فرج أو دم خصومة دنيويّة مبنيّة على اختلاف اجتهادهما ، وما ذكره علماء العامّة من أنّهما يرجعان حينئذ إلى قاض منصوب من السلطان فيجب عليهما الأخذ بما يحكم به القاضي ممّا لا يرضى به الذهن السليم فكيف يرضى به الشارع الحكيم؟ ومن إفضائه إلى تجهيل المفتي نفسه أو إبطال القاضي حكمه إذا ظهر له ظنّ أو قطع مخالف لظنّه السابق (١).
وفيه : منع الملازمة ، كيف ولم يعهد من لدن حدوث بناء الاجتهاد بين أصحابنا المجتهدين إلى الآن فتنة أو حرب أو سفك دم وقع بين المسلمين مستندا إلى اجتهاد المجتهدين ليس إلاّ ، بل وهذه الامور حيثما وقعت على غير حقّ فإنّما تقع من اتّباع الشيطان والنفس الأمّارة الداعية للإنسان إلى طلب الجاه والرئاسة والمال والثروة ، أو من متابعة أهل البدع والضلال المفسدين في أرض الله المعاندين له ولرسوله المبغضين لخلفاء الله وحججه ، وإلاّ فما كان من هذه الامور منشاؤه الخصومة الشرعيّة المسموعة في نظر أهل الشرع في مال أو فرج أو نفس أو نحو ذلك لشبهة موضوعيّة أو حكميّة وبني على الأخذ بقواعد الاجتهاد ومراجعة المجتهدين الّذين هم حكّام الشرع بالحقّ لم يكن يقع شيء منها على وجه الأرض أصلا ، لاستحكام تلك القواعد وغاية انتظام هذه الضوابط ، فإنّ حكم الحاكم الشرعي المستند إلى اجتهاده الصحيح المستفاد من الشارع هو الحجّة القاطعة الّتي إذا وقعت نافذة لا تستتبع فتنة ولا حربا ولا سفك دم ولا غير ذلك من المفاسد.
ومن هنا اندفع الشبهة في مسألة الخصومة بين مجتهدين مختلفين في الرأي أو مقلّدي هذين المجتهدين ، فإنّ الخصومة بينهما ترتفع بمراجعة ثالث موافق لأحدهما في الرأي أو مخالف لهما والأخذ بحكمه على سبيل اللزوم تعبّدا من الله سبحانه ، وهذا أيضا ممّا لا محذور فيه أصلا.
وأمّا تجهيل النفس وإبطال الحكم بعد انكشاف مخالفة الواقع جزما أو ظنّا على التفصيل الآتي في محلّه فممّا لا يتضمّن محذورا أيضا ، بل هو غير عزيز في الشرع ولو مع البناء على الأدلّة القطعيّة أو الأخبار فقط ، ولو كان محذورا في نظر العقل أو الشرع فهو مشترك اللزوم وطريق الدفع واحد.
__________________
(١) الفوائد المدنيّة : ١٩١.