قرب حسّيا ، تعالى الله عن الجهة ، فقرب الله تعالى من عبده هو الإفضال عليه والفيض. ولهذا روي أنّ موسى صلىاللهعليهوسلم قال : إلهي! أقريب فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى الله تعالى إليه : لو قدّرت لك البعد لما انتهيت إليه ، ولو قدّرت لك القرب لما اقتدرت عليه.
وقرب العبد من الله تعالى عبارة عن امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ومنه الحديث الذي يروى فيه عن ربّه عزوجل : «ولن يتقرب إليّ عبد بمثل أداء ما افترضت ، وإنّه ليتقرّب إليّ بعد ذلك بالنّوافل حتى أحبّه» (١) الحديث. وقال بعضهم : قرب العبد من الله في الحقيقة التخصص بكثير من الصفات التي يصحّ أن يوصف الله بها وإن لم يكن من وصف الإنسان بها على الحدّ الذي يوصف به تعالى ، نحو الحكمة والعلم والرحمة ، وذلك يكون بإزالة الأوساخ من الجهل والطّيش والحميّة والغضب والحاجات البدنية بقدر طاقة البشر ، وهذا قرب روحانيّ لا بدنيّ ، وعليه نبّه الله تعالى بقوله فيما حكى عنه أمين وحيه صلىاللهعليهوسلم : «من تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا» (٢) إلى آخره ، وقوله «ما تقرّب إليّ عبد» (٣) الحديث.
والقرب والبعد يتقابلان ؛ يقال : قربت منه أقرب قربا ، وقرّبته أقرّبه قربانا وقربا. ويستعمل ذلك في الزمان نحو قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)(٤) ، وفي المكان نحو قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)(٥) ، والنسبة نحو قوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)(٦) ، والحظوة والمنزلة نحو قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٧)(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٨)(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(٩) ، والرعاية كقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
__________________
(١) ابن حنبل : ٦ ، ٢٥٦ ، وفيه : «وما يزال العبد يتقرّب ...» وفي المفردات : «ما يقرب» ص ٣٦٩.
(٢) النهاية : ٤ / ٣٢ ، وفيه : «إليه ذراعا». وانظر الروايتين في صحيح البخاري ، التوحيد : ١٥ ، والترمذي ، دعوات : ١٣١.
(٣) رواية أخرى للحديث.
(٤) ١ / القمر : ٥٤.
(٥) ٣٥ / البقرة : ٢.
(٦) ١٨ / فاطر : ٣٥.
(٧) ٢٨ / المطففين : ٨٣.
(٨) ٨٨ / الواقعة : ٥٦.
(٩) ١١ / الواقعة : ٥٦.