الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

أيضا أنّ الناس مسلّطون على أموالهم ما لم يوجب سلطنتهم وتصرّفهم فيها تلف مال الغير ، فيمنع عن سلطنته على ماله الموجب لتضمينه متلف ماله.

وبالجملة إتلاف مال الغير ولو انطبق على حفظ مال نفسه ، موجب للضمان ، وقاعدة السلطنة ليست قابلة أن تمنع عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم!

ثمّ إنّ بعد ذلك ذكر فروعا في «الشرائع» تعرّضنا لجلّها في أوّل الباب ، ولعلّه في طيّ المباحث الآتية يأتي ما ينتفع [به] ويرتبط بهذه الفروع (١) إن شاء الله أيضا حتّى يفي ببعض ما لم نتعرّضه لوضوحه.

ردّ المغصوب

الجهة الثالثة من البحث : هي البحث عن وجوب إرجاع المال المغصوب لصاحبه عينا وعدم انقطاع سلطنة المالك عن عين ماله بتصرّف الغاصب فيه ، ولا يخفى أنّه يتصوّر لهذه المسألة صور :

الاولى : أن لا يكون ردّ العين المغصوبة مستلزما لضرر على الغاصب أو غيره.

الثانية : أن يكون مستلزما لذلك ، وهذا يكون على وجوه ؛ لأنّ المتضرّر إمّا أن يكون هو الغاصب أو غيره ، والغير إمّا أن يكون معيّنا للغاصب أو لم يكن كذلك ، والضرر المتوجّه إمّا نفسيّ أو مالي ، والضرر المالي إمّا أن يكون بنحو يستلزم تخليص العين المغصوبة ؛ سقوط المال المزاحم للتخليص عن الماليّة رأسا ، وهذا كالخشبة المغصوبة الموضوعة تحت بناء وجدار بنيا من الطين

__________________

(١) من حيث المبنى وجهة السببيّة وغيرها ، «منه رحمه‌الله».

٥٨١

والجصّ ، فإنّه بعد تخريب مثل هذا الجدار لتخليص الخشبة لا يبقى للتراب المجتمع وكذلك الجصّ قيمة وماليّة ، أو لم يكن كذلك ، مثل ما لو كان البناء من الحجر والآجرّ أو كالسفينة ، وفي كلّ منها إمّا أن يكون الغاصب عالما بالغصب أو لم يكن كذلك.

أمّا الكلام في الأوّل ـ وهو ما لو لم يكن ردّ العين مستلزما للضرر لكون العين باقية على حالها ـ فلا شبهة في وجوب الردّ في هذه الصورة ، وكذلك فيما إذا كان مستلزما للضرر على الغاصب ، سواء كان عالما بالغصب أو جاهلا ، وكان حين التصرّف في المغصوب ووضعه تحت البناء ـ مثلا ـ في الواقع غاصبا وغير ذي حقّ.

والدليل على ذلك هو أنّه لا إشكال في أنّ البناء على المغصوب حرام ؛ لكونه تصرّفا في مال الغير ، فإذا صار أصل البناء حراما فليس له احترام ، فإذا لم يبق للبناء حرمة فليس شي‌ء يزاحم مع سلطنة المالك وصاحب العين المغصوبة المبنيّ عليها ، فهو بمقتضى سلطنته على ماله يطالب ماله ، وله أن يأخذه بأيّ نحو كان ، ولا يبقى للغاصب سلطنة على بنائه حتّى يمنع بذلك مالك العين ويلزمه بأخذ القيمة كما توهّمه أبو حنيفة (١) لأنّ السلطنة فرع لالتزام المال ، بل يجب على الغاصب تخريب بنائه مقدّمة لردّ العين ، ولا فرق في ذلك بين الجاهل والعالم.

ضرورة أنّ الضمان وكذلك غيره من الأحكام الوضعيّة ليس دائرا مدار العلم والجهل ، بل هو تابع للحقّ الواقعي وعدمه ، ولا مدخليّة للعلم والجهل في باب الضمان أصلا.

__________________

(١) بداية المجتهد : ٢ / ٣١٧.

٥٨٢

هذا ما تقتضيه القاعدة ، والنصّ أيضا مطابق معها ، وهو قوله عليه‌السلام : «ليس لعرق ظالم حقّ» (١) وكذلك قوله عليه‌السلام : «الحجر المغصوب رهن [على خرابها]» (٢) ومن المعلوم أنّ المراد من الظالم المعناه الواقعي ، أي غير ذي حقّ ، لا أن يكون المراد به المأخوذ فيه العدوان الملازم لكون العادي عالما بعدم كونه ذا حقّ فتأمّل!

ولا يتوهّم أنّ الدليل في المقام إنّما هو قاعدة الإقدام حتّى يمنع جريانها في صورة الجهل ؛ لأنّ أصل جريان قاعدة الإقدام في ما نحن فيه دوريّ.

ضرورة ؛ أنّ صدق هذا العنوان وإقدام الغاصب على ضرره موقوف على أن يكون مالك العين المغصوبة مسلّطا على تخريب بنائه ، وذا حقّ بالنسبة على خرابه ، وإثبات هذا الحقّ له بقاعدة الإقدام يلزم منه الدور كما لا يخفى ، فلا يجوز التمسّك بقاعدة الإقدام في المقام أصلا.

هذا إذا كان حين الإحداث غير ذي حقّ ، أمّا إذا لم يكن كذلك بل كان عند إحداثه البناء ذا حقّ ثمّ انقطع حقّه كما إذا اشترى أحجارا بالبيع الخياري ، ثمّ بنى عليها ففسخ بائعها فهاهنا لمّا لم يكن بالنسبة إلى الحدوث غاصبا ولكن من حيث الإبقاء والبقاء يصدق عليه الغصبيّة بصيرورة الأحجار المبنيّ عليها بعد الفسخ ملكا ومتعلّقا لحقّ الغير ، فإبقاء البناء عليها يكون إبقاء في مال الغير (٣).

فيدخل هذه الصورة في باب تزاحم الحقوق ، وهذا بحث سيّال في جملة من أبواب الفقه ، وقد ذكرنا جملة من الكلام في ذلك في باب البيع عند البحث

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.

(٢) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٦ الحديث ٣٢١٩١ ، وفيه : الحجر الغصب في الدار.

(٣) مع أنّ إحداثه كان عن حقّ ولم يكن فيه عدوان وتخريب في مال الغير «منه رحمه‌الله».

٥٨٣

عن خيار الغبن ، ونزيد هنا توضيحا بقدر ما يناسب المقام ، وهو أنّه لا إشكال في أنّ صاحب البناء الّذي يصدق عليه الغاصب فعلا في نفس إبقاء بنائه ، لمّا كان أساسه مالا للغير يصدق عليه أنّه متصرّف في مال الغير.

ضرورة أنّه ليس حقّه من حيث البناء إلّا هذه الهيئة الثابتة على القضاء القائم بنيانه على مال الغير ، وكونه في القضاء وإن لم يكن بهذه الحيثيّة متعلّقا لحقّ غير الباني ، بل مال لنفسه ، ولكنّه لمّا كان جزؤه المتّصل بالأرض بتوسّط الحجر المغصوب ـ حيث هذا الجزء من هيئة البناء الّذي هو حصّة من الهيئة متعدّ فعلا ـ وصاحب البناء غاصب بهذه الحيثيّة. والمفروض ؛ أنّ كون باقي أجزائه على الهواء لا يثمر في بقائه بعد تفريق هذا الجزء منه ، فلمّا يصدق لذلك أنّ أصل كينونيّة هذا البناء بروز الهيئة ثابتة في مال الغير ، فإمّا يكون لهذه الهيئة احترام ، لأنّ احترام المال والماليّة إنّما هو باق ما دام لم يكن في مال الغير ، فيصير المقام من قبيل ما لو فرض أن تكون أرض ملكا لأحد وهواؤه للآخر ، فصاحب الهواء بنى في هذه الأرض بلا إذن صاحبه ، لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين الإحداث والإبقاء فكما أنّ البناء حدوثا في مال الغير يكون غصبا ولا احترام لهذا البناء والهيئة الكائنة ، كذلك لو كان عند الحدوث مأذونا فيه فانقطع الإذن بعده ، فبالنسبة إلى ما بعد الانقطاع وهو بقاؤه ، فلمّا يصدق الغصب ، فلا احترام له أيضا بالنسبة إلى تصرّف صاحب البناء.

وأمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر وتصرّفه بتخليص حجره فليس في تخليصه وإخراجه حجره بعين هذا التخليص متصرّفا في مال الغير كما كان في الأوّل ، فإنّه بنفس الإبقاء كان متصرّفا في مال الغير فكان إبقاء ماله مع تصرّفه في

٥٨٤

مال الغير متّحدا وجودا ، وأمّا صاحب الحجر فليس كذلك ، بل إخراجه حجره تصرّف في مال نفسه.

نعم ؛ تصرّفه هذا مستلزم للتصرّف في مال الغير وهو الهيئة البنائيّة ، ولكنّه ظهر أنّه لا احترام لهذه الهيئة في الرتبة السابقة على تخليصه ماله ، فإذا يتصرّف صاحب الحجر في ماله فتصرّفه ذلك مستلزم لتصرّفه في مال الغير الساقط عن الاحترام في الرتبة السابقة على تصرّف المغصوب منه في حجره.

تزاحم الحقوق

إذا تمّ ذلك وانكشف موضوع الحقّين المتزاحمين فنقول : إنّه ليس لنا قاعدة بمئونتها ترتفع الغائلة ويرجّح أحد المتزاحمين على الآخر الّذي هو الموجب لوقوع التزاحم أيضا سوى قاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، ولا إشكال أنّ تطبيق هذه القاعدة على مال صاحب البناء دوريّ.

بيان ذلك : أنّ سلطنته على ماله موقوف على عدم احترام الحجر القائم عليه البناء ، وعدم احترامه موقوف على عدم السلطنة لصاحبه عليه ، ونفي سلطنة صاحب الحجر على ماله وسقوط سلطنته لا بدّ أن يثبت من الخارج ، ولا يعقل أن يثبت عدم سلطنته بسلطنة صاحب البناء على هيئة بنائه ؛ لأنّ إثبات أحد النقيضين بالآخر دور ، كما لا يخفى ، ولمّا لم يكن في الخارج أيضا دليل على سقوط سلطنته فتثبت سلطنته ، فإذا ثبتت سلطنته هذه فتسقط سلطنة صاحب البناء إذا لم يكن دليل يثبت سلطنته ، وأمّا تطبيق أصل القاعدة ـ وقد عرفت ـ على سلطنته دوريّ ، هذا بالنسبة إلى صاحب البناء.

٥٨٥

وأمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر فلا مانع من تطبيق القاعدة عليه ، ضرورة أنّ سلطنته على ماله وإن كانت موقوفة على عدم احترام مال صاحب البناء ، إلّا أنّ عدم احترامه قد يثبت في الرتبة السابقة بسبب كون البناء في مال الغير ، فلا يتوقّف إثبات سلطنة صاحب الحجر على إسقاط سلطنة صاحب البناء ، بل لمّا كانت سلطنته على ماله ساقطة سابقا لسقوط احترامه ، فتصرّف صاحب الحجر لتخليص ماله من مال الغير يقع حين سقوط سلطنة الغير من الخارج ، لما سنشير من أنّ إثبات سلطنة الشخص على مال نفسه لا يوجب ولا يقتضي حفظه الناشئ من قبل سلطنته عليه أن يتصرّف في مال الغير لحفظ ماله ، بل إنّما يوجب حرمة تصرّف الغير في هذا المال ، والمفروض أنّ مال صاحب البناء سقط عن الحرمة ، فانتفى بذلك ما كان يقتضي حرمة تصرّف صاحب الحجر فيه لو لا سقوطه عن الاحترام.

وبالجملة ؛ لمّا كان جواز تصرّف صاحب البناء في بنائه بإبقائه مقرونا بالمانع عينا بخلاف صاحب الحجر ، فيصير المقام بالنسبة إلى القاعدة الّتي هي المرجع ـ وهي «الناس مسلّطون» (١) .. إلى آخره ـ من باب دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، لما عرفت من أنّ هذه القاعدة بالنسبة إلى صاحب البناء بعد سقوط احترام ماله ، فلا مقتضي لجريانها ؛ لأنّ موضوع هذه القاعدة إنّما هو المال المحترم ، وأمّا بالنسبة إلى صاحب الحجر فالمقتضي لجريانها تامّ لبقاء الموضوع ، وإنّما المانع المتصوّر أن يخصّص سلطنته بسلطنة صاحب البناء ، ومن المعلوم أنّه عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ؛ الثاني متعيّن.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩.

٥٨٦

فانقدح ممّا ذكرنا ؛ أنّ حكم الغاصب العرضي ـ أي من لم يكن غاصبا ابتداءً عند إحداث تصرّفه ـ حكم الغاصب الابتدائي ، فيجوز للمغصوب منه أن يتصرّف في ماله كيف شاء ، ولا يزاحم تصرّفه الحقّ السابق للغاصب.

وببيان آخر : يكون المقام من باب دوران الأمر بين تأثير المقتضي التنجيزي والتعليقي ، ضرورة أنّ اقتضاء القاعدة وسلطنة صاحب الحجر على ماله تنجيزيّ ، بعد أن كان تصرّفه وسلطنته على ماله المستلزم للتصرّف في مال الغير مالا لا احترام له ، فاقتضاء سلطنته تامّ ، وأمّا تصرّف صاحب البناء في ماله الّذي هو عين تصرّفه في مال الغير إنّما يثبت إذا لم يكن صاحب الحجر سلطانا على ماله ، فتصير سلطنته معلّقة ، ولا ريب أنّ المقتضي التعليقي لا يمكن أن يزاحم التنجيزي فيمنعه عن تأثيره.

هذا ؛ ولقد أجاد ـ دام ظلّه ـ في ما أفاد في بيان سرّ المسألة ، وأصل فتواه في المسألة مطابق لفتوى الأصحاب أيضا ، ولكنّ العمدة في تماميّة كلا البيانين هي ما ذكرنا من المقدّمة ، وهي كون تصرّف صاحب البناء في ماله عين تصرّفه في مال الغير ، بخلاف تصرّف صاحب الحجر فهو ليس كذلك ، بل هو مستلزم للتصرّف في مال الغير ، وأنت خبير بأنّ مجال المنع لهذه المقدّمة [واسع] ، وقد أشرنا إلى ذلك في بحث الخيارات.

هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى جواز تصرّف المغصوب منه في ماله ، ولو كان مستلزما للتصرّف في مال الغير المترتّب ذلك على سقوط سلطنة صاحب البناء ، ولكن لا يخفى أنّ صاحب البناء لمّا كان في أصل إحداث بنائه فيما يجوز له

٥٨٧

الإحداث عن حقّ ، ولم يكن عاديا في أصله (١) ، فليس كالغاصب الأصلي حتّى

__________________

(١) قد اضطربت كلمات الأصحاب في نظائر المسألة في أبواب متفرّقة من العارية والشفعة والإجارة والصلح والمفلّس وخيار الغبن ، وإن كان ظاهر المشهور على ما في «اللمعة» (اللمعة الدمشقيّة : ١٤٢) و «الشرائع» (شرائع الإسلام : ٣ / ٢٤٧) و «القواعد» (قواعد الأحكام : ١ / ٢٠٦) وغيرها هو جواز الرجوع للمالك ، وله إلزام صاحب الشجر والبناء ونحوهما على قلعهما وتخليص الأرض ، كما أنّ ظاهر المشهور أيضا أنّ على الملزم الأرش وإن استبعد صاحب «الجواهر» قدس‌سره (جواهر الكلام : ٣٧ / ٢٠٢) الجمع بين الفتويين ، ولقد أفاد قدس‌سره (جواهر الكلام : ٢٦ / ٢٥٧ ـ ٢٥٩) في تحقيق المسألة في باب الصلح ومال إلى خلاف ما عليه المشهور ، وجعل مسألة الغرس والبناء نظير استعارة الأرض للدفن أو الرهن أو الصلاة ، وأنّهما من واد واحد ، حيث إنّه كما أنّه ليس له الرجوع بالنسبة إلى الإذن السابق فهكذا كلّ ما هو من آثاره ولوازمه ، فراجع وتأمّل! [و] ملخّص ما أفاد في «الجواهر» : هو أنّ الآذن لمّا كان بإذنه أوّلا وإقدامه أدخل نفسه في حكم شرعي فليس له الرجوع بعده ، وبهذا التقريب أيضا ـ على ما ببالي ـ دفع الإشكال الاستاذ الأعظم النائيني (كتاب الصلاة للميرزا النائيني : ٢ / ١٠) في بحث الصلاة في مسألة جواز رجوع المالك الآذن للغير بقراءة الصلاة في ملكه بعد دخوله في الصلاة ، وقوّى عدم جواز الرجوع لما ذكرنا ، وإن أجاب عن ذلك الاستاذ العراقي ـ دام ظلّه ـ عن ذلك حيث نقلنا عنه ما أفاده النائيني ـ مدّ ظلّه ـ بأنّ الحكم الشرعي لا يوجب منع صاحب الحقّ وحرمانه عنه ، كما يكون كذلك في حقوق الناس ، بل الحكم ـ لو سلّمنا ـ يوجب الإلزام فقط ، وقد أشار إلى ما أفاده ـ دام ظلّه ـ شيخنا قدس‌سره في مكاسبه (المكاسب : ٢ / ١٢٥) في طيّ بحث الاجرة على الواجب ودفع الإشكال عنها ، فراجع!

هذا مضافا إلى منع دخول المالك في الحكم الشرعي وهو حرمة الإبطال وحرمة النبش وغيرهما بالإذن ، لأنّ الحرمة موقوفة على عدم بقاء حقّ الرجوع له ، وهو أوّل الكلام ، مع أنّه لا إطلاق لدليلهما ، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يرجع كلام [صاحب] «الجواهر» قدس‌سره إلى أنّه لمّا كان الإذن في الشي‌ء إذنا في لوازمه فلذلك ليس للآذن حقّ الرجوع في مسألة الإذن في الصلاة ونحوهما لهذه القاعدة العرفيّة ، وهكذا في مسألة العارية للغرس والرهن ونحوهما ، حيث إنّ بناء المتعاملين على بقاء الأرض مشغولة ما دام الشجر باقيا ، وهكذا بالنسبة إلى الرهن والدفن ونظائرهما ، كما يكون عكس ذلك في المقامات ، مثل مسألة البيع الخياري ، فإنّ بناء المتعاملين في مثله بقاء العين إلى انقضاء الخيار وعدم إتلافها أو نقلها ـ

٥٨٨

لا يكون لماليّته احترام أصلا ؛ لأنّه إلى حين الفسخ كان ذا حقّ وبعد الفسخ صار غير ذي حقّ ، فاحترام أصل ماله باق ، نعم لمّا [ثبت] حديث المزاحمة من حين الفسخ وقد رجّحنا طرف صاحب الحجر ، والمفروض أنّ المزاحمة ليست إلّا بين شخصيّة البناء والحجر المملوك للغير الموضوع تحته ، لا أن تكون مزاحمة في أصل ماليّته ، فتسقط سلطنة صاحب البناء عن شخص بنائه ، وتثبت السلطنة لصاحب الحجر على خصوصيّة البناء ، وجواز تصرّفه في الخصوصيّة لا في أصل الماليّة ، فلذلك إذا خرب البناء لتخليص حجره فعليه أن يتدارك ماليّة بنائه كلّما يكون له الماليّة فعلا ، فلو كان لبقائه اعتبار ماليّة اخرى فليس عليه تداركها ، لما عرفت من أنّه ليس له من حين الفسخ حقّ الإبقاء كما قالوا ذلك في الأرض المستعارة للغرس ، فيرجع صاحب الأرض بعد غرس المستعير وصيرورته شجرا ، فبعد بنائهم على ثبوت حقّ القلع للمعير قالوا بأنّ عليه أن يتدارك خسارة صاحب الشجر بأن يردّ إليه تفاوت قيمة الشجر بين كونه ثابتا وكونه مقلوعا.

وبالجملة ؛ فلاحظوا حال الفعلي للشجر لا كونه باقيا ، وليس ذلك إلّا لعدم ثبوت حقّ البقاء له بعد رجوع المستعير ، فكذلك في ما نحن فيه ، فإنّ محلّ الكلام إنّما هو ما إذا كان صاحب البناء إذا حقّ عند إحداث بنائه ثمّ عرضه عنوان الغصبيّة ، ثمّ إنّه إن سقطت هيئة البناء عن الماليّة عند إحداث بنائه ثمّ عرضه عنوان الغصبيّة ، ثمّ إنّه إن سقطت هيئة البناء عن الماليّة دون مادّته ، كما مثّلنا لذلك عند التقسيم ، فعلى المغصوب منه أن يتدارك قيمتها فقط ، وإن سقطت المادّة كذلك يجب تداركها قيمتها أيضا لو كانت لها قيمة في مقابل الهيئة ، وإن كان تخليص

__________________

ـ بأحد النوافل ، فتدبّر وراجع «مصباح الفقيه» للمرحوم المدقّق الهمداني (مصباح الفقيه «كتاب الصلاة» : ١٧٦ ط. ق) ، ولقد أفاد في باب الصلاة ماله دخل في المقام ، رحمه‌الله وإيّانا ، «منه رحمه‌الله».

٥٨٩

مال الفاسخ يتوقّف على تلف نفس المفسوخ عليه أو غيره فلا يجوز التخليص ، بل يجب عليه الإبقاء حتّى لو خلّص ماله ، كما لو قلع خشب السفينة في لجّة البحر فتلف المفسوخ عليه أو غيره للغرق ونحوه ، فيكون القالع الفاسخ ضامنا ، ضرورة أنّه انقطعت سلطنة المفسوخ عليه عن الخشبة فعلا ، فلا تزاحم سلطنته المالك الفاسخ إلّا أنّ مسألة حفظ النفس وأهميّته لا ربط له بباب المزاحمة ، بل هو واجب في كلّ حال وعلى كلّ أحد ، ولا يزاحمه شي‌ء من الحقوق والأموال ، بل هو مرجّح على كلّ شي‌ء ، والمفروض أنّ المفسوخ عليه ليس غاصبا أصليّا حتّى يكون باغيا وعاديا فتسقط نفسه عن الاحترام ، كما يحتمل أن يقال ذلك في الصورة الآتية ، بل هو غاصب عرضا فنفسه وكذلك غيره على الاحترام باق ، فيجب على نفسه وكذلك على الفاسخ حفظ نفسه بأيّ نحو كان ، ولو أوجب تلف المال بلا إشكال.

وأمّا لو لم يكن الغاصب في الإحداث ذا حقّ ، فقد أشرنا إلى جواز تخليص المغصوب منه ماله ولو أوجب تلف مال الغاصب ، وأمّا لو استلزم ذلك تلف نفسه فعلى حسب ما تقتضيه قاعدة باب المزاحمة أيضا جواز تخليصه ، مع قطع النظر عن مسألة الأهميّة الخارجيّة الثابتة للنفس.

بيان ذلك : إنّ السلطنة الثابتة للناس على نفوسهم بالأولويّة الثابتة على أموالهم أو بغيرها أيضا تكون هذه السلطنة ذات مراتب ، كما في السلطنة على الأموال ، منها ما لا ينطبق على التصرّف في مال الغير ، ومنها ما ينطبق ، فبهذا الاعتبار أيضا تصير السلطنة على أنفسهم ذات مراتب ، فكما قلنا : إنّ الناس مسلّطون على جميع هذه المراتب ـ أي مراتب أموالهم ـ إلّا المرتبة الّتي أوجب

٥٩٠

التصرّف فيها التصرّف في مال الغير ، فإنّه عند ذلك سلطنة الغير على ماله لمّا أوجبت حرمة تصرّف الغير في ماله فلذلك تنقطع سلطنة الشخص على ماله في هذه المرتبة الموجبة للتصرّف في المال المحترم للغير ، فكذلك سلطنة الناس على أنفسهم ثابتة حتّى تنتهي إلى التصرّف في المال المحترم للغير ، هذا ما تقتضيه قاعدة السلطنة.

تقدّم حفظ نفس الغاصب على الأموال

وأمّا مسألة أهميّة النفوس وتقدّمها على الأموال فنقول : هذه الصورة ليست في الوضوح وجريان قاعدة أهميّة النفوس كالصورة السابقة ؛ لأنّ في هذه الصورة لمّا كان الغاصب غاصبا من أوّل الأمر فالقاعدة المعروفة المستفادة من الأخبار ـ وهي ما وقعت في ألسنة الفقهاء من (أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال) (١) تجري في هذه الصورة دون الصورة السابقة.

فإن قلنا : إنّ المراد بها أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال حتّى حال تلف نفسه ، فيجوز هنا للمغصوب منه تخليص ماله وقلع الخشبة من السفينة في المثال المذكور.

وإن قلنا بأنّه ليس المراد بها ذلك ، بل المراد بها أنّ الغاصب في ظرف وجود نفسه وبقائه يؤخذ بأشقّ الأحوال حتّى لو أوجب تلف ماله كثيرا ، أو وقوع نفسه في التعب لا فيما أوجب تلف نفسه ، فليس للمغصوب منه ذلك ، بل يجب عليه الصبر حتّى يخلص عن الهلكة ، ولا يجوز للغاصب ردّه لكون حفظ نفسه

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠.

٥٩١

واجبا على نفسه مطلقا.

ولمّا كان ظاهر سياق القاعدة هو ملاحظة المشقّة بالنسبة إلى أحوال الغاصب العارضة على وجوده ، وهو فرع لحفظ وجوده ، فالأقوى هو الاحتمال الثاني ، مضافا إلى أنّ ما يثبت من الخارج من عادة الشرع وجوب حفظ النفوس حتّى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تقيّة في الدماء» (١) يصير قرينة على كون المراد من القاعدة هو المعنى الثاني.

أقول : وأنت خبير بأنّه لا أصل لهذه القاعدة ، وما وردت بهذا المضمون رواية ، بل هي وقعت في كلام بعض ولم يعمل بها أحد من الأساطين ، وقد طعنوا عليها عند التزام بعض بضمان الغاصب أعلى القيم تمسّكا بهذه القاعدة ، فراجع كلمات «الجواهر» وشيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سرهما.

فالتحقيق في المسألة المراجعة إلى ما تقتضيه أدلّة وجوب حفظ النفس من أنّه أيّ مقدار وأيّ مقام حفظ النفس واحترامه واجب ، أما أصل اقتضائه فهو إنّما يكون فيما إذا كان الآدميّ مضطرّا ولم يكن بنحو سقط احترامه في الرتبة السابقة على اضطراره ، إمّا بإقدام نفسه فعلا كالسارق اللجوج الّذي لا يرفع اليد عن الإنسان إلّا بقتله ، أو بإقدامه سابقا ، ولو لم يكن الآن مقدّما ، أو كما إذا ارتكب عملا فاستحقّ القتل ، كمن غصب خشبة في الساحل ووصل به سفينته فأجراها في البحر فقدر المغصوب منه أخذه منه في اللجّة ، بحيث يوجب قلع خشبته من السفينة غرق نفس الغاصب.

__________________

(١) المحاسن : ١ / ٢٥٩ الحديث ٣١٠ ، وسائل الشيعة : ١٦ / ٢٣٤ الحديث ٢١٤٤٥ ، مع اختلاف.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ١٠٧ ، المكاسب : ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣٢.

٥٩٢

ففي مثل هذه المقامات لا يجب على المسروق منه أو المغصوب منه رفع اليد عن ماله وبذله لحفظ نفس السارق والغاصب ، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (١) على ما هو ظاهر الآية والتفسير المستفاد من الأخبار لها ، من كون المراد بهما الخارج على الإمام وقاطع الطريق والسارق.

وقد اعترض على هذا المعنى من التفسير بأنّ حفظ النفس واجب ، وهو أهمّ من المال بلا إشكال ، فأجاب عنه أصحابنا بأنّ حفظ النفس واحترامه واجب ما لم يكن التالف معرّضا نفسه للتلف (٢) ، وكما أنّهم تسالموا في مسألة ما لو توقّف الخلاص من يد السارق على قتله يجوز قتله ، وظاهرهم أنّ هذا (٣) هو ما تقتضيه القاعدة.

وسرّ ذلك كلّه هو : أنّ مسألة حفظ النفس واحترامه حكم امتنانيّ من الشرع ، ومن البداهة أنّه لا امتنان على نفس ألقت نفسه بإقدامه في الهلكة ، فلو لم يرد تفسير من أهل البيت عليهم‌السلام للآية من باب مناسبة الحكم والموضوع الّذي هو العادي ، لكان يستفاد ذلك من الآية ، كما لا يخفى من أنّه لا يجب حفظ نفس العادي الّذي من مصاديقه الغاصب المعرّض نفسه للتلف ، خصوصا فيما إذا احتمل الغاصب في المثال المذكور قدرة المغصوب منه على قلع الخشبة في اللّجة ، وفعل المغصوب منه ذلك ، أو لم يتمكّن المغصوب منه أخذه إلّا في مثله ـ أي اللجّة ـ فإنّه لا إشكال في عدم امتنان في مثله ، مع كونه مخالفا للامتنان على

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١٤٥ ، النحل (١٦) : ١١٥.

(٢) جواهر الكلام : ٣٧ / ٧٨.

(٣) فيكشف من بنائهم ذلك أنّهم لا يلتزمون بترجيح حفظ النفس على المال مطلقا وأهميّتها عليه دائما فتدبّر! «منه رحمه‌الله».

٥٩٣

المغصوب منه ، فتأمّل! ومن المعلوم عدم التفصيل في باب العدوان بين مثله وغيره.

وبالجملة ؛ هذا سرّ عدم جريان قاعدة حفظ النفس ووجوبه في مثل الغاصب ، ولهذه الجهة مال ـ دام ظلّه ـ في آخر كلامه إلى ما ذكرنا.

هذا مضافا إلى أنّ وجوب بذل المال لحفظ النفس حكم مخالف للأصل لا بدّ من الوقوف على موضع اليقين.

وأمّا إذا كان الغاصب حين التصرّف جاهلا ، كما إذا زعم ـ في المثال المذكور ـ كون الخشبة مالا لنفسه موروثا له من أبيه ، أو ظنّ الحجر كذلك فوضعه تحت البناء ، أمّا إذا كان يتوقّف في هذه الصورة حفظ نفس الغاصب على إبقاء بنائه في المغصوب ، فلا شبهة في أنّه لا يجوز للمغصوب منه مطالبة ماله وأخذه ، لعدم كون الغاصب عاديا حتّى ينتفي احترام نفسه لإقدامه.

وأمّا حفظ ماله واحترامه بأن يقال : هل لصاحب الحجر أخذ حجره ولو أوجب تلف مال الغاصب من خراب بنائه من غير تدارك خسارته ، أم ليس له ذلك ، بل لمّا يصير سببا لتلف ماله بتخليص مال نفسه فعليه التدارك؟

أمّا ما قلناه في الصورة الاولى من عدم احترام مثل هذا المال المبنيّ في مال الغير ، ولذلك تثبت السلطنة للمغصوب منه على خراب بنائه ، فإنّما هو كلام بالنسبة إلى خصوصيّة العين المبنيّة لا إلى أصل الماليّة.

وأمّا الكلام في أصل ماليّته فقال ـ دام ظلّه ـ : فإنّما هو مبنيّ على جريان مثل «ليس لعرق ظالم حقّ» (١) ونظيره فيه وعدمه (٢) ، فإن قلنا بأنّ المراد بها عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٨٨ الحديث ٣٢١٩٤.

(٢) كما أجريناه بالنسبة إلى أصل خصوصيّة بنائه وماله ، «منه رحمه‌الله».

٥٩٤

ثبوت الحقّ المستلزم لسلب احترام المال للغاصب الواقعي ، أي ما كان متعدّيا واقعا ولو كان جاهلا في الظاهر ، فلا ضمان على المغصوب منه المخلّص ماله في تخريب بناء الغير.

وإن قلنا : إنّ المراد به هو ما كان غاصبا ظاهرا أيضا ، فلازمه القول بالضمان.

والأقوى الثاني ؛ لصحّة سلب هذا العنوان ومثله عن الجاهل المتصرّف في مال الغير ، بل لا يصدق عنوان الغاصب والطاغي أيضا عليه ، كما لا يخفى ، فإذا لم تسقط ماليّة بنائه عن الاحترام ، فلمّا كان تخريب بنائه يرجع إلى نفع صاحب الحجر ففي الحقيقة هو سبب لتلف ماله ، ويستند التلف إليه ، فبمقتضى قاعدة الإتلاف يكون لماليّته [ضمان] ، فيجب عليه تدارك قيمة بنائه على التفصيل الّذي قلنا فيما لو كان الغاصب في الإحداث ذا حقّ ، هكذا أفاد ـ دام ظلّه ـ هنا ، وفي الفرع الآتي ؛ وهو ما لو خاط ثوبه بخيط مغصوب جهلا وألزم المالك إخراج الخيط فاستلزم ذلك فساد الثوب ، فالتزم فيه أيضا بضمان صاحب الخيط المغصوب منه جهلا قيمة الثوب للغاصب الجاهل.

أقول : بعد أن بيّنا في أوّل الباب أنّ مسألة الضمان الناشئ من ناحية الغصب ، وكذلك الثابت بمقتضى «على اليد» (١) ليس مختصّا بالعالم ، بل حكم سار في جميع المقامات كسائر الأحكام الوضعيّة ، خصوصا باب الضمان الّذي لا مدخليّة للعلم والجهل وكذلك البلوغ وعدمه فيه أصلا ، فمقتضى ذلك ؛ الحكم

__________________

(١) عوالي اللآلي : ١ / ٢٢٤ الحديث ١٠٦ ، و ٣٨٩ الحديث ٢٢ ، و ٢ / ٣٤٥ الحديث ١٠ ، و ٣ / ٢٤٦ الحديث ٢ ، و ٢٥١ الحديث ٣.

٥٩٥

بضمان الغاصب مطلقا ، ويجب عليه ردّ العين المغصوبة على صاحبه ولو استلزم ردّه ضررا عليه ، حتّى لو احتاج ذلك إلى صرف المئونة يجب عليه ذلك ، ولا ربط لها بالمغصوب منه ، بل ولا يوجب التعسّر ، وباحتياج إيصال العين إلى مئونة زائدة لا تنقلب العين إلى القيمة ما لم يرض المالك.

وبالجملة ، لا يسقط حقّ المالك عن العين ما دامت باقية ، ولو استتبع ذلك ـ أي الردّ ـ الضرر على الغاصب ، وليس على المغصوب منه تدارك ذلك أصلا ، كما لا يخفى.

ومن المعلوم ؛ أنّه لا فرق في هذه الجهة بين الجاهل بالغصب وعالمه ، كما بالنسبة إلى أصل الضمان ، فلا وجه للتفصيل بين الجاهل والعالم في الخسارة المتوجّهة إليهما المستتبعة لردّ العين إلى صاحبها.

وأمّا حديث أنّ تخريب البناء لمّا كان لنفع المغصوب منه فهو سبب للتلف وأوجب الضرر على صاحب البناء ، فبمقتضى قاعدة «من أتلف» (١) يجب عليه تدارك الخسارة فلا أصل له ، ضرورة أنّ جهالة الباني أوجبت إقدامه على البناء في مال الغير ، فهو بنفسه متلف لماله بجهله ، وأيّ ربط له بالمغصوب منه ، وإنّما هو بحسب اقتضاء سلطنته على ماله يطالب ماله ويأخذه ، ولو أوجب إيصال ماله إليه إتلاف مال على الغاصب الّذي بناؤه هذا في ملك الغير جهلا كالبناء في المسألة الموجب ذلك تلف ماله ، فلا وجه لتضمينه المغصوب منه ، أو منعه عن ماله وسلطنته عليه ، فإنّ إلزام المغصوب منه على أدائه الخسارة يرجع إلى إلزامه بأحد الأمرين ، من أخذ بدل مال أو قيمته ، أو أخذ عين ماله مع ضمانه ما يستتبع

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٦٠.

٥٩٦

وصول ماله به الضرر المتوجّه إلى المالك.

والأوّل منفيّ بالإجماع بل الضرورة ؛ لعدم مجوّز شرعيّ على منع المالك عن عين ماله وحرمانه عنه وتبديله إيّاه في مثل المقام ، بل ربّما لا يرضى الغاصب على ذلك أو لا يقدر ، فيصير المحذور أشدّ.

والثاني ؛ أيضا منفيّ قهرا مع عدم المقتضي له أصلا ، كما عرفت ، هذا ما أدّى إليه نظري القاصر في المقام ، ولعلّه يأتي بعد ذلك إن شاء الله من إفاداته ـ دام ظلّه ـ ما يكشف به القناع عن المرام ، فإن المسألة من أهمّ المسائل ، والله العالم بحقائق الأحكام.

وأمّا معين الغاصب ، فظهر حاله من الصور السابقة ، فإنّه إن كان عالما بالغصب فحاله حال الغاصب في ضمانه وعدم احترام ماله فيما إذا توقّف تخلّص المال المغصوب على تلفه ، وإن لم يكن كذلك فهذه الأحكام مختصّة بالغاصب ، ففي مثل السفينة الجارية في البحر الّتي قد غصبت فأراد صاحبها أخذها في لجّة مع أنّه يتوقّف على أخذه إتلاف المال ، فإن كان [المال] للغاصب قد عرفت أنّه لا احترام لمثل ماله هذا ، فلا يمنع ذلك المغصوب منه عن مطالبة ماله وأخذه السفينة.

وإن توقّف تلف مال غير الغاصب عليه فإن لم يكن مغرورا من طرف غاصب السفينة فحاله حال الغاصب الجاهل ، وإن كان مغرورا من طرفه فضمان تلف ماله على غارّه فيرجع إليه.

ولا يخفى أنّه لا فرق في ما ذكرنا في جميع الصور فيما يجوز إتلاف مال الغير وما لا يجوز بين أن كان تلف المال رأسا بمادّته وهيئته ، أو بهيئته فقط ،

٥٩٧

فضمان المتلف وعدمه تابع لمورده ، بمعنى أنّه إن كان يجوز له ـ أي المغصوب منه ـ تخريب البناء لتخليص ماله بلا ضمان ، فيجوز له ذلك ، ولو لم يبق من المادّة ولا الهيئة شي‌ء ، وإن جاز له ذلك مع الضمان فهو تابع لمقدار الخسارة الواردة هيئة ومادّة ، وإن لم يكن له ذلك أصلا فمعلوم حكمه ، فتأمّل!

وأمّا فيما توقّف تخليص المال على إتلاف حيوان ، فيأتي حكمه وصوره في الفرع الآتي.

حكم الخيط المغصوب في الثوب

الفرع الثاني : قال في «الشرائع» : (ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة فإن أمكن نزعها) .. إلى آخره (١).

إنّ لهذه المسألة صورا ؛ لأنّ الخيّاط إمّا أن يكون عالما بغصبيّة الخيط أو يكون جاهلا ، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون الثوب لنفسه أو لغيره ، وفي كلّ منها إخراج الخيط إمّا أنّه موجب لفساده أم لا؟

أمّا الصورة الاولى ؛ وهي ما لو كان الغاصب عالما بالغصب وكان الثوب لنفسه ، فلا إشكال في وجوب نزع الخيط وإن أوجب فساد نفسه وفساد الثوب ، ولا يتفاوت في ذلك بين أن لا يبقى للخيط بعد الإخراج قيمة أو بقي له ، فعلى كلّ حال يجب على الغاصب بذل التفاوت وردّ نفس العين ، وإن لم يبق لها بعد الإخراج ماليّة.

أمّا الأرش فلأنّ فعل الغاصب أوّلا أوجب تلف الخيط وفساده ، وإن كان

__________________

(١) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٣٩.

٥٩٨

فساده فعلا إنّما هو للإخراج المستند إلى أمر المالك إلّا أنّ ذلك لا يوجب استناد التلف إليه ، وذلك لأنّه ليس يأمر بالتلف ، بل إنّما هو يطالب ماله المستلزم وصوله إليه تلفه المستتبع للضرر على الغاصب ، وذلك إنّما يكون كما إذا حمل الغاصب العين إلى بلاد نائية فطالبها مالكها فيستلزم إيصالها إليه إلى صرف المئونة ، فلا ريب أنّه لا يقال في مثل ذلك : إنّ أمر المالك ومطالبته ماله أوجب الخسارة على الغاصب ، فكذلك في ما نحن فيه.

وبالجملة ، ما دامت عين ماله باقية فللمالك مطالبتها وأخذها بخصوصيّتها أو بمرتبته منها بقدر الإمكان ، مع تدارك باقي مراتبها التالفة منها بالأرش ، ولا دليل لسقوط حقّه عنها أصلا.

وممّا ذكرنا ظهر وجه وجوب إخراج الخيوط وردّها إلى مالكها ولو لم يبق لها قيمة بعد الإخراج ، وذلك لما عرفت من أنّ ما دامت عين مال المالك موجودة فله مطالبتها ، وعلى الغاصب إيصالها إليه ، ولا موجب لخروجها عن ملكه ودخولها في ملك الغاصب.

وأمّا ما يؤدّيه الغاصب ويلزمه من الأرش أو القيمة بعد الإخراج (١) فأوّلا ؛ لا يوجب ذلك خروج عين المال الموجود فعلا عن ملك مالكه ، وأمّا أنّه لمّا يستلزم إخراجه تلف ماليّته بعد ذلك الموجب لسقوط العين عن الاحترام فأيّ ربط له بالحال الفعلي ـ وهو حال وجود الخيط في الثوب ـ فأيّ موجب لسقوط حقّه عن ماله الموجود؟

وثانيا ؛ إنّ باب الضمانات لا ربط له بباب المعاوضات ، فإنّ ما يعطيه

__________________

(١) فيما لو نقصت قيمته أو تلف رأسا ، «منه رحمه‌الله».

٥٩٩

الضامن بدلا عن التالف إنّما هو غرامة لا عوض حتّى يوجب ذلك دخول ما بقي من التالف ـ وهو العين ـ في ملك الغارم ، بل ما يغرمه إنّما هو عوض عن ماليّة العين الفائتة وتدارك عنها ، لا أن يكون بدلا عنها فيوجب ذلك خروج المبدل منه عن ملك المالك.

فانقدح بذلك ؛ التحقيق أنّ للمالك مطالبة ماله المغصوب ولو انجرّ إيصاله إليه إلى نقص فيه ، أو سقوطه عن الماليّة رأسا ، بل يجب على الغاصب ردّ ما بقي من أجزائه إليه ولو لم يكن لها قيمة كالكأس المكسور ، ضرورة أنّ السلطنة الثابتة للمالك على ماله ليست دائرة مدار الماليّة ، بل هي تابعة للملكيّة ، ومن البديهة أنّها أعمّ من الماليّة ، فما لم يعرض المالك عن ملكه أو لم ينقل ماله بأحد النواقل الشرعيّة لا يقتضي شي‌ء انقطاع سلطنته عن ملكه وسقوط حقّ مطالبته ماله.

ومن ذلك ؛ ظهر النظر في كلام المحقّق قدس‌سره في المقام وكذلك صاحب «الجواهر» (١) وقد أصرّ قدس‌سره تبعا للماتن في أنّه إذا كان إخراج الخيط مستلزما لتلفه فتنقلب العين إلى القيمة ؛ لأنّ ما يعطيه الغاصب بعد الإخراج إنّما جعل ذلك بحكم الشارع عوضا عن التالف ، فيكون بدلا عنه فمع ذلك لو وجب عليه الإخراج ثمّ ردّه مع قيمته ، يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، ثمّ حكم بجواز الصلاة بعد ردّ قيمة الخيط في مثل هذا الثوب ، وقايس المقام رحمه‌الله بما لو توضّأ بماء مغصوب جاهلا فالتفت إليه بعد تماميّة غسله ، فيجوز له المسح بالرطوبة الباقية عن هذا الماء لجريان عين مناطه ، وهو عدم غصب موجود الآن يجب ردّه في هذا الثوب

__________________

(١) جواهر الكلام : ٣٧ / ٧٩.

٦٠٠