يقوله فقال إنه يستطيع أن يخبرهما عن أمر غيبيّ كما هو شأن الأنبياء والرّسل في دعواتهم للناس من أجل اتّباع الحق وترك الكفر ، ولذا أعرض عن التعبير فترد استثمرها في دعوتهما إلى التوحيد ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة فقال لهما :
٣٧ ـ (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) ... أي قال لرفيقي السجن : لا يجيئكما طعام يقرّر لكما إلّا أخبرتكما عن نوعه ولونه وكم هو وكيف هو فذكر لهما معجزة ليست بالأمر العاديّ تجري مجرى معجزة عيسى عليهالسلام حين قال : وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون ـ أي تخبّئون ـ في بيوتكم ـ كل ذلك من أجل تهيئة ذهنيهما لتقبّل دعوته إلى الله عزوجل. فقد أكّد لهما أنه يخبرهما عن صفات كل طعام يأتيهما بقوله : أفعل ذلك (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قبل رؤيته ووصوله إليكما. ثم فاجأهما قائلا : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي أن هذه الموهبة على الإخبار بالغيب هي من الإلهام والوحي الذي منحني إيّاه خالقي العظيم ، وليس هو من طرق الكهانة والتّنجيم ، ولذلك (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي تخلّيت عن مذهب الكافرين الذين لا يصدّقون بوجود الله (وَ) الذين (هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي عبدة الأصنام والأوثان. وقد كرّر الضمير : هم ، للدلالة على اختصاصهم ولتأكيد كفرهم بالآخرة. فقد عرّفهما أولا أنه عليهالسلام ليس على دين الكفرة فقد كانا لا يعلمان ذلك عنه إذ لم يعلنه ولم يظهر إيمانه خوفا من المساجين وتقية من الكافرين وهو بين ظهرانيهم يعتبرونه مملوكا لهم قد شروه بالدراهم كما يتوهمون في ظاهر الحال مع أنه من أهل بيت النبوّة والوحي وحاشاه أن يكون عبدا مملوكا. ولعل قوله هذا كان أول تصريح منه بظهور نبوّته وبدء لمعان نجمه ، عرّفهم فيه بنفسه إذ متى عرفوه عظّموه ووقّروه وسمعوا كلامه وقبلوا بيانه وآمنوا بدعوته. ثم عقّب بقوله :
٣٨ ـ (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ... أي : لحقت وسرت مسار آبائي الذين هم أنبياء الله ورسله للناس ، وأنا على نهجهم