فمقتضى اطلاقها جواز إجراء البراءة ولو قبل الفحص ، فلابدّ في رفع اليد عن هذا الاطلاق وتقييده بما بعد الفحص من دليل مقيّد ، ولذلك ذكر الأصحاب وجوهاً أربعة للتقييد :
١ ـ الإجماع ، لإتّفاق جميع العلماء من الشيعة والسنّة على عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص عن مظان البيان ، بل عليه ضرورة الفقه.
فانّك لا تجد فقيهاً إذا سئل عن مسألة شرعيّة يفتي بالبراءة من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة.
وأورد على هذا الوجه بأنّ الإجماع هذا لا أقلّ من كونه محتمل المدرك ، فلعلّ منشأه الوجوه الثلاثة الاخر ، ولكن قد عرفت أنّ المسألة بلغت فوق حدّ الإجماع ، وهو الضرورة ، ومن المعلوم أنّه إذا صار الحكم ضرورياً فالواجب الأخذ به من أي طريق كان.
٢ ـ حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة لما تقدّم من أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.
ويرد عليه : أنّ هذا أخصّ من المدّعى ، فإنّ المدّعى عدم جواز التمسّك بأصل البراءة حتّى بعد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال في الشبهات البدويّة والمسائل المستحدثة.
٣ ـ الآيات والروايات الدالّة على وجوب تحصيل العلم الذي لازمه وجوب الفحص.
أمّا الآيات فنظير آية السؤال أو النفر حيث تتضمّنان معنى الفحص.
وأمّا الروايات فهى على طائفتين :
الطائفة الاولى : ما تدلّ على وجوب تحصيل العلم وبالتالي على وجوب الفحص بشكل كلّي.
منها : ما رواه مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمّد عليهالسلام وقد سئل عن قوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) فقال : إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالماً؟ فإن قال نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال : كنت جاهلاً ، قال : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ، فيخصمه فتلك الحجّة البالغة » (١).
ومنها : جلّ الأحاديث الواردة في كتاب فضل العلم من اصول الكافي ( في الباب الأوّل ) كالحديث المعروف من أنّ « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم » الذي يدلّ على وجوب التعلّم
__________________
(١) تفسير البرهان : ج ١ ، ص ٥٦٠.