الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

صورة تلفها فلا يجري الدليل المزبور ، ولذلك لو جنى مثل هذا العبد بما يوجب القصاص اقتصّ منه ، وإن لم يجز استرقاقه.

فمن هنا يثبت أنّه لو تعدّينا عن الامور المذكورة فإنّما ينبغي التعدّي إلى كلّ تصرّف ناقل في طرف وجود العين لا مع تلفها وما هو الملحق به.

إذا ظهر ذلك فنقول : إنّه لمّا لا إشكال في أنّ تحرير العبد وانعتاقه بمنزلة تلفه ، فلا يبقى له اعتبار ماليّة أصلا كسائر الأحرار ، ولذلك قد عبّر عنه في مسألة العتق بالسراية بأنّه قوّم عليه ، فإنّه لا خفاء في عناية هذا التعبير ، وأنّه لمّا أوجب تلف ماليّة العبد فعليه ضمانه وقيمته ، فعلى هذا يفرق باب الانعتاق عن سائر الأسباب وأنّه يكون في حكم التلف وعدم بقاء الموضوع ، ويخرج عن كونه مصداقا للتصرّفات الممنوعة عنها مما هي من قبيل البيع والهبة والإرث ، وإنّما العتق ابتداء مباشرة من قبلها ، وأمّا العتق القهري الحاصل بالسراية فهو خارج عنها ، فلا محيص عن الالتزام بحصول العتق في النقص الآخر من العبد الذي وقف.

المسألة الثالثة : في «الشرائع» لو جني عليه فإن أوجبت [الجناية] (١) أرشا فللموجودين من الموقوف عليهم .. إلى آخره (٢).

هنا جهات من الكلام ينبغي البحث عنها :

الاولى : في وجه اختصاص الأرش بالموجودين ، فقد قيل (٣) : إنّه لمّا كان من

__________________

(١) ما بين المعقوفتين أثبتناه من المصدر.

(٢) شرائع الإسلام : ٢ / ٢١٩.

(٣) جواهر الكلام : ٢٨ / ٩٨.

٣٤١

قبيل المنافع ، ولا خفاء في أنّ منافع كلّ زمان مختصّة بالموجودين في ذاك الزمان ، فلذلك يختصّ الأرش بهم.

ولكن هذا الوجه لا يتمّ ، بل مقتضى القاعدة اشتراك الموجودين والمعدومين فيه ، وحال الأرش حال الدية مطلقا ، سواء كانت موجبة لنقص في العين أو زوال الوصف ، وذلك لأنّه أمّا في الأوصاف فلأنّها وإن لم يقابل بشي‌ء ولا يعتبر فيها البدليّة بل غايتها أنّها [موجبة ل] زيادة الرغبة في العين ونقصانها ، ولذا ينتقص قيمتها ويزيد ، ولكنّ العين لمّا كانت مشتركة بين جميع الطبقات بما لها الخصوصيّات ، بحيث يكون وجود وصف في العين يوجب قابليّتها لأن ينتفع منها بما لا يمكن الانتفاع عنها عند زواله ، بل يخرج عن تلك القابليّة ، فحينئذ يكون الطبقات كلّها مستحقّة للانتفاع عن القابليّة المفروضة ، وزوال الوصف يوجب الضرر على الجميع ، وخروج شي‌ء عن كيسهم ، فحينئذ كلّما يقوم مقامه ويوجب تدارك النقص لا بدّ وأن يدخل في كيسهم حتّى يصدق الجبر بالنسبة إلى الجميع.

ولمّا لا إشكال في أنّ مسألة الأرش ليس حكما تعبّديا محضا ، بل نعلم أنّ ملاكه ما ذكرنا من الجبر والتدارك ؛ فلا وجه لاختصاص الموجودين به بمحض كون الحكم تعبديّا ، وأمّا في نقص العين فممّا ذكرنا ظهر حاله ، وأنّ الأرش المأخوذ من جهته بالطريق الأولى لا بدّ وأن يشترك فيها جميع الطبقات ويجري فيه ما يجري في الدّية.

نعم ؛ على ما حقّقنا لا بدّ من التفصيل بين النقص والعيب المستمرّ إلى عصر الطبقات الاخر ، وغيره الّذي مختصّ بعصر الموجودين ، ففي الأوّل لا محيص

٣٤٢

عما ذكرنا ، وفي الثاني هو لا يجري ، بل يختصّ الأرش بالموجودين إذ المفروض ورود الضرر عليهم فقط فتأمّل!

الجهة الثانية : في حكم الجناية الموجبة للقتل ؛ لا إشكال أنّه بناء على كون الوقف ملكا للموقوف عليه أنّ للموجودين القصاص وقتل الجاني وتعلّق حقّ البطلان اللاحقة به لا يمنع عنه ، إذ هذه الشركة طوليّ ، ومعناه أنّه في ظرف وجود العين الموقوفة وبقائه ووجود البطون اللاحقة يتعلّق حقّهم به ، والحقّ إنّما يثبت بطبيعة المولى ، والمفروض صدقها على الموجودين.

وأمّا بناء على عدم الملك ، والتحقيق من كون حقيقة الوقف هو الإيقاف ، فيمكن أن يدّعى أيضا بأنّ للموجودين القصاص ، حيث إنّه وإن لم يكونوا مالكين للرقبة إلّا أنّه لمّا كان جميع شئون السلطنة والمولويّة ثابتة لهم ، ويكفي ذلك لصدق أنّهم الموالي ، فينطبق عليهم كبرى أنّ القصاص بيد المولى.

ولو سلّمنا عدمه للمناقشة فيه بدعوى انصراف الأدلّة إلى مالك الرقبة ، فلا بدّ من الالتزام بكون الاقتصاص بيد الحاكم ، نظرا إلى عموم ولايته وأنّه لا يطلّ (١) دم المسلم.

نعم ، على هذا المبنى قد يستشكل في مسألة الأرش والدية لو انتهى الأمر إليهما ، حيث إنّهما بدل الماليّة والملكيّة ، والمفروض أنّ الموقوف عليهم ليسوا مالكين للمجنيّ عليه ، وأنّ هذه الاضافة مفقودة بالنسبة إليهما.

ولكنّك خبير بأنّ ذلك مبنيّ على باب الضمان ، وأنّ مورد قاعدة الإتلاف إنّما يكون إذا كان للتالف علقة وإضافة للغير ، وإلّا فلا يصدق قوله : «من أتلف

__________________

(١) أي لا يهدر.

٣٤٣

مال الغير فهو له ضامن» (١).

مع أنّ هذا المبنى فاسد ، لأنّه نعلم بالوجدان أنّ الضمان إنّما جعل بإزاء احترام المال وإن لم يكن له إضافة إلى الغير ، وأنّ التعبير بلفظ «الغير» في الحديث بلحاظ ما هو الغالب ، وحينئذ في المقام لا إشكال أنّ العبد الموقوف وإن لم تكن إضافة لرقبته للغير وهو الموقوف عليه ، ولكنّهم مالكون لمنافعه فأصل ماليّته واحترامها محفوظة ، فيتحقق موضوع الضمان ، ولهم الأرش أو الدية حتّى على المبنى المزبور كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : قد عرفت أنّه على كلّ تقدير للموقوف عليهم الموجودين القصاص عن الجاني قتلا كان أو دونه ، وأخذ الأرش والدية في محلّهما ، فالأمر بيدهم لكون الحكم ثابتا لطبيعة المولى.

بقي الكلام في أنّه : إذا أعرضوا عن حقّهم وأسقطوا القصاص والدّية فهل يسقط رأسا أو يبقى الحق للطبقات اللّاحقة؟

التحقيق أنّه لا يبقى موضوع لهم ، وذلك لما هو المقرّر من أنّ الفارق بين الحق والحكم هو أنّ الثاني مثل السلطنة ، والملكيّة غير قابل للاسقاط ورفع اليد ، والأوّل قابل له.

ومعنى قابليّته ؛ أنّ زمام أمره إبقاء وإعداما بيد ذي الحقّ ، وعلى هذا إذا فرضنا أنّ الحقّ للموالي الموجودين الّذين هم الموقوف عليهم فعلا لكونهم مصداق الطبيعة ، فإذا أسقطوا لا يبقى بعد محلّ للطبقات اللاحقة بالمناط المزبور.

__________________

(١) القواعد الفقهيّة : ٢ / ٢٨ و ٧ / ١١٧.

٣٤٤

الثالثة : (١) في حكم الدية الّتي تؤخذ للجناية على العبد الموقوف ، قد تقدّم الكلام في مسألة الأرش وأنّه لا بدّ وأن يلحق بالوقف ويصير جزء ، نظرا إلى كونه بدلا عن النقص الوارد على الوقف ، فهكذا حال الدية ، بل بالنسبة إليها يمكن دعوى الأولويّة من الجهة المذكورة ، إذ بدليّتها أظهر ، غايته أنّها بدل مقدّر شرعا ولا يختلف ، بخلاف الأرش.

فعلى هذا ؛ تقوم الدية مقام الوقف بنفسها بلا احتياج إلى وقف جديد ، بل لا بدّ وأن يشترى بها ما هو المماثل للوقف الأصلي ويجعل في محلّه.

هذا ؛ ولكنّه يتمّ بناء على عدم الاستظهار من أدلّة الدية أنّها جزاء نقدي وبدل عن نفس الجاني ، بل بدل عن المجنيّ عليه وأنّه أحد فردي التخيير بينه وبين القصاص ، وإلّا فيصير حالها حال القصاص ، والحقّ يختص بالموقوف عليهم الحاضرين ولا يتعدّى عنهم ، بل ينتقل إلى ورثتهم مع عدم استيفائهم ، وحينئذ يصير الأرش حكمه أظهر وأولى من الدية في صيرورته جزء للوقف ، عكس ما ينسب إلى جماعة أو المشهور ، والله العالم.

ثمّ إنّه إن لم يستوف الموجودون حقّهم وما أسقطوه بقي على حاله إلى أن انتهت النوبة إلى الطبقات اللاحقة ، فحينئذ مع بقاء الموضوع والعبد إلى عصرهم ، لكون الجناية عليه دون النفس ، فهل ينتقل الحقّ إلى ورثة الموجودين في وقت الجناية أو الطبقات اللاحقة تسقط رأسا؟ وجوه مبنيّة على أن يكون الموضوع والعنوان الثابت لهم الحقّ هو ذوات الموالي الطبقة الاولى لكونهم موالي ، ولازمه الانتقال إلى ورثتهم أو نفس عنوان المولى الموجود في وقت الجناية لازمه

__________________

(١) كذا ، والظاهر أنّها الجهة الرابعة.

٣٤٥

السقوط بموتهم ، أو عنوان المولى المطلق ولازمه الوجه الثاني ، والأقوى هو الأخير كما هو واضح ، فتأمّل جيّدا!

المسألة الرابعة : قال في «الشرائع» : إذا وقف مسجدا فخرب أو خربت القرية (١) .. إلى آخره.

الظاهر ؛ أنّه لا إشكال في أنّ المسجد لا يجوز التصرّف فيه بوجه أصلا في جميع الأحوال ولو خرب بناؤه ولم يبق من آثاره شي‌ء ، أو خرب المحل الّذي هو فيه ، بل هو على حاله باق ولو لم يبق منه إلّا عرصته.

ولا كلام لأحد في ذلك إلّا في المساجد التي في الأراضي المفتوحة عنوة ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها ، فالظاهر ؛ أنّ المتسالم بين الأصحاب قد تمّ أنّ أرض المسجد لا تخرج عن المسجديّة مطلقا ، ولو أخذها الماء أو تصير آجاما ونحوهما ، بل يرون أحكام المسجديّة عليها مترتّبة من عدم جواز تنجيسها ، أو عدم دخول الجنب فيها ، وكلماتهم في جواز بيع الوقف عند الخراب وغيره منصرف عن المسجد مطلقا ، بل مخصوصة ومقصورة على عنوان الوقف لا ما يزيد عليه ، مثل عنوان المسجديّة ، فإنّه من قبيل العنوان الطارئ على عنوان آخر ، الّذي لا يزول حكمه في حال كما يوافقه الاستصحاب ، بخلاف أصل عنوان الوقف.

وإنّما الكلام في المسألة الثانية الّتي ذكرها في «الشرائع» من خراب الدار ونحوها ، وأنّه يجوز حينئذ بيع أرضها أم لا؟ ولمّا كان ذلك من صغريات مسألة جواز بيع الوقف ومستثنياته فلا بأس بصرف الكلام إلى أصل تلك المسألة ، وتحريرها في الجملة.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٢ / ٢٢٠.

٣٤٦

فنقول بعونه تعالى : إنّ تنقيح البحث في ذلك ، وأنّه كيف يجوز الخروج عن حرمة بيع الوقف يقتضي ذكر مقدمة أوّلا وهي : أنّه أوّلا هل الأدلّة الدالّة على حرمة بيع الوقف تدلّ عليها مطلقا بمعنى أنّها تنفي جوازه ولو مع طروّ أيّ عنوان عليه من الخراب وغيره من العناوين ، أو ليست ناظرة إلى هذه الجهة ، بل غايتها أنّه لا يجوز بيع الوقف لعدم المقتضي فيه كما يكون في سائر الأملاك والأموال؟ ثمّ بناء على الأوّل ؛ أيّ مقدار من الدلالة لها هل تكون مطلقة أو مختصّة؟

فهذا أصل مبنى المسألة ، بحيث لو ثبت الأوّل ففي موارد الشكّ لا يجوز التمسّك بأدلّة الأسباب مثل عموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) لعدم كونها متكفّلة لبيان قابليّة المحلّ بل سقوطها عن صلاحيّة التمسّك بها مطلقا حتّى الثاني.

نعم ؛ عليه الظاهر أنّه لا بأس بالتمسّك بأدلّة المسبّبات مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) إذا فرضنا صدق البيع عرفا ، بل بإطلاق الدليل وعموم الإمضاء يمكن إحراز الصدق واستكشافه ، نعم ؛ على الأوّل لا مجال للتمسّك بهذه الأدلّة أيضا ، إذ عليه تصير ما دلّ على عدم جواز شراء البيع حاكما على أدلّة المسبّبات ، فلا طريق للإحراز.

ثم إنّ العناوين الطارئة الّتي يمكن صلاحيّتها لترخيص البيع لا تخلو من امور :

منها : مسألة الخراب وله مراتب ، فتارة يحصل الخراب بحيث يلحق الوقف بالمعدوم فعلا ويصدق عليه التلف مثل الحصر والجذوع البالية للمسجد وغيره.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.

٣٤٧

واخرى : لا يصل بهذه الدرجة ، بل يقرب بها لانتفاع معظم منافعه ، كما لو فرضنا أن تتنزّل المنافع البالغة ألف تومان إلى مائة تومانا.

وثالثة : ما لا يصل تلك الدرجة أيضا ، بل تقلّ منافعه ، ولا يبعد أن يكون هذا القسم من مصاديق ما يكون التبديل أعود ، وهكذا سائر العناوين مثل الحاجة ، ومسألة المزاحمة بين حفظ الوقف وتلف الأموال الكثيرة أو النفوس ، فلها مراتب يختلف بالنسبة إليها لسان الأدلّة اللفظيّة والاصول العمليّة ، فإنّه يمكن المناقشة في صدق عنوان الوقف وبقائه بالنسبة إلى بعض مراتب الخراب كما سيأتي تفصيلها في طيّ البحث إن شاء الله تعالى.

حكم بيع الوقف

إذا عرفت ذلك فنقول : ينبغي البحث أوّلا في ما يقتضيه طبع الوقف ، وأن ارتكاز الواقف أيّ شي‌ء يكون حين الوقف؟ والاحتمالات فيه ثلاثة أو أربعة : فإمّا أن يكون نظره إلى حبس العين بماليّتها ما دامت باقية بلا نظر إلى خصوصيّة العين بحيث يكون مقتضى طبعه الانتفاع من ماليّتها.

وإمّا أن يكون نظره منبسطا على الأمرين على نحو الضمنيّة بلا قصر على أحدهما.

ثمّ على كلّ من هذين التقديرين. إمّا أن يكون منظور الواقف حبس العين بقول مطلق ، بأن لا يتطرّق عليه قلب وانقلاب أصلا ، أي ولو مع طروّ أيّ عنوان.

وإمّا أن لا يكون كذلك ؛ بل ارتكازه عدم طروّ القلب والانقلاب ما دامت العين أو هي والمالية تصلحان للبقاء ، بمعنى أنّ معنى الحبس هو عدم اقتضاء

٣٤٨

الأمرين في الوقف بنفسه ، كما يكون في سائر الأموال بلا نظر إلى طروّ العناوين الأخر عليه.

ثم إنّه لا خفاء في أنّ كلّ واحد من الاحتمالات يختلف بحسب اللوازم ؛ إذ على الأوّل يصير مفاد الأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف ونحوه حكما تعبّديا محضا وليس فيه إمضاء ؛ إذ المفروض قصر نظر الواقف إلى الماليّة فقط وحفظها في أيّ صورة ، فحينئذ الوقف من حيث نفسه لا مانع من نقل عينه وانتقالها اختيارا مع حفظ ماليّتها في ضمن أيّ تشخّص أمكن ، كما يكون لازم ذلك أيضا ورود البيع على الوقف لا بطلانه في الرتبة السابقة عليه ، بل العنوان محفوظ وإنّما يبطل الوقف بعد ورود البيع عليه ، وعليه يتمّ ما اختاره الشيخ قدس‌سره في مكاسبه في المسألة (١).

وعلى الثاني ؛ تصير الأدلّة وقوله عليه‌السلام : «لا تباع ولا تورث ولا توهب» (٢) .. إلى آخره ، حكما إمضاء ورد على ما عليه ارتكاز الواقف وليس فيه إعمال تعبّد ، وهكذا عليه يصحّ ما اختاره صاحب «الجواهر» قدس‌سره من بطلان الوقف في صورة جواز بيعه في الرتبة السابقة عليه ثمّ يطرأ البيع على العين (٣) ؛ إذ على هذا المبنى الوقف يباين جواز البيع ذاتا ، فما لم يخرج عن عنوانه لا يصحّ بيعه.

ثمّ لا خفاء في أنّه على الاحتمالين الأخيرين يجري الأمران بعينهما مع اختلاف يسير ، حيث إنّه بناء على أن يكون نظر الواقف أعلى درجات الحبس

__________________

(١) المكاسب : ٤ / ٨٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٦ الحديث ٢٤٤٠٦.

(٣) جواهر الكلام : ٢٨ / ١٠٩ و ١١٠.

٣٤٩

ـ بحيث يزاحم كلّ عنوان الأدلّة المانعة من البيع وغيره ـ يصير حكما إمضائيّا ، كما أنّه على الثاني بأن يكون نظره إلى مرتبة خاصّة من الحبس ، وهي أنّه ما دامت العين قابلة للبقاء أيضا ليست الأدلّة تعبديّة.

نعم ؛ على الأوّل الأدلّة المرخّصة لجواز البيع في بعض المقامات بطروّ بعض العناوين مطلقا تصير تعبديّة حاكمة على الأدلّة المانعة ، وعلى الثاني يختلف من حيث العناوين ، فمثل عنوان الخراب وما يلحق به ؛ فجواز البيع حينئذ من أحكام نفس الوقف وبيان لحقيقته وليس تعبّد في البين.

وأمّا مثل عنوان الأعوديّة والأنفعيّة ، وهكذا الاضطرار وحاجة الموقوف عليهم إلى البيع أو تأدّي بقاء الوقف إلى الخلف بين أربابه بحيث يوجب قتل النفوس وأمثاله من المفاسد ، فهي أحكام تعبديّة من طرف الشارع ما تعلّق بها غرض الواقف أصلا ، فلا بدّ أن يلتزم أنّ الشارع في أمثال هذه الموارد من باب ولايته على الواقف والموقوف عليهم لعلمه بالمصالح رخّص في البيع ، بناء على جوازه فيها.

ثمّ إنّه لا خفاء في أنّ رفع المحذور في الموارد المذكورة تارة يكون برفع اليد عن شخص الوقف مع بقاء ماليّته وتبديلها إلى مثله ، واخرى يتوقّف على إسقاطها وإتلافها أيضا ، وثالثة ، يتوقّف على تبديل المماثل بغيره ، وهكذا من المراتب الّتي يفرض ، فالوقف إنّما يبطل بالنسبة إلى مرتبة يتوقّف رفع المحذور برفع اليد عنها والدرجات اللاحقة الّتي كان الوقف يشملها ضمنا ، باقية على حالها ، ولذلك لا يحتاج إلى عقد جديد أصلا ، إذ المفروض أنّ البدل هو بعينه الوقف الأوّل مع تغيّر بعض عوارضه ، وهي خصوصيّة العين فليس وقفا جديدا

٣٥٠

حتّى يحتاج إلى أساس على حدة.

وبالجملة ؛ فهكذا كلّه بالنسبة إلى عالم التصوّر ، وأمّا تحقيق الأمر ؛ فلمّا كان مرجع النزاع في الحقيقة إلى أنّه نظر الواقف وارتكازه هل يكون مقصورا إلى حبس العين بشخصها ، أو هي وماليّتها ، بلا نظر إلى كونها مقدّمة للتسبيل أم لا ، بل يكون مركوزه حبس العين لأن يتسبّل ثمرتها ، وتكون مقدّمة لانتفاع الموقوف عليه عنها؟

ومن المعلوم وجدانا أنّ منظور الواقف هو الثاني ، فيتعيّن من كلّ من الاحتمالين ثانيهما ، أي ليس نظر الواقف مقصورا على العين فقط ، بل هي بما لها من الماليّة ، كما أنّ المتبادر منه أنّ الوقف إنّما يكون ما دامت العين قابلة للبقاء ، وأنّه في نفسه ليس فيه مقتضى القلب والانقلاب لا مطلقا ، أي ولو مع طروّ كلّ عنوان عليه.

ضرورة ؛ أنّ الثاني ينافي كون الوقف مقدّمة لتسبيل الثمرة حسبما هو الارتكاز ، بل مفاد الأدلّة (١) أيضا ، فعلى هذا يصير مفاد الأدلّة المانعة عن بيع الوقف حكما إمضائيّا : وبيانا لحقيقة الوقف ، كما هو ظاهر قول عليّ عليه‌السلام في وقفه : «صدقة لا تباع ولا توهب» (٢) .. إلى آخره ، وأنّه بنوعه لا مقتضي فيه للبيع وغيره من أنواع النقل ، وأيضا ظاهره الإجراء على ما هو مرتكز الواقف من أنّه لا قلب وانقلاب فيه ما دام الوقف قابلا للبقاء ، وليس للأدلّة الشرعيّة أزيد من ذلك دلالة حتّى يعارض جواز بيعه عند طروّ العناوين المجوّزة له فتأمل!

__________________

(١) حيث تقول : حبّس الأصل وسبّل الثمرة ، «منه رحمه‌الله».

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٧ الحديث ٢٤٤٠٨.

٣٥١

نعم ، قد أشرنا إلى أنّه عليه أيضا لا يجوز بيع الوقف إلّا إذا خرب أو نقصت منافعه بحيث يلحق بالعدم إمّا بنفسه أو لخلف بين أربابه ، وأمّا في غير هذه الصورة (١) من العناوين ، فالبيع يكون خلاف مقتضى طبع الوقف بل الأدلّة الشرعيّة أيضا ، ويحتاج إلى دليل خاص حاكم أو عامّ كذلك ، كما يمكن أن يدّعى بوجوده في مثل ما إذا كان الوقف يزاحم تلف النفوس أو هتك الأعراض ، بل تلف الأموال الكثيرة أيضا مع إشكال فيه ، حيث إنّ الظاهر أنّ الشارع رجّح حفظ هذه الامور على كلّ شي‌ء ويرى مصلحتها أهمّ من مفسدة بيع الوقف ، وسائر المحاذير.

ثم إنّ هذا كلّه مقتضى القواعد الأوّليّة ؛ على ما هو التحقيق من أنّ حقيقة الوقف هو التحبيس والإيقاف ، وليس فيه تمليك ، بل عليه أيضا ـ بناء على أن يكون حبسا ـ يفيد التمليك ، فهو لا يختلف أيضا مع الإيقاف في ما ذكر.

وأمّا بناء على كونها تمليكا محضا للطبقات فقد يقال أيضا : مقتضاه ما ذكر ؛ إذ المفروض أنّ التمليك ليس للموجودين فقط ، بل لهم ولما يلحقهم من الطبقات ، فالحقّ لجميعها فلا سلطنة للطبقة السابقة حتّى يكون له القلب والانقلاب ولو كان مالكا له.

وفيه : أنّه على هذا لا بدّ وأن يكون للوليّ العامّ ذلك ، حيث إنّ الحاكم كما أنّه وليّ على الغائب وكلّ قاصر ، كذلك له الولاية على المعدومين ، فلا بدّ أن

__________________

(١) حتّى الشرط ـ أي اشتراط بيع الوقف الحاجة إليه ـ حيث إنّ الشرط إنّما يؤثّر إذا لم يكن في البين مؤثّر ومقتض يضادّه في الرتبة السابقة ، وقد ظهر أنّ مقتضى طبع الوقف وما هو الظاهر من الأدلّة جواز بيعه مطلقا ، فتأمّل! «منه رحمه‌الله».

٣٥٢

يجوز له القلب وانقلاب الوقف مع الموقوف عليهم الموجودين إلى ما يكون أعود وأنفع ، وكذلك عند اضطرار الموقوف عليهم ونحوه من مقتضيات التغيير ، إذ المفروض أنّ عدم جواز القلب والانقلاب ليس بنقص في العين الموقوف ، بل هو ملك لهم وإنّما المنع من جهة قصور سلطنة الموجودين وتعلّق حقّ البطون اللاحقة بها ، وإذا [كان] لهم وليّ في البين فيرتفع المحذور من جهته أيضا.

نعم ؛ لو لم يكن الحاكم وانتهت النوبة إلى ولاية عدول المؤمنين ، يمكن منع ذلك ، حيث إنّ ولايتهم مقصورة على الامور الحسبيّة وهي الّتي يقطع بعدم رضا الشارع على تعطيلها ، والموارد المذكورة الّتي محلّ النقص ليست منها.

وبالجملة ؛ فعلى المبنى المذكور يترتّب عليه ما عرفت من الفساد ، فهو يختلف من هذه الجهة أيضا ، مع المسلكين الأوّلين ، فتأمّل!

مقتضى قواعد الباب في بيع الوقف

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم جواز بيع الوقف حسبما تقتضيه قواعد الباب إلّا في صورة خرابه وما يلحق به ، هل يعمّ بدله أيضا فيما إذا بدّل ، أم لا ، بل مخصوص بنفس العين الموقوفة أوّلا ، وإلّا فبالنسبة إلى بدلها يجوز القلب والانقلاب فيها بالتبديل بالأحسن ونحوه؟

الأقوى ؛ اختصاص الحكم بنفس العين الموقوفة أوّلا ، وذلك لأنّ الحكم الّذي بنينا عليه إنّما استفدناه من عقد الوقف ، وأنّ مقتضى لفظه من حيث ارتكاز الواقف بقاء العين مطلقا ما دامت قابلة له ، إلّا أن تصل إلى درجة التلف أو تنقص منافعه بحيث لا يعدّ عند العرف أنّه منافع الوقف ، ولا يصدق أنّها الثمرة الّتي

٣٥٣

سبّلها الواقف ، ومن المعلوم أنّ ذلك مقصور على العين ، وأمّا بدلها فلا ؛ حيث إنّ اللفظ لا يشمله ، والالتزام به وجعله وقفا من جهة تعلّق غرض الواقف بحفظ ماليّتها.

وبعبارة اخرى ؛ صيرورة البدل وقفا لاستكشاف المناط وغرض الواقف ، فليس في البين لفظ يكون مقتضاه المنع عن القلب وانقلاب البدل كما بالنسبة إلى المبدل منه.

فعلى هذا ؛ لا مانع في البدل من جواز التصرّفات فيه ما لم ينته إلى تلفه فيلزم نقض غرض (١) الواقف هكذا أفاد دام ظلّه.

ولكن للتأمّل فيه مجال حسبما أفاد سابقا في تقريب صيرورة البدل بنفسه وقفا بلا احتياج إلى عقد جديد ، مع أنّ الّذي أفاد هنا خلاف الاحتياط ، والمسألة تحتاج إلى المراجعة ، والله العالم.

هذا كلّه ؛ حسبما تقتضيه قواعد الباب والأدلّة العامّة ، وأمّا الأخبار الخاصّة الّتي قد يتوهّم دلالتها على خلاف ما تقتضيه القواعد ، وأنّه يجوز بيع الوقف في الموارد الاخر غير ما تقدّم ، كما إذا احتاج الموقوف عليه إلى بيعه ونحوه ، فالإنصاف أنّها قاصرة عن إثباته.

والخروج عما يقتضيه الأصل والقواعد لأحد الامور الثلاثة : من جهة ضعف السند ، أو الدلالة ، أو كليهما ، وقد أورد في «الجواهر» قدس‌سره في بحث بيع

__________________

(١) كان تأريخ تحرير هذه الورقة عصر يوم الثالث عشر من ذي القعدة واشتدّ مرض والدتي حينئذ فماتت غدا قريب الساعة الثامنة من النهار في النجف الأشرف رحمها الله وإيّانا ، «منه رحمه‌الله».

٣٥٤

الوقف جميع ما يصلح أن يتمسّك بها للخروج عن الأصل المذكور (١) ، فراجع وتأمّل فيها! فهي بين ما هو ضعيف سندا من حيث إعراض الأصحاب ، وإن كان من حيث الدلالة واضحة ، كالخبر المشتمل على وقف عليّ عليه‌السلام وجعل أمره بيد ولده الحسن عليه‌السلام وأنّ له أن يبيعه إذا احتاج إليه (٢) فإنّ الظاهر أنّه غير معمول به.

وبين ما هو غير واضح الدلالة ، كما يكون كذلك مكاتبة عليّ بن مهزيار (٣) ، حيث إنّه لم يتّضح أن يكون السؤال ناظرا إلى صورة تمام الوقف من حيث القبض ونحوه ، وهكذا من طرف الجواب فيمكن أن يكون كلاهما ناظرا إلى بيان حال الوقف قبل لزومه.

ومثله البعض الآخر ؛ مع احتمال أن يكون أصل إطلاق لفظ الوقف في جملة منها مجازا عني به الوصيّة لمشابهتهما (٤) من حيث الإخراج لزوما ، كما لا يبعد أن يكون في اصطلاح العرف العامّ وإطلاقاتهم كذلك.

وبين ما هو جامع الجهتين ، كما يظهر للمتأمّل فيها.

فعلى هذا ؛ لا ينبغي الخروج عن الأصل المذكور لفقد الدليل ، مضافا إلى كونه خلاف الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة ، والله العالم ، والهادي إلى سبيل الرشاد.

هذه جملة من الكلام في جهات باب الوقف ، وقد منعني تشتّت البال وضيق المجال عن استيفاء تمام إفاداته ـ مدّ ظله ـ في هذا المبحث ، أرجو من الله

__________________

(١) جواهر الكلام : ٢٨ / ١٠٩ ـ ١١٢.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٩٩ الحديث ٢٤٤٢٦.

(٣) وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٠ الحديث ٢٤٣٩٧.

(٤) انظر! وسائل الشيعة : ١٩ / ١٨٨ الحديث ٢٤٤١٠.

٣٥٥

التوفيق والرشاد لاحتواء سائر إفاداته في سائر الأبواب ، بمحمّد وآله الأمجاد ، وكان اختتام ذلك في العشر الآخر من ذي القعدة الحرام سنة ١٣٤٧ في النجف الأشرف على ساكنها ألف الصلاة والسلام.

٣٥٦

رسالة الإجارة

٣٥٧
٣٥٨

بسم الله خير الأسماء

التنازع بين المؤجر والمستأجر

الكلام في التنازع في الإجارة بعد تسليم أصل الإجارة يتوقّف على بيان تصوير أقسامه ، فنقول : في مورد النزاع إمّا أن تكون الإجارة متّحدة أو متعدّدة.

فعلى الأوّل ؛ لا بدّ أن يكون الشي‌ء المستأجر متعدّدا فإمّا أن يكون الأقلّ والأكثر ، أو يكون مورد الإجارة متباينين ، كأن يقول : آجرتك الدار بمائة درهم ، فيقول : بل استاجرت ذلك الثوب معها بمائة درهم.

أو يقول في دعوى الإيجاب المذكور : بل استأجرت تلك الدار غير ما تدّعيه بمائة درهم.

وعلى الثاني ؛ إمّا أن يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، أو من قبيل المتباينين ، وعلى كلّ منهما ، إمّا أن يكون الشي‌ء المستأجر متّحدا ـ أي مسلّم الاتّحاد ـ أو متعدّدا ، أي النزاع واقع فيه أيضا ، كما هو واقع في الأجرة.

فالصور أربع ، مضافا إلى الصورتين المذكورتين ، فمجموعها ستّ.

وعلى فرض التعدّد من الطرفين ، إمّا أن تكون الاجرتان إذا كانتا من قبيل الأقلّ والأكثر بطريق التوزيع على الشيئين المتنازع في كونهما موردا لها ، أو لا يكون كذلك.

فإذا كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل الأقلّ والأكثر ، والمستأجر ـ بالفتح ـ

٣٥٩

متّحدا ، كأن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل بخمسين درهما ، أو كانت الاجرة من قبيل المتباينين ، والمستأجر كالسابق ، كأن يقول : آجرتك الدار بمائة درهم ، فيقول : بل بمائة دينار ، أو بخمسين دينارا ، فإنّ الاعتبار بالمتعلّق لا بنفس العدد.

وأمّا إذا كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل الأوّل ، والشي‌ء المستأجر متعدّدا ، فإمّا أن يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل استأجرت هاتين الدارين بمائة وخمسين درهما.

وإمّا أن يكون من قبيل المتباينين ؛ مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بخمسين درهما ، فيقول : بل هذه الدار غير ما تدّعيه بمائة درهم ، أو بالعكس في طرف الاجرة ، وإن كانت الاجرة المتعدّدة من قبيل المتباينين ، فالشي‌ء المستأجر المتعدّد كذلك ، إمّا أن يكون من مثل الاجرة ، مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل هذا الثوب بمائة دينار [أو] غيرها ، بل يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، مثل أن يقول : آجرتك هذه الدار بمائة درهم ، فيقول : بل هذه وهذه بمائة دينار.

ففي جميع صور التباين ؛ سواء كان في الطرفين أو في طرف واحد ، فالحكم هو التخالف ، لعدم اتّفاقها على أمر جامع ، إذ حصول الاتّفاق على طرف كالعوض ، مع الاختلاف في الطرف الآخر غير مفيد في سقوط الدعوى من طرف.

وفي غيرها يتوجّه الحلف على المنكر بالنسبة إلى الزائد ، ولا يسقط شي‌ء من الاجرة لو كان الاختلاف في طرف الشي‌ء المستأجر ، فسقوط الزائد

٣٦٠