منضبط ولا يقع فيه التعارض ، لاستحالة الظنّ بكلا طرفي النقيض كاستحالة العلم بهما أو العلم بأحدهما والظنّ بالآخر ، وعدم الانضباط في المدارك لا يقضي بخروجه عن الانضباط ، كما أنّ وقوع التعارض فيها لا يقدح في انضباطه. غاية الأمر أنّه إمّا يحصل بإعمال طرق الجمع مع إمكانه ، أو بمراجعة المرجّحات مع وجودها فيترتّب عليه الحكم ، أو لا يحصل بتعادل المتعارضين مع عدم إمكان الجمع ، أو معه حيث لا شاهد له من العرف والعادة بحيث أوجب الظنّ بالمؤدّى ، فيتعيّن حينئذ مراجعة الاصول العامّة العمليّة ، وهذا أيضا أمر منضبط.
وبالجملة فهذا المسلك على كلا تقديري حصول الظنّ وعدمه في غاية الانضباط ، واتّفاق الرجوع عن الفتوى السابقة أحيانا غير مناف لكونه منضبطا.
ومنها : أنّ المسلك الّذي يختلف فيه الأذهان بل الأحوال الطارئة لذهن واحد ، غير صالح لأن يكون مناط أحكام مشتركة بين الامّة إلى يوم القيامة (١).
وفيه : أنّ حصول الاختلاف في الأحكام الفعليّة المجعولة للعاجز عن الوصول إلى الأحكام الواقعيّة لا ينافي وقوع اشتراك جميع الامّة إلى يوم القيامة في الأحكام الواقعيّة ، والمنوط بمسلك الظنّ إنّما هو الأحكام الفعليّة لا الأحكام الواقعيّة المشتركة بين الجميع ، فلا مانع من صلاحية الظنّ لأن يجعل مناط تلك الأحكام.
ومنها : أنّ الشريعة السهلة السمحة كيف تكون مبنيّة على استنباطات صعبة مضطربة (٢).
وفيه : أنّه إذا لم يجز ابتناء الشريعة السهلة السمحة على استنباطات صعبة مضطربة متمكّن منها ، فكيف يجوز ابتناؤها على استنباطات علميّة متعذّرة لانسداد باب العلم فيها غالبا على الفرض ، وعدم جواز الأمرين معا يقضي بانسداد باب الاستنباط بالمرّة وهو كما ترى.
ومنها : أنّ في ابتناء أحكامه تعالى على الاستنباطات الظنّية مفاسد أكثر من أن تحصى : من إفضائه إلى وقوع الفتن والحروب وسفك الدماء بين المسلمين ، ومن هنا ذكر علماء العامّة وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في مقام الاعتذار عن الحروب الواقعة بين الصحابة العدول الأخيار أنّ السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام الله تعالى (٣) ، ومن عدم جواز أخذ أحد المتخاصمين ما يستحقّه من الآخر قهرا فيما لو وقع بينهما في مال أو
__________________
(١ و ٢) الفوائد المدنيّة : ١٩٠.
(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٣٤.