغ ، فقال (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٤) فقبل الإحراز لا يجوز ، فهو بالنسبة إلى التكاليف بعد البلوغ غير متوقّف على إحراز عقله ، فيجيزه الوليّ ، لكنّه بالنسبة إلى التكاليف الماليّة محجور لا يجوز للولي إيكال اموره إلى نفسه إلّا أن يحرز إصلاحه في ماله.

__________________

(١) الروم (٣٠) : ٣٠.

(٢) البقرة (٢) : ١٣٨.

(٣) انظر! بحار الأنوار : ١ / ٨٦ الحديث ٨ ، و ٩٦ الباب ٢ ، و ٣ / ٢٧٦ الباب ١١.

(٤) النساء (٤) : ٦.

٤٢٨

ثمّ إنّه لا فرق في وجوب كون صدور الأفعال مسبوقا بتعقّل داع ، بين ما يكون الداعي أمرا مباحا أو أمرا محرّما ، فالعاصي ليس بسفيه ، لأنّه يلاحظ في أفعاله غرضا ومصلحة يرتّب عليه أمثاله من العقلاء أفعالا ، ولو كانت المصلحة معصية أو كان نفس الفعل معصية كالزنا ، فإنّ المقصود منه استلذاذ النفس وإن كان محرّما على هذا الوجه لكنّه يترتّب على مثله من الأغراض النفسانيّة أفعال.

نعم ؛ لو كان البالغ في أوّل بلوغه صارفا ماله في الجهة المحرّمة ينكشف عن عدم الملكة ـ فتأمّل! ـ لو لم يكشف الملكة تغيّره ، ولو عرض للإنسان أحيانا حالة أوجبت صدور فعل عنه بغير قصد أو بغير داع كالمغضب بقسميه لهيجان سودائه وغلبته ، فهذا بالنسبة إلى الأفعال الصادرة منه في تلك الحالة محجور عليه مرفوع القلم [عنه] غير مترتّب عليها الأحكام الوضعيّة ، فلو طلّق أو ظاهر أو آلى ، بطل ، لكنّه لا يخرج عن حدود التكاليف.

فمعنى كمال العقل أن يكون قاصدا في أقواله وأفعاله مطلقا ، صادرة عنه لداع وغرض عقلائي رافعا عنه الحجر ، ممضيّ منه تلك الأفعال والأقوال وهو البالغ العاقل الرشيد.

فائدة

قالوا : ولا يضمن صاحب الحمّام الثياب (١).

أقول : توضيح المطلب يتوقّف على مقدّمتين :

الاولى : بما أن عدم كون ما في الحمام داخلا تحت يد الحمامي ما دام

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ٤٤٩ ، السرائر : ٢ / ٤٧٠ ، المختصر النافع : ١٧٧ ، شرائع الإسلام : ٢ / ١٨٨.

٤٢٩

الناس فيه شرعا في كونهم مأذونين في دخوله وخروجه ، بحيث يكون كالشارع لهم لا إذا منعهم أو أقفل باب الحمّام ، ولذا ذكروا : إنّ ما يوجد في الحمّام كاللقطة لا يملكه الحمّامي كما يملكه غيره في ملكه.

والضابطة أنّ ما يوجد في صندوق المالك أو داره أو غيرهما من أملاكه ولا يعرفه فهو لقطة ، مع مشاركة الغير ولا معه حاصل له ، فما يوجد في الحمّام لقطة ما دام المشاركة ، لا بدونها.

الثانية : لا يكفي في العقود اللازمة وغيرها الإذنيّة والتمليكيّة شاهد الحال ، بل لا بدّ فيها من كاشف قوليّ أو فعليّ ، ولذا لو علم شخص رضا أخيه بأن يكون ماله ملكا له بعوض أو لا معه ؛ لم يصحّ له التصرّف فيه بنقل أو غيره.

نعم ؛ يكفي شاهد الحال في جواز التصرّف ، بحيث يستند الإذن إليه في غير ما تضمّنته الآية ، وفيه حتّى مع جهل الحال بالرضا وعدمه ؛ للإذن شرعا ، كالأكل ممّا يمرّ به من ثمرة النخل والفواكه والزرع مع عدم الإفساد والحمل ، حيث إنّ الإذن من الشارع في صورة الجهل بالحال جوّز التصرّف ، بخلاف ما لو علم حال المالك في المقامين ، فإنّه غير صحيح فيه التصرّف ، ولما ذكرنا لو طرح شيئا عنده لم تصر وديعة وإن قصد الدافع الوديعة ، بل [ولو] أوقع الإيجاب ؛ لعدم حصول القبول ولو فعلا من المدفوع عنده.

نعم ؛ لو طرحها في ملكه عنده بحيث يكون تحت يده ، يجب حفظه لو غاب المالك وخيف عليها التلف من باب المعاونة على البرّ ، لكن لا ضمان عليه ، لكونه مستأمنا من جانب الشارع ولا يصير بقبضه بعد وجوبه وديعة لعدم الكاشف لقبول ذلك الإيجاب الّذي حصل بعد غياب الموجب ، فافهم.

٤٣٠

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه لا يجب على الحمّامي حفظ ما وضعه السالخ من الثياب ولا ما وجد فيه بل يكون لقطة ، بل يكره أخذها ، بل يكون هو وغيره شرعا في ذلك.

أمّا الأوّل ، فلعدم كون الحمّام كالملك العامّ ، فلم يدخل الثياب تحت يده حتّى يجب عليه الحفظ من باب المعاونة ، فلا يتوجّه دعوى التفريط من المالك إليه ، لو لم يحصل منه إيجاب ك (احفظها) ولا يضمن بترك الحفظ ، فلا يقال : إنّ طرح الثياب عنده إيجاب للوديعة عنده مع سكوته ، ومشاهدته قبول منه ، فيجب عليه الحفظ لما ذكر إن لم نقل بصيرورتها وديعة بذلك ، أي بسبب طرحها في ملكه مع عدم الردّ.

فإن قلت : كما أنّ إلقاء الإزار في الحمّام ردّ للأمانة الّتي وقع إيجابها بالإعطاء أو الطرح ، كذلك إلقاء الثياب عند الحمّامي كاف في الإيجاب ، وسكوت الحمّامي كاف في قبوله.

قلت : إنّ سكوته مع اطّلاعه وعدم مطالبته قرينة على الرضا بذلك وإسقاط لحقّه ، بخلاف السكوت عند نزع الثياب ، فإنّه لا يكفي في ثبوت الحقّ على نفسه وتحقّق القبول منه.

والحاصل ؛ إنّه يكفي عن الإسقاط السكوت مع المشاهدة ، نعم ؛ لو لم يشاهد الإزار حال إلقائه توجّه ضمانه له حتّى يثبت الردّ.

٤٣١

ضابطة في تعيين المنكر والمدّعي

والمشهور في بيان الضابط أنّ المدّعي من خالف قوله الظاهر أو الأصل ، ومقابله المنكر ، فوقعوا من ذلك في موارد اليمين المتّفق عليها فيها لتوجيهها عليها ، في تكلّفات غير مرضيّة ولا محصّلة.

والتحقيق على ما حصّلناه من مواردها والأخبار في ميزان المنكر ، أنّ [المنكر] من وافق قوله الأصل أو الظاهر أو أمارة ، كاليد ، أو قاعدتي الإحسان ، والأمانة ، وتخليد الحبس ، وكون أمر المدّعي أمرا لا يعلم إلّا من قبله ، أو غيرها لتعذّر إقامة البيّنة الشرعيّة (١).

فمثال الأوّل : ما لو ادّعى شخص على أحد دينا.

والثاني : كما لو ادّعى الزوج عدم الدخول والزوجة تدّعيه ، فالقول قولها مع الخلوة التامّة على ما استقر به الشهيد في «اللمعة» (٢) عملا بالظاهر مع ورود الأخبار الدالّة على وجوب المهر بالخلوة التامّة (٣) بحملها على كونه دخل بشهادة الظاهر ، وإن كان الأشهر تقديم قوله مطلقا ترجيحا للأصل ، إلّا أنّ المقصود بيان توجّه اليمين على من وافق قوله الظاهر مع مخالفته للأصل في الجملة.

ومن هذا القبيل : ما لو ادّعى زوجيّة امرأة وادّعت اختها عليه الزوجيّة مع الدخول بالمدّعية فيما لو لم يكن بيّنة لأحدهما ، أو مع تعارض البيّنة مع عدم

__________________

(١) قيل : ويجمع ما ذكرنا تعريف المشهور المدّعي بالّذي يترك لو ترك الخصومة ، والمنكر مقابله ، «منه رحمه‌الله».

(٢) اللمعة الدمشقيّة : ١١٧.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢١ / ٣٢١ الحديث ٢٧١٩١ ، و ٣٢٢ الحديث ٢٧١٩٢ و ٢٧١٩٣.

٤٣٢

تقدّم تأريخ بيّنة ، فإنّ الحكم تقديم قول المدّعية بالظاهر على ما هو المشهور ، وما ذكروا في بيان اشتراط تعيين الزوج والزوجة أنّه لو كانت له بنات وزوّجه واحدة وأبهم وعيّن في نفسه واختلفا في المعقود عليها حلف الأب ، إلّا إذا كان الزوج رآهنّ وإلّا بطل العقد (١).

والثالث : كما لو ثبت كون العين مثلا في يد عمرو سابقا مع كونها في الحال في يد زيد ، فإنّ الحكم هو أنّ استصحاب اليد الحاليّة مقدّم على استصحاب اليد القديمة ، فليثبت ذو اليد القديمة غصبيّتها ، سواء قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة ؛ لغلبة كون ذي اليد في مواردها مالكا أو نائبا عنه ، وقلّة اليد الغير المستقلّة بالنسبة إليها ، وأنّ الشارع اعتبرها ـ أي الغلبة ـ تسهيلا على العباد وقد حقّق في الأصول أنّ أدلّة الأمارات حاكمة على أدلّة الاستصحاب وليس تخصيصا ، ولا متخصّصة ولا مخصّصة بها.

أو قلنا بأنّ اليد غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة ، أو كاشفة لكن اعتبارها ليس من باب الكشف بل جعلها في موارد الشكّ تعبّدا لتوقّف الانتظام واستقامة امور العباد على اعتبارها ، نظير أصالة الطهارة ، كما يشير إليه قوله في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما بيد المسلمين «ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» (٢).

ولذا لو لم يكن لذي اليد مدّع حكم بها له ويترتّب عليه آثار الملكيّة ، وإن علم سبق ملكيّة الغير.

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ٤٦٨ ، المهذّب لابن البراج : ٢ / ١٩٦ ، المختصر النافع : ١٩٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٧ / ٢٩٢ الحديث ٣٣٧٨٠ ، مع اختلاف يسير.

٤٣٣

نعم ؛ لو اعترف بسبق الملك له انتزعت العين من يده حتّى يثبت الناقل ، وذلك ليس من باب تقديم الاستصحاب على اليد ، بل من جهة أنّه باعترافه بذلك صار مدّعيا والمدّعي منكرا فعليه البيّنة.

ألا ترى أنّه لو لم يعترف بذلك وتمسّك في ملكيّته باليد لم تنقض اليد وإن علم الحاكم سبق يد المدّعي عليه ، فافهم!

وبالجملة ؛ فكون ذي اليد منكرا وتوجّه اليمين عليه مع كون قوله مخالفا للأصل في مورد العلم بسبق ملك الغير ، لمكان اليد ، ولو قيل : إنّ دليل اعتبارها أبطل الأصل السابق فليس هناك أصل حتّى يلزم مخالفة الأصل المعتبر.

ففيه مع أنّه كلام ظاهري إلّا أن يرجع إلى ما حقّقناه من الحكومة ففيه ثبوت المطلوب على أيّ تقدير ؛ إذ هو كون المنكر متوجّها عليه اليمين لوجود اليد ، سواء كان هناك مخالفة أصل أم لم يكن أصل هناك أصلا ، فافهم!

ومن الرابع : تقديم قول الودعيّ في الردّ ، توضيحه : إن أخذه لمجرّد مصلحة الدافع فهو محسن محض ، و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (١) ، مع أنّ بناء الوديعة على الإخفاء ، ولذا لو لم يشهد في الردّ لم يضمن ، فلو لم يقبل قوله في ذلك لسدّ باب هذا المعروف.

ومن الخامس : تقديم قول الأمين في الأمانات الشرعيّة والمالكيّة في التلف ، مع أنّ الأصل عدمه فإنّ ذلك لمكان الأمانة ، وليس على الأمين ضمان ، فتأمّل.

ومن السادس : تقديم قول الغاصب في التلف مع كون الأصل عدمه ، وذلك لأنّه لو لم يقدّم قوله في دعواه ذلك وكلّف بردّ العين وكان في الواقع صادقا ، لزم

__________________

(١) التوبة (٩) : ٩١.

٤٣٤

تخليده في الحبس وكذا في دعوى الإعسار إذا كان الدعوى بغير مال.

ومن السابع : تقديم قول الدائن الّذي عليه دينان مرهون بهما ، أو مرهون بأحدهما دون الآخر ، فدفع إلى المديون أحدهما وأطلق في ما قصده ، وذلك لكون الأمر ممّا لا يعلم إلّا من قبله ، مع كون الأصل خلافه ، وإن كان معارضا بمثله.

وكذا تقديم قول الزوج في ما لو دفع إليها شيئا من جنس مهرها أنّه قصد به مهرها.

وبالجملة ؛ تقديم قول الدافع على الآخذ فيما قصده غير عزيز في أبواب الفقه مع كون الأصل بخلافه وهو أصالة اشتغال ذمّة الدافع فيما لو كان ، وأمّا كون الأصل خلاف ما يدّعيه الدافع فمعارض بمثله دائما ، وكسماع دعوى المعير في دعواه الإعسار لو كان أصل الدعوى بغير مال والقناعة بحلف فتأمّل! مع كون الأصل عدم الإعسار ، فتأمّل!

وأمّا غير المذكورات من أسباب الإنكار فلم يحضرني الآن مثاله كأصالة الصحّة في الأحكام والموضوعات وكتقديم قول المشتري في قدر الثمن لو اختلف هو والشفيع للقهر عليه بإزالة الملك من يده قهرا عليه ، فافهم. وكما في اختلاف المعتق نصيبه من العبد المشترك بينه وبين غيره معه في قيمته.

تذنيب

معنى قوله عليه‌السلام : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (١) إلزام المدّعي

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٦٨ الحديث ٢١٦٠١.

٤٣٥

على إقامتها ورخصة المنكر في رفع الاحتمال وسقوط المخاصمة بيمينه ، والسبب في ذلك أنّ المدّعي دائما يدّعي أمرا على خلاف الدليل والمنكر يدّعي أمرا مع دليل أو أمارة أو أصل أو ظاهر يكون حجّة بورود الأخبار على تقديمه لا مطلقا ، ولذا يقدّم الأصل على الظاهر في غير ما ورد من الشرع حجّيته ـ فافهم ـ فالزم المدّعي على دليل رافع لدليل المنكر الظاهري المستند إليه دعواه وقنع من المنكر لاحتمال كون الواقع خلاف ما يقتضيه دليله في الظاهر لو ردّ دليل المدّعى عليه ، ولذا يقدّم قوله مع البيّنة بلا إشكال ، مع كون المنكر مستندا إلى دليل.

فلو أقام المنكر بيّنة سمع منه ، ولذا ذكر في «الدروس» أنّه لو التمس ذو اليد من الحاكم أن يستمع لشهوده للتسجيل جاز له ذلك ، وإن لم يكن هناك مدّع بالفعل (١).

وبالجملة ؛ معنى الرواية : أنّ من كان معه أصل ـ أي دليل اجتهادي أو فقاهتي ـ سواء كان دليلا لفظيّا أو غيره ، أو كان قوله حجّة لحكم الشارع بها ، أو استلزم سماع دعوى مقابله محذورا ، كتخليد الحبس في باب الغصب وغيره ، أو عدم إمكان صدق دعواه ، كما لو كان المدّعى به أمرا لا يعلم إلّا من قبل الفاعل ولم يدّع إقراره بما يدّعيه من قصده (٢).

__________________

(١) الدروس الشرعيّة : ٢ / ٧٧.

(٢) هنا بياض في الأصل.

٤٣٦

التنازع بين الوكيل والموكّل

قال المحقّق في «المختصر النافع» : ولو تنازعا في الاستيجار فالقول قول المنكر مع يمينه (١).

أقول : إمّا أن يكون النزاع قبل استيفاء شي‌ء من المنفعة أو بعده أو بعد استيفاء الجميع ، وفي كلّ من التقادير إمّا أن يكون المدّعي المالك أو المستأجر ، ويتصوّر النزاع في كلّ من الصور الستّ ، أمّا لو كان المدّعي المالك فقبل الاستيفاء يدّعي استحقاق الاجرة بانتقال المنفعة إليه ، فهنا إذا حلف ، حكم بانفساخها ظاهرا ويتصرّف فيها قصاصا ، إلّا أنّها لو كانت اجرة مثلها أزيد من المسمّى وجب عليه ـ لو كان صادقا ـ أن يدسّ الزائد في مال المستأجر ، وإن كانت الاجرة أنقص من المسمّى فله أخذ الناقص متى تمكّن مقاصّة ، هذا على القول بالانفساخ ظاهرا.

لكنّ التحقيق هو الانفساخ واقعا ، كما سيجي‌ء.

وإن كان بعد استيفائها أجمع فكذلك المالك يدّعي الاجرة والمستأجر ينفيها ، فإن ادّعى مع ذلك جواز تصرّفه فيها مجّانا إمّا عارية أو غيرها ، بأن كان جوابه لدعوى المالك أنّها عارية أو سكنى ، ونعني بها الجائزة لا اللازمة فإنّها مورد التحالف ، كما لا يخفى.

فقد قيل : إنّ المشهور بعد حلفه سقوط الاجرة ، لأصالة براءة ذمّته ، كما هو ظاهر إطلاقهم لحلف الراكب وسقوط الاجرة فيما لو قال الراكب : أعرتنيها ، وقال

__________________

(١) المختصر النافع : ١٧٧.

٤٣٧

المالك : آجرتكها (١).

وقيل في مثل المقام كالمثال المفروض في كلماتهم : بل يحلف المالك ، لأنّ المنافع أموال كالأعيان ، فهي بالأصالة للمالك ، فادّعاء غيره لها بغير عوض على خلاف الأصل (٢) ، فيوجّه الحلف عليه في عدم إذنه للتصرّف والاستيفاء وعدم الانتقال إليه مجّانا ـ مثلا ـ فافهم.

وقوّاه الشهيد الأوّل مع إثباته له اجرة المثل إلّا أن تزيد على ما ادّعاه (٣).

وفيه نظر ؛ إذ النزاع في السبب وهو الإجارة والعارية ، ويتفرّع على كلّ منهما أثر شرعيّ ، فأصالة العدم جارية بالنسبة إلى كلّ منهما إلّا أنّ أصالة عدم العارية الّتي هي مع المالك لا يترتّب عليه أثر إلّا بعد ثبوت الإجارة ، أو تكون المنفعة مالا محترما لمالك العين ، كما قرّره الشهيد الثاني في وجه تقوية الشهيد الأوّل (٤) ، وهذا أصل مثبت غير معتبر عند أكثر الاصوليّين ، كما هو المحقّق في محلّه.

وأمّا أصالة عدم الإجارة الّتي مع المنكر للإجارة فالأثر المترتّب عليها بلا واسطة وهو عدم الضمان لها ، إلّا أن يقال : إنّ مجرّد نفي الإجارة لا يستلزم نفيه ، إلّا أن يثبت كونها مجّانا وهو غير معلوم ، بل المعلوم هنا خلافه ، لاستيفائها مع كونها للمالك وأصالة البراءة مورودة بالنسبة إلى الدليل الاجتهادي ، وهو أصالة ضمان الأموال الّتي منها المنافع.

__________________

(١) الخلاف : ٣ / ٣٨٨ المسألة ٢.

(٢) مسالك الإفهام : ٥ / ١٦٤ ، الروضة البهيّة : ٤ / ٢٦٩.

(٣) اللمعة الدمشقيّة : ٩١.

(٤) الروضة البهيّة : ٤ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٤٣٨

أو يقال بأنّ الأصل المثبت معتبر عند المشهور ، كما يظهر من فروعهم المذكورة في أبواب الفقه في آخرها في مسألة التنازع.

أو يقال بأنّ الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفيّة فلا شبهة في اعتبارها ، والواسطة بين أصالة عدم العارية والضمان خفيّة ، فتأمّل!

والحاصل ؛ أنّ الأصلين متماثلان ، لكونهما أصلين مثبتين إمّا معتبرين أو غير معتبرين ، فيتساقطان ، فيرجع إلى الأصل الموجود في المقام إن لم يكن دليل فيه ، وإلّا فهو المرجع ، كما في ما نحن فيه ، فيتمّ كلام الشهيد ومن تابعه.

وظنّي أنّ مراد المشهور من إطلاقهم لتلك المسألة إنّما هو صورة عدم استيفاء المنفعة أو بعد استيفاء شي‌ء منها ، لكن بالنسبة إلى ما بعد ، لا بالنسبة إلى ما قبل ، فتأمّل جيّدا!

وإن لم يكن جواب المستأجر ما يوجب المجانيّة توجّه اليمين عليه ويحكم بعدم وقوع العقد ، فإن كان قبض اجرة المسمّى المتعيّنة وجب عليه ردّها إن كان مغايرا لاجرة المثل ، لأنّ اليمين ذهبت بما فيه وطالبه اجرة المثل ، وإن كان من جنسه لزم المالك أخذه إن أذن له المستأجر أو لم يكن قبضها فدفعها إليه ، وإن لم يقبضها جاز له التصرّف فيه مقاصّة.

ومن هاتين الصورتين يتّضح حكم الصورة الثالثة ، وهو ما لو كان النزاع في الأثناء ، فبالنسبة إلى المدّة الماضية يأتي حكم الصورة الثانية ، وبالنسبة إلى المدّة الباقية يأتي حكم الاولى ، ولكن بحلف واحد يستحقّ اجرة مثل المدّة الماضية وينفسخ بالنسبة إلى الباقية.

ولو كان المدّعي المستأجر وكان قبل الاستيفاء كان مقصوده المنفعة فإذا

٤٣٩

حلف المؤجر رجعت الأجرة إلى المستأجر ، فيتصرّف فيها مقاصّة.

فإن قلت : إنّ المقاصّة بعد اليمين غير جائزة لذهابها بما فيها.

قلت : ليس هذه المقاصّة من الّتي تحرم بعدها ، إذ ليس الواجب بعد الحلف ولا وجوب التصديق وترتيب آثار الصدق عليه ، فإذا حلف المديون على عدم اشتغال ذمّته لزيد مثلا ، فلا يجوز له المقاصّة والأخذ من مال المديون لوجوب تصديقه المنافي لذلك ، وأخذ المستأجر الاجرة لا ينافي صدق المؤجر الحالف على عدم استحقاق المستأجر للمنفعة ، وإن كان بعد استيفاء المنفعة.

فإن أنكر المؤجر لادّعائه اجرة المثل ، وذلك حيث أنكر الإذن في التصرّف فتوجّه الدعوى ظاهر ، وإن اعترف بالإذن فإن لم يترتّب على الدعوى أثر ، مثل أن يقول المالك : أعرتكها ، فيقول المستأجر : بل آجرتنيها ، لم يسمع الدعوى ، لعدم كونها ملزمة لشي‌ء ، وإن ترتّب عليها أثر مثل أن كانت الإجارة مشروطة في عقد لازم على المستأجر ، فيقول المستأجر : وفيت بالشرط ، فينكره المؤجر ، فمقصود المستأجر عدم ثبوت الخيار للمؤجر وهو يثبته.

ولذا لو كان النزاع بعد انقضاء مدّة ، لكن المنفعة غير مستوفاة للمستأجر وكانت العين في تلك المدّة في يده توجّهت الدعوى أيضا مع اعترافه بالإذن إن رتّب عليها أثر ، مثل أن كان جواب المؤجر كونها سكنى وقد شرطت تلك على المؤجر في عقد لازم ، فيقول المستأجر : ما وفيت بشرطك فلي الخيار ، لكون العين مستأجرة ، فيقول المؤجر : كانت هي سكنى فلا خيار.

ومن الصورتين يعلم حكم النزاع بعد استيفاء شي‌ء من المنفعة ، فليتأمّل!

لكن ليعلم أنّ انفساخ العقد بعد الحلف لو كان هنا في الواقع من أيّ سبب

٤٤٠