الرسائل الفقهيّة

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي

الرسائل الفقهيّة

المؤلف:

الميرزا أبو الفضل النجم آبادي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آية الله العظمى البروجردي
المطبعة: قرآن كريم ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-93094-1-1
الصفحات: ٧٠٨

بل الظاهر الاكتفاء بالمشاهدة من أحد الجوانب الثلاثة ولو لمن يشاهد الإمام كذلك ، وذلك ؛ لأنّه مضافا إلى ما تقدّم أنّ قوله عليه‌السلام : «وإن كان بينهم سترة أو جدار» وفي بعض النسخ بالفاء بدل الواو ، يكون ظاهرا في بيان حكم الحائل على نحو ما بيّن قبله حكم البعد من قوله عليه‌السلام : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بإمام» (١) إلى آخره ، ويستفاد منه أحكام ثلاثة :

أحدها : عدم البعد بين الإمام وبين من يكون خلفه من الصفّ الأوّل.

ثانيها : اعتبار عدم البعد بين كلّ صفّ والصفّ السابق عليه بالمقدار المزبور بالإضافة إلى الصفوف اللاحقة ، وهما يستفادان من منطوق الرواية.

ثالثها : اعتبار عدم البعد بين المأموم وغيره من المأمومين من طرفي اليمين واليسار إذا كان بينه وبين الصفّ السابق عليه أزيد ممّا يتخطّى ، وهذا يستفاد من لازم الرواية.

وبعبارة اخرى : يستفاد من الرواية من جهة اعتبار عدم البعد أنّه يعتبر عدم البعد بمقدار ما لا يتخطّى من جميع الجوانب ، وأنّه يكفي الاتّصال بالإمام أو المأموم المقتدى به عن أحد الجوانب الثلاثة ، فحينئذ قوله عليه‌السلام في حكم الحائل : «فإن كان بينهم سترة أو جدار» أيضا يكون تابعا لسابقه ، وأنّه لو كان الحائل بين المأموم والإمام في الصفّ أو بينه وبين غيره من المأمومين في الصفوف اللاحقة ما يكون حائلا يمنع المشاهدة من جميع الجوانب الثلاثة ، فصلاته ليست بصلاة ، فيستفاد منه اعتبار عدم الحائل وكفاية المشاهدة من إحدى الجوانب.

هذا ، مضافا إلى ما ورد من عدم البأس بالصلاة بين الأساطين عن

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩ و ٤١١ الحديث ١١٠٤١.

١٦١

جماعة (١) ، فإنّه بإطلاقه يشمل ما إذا كانت الاسطوانة حائلا بين المأموم وقدّامه ، ولكنّه يشاهد الإمام من طرف اليمين أو اليسار.

فتلخّص : أنّ حكم شرطيّة عدم الحائل ومانعيّته ووجود الحائل من الجهة الّتي نحن فيها من حيث الكيفيّة ، حكم مانعيّة البعد وكيفيّة اعتبار عدمه ، فكما أنّه يكتفى في صدق عدم البعد تحقّق عدم ما لا يتخطّى من طرف القدّام أو اليمين أو اليسار ، ويستفاد ذلك من الرواية مجموع دلالتها المطابقي متضمّنة بالالتزامي ، وكذلك بالنسبة إلى عدم الحائل واعتبار المشاهدة ؛ يكتفى به عن إحدى الجوانب الثلاثة ، كما لا يخفى ، ويستفاد هذا من الرواية أيضا.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه أحسن وأجاد ما عنون في «التذكرة» في حكم من يقتدي خارج باب المسجد بمن فيه ، من المسائل الثلاث :

الاولى : من يقتدي خارج باب المسجد إذا كان الباب على خلاف القبلة قال : تصحّ صلاته ؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من طرف قدّامه ، وتصحّ صلاة من على جانبيه ؛ لكونه يشاهد من يشاهد الإمام ولو بالواسطة من اليمين أو اليسار.

الثانية : من يقتدي خارج الباب الّذي في طرف اليمين فإنّه أيضا تصحّ صلاته ؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من طرف اليسار.

الثالثة : من يقتدي من الخارج من طرف اليسار فهو أيضا تصحّ صلاته ؛ لكونه مشاهدا لمن يشاهد الإمام من اليمين ، فتأمّل جيّدا! (٢)

__________________

(١) منتهى المطلب : ١ / ٣٦٥ ، جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٠.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٤ / ٢٥٨.

١٦٢

المسألة السابعة : من كان في الصفوف اللاحقة على وجه كان بينه وبين الإمام بعد يمنع عن الاقتداء لو لا اتّصاله بالصفّ المتقدّم عليه إذا كان مشاهدا لمن يتّصل به من طرف قدّامه أو يمينه أو يساره ، فقد عرفت بأنّه تصحّ صلاته. ولو كان بينه وبين الإمام حائل يمنع المشاهدة.

وأمّا لو لم يكن مشاهدا لمن يتّصل به ، بل كان بينه ومن يتّصل به حائل يمنع المشاهدة ، ولكن مشاهد للإمام الّذي اقتدى به مع فرض تحقّق البعد بينه وبين الإمام ، فهل تكفي هذه المشاهدة أيضا ، أو تعتبر مشاهدة من يتّصل به من المأمومين الّذي كان به ارتفع المنع عن البعد؟

الأقوى الثاني ؛ وأنّه لا يكفي مجرّد مشاهدة الإمام مطلقا ، وذلك لما عرفت من قوله عليه‌السلام في حكم الحائل : «فإن كان بينه وبين الإمام سترة أو جدار» .. إلى آخره يكون تابعا في جميع ما يعتبر لصدر الرواية وهو قوله عليه‌السلام : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام قدر ما لا يتخطّى» (١) فكما أنّه من جهة البعد اعتبر عدم البعد بين المأموم وبين من يتّصل به من أحد الجوانب في الصفوف اللاحقة ، فكذلك مجموع ما في الصدر قد جمعه في الذيل فقال عليه‌السلام : «إن كان بينهم وبين الإمام سترة أو جدار» فيرجع محصّل مفاد الذيل إلى أنّه يعتبر عدم الحائل على نحو اعتبار عدم البعد ، كما لا يخفى.

وبعبارة اخرى ؛ يستفاد من اعتبار عدم الحائل بجملته مجموع ما ذكر في بيان حكم ما لا يتخطّى بتلك العبارة الّتي بمنزلة التفريع على ما تقدّم ، خصوصا على نسخة ضبطت «بالفاء» أنّه يعتبر عدم الحائل بين المأموم والإمام أو من

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩.

١٦٣

يشاهد الإمام من الجهة الّتي كان المأموم متّصلا به بلا واسطة أو مع الواسطة لا مجرّد عدم الحائل مطلقا ولو لا من هذه الجهة ، فيكون مسألة عدم البعد وعدم ما لا يتخطّى من قبيل المقدّمة لاعتبار عدم الحائل.

ومن هنا ظهر فساد توهّم أنّ كلّا من البعد والحائل مانع مستقلّ ، وليسا يرجعان إلى أمر واحد ، والمفروض فقدهما في المقام نظرا إلى أنّه يكفي في رفع الأوّل منهما أن يكون المأموم مشاهدا للإمام أو من يشاهده وهو حاصل في المقام باعتبار كون المأموم مشاهدا للإمام ، وفي رفع الثاني أن يكون المأموم متّصلا بالإمام أو بمن هو بينه وبين الإمام ولو بألف واسطة ، وهو أيضا حاصل باعتبار كونه متّصلا بمن يكون بينه وبينه الحائل المفروض ، وعلى هذا فلا مانع من صحّة الصلاة في الصورة المفروضة.

وجه الدفع : أنّ المستفاد من الرواية اعتبار عدم الحائل بين المأموم والإمام أو من يتّصل به بالإمام من الجهة الاتّصاليّة لا مطلقا ، والمفروض في المقام وجود الحائل من تلك الجهة ومشاهدة الإمام من غيرها لا يفيد شيئا ، كما لا يخفى.

الشكّ في وجود الحائل

الثامنة : إذا شكّ المأموم في وجود الحائل فتارة يكون ذلك قبل اشتغاله بالصلاة وقبل الاقتداء ، واخرى ما يكون حادثا في الأثناء ، فهل يصحّ علاجه بالأصل أم لا؟

قد يقال : نعم مطلقا إذا كان هنا حالة سابقة عدميّة ، كما يجري الأصل

١٦٤

بالنسبة إلى سائر ما يعتبر في الصلاة من الشرائط والموانع إذا كانت له حالة سابقة ، مثل الطهارة الّتي كانت متيقّنة سابقا ثمّ شكّ فيها قبل الصلاة أو في أثنائها فيستصحب بقاءها ، وكذا فيما لو كان في أوّل الدخول في الصلاة مستقبل القبلة وشكّ في انحرافه عنها في أثناء الصلاة بلا إشكال في أنّه يجوز التمسّك بالاستصحاب ، وكذلك لو كان في السابق غير مصاحب لما لا يؤكل لحمه ، وشكّ بعد ذلك قبل الشروع في الصلاة أو في الأثناء في طروّ ذلك عليه ، فالمقام أيضا كذلك لا مانع من الشكّ بالاستصحاب للحكم بعدم وجود الحائل ، سواء كان شكّه فيه قبل الصلاة أو في أثنائها.

هذا ؛ ولكن الظاهر أنّ المقام ليس من قبيل ما ذكر من الأمثلة حيث إنّها بنفسها متعلّقة للحكم الشرعي ، فإذا احرز لها الحالة السابقة فببركة الأصل أمكن علاج الشكّ فيها بخلاف المقام ، فإنّ مسألة الحائل واعتبار عدمه بين الإمام والمأموم من قبيل العناوين البسيطة الّتي انتزع من المركّب من أمرين ، ويكون نظير المسألة السابقة فيما إذا شكّ في إدراك ركوع الإمام ، وقد بينّا هناك أنّ جريان الأصل في أمثالها ممنوع ، وأنّه لا مجال لأن يقال : إذا أحرزنا أحد جزأي الموضوع بالوجدان ، والجزء الآخر يحرز بالأصل ، فبضمّهما احرز الموضوع بتمامه ، لما تقدّم من أنّ ذلك إنّما يجوز إذا كان الجزءان بأنفسهما موضوعا والأثر يكون لهما لمحض اجتماعهما في الزمان.

وأمّا لو كان الأثر للعنوان المنتزع عنهما مثل الحال ونحوه فلا يجري ما ذكر ، بل يكون الأصل بالنسبة إليه مثبتا ، وهكذا ما نحن فيه ، حيث إنّ الأثر ليس لعدم الحائل بين الإمام والمأموم ، بل الظاهر من قوله عليه‌السلام في صدر الرواية :

١٦٥

«إن كان [بينهم سترة أو جدار]» ـ الّذي يكون مسألة الحائل حاله حال عدم البعد ، وحكمه يستفاد من الصدر ولا مجال لتوهّم استقلال الثاني وكونه بنفسه متعلّقا للحكم ـ أنّه لا بدّ وأن تكون الجماعة في حال عدم الحائل فحينئذ إجراء الأصل في الحائل ، لا ينفع بالنسبة إلى الحالة المذكورة ولا يحرزها.

إلّا أن يقال مثل ما أفاده شيخنا استاد الأساطين قدس‌سره في تلك المسألة من أنّ التعبير بالقبليّة والحالة وأمثالهما من باب سهولة التعبير ، وليس لها خصوصيّة في الحكم ، بل تمام المناط صرف الاجتماع في الزمان وأنّ منشأ النزاع [في] تلك العناوين هو متعلّق الحكم.

فعلى هذا ؛ لا مضايقة في إجراء الأصل خصوصا في مثل التعبير بلفظ الحال ، حيث إنّ التعبير به من باب ضيق العبارة ، وأنّه لا يمكن التعبير بالعنوان الأوّلي ـ وهو اجتماع الجزءين في الزمان ـ بغير لفظ الحال ونحوه ، كما هو المستظهر في المقام أيضا إذ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «إن كان بينهم» .. إلى آخره هو اجتماع الأمرين في الزمان ، ولا لفظ يحكي عن هذا المعنى غيره.

لا بأس بالحائل بين الإمام والنساء المأمومات

هذا كلّه في أصل اشتراط عدم الحائل وما يتفرّع عليه ، ثمّ لا ينبغي التأمّل في أنّه إنّما يجري بالنسبة إلى الرجال ، وأمّا لو كان المأمومون النساء فلا يعتبر الشرط المزبور ولا بأس بالحائل بينهنّ والإمام ، إذا كان رجلا.

وذلك ؛ لأنّه مضافا إلى عدم جريان ما ذكرنا في مسألة جماعة الرجال بالنسبة إليهم رأسا من أنّه اعتبار هذا الشرط مرجعه إلى اعتبار أمر عرفيّ ، بحيث

١٦٦

يوجب الحائل تعدّد المجلس ولا يصدق الجماعة حينئذ ، والشارع في اعتباره هذا الشرط ما أعمل محض التعبّد ، بل أجرى ما هو المعتبر عند العرف.

ومن المعلوم ؛ أنّ ما ذكر إنّما يجري بالنسبة إلى مجالس الرجال ومجامعهم ، وأمّا مجامع النساء مع الرجال فلا يعتبر ذلك عند العرف أيضا ، بمعنى أنّ وجود الحائل بينهم وبين الرجال لا يضرّ بوحدة المجلس ، بل بناؤهم على إيجاده في المجلس الواحد الّذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فليس ذلك إلّا من جهة ما ذكرنا من أنّ وجود الحائل لا يرفع عنوان وحدة المجلس ، كما لا يخفى.

فيصير ذلك قرينة عرفيّة على اختصاص الأدلّة الّتي يستفاد منها الشرط المزبور بالرجال ، حيث إنّ الحكم بتعميمها من جهة الإجماع على عدم الاختصاص كليّا ، أو للقطع باشتراك النساء مع الرجال في كلّ حكم ، إنّما يكون إذا لم يكن في البين قرينة قطعيّة وما يقرب منها تدلّ على الاختصاص ، وفي المقام لا إشكال أنّ الارتكاز المزبور هو قرينة على التخصيص ، وأنّ قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : «فإن كان بينهم» .. إلى آخره ، لا يعمّ النساء ، [مع] أنّه دلّت الأدلّة الخاصّة على عدم اعتبار الشرط المزبور بالنسبة إلى المرأة ، وهي الرواية المرسلة (١) المتلقّاة بالقبول عند الأصحاب ، والإجماع المنقول أو المحصّل ، حيث لم يظهر في المسألة خلاف إلّا من الحلّي قدس‌سره (٢) بناء على أصله من عدم الاعتناء بأخبار الآحاد مطلقا.

بقي الكلام في موضوع المسألة وهو : أنّ الحائل بأيّ مقدار منه لا يضرّ؟

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩.

(٢) السرائر : ١ / ٢٨٩.

١٦٧

الّذي يظهر من كلمات الأصحاب قدس‌سرهم أنّه إذا كان بحيث لا يوجب أن يكون المأمومون أجانب عن الإمام رأسا ، بأن يكون الحائل ثخينا جدّا كبعض الجدران الّتي فيها أسطوانة وأمثالها ، بل لا بدّ وأن يكون بحيث يكونون مطّلعين ـ أي المأموم والإمام ـ في الجملة عن حال الآخر ، بأن يكون بينهم حائطا صفيقا أو أمرا محدثا كما هو المعمول.

ولقد أجادوا في ما استظهروا وأفادوا ، لأنّ ما ذكرنا في الاعتبار العرفي لا يستفاد منه اغتفار الحائل أزيد من ذلك ، كما أنّ المرسلة المشار إليها فيها لفظ «الحائط» وهو غير الجدران ، بل هو مثل الحفاظ الّتي يحدث في حوالي البساتين غالبا ، فالمسألة لا غبار عليها إن شاء الله تعالى ، ولا مجال لتزلزل [صاحب] «الجواهر» (١) قدس‌سره أيضا ، والله العالم.

اشتراط عدم البعد بين الإمام والمأموم

الثاني من الشرطين اللذين مرجعهما إلى اعتبار أمر عرفي في الجملة هو مسألة اعتبار عدم البعد بين الإمام والمأموم ، أصل الشرط لا إشكال فيه ، بل المسألة إجماعيّة في الجملة ، بل الكلام في تحديده فإنّها من هذه الجهة من المشكلات ، بمعنى أنّها نظير ما في مسألة المسافر الّذي يرجع ليومه إلى محلّه أنّه مع وجود الأخبار المعتبرة الواضحة الدلالة فيها الأصحاب اضطربوا في المسألة ، وأحالوا تحديد الموضوع إلى العرف ، فهكذا في المقام من أنّه مع وجود

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٤ ـ ١٦٥.

١٦٨

المدرك الصحيح ـ وهو رواية زرارة المتقدّمة (١) واضحة الدلالة ، حيث إنّه حدّد فيها البعد بما لا يتخطّى ـ الأصحاب كأنّهم أعرضوا عنها وأرجعوا الأمر إلى العرف ، مع أنّه لا وجه له ولا عذر لهم في ذلك.

وأعجب من ذلك تعبير بعضهم في المسألة بالاستبعاد ، مع أنّه لا محلّ له أصلا ؛ ضرورة أنّ المقام ليس إلّا كسائر التحديدات الشرعيّة حسبما تقدّم ، وليس أمرا حادثا غريبا مضافا إلى انسداد باب العلم إلى ملاكات الأحكام بالنسبة إلينا.

وبالجملة ؛ الظاهر أنّ نظرهم في ذلك ـ أي إرجاع التحديد إلى العرف وعدم التزامهم بما يظهر من الرواية ـ إلى تحكيم ما في ذيل الرواية على بعض النسخ على صدرها ؛ لمكان التعبير في الذيل بلفظ «ينبغي» الظاهر في الاستحباب ، فيستفاد منه أنّ ما في الصدر من أنّه لا يكون بين الإمام والمأموم مقدار ما لا يتخطّى ، المراد به كراهة البعد بهذا المقدار ، لا أن يكون حكما إلزاميّا.

ولعلّ استبعاد بعض الأعاظم أيضا يرجع إلى ذلك ، فاستبعد أن يكون الأمر بالعكس ، ويكون الصدر شاهدا على الذيل ، وإلّا فشأنهم من رجوع الاستبعاد إلى أصل تشريع الحكم ، كما لا يخفى.

وكيف كان ؛ ما ذكروا إنّما يتمّ بناء على أن تكون معارضة بين الصدر والذيل ، مع أنّه ليس كذلك أصلا.

وذلك ؛ لأنّه أمّا الصدر فهو راجع إلى بيان حكم كلّ من الإمام والمأمومين بأنفسهم ، من حيث ما يعتبر بينهم من المقارنة والاتّصال ، وليس متعرّضا لما بين الصفوف لأمرين :

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١١ الحديث ١١٠٤١.

١٦٩

أحدهما : أنّه قوله عليه‌السلام : «ما لا يتخطّى» من جهة كونه نكرة في سياق النفي يدلّ على عدم إمكان التخطّي كليّا ومن المعلوم أنّ ذلك يصير أزيد من مقدار ذراع الشاة حيث إنّ الخطى المعمولة تكون أزيد من ثلاثة أرباع الذراع ـ أي مع احتساب محلّ القدمين ـ فحينئذ ما لا يتخطّى أبدا لا بدّ وأن يكون أزيد من الذراع.

ثانيهما : أنّه لا إشكال في أنّ الحكم المزبور مرعيّ بالنسبة إلى جميع حالات المأمومين ، مع إمامهم الّتي منها حال سجودهم ، ولا يعقل التفكيك بينها ، ففي هذه الحالة أيضا البعد بين الإمام والمأموم وبين أنفسهم مغتفر ، بمعنى أنّه لو كان بين مسجدهم ومحلّ قدم الإمام أو المأمومين أزيد من الذراع ، ولا يمكن أن يتخطّى ، فالجماعة غير متحقّقة لوجود مانع البعد.

هذا بالنسبة إلى الصدر ، وأمّا الذيل فالظاهر منه أنّه روعي التحديد المزبور الّذي قليل جدّا بالنسبة إلى الأوّل ، حيث إنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : «يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان» (١) هو اتّصال مسجد المأموم بموقف الإمام وقدمه ، وهكذا المأمومون بالنسبة إلى أنفسهم ، وأين ذلك واغتفار المقدار من البعد؟ [فإنّ] المستفاد من الصدر إنّما يكون موضوع هذا التحديد بين الصفوف ، ولا ربط له بنفس الإمام والمأموم ، والمأمومين بينهم ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «وينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة» (٢) .. إلى آخره ، فعلى هذا ؛ يختلف الصدر والذيل موضوعا وحكما.

والأوّل ؛ لما تبيّن من الاختلاف الفاحش بين التحديدين ، وكون المحدود

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٨.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٨.

١٧٠

هو نفس الإمام والمأموم.

والثاني ؛ فلأنّ الصدر ظاهر في الوجوب ، بل التشديد في الحكم ، والذيل ظاهر في الاستحباب. كما استظهروا أيضا ، فارتفعت المعارضة من البين بعون الله تعالى ، بل يقرب التحديد المزبور المستفاد من الصدر إلى التحديد العرفي أيضا.

مع أنّه لا نستوحش من عدم اتحادهما واختلاف العرف والشرع في المسألة أصلا لو لم يرجع إليه ، لما أشرنا [إليه] من أنّ المسألة بخصوصيّاتها ـ وهي كيفيّة صدق الجماعة ـ نظر العرف أجنبيّ عنها ؛ لكونها مفهوما لها مصاديق مختلفة بحسب الأمكنة والدواعي الخارجيّة وغيرها ، فحينئذ طريق إحرازها وأنّها على أيّ نحو اعتبر يتوقّف على بيان الشرع لا غير.

فاتّضح ـ بعون الله تعالى ـ أنّ المسألة لا غبار عليها أصلا ، وأنّ ما أفاده في «الجواهر» (١) في المقام لا وجه له ، من أنّ الرواية على ما يظهر من صدرها معرض عنها ، وأنّه يلزم رفع اليد عنه بذيلها ، وأنّه وردت رواية اخرى منطبقة على مضمون الذيل ، شاهدة على ما استفاده من الرواية الاولى ، وأنّه يلزم في مثل الموارد الرجوع إلى العرف ، فإنّه أمّا مسألة الإعراض فهي دعوى عجيبة ، حيث إنّ التزامهم على خلاف ما يظهر من صدر الرواية ليس من جهة المناقشة في سندها ، بل من جهة التصرّف في دلالتها وجعل ذيلها الظاهر في الاستحباب مع اشتماله على لفظ «ما لا يتخطّى» أيضا ، كما في الصدر ، وأنّ ما يستفاد منه هو الاتّصال الحقيقي الّذي لا يمكن اعتبار القرب أزيد منه ، فلا محيص من حمله

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٧١.

١٧١

على الاستحباب ، فجعلوه قرينة على الصدر وأنّ المراد بما لا يتخطّى فيه أيضا ما هو المراد به في الذيل من الاتّصال الحقيقي ، فأنكروا لذلك استفادة الحكم الإلزامي والعزيمة من الرواية.

مع أنّك قد عرفت فساد هذا الاستظهار جدّا ، وأنّه لا ربط للصدر بالذيل ؛ لاختلاف موضوعهما.

وكيف كان ؛ لا إعراض في البين أصلا ؛ وأمّا وجود رواية شاهدة للاولى وهي صحيحة ابن سنان (١) فلا أصل لهذا الكلام أيضا ؛ إذ لا ربط لها بالمقام ، بل هي في مساق سائر الروايات الواردة بمضمونها في باب القبلة راجعة إليها ، والمراد بلفظه فيها الارتفاع الّذي قدّام المصلّي ، وأمّا مسألة الرجوع إلى العرف فقد عرفت فساده.

ثم إنّ هذا كلّه ؛ بالنسبة إلى البعد الّذي بين الإمام والمأمومين وبين أنفسهم في الصفوف اللاحقة ، فقد عرفت ظهور الرواية في حكمه ، وأمّا الكلام بالنسبة إلى أشخاص الصفّ الواحد الّذي حكمه المستفاد من الدلالة الالتزاميّة للرواية كما تقدّم ، ومعلوم أنّ البعد بالنسبة إليهم لا بدّ أن يلاحظ من طرف العرض.

فحينئذ ؛ هل يستخرج حكمهم من الرواية أيضا أم لا؟ الظاهر أنّه لا إشكال في هذه الجهة أيضا ، حيث إنّه لمّا كان يستفاد أصل حكمهم من لازم الرواية ، فهكذا يثبت لها ما يتفرّع عليه ، فما يثبت للصفّ المتقدّم والمتأخّر فكذلك بالنسبة إلى الصفّ الواحد فيعتبر البعد بينهم بمقدار ما لا يتخطّى بالنسبة إلى وسط أحوالهم وهو حال القيام أو القعود ، ولا يلزم الدقّة فيه أزيد من هذه

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٤٠.

١٧٢

الجهة بأن يلاحظ حال سجودهم أو غيره ، بل يتسامح فيه ، إذ ليس بناء الأحكام على الدقّة العقليّة مطلقا.

إحرام البعيد قبل القريب في الجماعة

بقي الكلام بالنسبة إلى إحرام البعيد قبل إحرام القريب الّذي به يتحقّق الاتّصال المعتبر ، فهل يعتبر تأخّره عنه ، أم لا ، بل يكفي نفس تهيّؤ القريب وإشرافه على الدخول في الجماعة؟

الأقوى الثاني ، نظرا إلى أنّه مضافا إلى عدم إمكان حصول الترتيب بين المقدّم والمؤخّر والقريب والبعيد عادة ، خصوصا في الجماعات العظيمة وما فيها الزحام ، فإنّ ذلك ـ أي اعتبار الترتيب في الإحرام ـ أمر عسر حرجيّ [على] أنّه قامت السيرة عليه ، حيث إنّه من عصر المعصوم عليه‌السلام إلى الآن كان البناء في الجماعات دخول اللاحق في الجماعة بتهيّؤ السابق ولم يثبت أنّهم كانوا ينتظرون حتّى يحرم القريب.

نعم ؛ يعتبر أن يكونوا مشرفين على الدخول والإحرام للصلاة ولا يكفي مطلقا انعقاد الصفوف ، ولو كانوا مشتغلين بالتكلّم ونحوه ، فتأمّل!

ثمّ إنّه نقل عن العلّامة البهبهاني قدس‌سره وبعض آخر أنّهم استشكلوا في جواز أن يكون الصفّ اللاحق أطول من السابق (١) ، بحيث يكون البعد الّذي بين ما زيد من المتأخّر وبين الصفّ المتقدّم زائدا على المقدار المغتفر من البعد ، وذلك للجمود على ظاهر الرواية المتقدّمة ، حيث نطقت بأنّه إذا كان البعد بين الإمام

__________________

(١) نقله صاحب جواهر الكلام : ١٣ / ١٧٩ ، مفتاح الكرامة : ٣ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

١٧٣

والمأمومين أو الصفوف مقدار ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بصلاة (١).

وأنت خبير بفساده ؛ لما تقدّم من المدلول الالتزامي للرواية ، وحاصله : أنّ البعد المزبور مانع إذا كان بين المأموم ومن يتّصل به بالإمام لا مطلقا ، والمفروض أنّ أشخاص الصفّ المتأخّر كلّهم متّصلون وليس بينهم الفصل المضرّ.

هذا ؛ مع أنّه ولو سلّمنا عدم الاكتفاء بالاتّصال من طرف العرض أنّه لا يصدق البعد المضرّ في المثال ، حيث إنّ الصفّ عبارة عن مجموع ما يكون بين مبدئه ومنتهاه ، فإذا لم يصدق البعد المضرّ بالنسبة إلى قطعة منه ، والصفّ السابق لا يصدق بالنسبة إلى مجموعه ، فلا يحسب القطعة الزائدة من اللاحق على السابق صفّا مستقلّا ، بل هي بعضه ، كما لا يخفى.

والقسم الثاني من شرائط الجماعة أيضا أمران :

الأوّل : أنّه يعتبر عدم علوّ مكان الإمام ومحلّ صلاته على محلّ المأموم ، والدليل عليه موثّقة عمّار (٢) الّتي لا مجال للمناقشة في سندها أصلا وإن كانت من حيث المتن والدلالة مضطربة جدّا.

ولا يخفى أنّه من سوء تعبيرات عمّار كما يكون كذلك أكثر رواياته ، مع ما فيها في المقام من اختلاف النسخ في فقرة منها وهي قوله عليه‌السلام : «وإن كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ ، إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» (٣) .. إلى آخره ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١٠ الحديث ١١٠٣٩ وفيه : تلك بدلا من : ذلك.

(٢) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١١ الحديث ١١٠٤٢.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٤١١ الحديث ١١٠٤٢.

١٧٤

فإنّها رويت على وجوه أربعة ، كما نقلها في «الجواهر» (١).

وكيف كان ؛ فالّذي ينبغي أن يقال : إنّه لا يجوز العلوّ أزيد من مقدار الشبر ، وأنّه لو كان مكان الإمام مرتفعا أزيد تبطل الصلاة ، وذلك ؛ لأنّ القدر المتيقّن من الرواية والمجموع المتحصّل من تمام النسخ المنقولة اعتبار عدم العلوّ بالمقدار المزبور ، وأنّ الزائد على الشبر مانع ، وأمّا بالنسبة إلى الشبر وأقلّ منه فمن الرواية لا يستفاد شي‌ء ؛ لإجمال الفقرة المذكورة من جهة الاختلاف المزبور ، مع أنّ بعضها لا يستقيم أصلا ، كما أنّه بالنسبة إلى الجملة المتقدّمة على محلّ الخلاف بناء على أن يكون بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ ، فإنّ مثل هذا التعبير بعيد عن ساحة المعصوم عليه‌السلام ، خصوصا من جهة التعبير بالإصبع حيث إنّ الأقلّ من عرض إصبع لا يناسب المقام ، وإن كان توهّم بعض [أنّ] المراد به طول الإصبع (٢) ، وهو كما ترى.

مضافا إلى أنّه لفظة «إن» ليست معلومة أنّها وصليّة أو شرطيّة ، مع أنّه على الشرطيّة ـ كما هو الأظهر ـ لا جواب لها ، فحينئذ مقتضى الصناعة أن يقال : لا بأس بالارتفاع الأقلّ من الشبر نظرا إلى إطلاق أدلّة الجماعة ، لو كان إطلاق يتمسّك به بالنسبة [إلى] الشكّ في الشروط الغير العرفيّة ، وإلّا فمقتضى قاعدة الاشتغال الّتي أشرنا إليها غير مرّة ، الاحتياط.

وأمّا الزائد على الشبر فلمّا كان القدر المتيقّن الّذي يستفاد من الرواية هو الشبر ، بل الأقلّ فهو مضرّ يبطل الجماعة ، حيث إنّ مقتضى صدر الرواية أنّه لا

__________________

(١) جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٧.

(٢) التنقيح الرائع : ١ / ٢٧١ ، جواهر الكلام : ١٣ / ١٦٩.

١٧٥

يجوز أن يكون موضع الإمام أرفع من المأموم مطلقا إلّا بالمقدار الّذي استثني ، وقد عرفت أنّ القدر المتيقّن هو ما دون الشبر ، فحينئذ بالنسبة إلى الشبر وما زاد عليه لا ينبغي التأمّل في عدم جوازه حسبما هو المستفاد من مجموع الرواية والأصل أيضا.

هذا كلّه ؛ في العلوّ الدفعي والتسريحي بل التسنيمي الّذي هو كصفحة الجبل الملحق به ، وأمّا في الانحداري فلا بأس به ، كما هو صريح الرواية.

هذا ؛ ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما البحث في عكس المسألة ، وهو ما لو كان مكان المأموم أرفع من الإمام ، فهو في الجملة أيضا ممّا لا ريب في اغتفاره ، بل ولو كان كثيرا كما هو أيضا صريح الرواية ، ولكنّ الإشكال في حدّ الكثرة المغتفرة ، فإنها ربّما تبلغ إلى حدّ يضرّ الوحدة العرفيّة المعتبرة في صدق الجماعة ، فهل يلتزم باغتفارها عملا بإطلاق الدليل أو لا؟ مجال التأمّل ـ بل ولو لم تبلغ إلى الحدّ المزبور ـ واسع ، والاحتياط في المقام لا ينبغي تركه ، والله العالم (١).

متابعة المأموم الإمام في الجماعة

الأمر الثاني : الّذي يمكن عدّه شرطا عرفيّا أيضا هو وجوب المتابعة ، فاعتبار متابعة المأموم للإمام في الجملة ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الإشكال في أصل كيفيّتها وبعض صغريات المسألة ، فينبغي أوّلا البحث في مدرك المسألة ودلالتها حتّى يتّضح الأمر.

__________________

(١) ولمّا وصل التحرير إلى هنا توفّيت والدتي رحمها الله وكان ذلك في عشر من ذي القعدة ٤٧ [ه ق] ، «منه رحمه‌الله».

١٧٦

فنقول ـ ومن الله التوفيق ـ : إنّ الأصل في ذلك النبويّ المتلقّى بالقبول عند الأصحاب وعلمائنا ـ قدّس الله أسرارهم ـ على اختلاف ما فيه من النسخ ، حيث إنّه روي كذلك على رواية أنّه «إنما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به» (١) وفي اخرى اضيف إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا» (٢) وفي ثالثة اضيف إليها أيضا : «وإذا كبّر فكبّروا» (٣).

فالبحث يقع أوّلا في معنى المتابعة وأنّها كيف تتحقّق ، هل يعتبر تقدّم الإمام زمانا في كلّ ما يصدر عنه على المأموم ، أم يكفي عدم تأخّره عنه؟ بحيث يكتفى بمقارنة كلّ ما يصدر عنهما زمانا.

وثانيا : في أنّه على أحد المعنيين هل يعمّ اعتبار ذلك بالنسبة إلى الأفعال والأقوال مطلقا ، أو يختصّ بالاولى ، أو يعمّ الثانية أيضا في الجملة كما بالنسبة إلى الأقوال المسموعة؟

ونقول : أمّا الكلام بالنسبة إلى صدر الحديث ـ وهو مسألة الائتمام والاقتداء مطلقا مع قطع النظر عمّا في ذيله من المثال ـ أنّه تارة ؛ يقع في الأفعال الصادرة عن الإمام بلا أن يكون شركة بينه وبين المأموم. واخرى ؛ في الأفعال المشتركة بينهما ، أمّا بالنسبة إلى الاولى فلا خفاء في أنّه لمّا كان إيجاد الفعل بيد الإمام فلا بدّ وأن يتبعه المأموم في أصل إيجاد الفعل ولا تصل النوبة إلى البحث في كيفيّة الصدور وأن يقال : إنّه من جهتها يتبعه ، إذ المفروض أنّه لا موضوع في

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٢ / ٢٢٥ الحديث ٤٢.

(٢) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٦ الحديث ٨٤٦ ، بحار الأنوار : ٨٠ / ٣٠١ الحديث ٢.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ١٨ باب ائتمام المأموم بالإمام.

١٧٧

البين حتّى تعرضه الأحوال المختلفة ، فلا محيص حينئذ من اتّباعه في أصل الوجود ، ولازم ذلك أن يتأخّر عنه في الإيجاد.

وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني ؛ فلا يعتبر ذلك حيث إنّ المفروض اشتراك الإمام والمأموم في أصل الإيجاد ، فتنحصر حينئذ المتابعة في الكيفيّة فقط ، ومن المعلوم أنّه يكفي في ذلك عدم تقدّم المأموم في الإيجاد ، بل إذا أوجده مقارنا يصدق ذلك أيضا.

هذا ؛ هو مقتضى الصدر ، ولكن قد يقال : إنّ التفصيل وإن كان في حدّ نفسه تامّا إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عنه لما ذكر في ذيل الحديث ؛ لمكان أنّ الأمثلة المذكورة لمّا كانت ذكرت على نحو القضيّة الشرطيّة المؤدّاة بصيغة الماضي الدالّة على النسبة التحقيقيّة ، فيلزم تقدّم أفعال الإمام على المأموم مطلقا ، إذ النسبة التحقيقيّة الّتي هي مدلول الشرط ؛ صدقها يتوقّف على ذلك ، أي تقدّم الشرط على الجزاء زمانا.

هذا ؛ ولكن أصل التفصيل وهكذا الإشكال عليه فاسد ، أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم صدق التبعيّة في الوجود إلّا مع التأخّر الزماني بين التابع والمتبوع إنّما يتمّ لو انحصر المترتّب به ، مع أنّا نرى خلافه بالوجدان في التكوينيّات ، حيث إنّه لا إشكال في الترتّب بين العلل ومعلولاتها الخارجيّة وصدق تبعيّة كلّ موجود بالنسبة إلى معدّاتها ، بل هي أظهر التبعيّة ، مع أنّه لا تخلّل بينها زمانا أصلا ، بل في الخارج يتحقّقان في عرض واحد ، وإنّما الترتّب بينهما والتبعيّة رتبيّة ، فهكذا نقول بالنسبة إلى تلك القضيّة الشرعيّة ، وأنّه لا يتوقّف صدق الائتمام وتبعيّة المأموم على صدور الفعل عن الإمام سابقا في الخارج ، بل يكفي فيما إذا كان

١٧٨

مستند إيجاد المأموم إيجاد الإمام ذاك الفعل ؛ إذ ليس ذلك أزيد من العلل والمعلولات في التكوينيّات ، فيصدق التبعيّة (الائتمام) والاقتداء ، ولو كان الإيجادان مقترنين زمانا ، وتكون العليّة والمعلوليّة محفوظة ، بأن يكون استناد فعل المأموم فعل الإمام ، كما إذا علم وأحرز أنّه سيوجد الإمام الفعل الفلاني فشرع المأموم بإيجاده أيضا مقارنا له.

فعلى هذا ؛ لا فرق بين القسمين ، ولا دلالة لصدر الرواية إلّا على لزوم حفظ الائتمام وأنّه لا يجوز أن يسبق المأموم الإمام ويتقدّم عليه مطلقا.

وأمّا الثاني ؛ وهو مسألة استفادة لزوم حفظ الرتبة الزمانيّة بين فعلها عن ذيل الرواية فمنشؤه توهّم دلالة القضيّة الشرطيّة على الزمان ، وأنّه لمّا كان الشرط فعلا ماضيا فلا بدّ من تحقّقه قبل تحقّق الجزاء ، ولكنّا قد حرّرنا فساد ذلك في بحث الاصول ، وأنّه لا دلالة للفعل على الزمان أصلا.

نعم ؛ الزمان من اللوازم العقليّة للأفعال ، مثلا : الفعل الماضي لمّا كان دالّا على النسبة التحقيقيّة فلازمه وقوعه في الماضي ، وهذا ليس إلّا في القضايا الخبريّة.

وبالجملة ؛ القضايا الشرطيّة مسوقة لبيان الارتباط بين الشرط والجزاء فقط ، وليست إناطة من حيث الزمان في البين ، فحينئذ يجري هنا مثل ما تقدّم من أنّه لا يعتبر في الشرط والجزاء أيضا إلّا حفظ الرتبة بينهما ، بأن يكون مستند وجود الجزاء وجود الشرط.

ومن المعلوم ؛ أنّ ذلك يصدق ولو اقترنا زمانا ، ولكن كانت جهة العليّة والمعلوليّة محفوظة ، وهذا سرّ ما بنينا في باب الشروط مطلقا ، بل هو المتسالم

١٧٩

عند الأصحاب أيضا من أنّه لا يعتبر تحقّق الشرط قبل المشروط زمانا ، بل يمكن إيجادهما مقارنا كما في مسألة شرطيّة الوقت للصلاة حيث إنّه يجوز الدخول فيها ، ولو في الآن الأوّل الحقيقي للوقت ؛ مثل زوال الظهر.

وعلى هذا ؛ تتطابق القضيّة الشرطيّة الّتي في ذيل الرواية مع ما في صدرها ، وأنّه لا يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإذا ركع فاركعوا» (١) .. إلى آخره ، إلّا أن يكون مستند ركوع المأموم ركوع الإمام وتبعيّته فلا يجوز تقديمه عليه ، وأمّا أنّه يعتبر تأخّره عنه فلا دليل عليه ، فصدر الرواية وذيلها متوافقان ، كما أنّه لا دليل عقلا أيضا على اعتبار التأخّر.

وأمّا ما يستدلّ له بما دلّ على اعتبار التأخّر بالنسبة إلى تكبيرة الاحرام ففيه ـ مع ما في دلالته بالنسبة إلى نفس تكبيرة الإحرام كما ستعرف ـ : أنّه لا مجال لمقايسة الأفعال بها ، حيث إنّه لو سلّمنا فيها فإنّما هو لعدم انعقاد الجماعة بعد ، فما لم يحرز تلبّس الإمام بالصلاة خارجا ولم يدخل فيها لم يصدق الاقتداء.

ولا فرق من هذه الجهة بين أن يكون الدليل على التكبيرة ذيل هذه الرواية العامّية ، كما أشرنا إليها (٢) ، وأنّه مشتمل عليها على بعض النسخ ، أو الدليل الآخر.

ودعوى أنّه بناء على الأوّل واستفادة اعتبار التأخّر من ذيل الرواية ـ لا محيص من الالتزام به بالنسبة إلى الأفعال أيضا ، لأنّ مساق الرواية واحد ـ

__________________

(١) بحار الأنوار : ٨٠ / ٣٠١ الحديث ٢ ، جواهر الكلام : ١٣ / ٢٠١ ، رياض المسائل : ٣ / ٣٧.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ١٨ ، راجع! الصفحة : ١٧٧ من هذا الكتاب.

١٨٠