فإن قلت : إنّ التقصير في امتثال التكليف إنّما يستتبع الإثم إذا كان المكلّف المقصّر متفطّنا بتقصيره دون غيره لقبح تكليف الغافل ، فإنّه قد يقصّر في مقدّمات النظر واقعا ولا يتفطّن بتقصيره.
قلت : إنّ الغفلة عن التقصير ممّا لم نتحقّق معناه ، فإنّ مفروض المسألة أنّ الله تعالى كلّف بالعلم وتمكّن المكلّف من تحصيله بالتمكّن من الاطّلاع على الأدلّة الموجودة الموصولة إليه ، ولم يؤدّ من استقصاء النظر في طلبه واستفراغ الوسع للاطّلاع على الأدلّة الموصلة إليه اختيارا ـ مع إمكانه واحتمال وجودها ـ حقّه ، وهو الّذي يعبّر عنه بالتقصير ويلزم منه أنّه ترك الامتثال اختيارا ولو باعتبار كونه متولّدا من الترك الاختياري على حدّ الأفعال التوليديّة ، فيكون آثما ويعاقب عليه.
وبالجملة استفراغ الوسع في طلب العلم بالمعارف الحقّة لا يتأدّى حقّه إلاّ بالرجوع إلى أدلّة ما احتمل كونه حقّا من الأديان الّتي منها دين الإسلام ، فمن ترجّح في نظره بعد الاجتهاد دين اليهود والنصارى أو غيرهما بعد ما احتمل حقّيّة دين الإسلام فرّط في نظره وقصّر في اجتهاده لا محالة ، حيث لم يرجع إلى المسلمين ولم يستوف النظر في أدلّتهم ولم يسأل علماءهم ليرفعوا شبهاته أو لم يعمّق التأمّل في أدلّتهم أو لم يخل نفسه عن الأضداد والأنداد ، نظرا إلى أنّ خلوّ الذهن عن الضدّ المنافر قبل النظر في الدليل شرط في حصول العلم أو معين فيه على رأي ، بخلاف الضدّ الغير المنافر كظنّ المطلوب قبل النظر فإنّه معين في حصول العلم به بالاستدلال ، وإلاّ لوجب وصوله إلى الواقع وحصول العلم له بالحقّ وهو دين الإسلام كما كان يتّفق كثيرا في المائلين من الملل الباطلة إليه من زمن الأئمّة عليهمالسلام إلى زماننا هذا.
ومن ذلك ما رواه الكليني في اصول الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله عليهالسلام أشياء فخرج إلى المدينة يناظره ، فلم يصادفه بها ، وقيل له : إنّه خارج بمكّة فخرج إلى مكّة ، ونحن مع أبي عبد الله عليهالسلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله عليهالسلام في الطواف ، فكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله ، فضرب كتفه كتف أبي عبد الله عليهالسلام فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ما اسمك؟ فقال : اسمي عبد الملك ، قال : وما كنيتك؟ قال : كنيتي أبو عبد الله ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : فمن هذا الملك الّذي أنت عبده أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت