التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار ، وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظّلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين ، أي إلهين : إله النور وهو صانع الخير ، وإله الظلمة وهو صانع الشر. ويقال لهم : الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين اثنين ، وهم فرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذينك الأصلين ، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المانوية نسبة إلى رجل يقال له : (ماني) فارسي قبل الإسلام ، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له : (مزدك) فارسي قبل الإسلام. وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض في قوله :
وكم لظلام الليل عندك من يد |
|
تخبّر أن المانويّة تكذب |
المعنى الثاني : من معنيي وجه الشبه باللباس : أنه المشابهة في الرفق باللّابس والملاءمة لراحته ، فلما كان الليل راحة للإنسان وكان محيطا بجميع حواسه وأعصابه شبه باللباس في ذلك. ونسب مجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير والسّدي وقتادة إذ فسروا (سُباتاً) [النبأ : ٩] سكنا.
المعنى الثالث : أن وجه شبه باللباس هو الوقاية ، فاللّيل يقي الإنسان من الأخطار والاعتداء عليه ، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحا ولذلك إذا غير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله : يا صباحاه. ويقال : صبّحهم العدوّ. وكانوا إذا أقاموا حرسا على الرّبا ناظورة على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهارا فإذا أظلم الليل نزل الحرس ، كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكر فرسه :
حتّى إذا ألقت يدا في كافر |
|
وأجنّ عورات الثّغور ظلامها |
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة |
|
جرداء يحصر دونها جرّامها |
(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١))
لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بذكر خلق نظام النهار ، فالنهار : الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية. وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابه فوق الأرض ، وهما نعمتان للبشر مختلفان في الأسباب والآثار ؛ فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء ، ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي ، لأن النهار يعقب الليل فيكون الإنسان قد استجدّ راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق.