الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

المخيط بخيط مغصوب بعد ردّ قيمته.

وأنت خبير ؛ بأنّه لا مجال لهذا الكلام بعد ما عرفت من أنّ باب التضمينات لا يرتبط بباب المعاوضات ، وأنّ ما يلزم على الضامن ليس إلّا الغرامة ولم يعهد من الشرع أبدا أن يكون تضمين المالك من المخرجات ، خصوصا مثل المقام الّذي قد عرفت أنّ عين مال المالك موجودة ، فكيف يمكن أن يقال بأنّ ما على الغاصب من الغرامة بعد الإخراج عوض عن الخيط قبل أن يخرج؟

وأمّا قياسه المقام بالماء المغصوب المتوضّأ به ؛ فبعد التسليم في المقيس عليه يمكن الدعوى جدّا بالفرق بينهما ، فإنّ الماء المتوضّأ به بعد الفراغ عن الغسل ليس بعد شيئا موجودا ، بل العرف يراه معدوما ، ولذلك ينقلب إلى البدل قهرا ، بخلاف الخيط في الثوب فإنّه بعد إخراجه وتقطيعه بحيث يسقط عن الماليّة يراه العرف موجودا ، فكيف بحال عدم إخراجه وثبوته بحاله في الثوب ، فالحقّ عدم جواز صلاته في الثوب من هذه الجهة ما لم يرض المالك.

أقول : يمكن أن يكون نظر المحقّق قدس‌سره وتابعيه إلى أنّه عند إخراج الخيط عن الثوب الموجب ذلك لتلفه وإن كان بمباشرة الغاصب ، إلّا أنّه لمّا يفعل ذلك بأمر المالك وإلزامه فيصير السبب أقوى ، فلذلك يمكن الدعوى بأنّ التلف يستند إلى المالك الآمر ، وليس يستند إلى المباشر ، لا بفعله الآن لما عرفت من أنّه ملزم ومأمور ، ولا بفعله السابق لأنّ خياطته ما أوجبت تلف الخيط ، ولذلك يرى الخيط الآن في الثوب بشخصيّته وماليّته موجودا (١) ، فيصير الموجب للتلف شخص المالك بأمره ، فإذا صار هو بنفسه متلفا لما له فلم يلزم المباشر بالغرامة؟

__________________

(١) كما كان ذلك مبنى الحكم بوجوب ردّ العين ، «منه رحمه‌الله».

٦٠١

وبتقريب آخر ؛ إنّ الدليل على وجوب ردّ العين إنّما هو «قاعدة اليد» المقتضية لوجوب ردّ العين ما دامت موجودة لأن تصل إلى صاحبها فهي إنّما تجري فيما إذا أمكن ذلك.

وأمّا إذا لم يمكن ذلك ، كما إذا توقّف إيصال العين إلى صاحبها على تلفها المستلزم ذلك لعدم وصولها إليه ـ كما في ما نحن فيه ـ فكيف تجري هذه القاعدة ، مع أنّه بناء على إلزام الإيصال ، يستلزم عدم الإيصال فيصير من قبيل ما يلزم من

وجوده عدمه؟ فلا محيص من أن يلتزم بأنّ نتيجة جريان «قاعدة اليد» في المقام إنّما هو ضمان الغاصب المثل أو القيمة ، ولا يقاس المقام بما إذا استلزم الردّ مصارف ، فكيف يكون هناك خسارتها على الغاصب حتّى تصل العين إلى صاحبها ، فكذا إذا أوجب إيصال العين تلفها ، وذلك ـ أي وجه الفرق ـ هو أنّ خسارة الإيصال بمعنى أنّ مقدّمة وصول المال إلى صاحبه إنّما تكون على الغاصب فيما إذا أمكن وصول المال ، لا فيما إذا كان مقدّمة إيصاله عين إتلافه ، والمحذور أنّه كيف يجري في مثله عنوان المقدّمية؟ فلا تغفل!

وبالجملة ؛ فهؤلاء الأساطين كالمحقّق والعلّامة والشهيد الأوّل قدّس الله أسرارهم ، وبعض من تأخّر عنهم لمّا لم يروا في المسألة مقتضيا للحكم بضمان الغاصب قيمة الخيط بعد تلفه بإخراجه بأمر المالك ، فالتزموا من أوّل الأمر بضمانه القيمة وانتقال الخيط المغصوب إلى الغاصب بالمعاوضة القهريّة (١) فكأنّهم رأوه بحكم التالف ، وتعبير صاحب «الجواهر» قدس‌سره بالعوض والمعوّض (٢)

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٣٩٦ ط. ق ، الدروس الشرعيّة : ٣ / ١٠٩ و ١١٠.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٨٠.

٦٠٢

ليس مراده قدس‌سره بعنوانهما المعاملي ، بل المراد هو ما أشرنا [إليه] من المعاوضة القهريّة.

نعم ، إنّما الإشكال في أنّه مع بقاء المال بعينه وعدم صيرورته تالفا حقيقة ، ولا بحكم التلف كالمال الغريق ، فأيّ موجب لانتقاله إلى القيمة في ظرف وجود العين وبقاء ماليّتها؟

ولمّا لم يكن عدم جريان قاعدة لعدم المقتضي ـ وهو عدم وجود العين ـ أو عدم احترامها ، بل كان للمانع ، وكذلك استناد الإتلاف لو اخرج بإلزام المغصوب منه بعد ذلك إلى المالك ؛ ليس ذلك أيضا موجبا لخروج المال عن تحت سلطنة المالك فعلا وانقلابه بالقيمة ، كما لا يخفى.

فلذلك لا يبعد الدعوى أنّ القاعدة تقتضي الحكم بالشركة ، أي شركة صاحب الخيط مع صاحب الثوب فيه بنسبة قيمة الخيط ، نظير ما لو اختلط مال المغصوب منه مع مال الغاصب بحيث لا يمكن تمييزهما ، وإن لم يحتمل ذلك على الظاهر.

ولكن لمّا لم يكن في المسألة نصّ يخالفه ما احتملناه ، وكذلك لم تكن المسألة إجماعيّة ، فلا ينبغي الوحشة عن الانفراد ، بعد ما عرفت من عدم مساعدة الدليل والقاعدة لما أفتى به الطرفان ، بل مقالة كلّ منهما مخالفة للقاعدة من جهة ، ولكن هذا إذا كان إيصال المال وإخراج الخيط مستلزما لسقوطه عن الماليّة رأسا ، حتّى لا يبقى له قيمة ولا صفة الملكيّة الموجب ذلك محذورا آخر ، مضافا إلى ما ذكرنا ، وهو مسألة التبذير المحرّم.

وأمّا إذا لم يوجب ذلك بل يبقى له مقدار من الماليّة ، فالحقّ هو ما أفتى به ـ

٦٠٣

دام ظلّه ـ وفاقا للمشهور ، ووجهه يظهر ممّا ذكرنا.

وأمّا ما أفاده ـ دام ظلّه ـ من الفرق بين المقام والماء المغصوب المتوضّأ به فلا يخلو عن التأمّل أيضا ، وذلك لأنّ حكم العرف بكون الماء تالفا بعد الغسل كيف يوجب الحكم بجواز الانتفاع بما بقي من آثار المغصوب؟ لأنّ المفروض أنّ باب الضمان ليس من باب المعاوضة حتّى يجوز الانتفاع بما يبقى من العين ما لم يرض المالك به ، فما المصحّح لهذا الانتفاع بعد تسليم عدم انتقال العين وما يبقى منها إلى الغاصب ، ولو مع دفعه الغرامة؟ مع إمكان منع الحكم بصيرورته تالفا بقول مطلق ، وإلّا لم يمكن الانتفاع منه ، ولا إشكال أنّ انتفاع كلّ شي‌ء بحسبه والمسح نوع من الانتفاع ، فيستكشف من ذلك بقاء مرتبة ودرجة من العين.

هذا ؛ إذا كان الغاصب عالما ، وأمّا إذا كان جاهلا فظاهر كلامهم يعطي عدم الفرق بينهما ، وأمّا ما احتمله من الاشتراك والشركة تجري في هذه الصورة بطريق أولى ، كما لا يخفى.

وأمّا حكم الثوب لو استلزم إخراج الخيط خرق الثوب (تخريقه) فظاهر ما استفدت من كلامه ـ دام ظلّه ـ الفرق بين ما لو كان الغاصب جاهلا وعالما ، فالتزم في الثاني بعدم ضمان صاحب الخيط لخسارة الثوب ، مستدلّا بقوله عليه‌السلام : «ليس لعرق ظالم حقّ» (١) ونظيره ، من كونه بإقدامه أتلف ماله وأضرّ بنفسه ، بخلاف ما لو كان جاهلا ، فلمّا يستند خرق الثوب في صورة جهل الغاصب إلى المغصوب منه ، فيكون ضامنا للخسارة المتوجّهة إلى صاحب الثوب بسبب إخراج الخيط.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.

٦٠٤

وهذا على مبنى كلامه السابق ، وقد أوضحنا عدم تماميّة هذا الكلام.

وأمّا لو كان الثوب لغير غاصب الخيط ، فإن كان الغير عالما بالغصب فحكمه حكم الغاصب ، وإن كان جاهلا فليس عليه شي‌ء ، وضمان تخريق ثوبه لو استلزم على الخيّاط مع علمه ، وإلّا فعلى صاحب الخيط على مبناه ـ دام ظلّه ـ وأمّا على ما بيّنا من عدم ضمان المغصوب منه مطلقا فيقع الكلام بين ضمان الخيّاط وعدمه ، والظاهر عدم مانع من الالتزام بضمان الخيّاط ؛ لجريان قاعدة الإتلاف ، والله العالم.

الفرع الثالث : قال في «الشرائع» : (وكذا لو خاط بها جرح حيوان له حرمة) .. إلى آخره (١).

هنا أيضا صور ؛ لأنّ الحيوان إمّا أن يكون آدميّا أو غيره ، وكلّ منهما إمّا أن يكون محترما أو لم يكن كذلك ، والغاصب إمّا أن يكون عالما أو جاهلا ، والمخيط عليه إمّا نفس الغاصب أو حيوانه أو غيرهما ، والإخراج في جميع الصور إمّا أن يوجب التلف أو الشين ونحوه [أولا].

أمّا إذا كان خيط به جرح الآدمي مع علمه بغصبيّة الخيط فالكلام فيه هو الكلام في ما سبق ، وقد عرفت أنّ مقتضى ما يظهر من بعض الأدلّة عدم وجوب حفظ نفس الغاصب ، وسقوطه عن الاحترام بغصبه فلا مانع من سلطنة صاحب الخيط وإجرائها بإخراج خيطه ، سوى استبعاد أنّه كيف يلتزم بجواز إتلاف نفس لإخراج خيط.

مع إمكان الجواب عن هذا الاستبعاد بما اجيب به عن استبعاد قطع يد

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.

٦٠٥

السارق إذا سرق ربع دينار من أنّه لا احترام لمثل هذه اليد (١) ، وكذلك لا احترام للغاصب لكونهما مشتركين في العدوان ، وأنّه لا يتلفه أحد وإنّما المتلف هو نفسه بعدوانه وغصبه ، ولو كان المباشر لإخراج الخيط الموجب ذلك للتلف ، إلّا أنّه يمكن الدعوى قريبا بأنّ السبب هنا مقدّم على المباشر.

نعم ؛ لو كان مضطرّا من أوّل الأمر فكما يجب على المالك بذل ماله وخيطه لحفظ نفس الغير يجوز بل يجب على الغير أيضا التصرّف في ماله ولو بدون إذنه لحفظ نفسه ، وذلك لعدم سقوط نفسه عن الحرمة في الرتبة السابقة على الاضطرار.

وبالجملة ؛ الاستبعاد لا يمنع عمّا تقتضيه الأحكام الشرعيّة ، فإن تمّ الإجماع في المسألة فليس للمالك إخراج خيطه ، وإلّا فقد عرفت أنّ مقتضى القواعد له ذلك ، وليس شي‌ء يمنع من سلطنته على ماله ، وأسهل من ذلك ما لو أوجب إخراج الخيط ما تتعب به نفس الغاصب من الشين ونحوه ، فعلى ما تقتضيه القاعدة المعروفة المرتكزة في أذهان العرف من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال» (٢) هو الحكم قويّا بجواز إخراج الخيط للمالك ، وكون مثل ذلك موجبا لسقوط التكليف الشرعي وهو الوضوء وتبدّله بالتيمّم لا ربط له ؛ لأنّ المناط في الأحكام التكليفيّة غيره في الأحكام الوضعيّة ، مع أنّ تشبيه المقام بباب الوضوء قياس محض ، وليس في البين مناط (٣) منقّح ، بل القياس قياس مع

__________________

(١) جواهر الكلام : ٤١ / ٤٩٥.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠.

(٣) لأنّ حدّ الحرج الّذي يوجب سقوط الحكم التكليفي غير الحدّ الّذي يوجب سقوط الحكم الوضعي الموجب لجواز التصرّف في مال الغير ، فلا تغفل! «منه رحمه‌الله».

٦٠٦

الفارق (١) ، ولقد أجاد [صاحب] «الجواهر» في المقام فراجع (٢)!

وأمّا فيما لو كان الغاصب جاهلا فلا إشكال في عدم جواز إخراج الخيط حتّى فيما لو أوجب (٣) الشين ، بل يتعيّن ردّ القيمة أو المثل ؛ لعدم جريان ما سبق في هذه الصورة.

وأمّا لو كان حربيّا فيجوز الإخراج بلا إشكال ، لعدم احترام لنفسه حتّى يمنع من جريان قاعدة السلطنة ، بخلاف ما لو كان ذميّا ، فحكمه حكم المسلم جاهلا أو عالما.

وأمّا حكم الحيوان ؛ فإمّا أن يكون ما يجوز ذبحه أو لا يجوز :

أمّا الأوّل ؛ فإن كان إخراج الخيط موقوفا على ذبحه ، فإن لم نقل بكون الذبح أمرا خارجا عن مقدّمة تخليص المال ، بمعنى أن نقول : إنّه تصرّف زائد على ما يجوز التصرّف في مال الغير مقدّمة لتخليص المال ، كما لا يبعد القول به ، لأنّ العرف لا يرى مثل ذلك من المقدّمات ، بل يراه من المقدّمات البعيدة وتصرّفا زائدا على قدر الحاجة في مال الغاصب.

وبالجملة ؛ فإن لم يلتزم بذلك فيجوز للمالك إخراج الخيط ، ويجب على المالك الغاصب ذبح الحيوان ، وأمّا إذا كان حيوانا محترما لم يجز ذبحه كالكلب المعلّم ، فلمّا لا يبعد أن يقال : إنّه ليس لمثل هذا الحيوان من حيث نفسه احترام وإنّما احترامه من جهة ماليّته العارضة عليه بسبب التعليم وغيره ، فحال مثل هذا

__________________

(١) مع أنّ في باب الوضوء أيضا كلام فيما لو جعل المكلّف نفسه باختياره فاقدا للشرط ، «منه رحمه‌الله».

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٨٠ و ٨١.

(٣) كذا ، والصحيح : لو لم يوجب.

٦٠٧

الحيوان حال سائر أموال الغاصب ، وهو تابع لجواز إتلاف ماله مقدّمة لوصول المغصوب منه إلى ماله ، فمن حيث نفس الحيوان ؛ لمّا لم يكن لروحه احترام لا يلحق ذلك بما إذا خيط بالمغصوب جرح حيوان محترم حتّى يجعل الخيط بحكم التلف ، مع وجوده عينا لمانع الإخراج.

وأمّا إذا كان الحيوان المحترم لغير الغاصب فيظهر حكمه ممّا سلف ، وكذلك لو خيط به جرح الغير نفسه أيضا مضى حكمه بجميع صوره من جهل الغير وعلمه وغيره.

وأمّا إذا كان الآدمي المخيط عليه المغصوب ميّتا ، فهل يجوز إخراج الخيط عن جسده أم لا؟ فالظاهر أنّه لا يجوز ؛ لأنّ احترام ميّت الآدمي كاحترام حيّه ، وإن استثني من حرمة نبش القبور الّذي هو أيضا مخالف لاحترام الميّت الّذي لا يبعد أن يكون ما نحن فيه من قبيلها ، خصوصا فيما إذا أوجب الإخراج مثلته ، فالقول بجواز الإخراج ليس ببعيد.

أقول : وقد استشكل الأصحاب ـ أي بعضهم ـ فيما لو دفن الميّت في أرض مغصوبة ؛ جواز نبش القبر لإخراج الميّت وتخليص الأرض مطلقا ، ولو لم يوجب مثلته (١) لأنّ احترام الميّت واجب على كلّ أحد الّذي منهم المغصوب منه الأرض ، وليس ذلك إلّا لكون المغصوب منه مخالفا في ذلك النبش لتكليف نفسه فكيف يلتزم به في المقام مع استلزام إخراج الخيط مثلة الميّت غالبا؟ إلّا أن يفرّق بين أن يكون الميّت في حال حياته بنفسه مع علمه بكون الخيط مغصوبا ارتكب ذلك وخاطه على جرحه ، وبين ما إذا لم يكن عالما بغصبيّة الخيط وصدور ذلك

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٥٠٤ ، جواهر الكلام : ٤ / ٣٥٤.

٦٠٨

عنه جهلا ، إمّا بنفسه أو عالجه الطبيب ، بأن يقال بأنّه لمّا ارتكب بنفسه في الأوّل وأقدم على ذلك فهو أوجب سقوط الاحترام عن نفسه حيّا وميّتا ، فلا مقتضي لاحترام جسده بعد موته ، بخلاف الثاني ، فإنّه لمّا أقدم على المحرّم وهو الخياطة بخيط الغير على جرحه جاهلا بذلك ، فلا موجب لسقوط الاحترام عن جسده بعد موته ، بل يجب على كلّ أحد حفظ حرمته ، فلمّا يقع التعارض بين حفظ حرمته وحرمة مال الحيّ فالجمع بينهما بعد عدم ثبوت الترجيح يقتضي الحكم بأخذ المغصوب منه قيمة خيطه من تركة الميّت أو من بيت المال ، إن لم يكن له تركة ، كما أفتى بذلك في «الجواهر» في باب أحكام الميّت (١) وإن افتي بخلافه في المقام بترجيح رعاية حرمة الحيّ (٢).

والعجب ؛ أنّه كيف التزم بذلك مع أنّ المقام أولى بترجيح ملاحظة حال الميّت ورعاية الجمع بين الحقّين وكذلك رعاية الاحتياط ، لما أشرنا من لزوم إخراج الخيط مثلته غالبا ، بخلاف إخراجه عن أرض مغصوبة ، فتدبّر!

وكيف كان ؛ الفرق أيضا لا يخلو عن تأمّل جدّا ، ضرورة أنّ إقدامه على التصرّف في مال الغير لخياطته جرحه في حال حياته لا ربط له بحال موته الّذي خرج به عن التكليف وصار موضوعا لتكليف الأحياء ، فكيف يمكن الالتزام بأنّ إقدامه في حياته أسقط احترامه بعد وفاته المستلزم ذلك سقوط التكليف عن الأحياء وجواز ارتكابهم الحرام؟ فالأولى هو رعاية حال الميّت الآدمي واحترامه لو كان محترما مطلقا ـ أي لم يكن حربيّا ـ والجمع بين الحقّين بأخذ

__________________

(١) لاحظ! جواهر الكلام : ٤ / ٣٥٤.

(٢) ذكرى الشيعة : ٢ / ٨١.

٦٠٩

المغصوب منه قيمة ماله كما هو ظاهر إطلاق كلام المحقّق وغيره قدّس الله أسرارهم (١).

وأمّا حكم صلاة غاصب الخيط المخيط به جرحه ـ وبنينا على عدم جواز الإخراج وتعيّن أخذ القيمة ـ فلا إشكال في صحّة صلاته وكلّ عبادته ، وذلك لما حقّقنا في باب اجتماع الأمر والنهي أنّ ما يضطرّ به من التصرّف في المغصوب بعد الغصب فليس منهيّا عنه ، لعدم كونه من الأزل تحت الاختيار ، ولا ينافي ذلك كون أصل تصرّفه ودخوله في الدار المغصوبة منهيّا عنه ، وكون تصرّفه الاضطراري هذا أيضا مصداقا للغصب ، إلّا أنّ الغصب والتصرّف بحدّه الّذي يكون تحت الاختيار ـ وهو الدخول ـ ممنوع عنه ، دون ما لم يكن كذلك كما في المقام ، فإنّ في التصرّف في الخيط من حيث بقائه وعدم إخراجه مضطرّ إليه من الأزل ، فلا يتعلّق به النهي من الأزل أيضا ، وأمّا من حيث دخوله فلا نهي أيضا لسقوطه بالعصيان ، فلا مانع من صحّة صلاته ، كما لا يخفى.

ضمان المثل أو القيمة عند حدوث العيب في المغصوب

الرابع : قال في «الشرائع» : (ولو حدث في المغصوب عيب مثل تسويس التمر) .. إلى آخره (٢).

لا يخفى ؛ أوّلا أنّه لا سبيل إلى ما التزمه الشيخ رحمه‌الله في المقام من سقوط حقّ المالك عن العين بسبب طروّ العيب عليها (٣).

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩ ، جامع المقاصد : ٦ / ٣٠٤ و ٣٠٥.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.

(٣) المبسوط : ٣ / ٨٢ و ٨٣ ، لاحظ! جواهر الكلام : ٣٧ / ٨٣.

٦١٠

ضرورة ؛ أنّه لا دليل على خروج المال عن ملك صاحبه بمثل ذلك كما لا يخفى ، إنّما الإشكال في أمرين :

الأوّل : أنّه إذا أخذ المالك قيمة العيب الفعلي الموجود في العين هل يستحقّ أرش ما يزداد من العيب أيضا بعد ذلك أم لا؟ والظاهر ؛ أنّه لا خفاء في ذلك ـ أي استحقاقه الأرش بزيادة العيب الحادث أيضا إذا كان مستندها فعل الغاصب والعيب الحادث عنده ، وذلك لأنّ ما يأخذه أوّلا من الأرش إنّما هو بدل عن العيب الموجود ، ولا ربط له بما يحدث بعد ذلك والآن معدوم.

ودعوى أنّه يمكن بأن يقوّم العيب الموجود مع ما يحدث بعد ذلك جميعا فيأخذ القيمة كذلك حتّى لا يستحقّ بعد ذلك شيئا ، بمعنى أنّ العيب لمّا كان يقوّم بما هو مستتبع لما يحدث ويزيد ؛ ففي الحقيقة ما يأخذه أوّلا يكون أرشا للمجموع ، كما أنّ في البيع يكون كذلك ، أي لا يستحقّ المشتري أرش العيب إلّا ما هو الموجود حين العقد. مدفوعة ؛ بأنّ المالك لا يستحقّ أزيد من أرش العيب الموجود ، ولا دليل على جواز ضمّ ما يحدث بعد ذلك ، مع كونه مشكوكا فيه إلى الموجود فعلا ، وأمّا في باب البيع فلأنّ القدر المسلّم من الدليل المثبت لأرش العيب هو أرش العيب الموجود حين العقد وما دام كون المبيع في ضمان البائع ، وأمّا بعد خروجه عن ضمانه فلا مقتضي للالتزام بضمان العيب الحادث بعده ، بخلاف باب الغصب فإنّ المقتضي ـ وهو كون يد الغاصب عدوانيّا وصدق نسبة الإتلاف المستند إلى العيب إلى الغاصب ـ موجود ، للحكم بضمانه ، فتأمّل!

الثاني : أنّه لو تلف المغصوب من جهة تزايد العيب المحدث عند الغاصب ، هل يكون ضمان التلف ، وكذلك زيادة العيب على الغاصب مطلقا ، ولو كان من

٦١١

جهة ترك العلاج المستند إلى المغصوب منه أم لا ، بل فيما إذا لم يكن التلف والزيادة من جهة ترك العلاج يكون ضمانه عليه ، وإلّا فلمّا كان التلف يستند إلى ترك العلاج الّذي سببه المالك فيكون هو في الحقيقة مباشرا للتلف ، فلا ضمان على الغاصب؟

ظاهر إطلاق كلماتهم ، الأوّل ، ولكنّ الحقّ التفصيل بين ما إذا كان العيب سهل العلاج وبين ما إذا لم يكن كذلك ؛ بمعنى أنّه لو كان العيب بحيث يكون قابلا للعلاج فعلا حتّى لو تلف لم يستند إلى العيب المحدث ، بل العرف يسنده إلى ترك العلاج لا إلى نفس العيب وبطئه ، فلمّا يصدق في مثل ذلك كون تارك العلاج متلفا ، فلا موجب للالتزام بضمان الغاصب.

وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل كان قابلا للعلاج ولكن تحصيل أسبابه موقوف على مقدّمات بعيدة متعبة بحيث لو تلف لم يستند عرفا إلى ترك العلاج ، بل إلى بطء المرض أو العيب وطوله ، فيحكم بضمان الغاصب لكونه محدثا للعيب المؤدّي إلى ذلك ، ولا ريب أنّ ذلك يختلف باختلاف المقامات.

وكيف كان ، فلا ينبغي القول بإطلاق الضمان كما نلتزم بهذا التفصيل في باب دية الجراحات وترك شدّ الفصد ، كما لا يخفى.

الجهة الرابعة من البحث ؛ في الضمان المثلي والقيمي.

في «الشرائع» : (فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثليّا) .. إلى آخره (١).

ينبغي أن يعلم أنّ البحث في مقامين :

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.

٦١٢

الأوّل ؛ في الدليل الدالّ على الفرق بين المثلي والقيمي ، ولا يخفى أنّ هذين اللفظين ما ورد (١) بهما نصّ ، وإنّما وقعا في معاقد الإجماعات وكلمات الأصحاب ، فهم الّذين التزموا بهذا الفرق ، وسنشير إلى وجه استفادتهم من الأدلّة.

وكيف كان ؛ معنى ضمان المثل في المثلي والقيمة في القيمي هو أنّ الّذي يجب على الضامن في الأوّل بحيث ليس له تبديله ، هو المثل ، وكذلك ليس للمضمون له إلّا هو فليس له الإلزام بالقيمة ، كما أنّه ليس الأوّل ذلك ، بل إنّما التبديل موقوف على التراضي ، والمراد بضمان القيمة في القيمي هو عكس ذلك هذا ما تقتضيه من كيفيّة الضمان كلماتهم.

وأمّا ما يستفاد من ظاهر بعض ما يمكن أن يستدلّ به للمقام كآية الاعتداء وأمثالها (٢) ، فهو خلاف ما يظهر من بنائهم ، فإنّ ظاهر الآية يحكم باعتبار المماثلة في الضمان مطلقا سواء كان المضمون به مثليّا أو قيميّا ، فيكون كيفيّة اشتغال الذمّة والضمان هو ما أفتى به ابن الجنيد بضمان المثل في القيمي أيضا (٣) إلّا مع التعذّر كما في المثلي ، كما لا يبعد الدعوى بأنّ الطبع أيضا يقتضي عدم الالتزام بالفرق.

وأمّا ما يقتضيه أصل القاعدة الّتي هي المدرك للضمان في الباب ـ وهي قاعدة اليد ـ فنقول : إنّ هذه القاعدة بطبعها الأوّلي أيضا تقتضي ضمان المثل

__________________

(١) ولذا قال بعض : لم يحوّل تعيين موضوعهما إلى العرف كسائر الألفاظ الواقعة موضوعا لحكم الشارع ، «منه رحمه‌الله».

(٢) البقرة (٢) : ١٩٤ ، المائدة (٥) : ٤٥.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ٦ / ١٣١.

٦١٣

مطلقا بلا تفصيل أمّا على مسلكنا من أنّ المستفاد منها أنّ الثابت في الذمّة هو نفس العين فواضح ، ضرورة أنّه إذا كان المأخوذ بنفسه ثابتا في الذمّة فيجب تحصيل البراءة منه مع التمكّن ، وإلّا فالأقرب إليه ، وهو المثل.

وأمّا على مسلك المشهور من اشتغال الذمّة بالبدل ، ففي المثلي المثل ، وفي القيمي القيمة ، فأيضا الذمّة مشغولة بالمثل عند تلف العين حتّى يؤدّيه ، فتأمّل!

نعم ، لمّا كانت القاعدة مغيّاة بالأداء ، وأداء القيمي لا يمكن إلّا بقيمته ، فلا بدّ أن يقيّد الإطلاق بذلك ، بمعنى أن يقال بأنّ الّذي يستقرّ على اليد والذمّة وإن كان هو نفس المأخوذ إلّا أنّ في المثلي يجب أداء مثله ، وفي القيمي لعدم إمكان المثل أداء قيمته.

إلّا أنّه مع ذلك لا يرتفع التعارض بين مدلول هذه القاعدة ومعاقد الإجماعات ، وذلك لأنّ المدار في وجوب أداء المثل في المثلي عند الأصحاب التمكّن من المثل نوعا ، بمعنى أن يكون للتالف أفراد نوعيّة وإن لم يتمكّن منه الشخص المتلف ، فليس المدار على تمكّنه ، وأمّا لو تيسّر المثل نوعا وتمكّن المتلف من المثل واتّفق أنّه وجد عنده نظير للتالف فلا يجب عليه أداؤه ؛ لأنّه عند عدم التمكّن من المثل نوعا يكون المضمون قيميّا فلا تشتغل الذمّة إلّا بالقيمة.

وأمّا مدلول القاعدة فلما عرفت أنّ الالتزام بالقيمة في مفادها في الجملة إنّما كان ذلك لعدم التمكّن من أداء المثل فيما لا مثل له ، لا لاقتضاء القاعدة ، ولا إشكال أنّه عند تمكّن الضامن من أداء المثل فالغاية حاصلة ، فلا ضرورة تدعو إلى صرف الأقرب ممّا اخذت ، الّذي كان ذلك مقتضيا باشتغال الذمّة بنفس

٦١٤

المأخوذ ، إلى القيمة الّتي ليست هي أداء حقيقة ، بل وفاء.

وأمّا لو لم يتمكّن الضامن من المثل ، ولو تمكّن نوعا كما في المثلي فمقتضى قاعدة اليد عدم وجوب أداء المثل لعدم حصول الغاية وعدم تمكّن اليد الآخذة عن أداء المثل.

وبالجملة ؛ فمع الجمود على ظاهر لفظ قاعدة اليد فيكون كلّ من معاقد الإجماعات وقاعدة اليد عكس الآخر في المدلول ، ثمّ يترتّب على ذلك وقوع التعارض بين مداليل الأدلّة الثلاثة ، وهي الآيات الّتي كانت مداليلها الاعتداء بالمثل والعقاب به بقول مطلق ومعاقد الإجماعات المفصّلة بين المثلي والقيمي ففي الاولى روعي التماثل بخلاف الثانية ، وقاعدة اليد المفصّلة بين المثلي والقيمي أيضا ، إلّا أنّ المستفاد منها التمكّن الشخصي في الحكم بوجود المثل وضمانه دون التمكّن النوعي.

ولا يتوهّم أنّه يمكن حمل الاعتداء بالمثل المستفاد وجوبه من الآية على التمكّن الشخصي ، بلحاظ أنّ هذا الحكم الوضعي قد استفيد من الحكم التكليفي الدالّ عليه الأمر ، والأمر لا يتعلّق إلّا بالمقدور ، فلا بدّ أن يكون المعتدي قادرا على الإلزام بالمثل ، وقدرته فرع على تمكّن الضمان ، والمفروض أنّه غير متمكّن شخصا ، فلا يجوز على المعتدي إلزامه به.

دفع التوهّم أنّه : لا إشكال أنّ هذا الأمر إنّما هو كسائر الأوامر التكليفيّة المشروطة عقلا بالقدرة إذا لم يؤخذ في الهيئة اشتراط القدرة حتّى يصير الشرط شرعيّا ، فيستكشف كونها دخيلة في أصل المصلحة حتّى تفيد المادّة أيضا ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها لإثبات وجوب تحصيل القدرة ، ولو لم يتمكّن المكلّف

٦١٥

من الامتثال فعلا ، فإذا صار الأمر مطلقا فيجوز الإلزام على المثل ، ولو لم يكن الضامن قادرا شخصا بل يكفي فيه التمكّن العقلي المفروض وجوده بتمكّن النوع ، فيجب على الضامن تحصيل المثل ولو من عند غيره ، وهذا بخلاف قاعدة اليد ، فإنّ الأداء فعل الآخذ ، فلا بدّ من تمكّنه بنفسه ، فتأمّل!

ثم إنّه قد يجاب عن الآية (١) لأن يرتفع التعارض بينها وبين معاقد الإجماعات وقاعدة اليد ، بأنّ المراد من المماثلة فيها التماثل في الاعتداء لا في المعتدى به ، بمعنى أنّ ظاهر هذه الآية وكذلك قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) (٢) وغيرها (٣) لا تدلّ على أزيد من أنّه يجب أن لا يكون العقاب والقصاص أزيد ممّا تعدّى المعاقب عليه ، وأمّا من حيث المعتدى به وكيفيّته فلا يستفاد منها شي‌ء ، فعلى ذلك لا تنافي بين الآيات والقاعدة ومعاقد الإجماعات المقتضيين لعدم اعتبار المماثلة في القيميّات.

ضرورة ؛ أنّه إذا لم يكن مدلول الآيات إلّا أنّه لو أضرّك أحد بمقدار عشرة توامين ـ مثلا ـ فلا يجوز لك إضراره والإلزام بتداركه إلّا بمقدار ما أضرّك به ، دون الزيادة بلا أن تكون متكفّلة لجنس المتدارك به ، فلا تعارض [بين] مدلولهما المتكفّلة لبيان ذلك.

ولكنّك خبير ، بأنّ إنكار تكفّل الآيات لبيان حكم هذه الجهة أيضا ، كما بالنسبة إلى أصل حكم مقدار الضمان المستفاد كلاهما من إطلاق الآية ؛ في غاية البعد.

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٩٤.

(٢) النحل (١٦) : ١٢٦.

(٣) الشورى (٤٢) : ٤٠.

٦١٦

ولكن مع ذلك ؛ الأمر سهل ، لأنّه قد ظهر أنّ دلالتها على مدلولها لا يزيد عن الإطلاق فيخصّص (فيقيّد) إطلاقها بمفاد القاعدة بعد ثبوت كون مفادها مفاد معاقد الإجماعات ، ومعاقد الإجماعات إذا خصّصناها بهما وأخذنا بمدلولها في المثلي فيرتفع التعارض بين الآيات وبينهما ، كما لا يخفى ، ويبقى التعارض بين مدلول القاعدة الّذي قد عرفت المستفاد من ظاهرها كون مناط اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة هو التمكّن الشخصي في تأديتها ومعاقد الإجماعات الّذي يكون المناط هو التمكّن النوعي كما نشير إليه.

ولكن ؛ لمّا كان مناط كلمات الأصحاب ومبناهم في هذه المسألة استظهارهم من العرف وبناء العقلاء على كون مناط مثليّة الشي‌ء وقيميّته هو التمكّن النوعي ، بمعنى أنّه لو وجد للشي‌ء أفراد نوعيّة عند غالب الناس ما يكون مماثلا في الشكل والصفات الّتي لها مدخليّة في ماليّة الشي‌ء فيرون مثل ذلك مثليّا ، وأمّا إذا لم يكن كذلك نوعا ، فيراه قيميّا ولو وجد للشي‌ء التالف فرد مماثل له في ما ذكر نادرا عند الضامن أو غيره.

فيستكشف من ذلك فهم الأصحاب أنّ الشارع أيضا أمضى طريقة العرف في بنائهم ذلك ، وما استفادوا من القاعدة المذكورة ردعهم عمّا بنوا عليه ، فلذلك لا بدّ أن تحمل القاعدة أيضا على أنّ المناط في أداء المأخوذ التمكّن النوعي في أداء مثله لا التمكّن الشخصي ، وإلّا لم تستقرّ سيرتهم على ذلك لو كانت القاعدة الّتي كانت بمرآهم ومسمعهم قابلة للردع ، فيرتفع التعارض بين مفاد القاعدة ومعاقد الإجماعات ، فيصير المرجع في باب ضمان القيمي والمثلي هو ما بنى عليه المشهور من نحوي الضمان دون ما التزم بعض من لا عبرة بقوله من ضمان

٦١٧

المثلي مطلقا إلّا عند التعذّر فينقلب إلى القيمة ، لجموده على ظاهر الآيات (١) السابقة ، مع كونه مخالفا لصريح القاعدة المذكورة وبناء العرف وتفريقهم في نحوي الضمان ، مع أنّ بناءهم هو الأساس في باب الضمانات وفهم العرف هو المرجع في هذه المسائل لحلّ المعضلات ، كما لا يخفى.

هذا ؛ ولكن بناء المشهور متّبع في هذه الجهة ، أي في اعتبار المثلي والقيمي لا مطلقا ، فلا يجوز تخطئتهم في ذلك بأن يقال بأنّا نعلم بأنّه ليس لهم دليل يستفيدون منه هذا الحكم سوى قاعدة اليد الظاهرة في ما ذكر من التمكّن الشخصي ، فهم أخطئوا في استظهارهم منها التمكّن النوعي ، لما عرفت من أنّ الأساس هو مساعدة العرف لما أسّسوا عليه.

نعم ؛ في كيفيّة اشتغال الذمّة ونحو ثبوت المال المأخوذ أو المتلف على العهدة الّذي هو الحكم الوضعي في مسألة الضمان ، فإنّ ما ذكر هو البحث في الحكم التكليفي ، وهو إلزام المالك الغارم على الأداء ، فاعتبار القيميّة والمثليّة كان بالنسبة إلى الأداء ، وأمّا بالنسبة إلى أصل اشتغال الذمّة فليس أساس ظاهر المشهور لنا متّبعا ؛ إذ قد عرفت سابقا أنّ فهم العرف إنّما هو في هذه المسألة مساعد معنا ، ولا يأبون عمّا يستظهر من قاعدة اليد من أنّ ما يستقرّ على الذمّة بسبب وضع اليد على مال الغير ليس إلّا نفس العين المأخوذة حتّى بعد التلف ، وذلك بوجودها الاعتباري دون العيني المستحيل استقرار وجودها على العهدة.

وقد عرفت من أنّه لا مانع من اعتبار مثل هذا الوجود بعد مساعدة العرف

__________________

(١) أقول : إن كان المراد من المثل في الآيات هو المثل العرفي لا الاصطلاحي فلا تنافي بين ما نحن فيه وبين القاعدة لو قيل بأنّ أداء القيمي أداء لمثله عرفا ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

٦١٨

فيه وعدم كونه لغوا ، بحيث لا يكون منشأ للأثر ـ كأنياب الأغوال ـ بل لهذا الاعتبار آثار ، منها مسألة ضمان قيمة يوم الإقباض وغير ذلك.

وبالجملة ؛ لمّا كان العرف مساعدا في هذه الجهة ممّا يستفاد من ظاهر قاعدة «اليد» وكذلك «الإتلاف» من أنّ الذمّة مشغولة بنفس العين ، سواء كان بعد التلف أو قبله حتّى تؤدّيها ، إمّا بنفسها فيتحقّق الأداء ، وإمّا بمثلها أو قيمتها فيتحقّق الوفاء ، لا أن يكون الضمان قضيّة تعليقيّة ، بأنّه لو تلف المال تشتغل الذمّة فتصير القاعدة رادعة لما عليه المشهور ، وإن لم تكن من الجهة الاولى رادعة ، لما عرفت من تحقّق مانع الردع وهو استقرار سيرة العرف الكاشفة إنّا من عدم قابليّة القاعدة له هناك بخلافه هنا ، كما لا يخفى فافهم!

ضابط المثلي والقيمي

المقام الثاني : وهو البحث عن ضابط المثلي والقيمي ، لا يخفى أنّه كثر الكلام في المقام بين الأعلام ، ومنشأ ذلك عدم كون هذين اللفظين كما أشرنا إليه من الموضوعات الشرعيّة ، بل هما من الموضوعات العرفيّة ، فلمّا لم يرد من الشارع لهما تحديد فأرادوا أن يعرّفوهما باعتبار مصاديقهما الخارجيّة ، فاختلاف أنواع المثلي والقيمي أوجب اختلاف التحديدين.

فبعض عرّفه ـ أي المثلي ـ : بأنّه ما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة ، كما هو المشهور (١) ، فهؤلاء قصروا نظرهم بالطعام ومثله ، مع أنّه بالنسبة إليه كما إلى غيره أيضا غير مطّرد ، فإنّ أنواعه مختلفة.

__________________

(١) انظر! المكاسب : ٣ / ٢٠٩.

٦١٩

قال بعض بأنّه ما تماثلت أجزاؤه وتقاربت صفاته (١) ، وغير ذلك من التعاريف الّتي لا تخلو كلّها عن الإشكال ، بل لا يحصل الانضباط بها.

ولمّا لم يكن خصوصيّة الزمان والمكان دخيلة في اعتبار المماثلة ، بل إنّما المدخليّة للخصوصيّات الموجبة لاتّحاد الماليّة واختلافها فأحسن التعاريف للمثلي هو : أنّه الّذي يكون له أفراد نوعيّة مماثلة معه في ما له دخل في الماليّة ، أو ما تفاوت في أفراده ما يوجب اختلاف الرغبات ، ولمّا كان الاطّلاع على ذلك موقوفا ـ على أن يكون الشي‌ء ممّا يمكن الاطّلاع على ظاهره وباطنه حتّى تقاس الأفراد بعضها إلى الاخرى ، فيكون مثل الحيوانات قيميّا ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على بواطنها ، مع أنّه لا إشكال في أنّ اختلاف الباطن موجب لاختلاف الرغبات والماليّة ، فلو وجد عبد مماثل من جميع الجهات مع التالف فلا يوجب ذلك وجوب ردّه عوضا عن التالف ؛ لأنّه بصرف وجود المشابه الظاهري مع عدم إمكان الاطّلاع على باطنه لا يصير الشي‌ء مثليّا ، مضافا إلى أنّ الحيوانات غالبا في الأوصاف الظاهرة أيضا مختلفة ، اختلافا موجبا لاختلاف الرغبة ، والمصنوعات فما يصنع منها باليد فقيمي ، بخلاف ما يصنع مع الآلات والعجلات ، فإنّ في الأوّل وإن كان يمكن أن يخرج عباءات متعدّدة ـ مثلا ـ عن تحت يد استاد واحد متماثلة ، إلّا أنّ ذلك نادر ، فلا يعتمد عليه ، بخلاف الثاني مثل الساعات وغيرها الغير المنطبق عليها تعريف الاولى ؛ لأنّ نصف الساعة ليس نسبة قيمته إلى قيمة تمامها كنسبة النصف إلى ساعة صحيحة ، وأمّا هذا التعريف فيصدق عليها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢ / ١٣٩ ، وانظر! المكاسب : ٣ / ٢١٣.

٦٢٠