ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم ، أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم.
وأوثرت كلمة (الْبَيِّنَةُ) لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادّتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه : ١٣٣] وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦] وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩] وقال عن القرآن : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥].
و (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيانية بيان للذين كفروا.
وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثّوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم بما هو أتقن من ترّهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع ، فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردّون به تلك الدعوة وخاصة بعد ما هاجر النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة.
فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب ، وأما المشركون فتبع لهم.
واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ، فيكون الوقف هناك ويكون قوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء ، أي هي رسول من الله ، يعني لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة ، وهي جملة معترضة بين جملة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... (مُنْفَكِّينَ) إلى آخرها وبين جملة : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البينة : ٤].
ويجوز أن يكون (رَسُولٌ) بدلا من (الْبَيِّنَةُ) فيقتضي أن يكون من تمام لفظ «بينة» فيكون من حكاية ما زعموه. أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلّت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].
وتنكير (رَسُولٌ) للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى : (أَيَّاماً