فإنّ قصارى ذلك أن يكون من قبيل تأخير البيان لا من قبيل النسخ ، وليس هو من التأخير عن وقت الحاجة ، بل أقصاه أنّه تأخير البيان عن وقت الخطاب فقط ، فإنّ وقت الحاجة إنّما هو عند انتهاء أمد الحكم ، وكأنّ منشأ دعوى كون النسخ من قبيل الدفع هو النظر إلى هذه الصورة ، فإنّها هي التي تكون من قبيل الدفع لا الرفع ، وهي التي تكون من التخصيص الأزماني ، وقد عرفت أنّها في الحقيقة من قبيل تأخير البيان ، وإنّما حقيقة النسخ هو أن يكون الحكم المجعول غير محدود بحدّ لا في مقام الثبوت ولا في مقام الاثبات ، ومقتضى كون الحكم غير محدود حتّى في مرحلة الثبوت هو بقاؤه واستمراره ، وأنّه لا يرتفع إلاّ برافع يرفعه ، وليس ذلك إلاّ نسخه.
والظاهر من أدلّة النسخ هو الثاني كما في قوله تعالى ( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ )(١) ومثل قوله تعالى ( عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ )(٢) وقوله تعالى :
( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ )(٣) وغير ذلك ممّا ظاهره الرفع لا الدفع.
وبالجملة : أنّ الحكم كسائر الأمور الانشائية التي يكون جعلها وإنشاؤها مقتضيا لبقائها واستمرارها ما لم يطرأ رافع يرفعها كالزوجية التي لا ترتفع إلاّ بالطلاق الذي هو رافعها ، ومجرّد علم الحاكم بأنّه يرفع ذلك الحكم بعد مضي المدّة الفلانية لأجل علمه بانتهاء أمد مصلحته لا يوجب كون ذلك الحكم في مرحلة الجعل محدودا بذلك الحدّ كي يخرج النسخ بذلك عن كونه رافعا للحكم ويكون من قبيل الدفع ، من دون فرق في ذلك بين تأخير النسخ إلى انتهاء أمد
__________________
(١) الأنفال ٨ : ٦٦.
(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.
(٣) المجادلة ٥٨ : ١٣.