موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

أما بعد ، فإني أبرأ إليكم ـ وإلى أهل الذمة (١) ـ من معرّة الجيش إلّا من جوعة إلى شبعة ، ومن فقر إلى غنى ، أو من عمى إلى هدى ، فإنّ ذلك عليهم.

فاعزلوا الناس عن الظلم والعدوان ، وخذوا على أيدي سفهائكم ، واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنّا فيردّ علينا وعليكم دعاءنا ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) وإن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض.

فلا تألوا أنفسكم خيرا ، ولا الجند حسن سيرة ، ولا الرعيّة معونة ، ولا دين الله قوة ، وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم ، فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم ما علينا أن نشكره بجهدنا ، وأن ننصره ما بلغت قوّتنا. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله». وكتب أبو ثروان (٢).

وإلى الجنود :

وكتب إلى جنوده بعد البسملة : «من عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، أما بعد ، فإنّ الله جعلكم جميعا في الحقّ سواء أسودكم وأحمركم ، وجعلكم من الوالي وجعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد والولد من الوالد ، ما سمعتم وأطعتم وقضيتم الذي عليكم.

وإن حقكم عليه إنصافكم ، والتعديل بينكم ، والكفّ عن فيئكم.

__________________

(١) ذلك أن أكثر من يمرّون بهم هم من أهل الذمّة نصارى أو مجوس أو يهود ، وسيأتي خبر عنهم.

(٢) وقعة صفين : ١٢٥ ولم يعرف أبو ثروان. والآية هي الأخيرة في سورة الفرقان.

٨١

فإذا فعل ذلك معكم وجبت طاعته عليكم بما يوافق الحق ، ونصرته على سيرته ، والدفع عن سلطان الله ... فكونوا له أعوانا ولدينه أنصارا (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)» (١).

مقدمة الجيش :

وفي النخيلة دعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ الحارثيّين الهمدانيّين ، وهما كانا على مذحج والأشعريين ، فبعثهم في اثني عشر ألفا منهم مقدمة لجيشه ، كلّ منهما على طائفة منهم ، وأمرهما أن يأخذا في طريق واحد ولا يختلفا. وقال لخصوص زياد :

يا زياد ، اتق الله في كل ممسى ومصبح ، وخف على نفسك الدنيا الغرور ، ولا تأمنها على حال من البلاء ، واعلم أنّك إن لم تردع نفسك عن كثير مما يجب مخافة مكروهه ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرّ ، فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي والظلم والعدوان ، فإنّي قد ولّيتك هذا الجند ، فلا تستطيلنّ عليهم ، وإن خيركم عند الله أتقاكم ، وتعلّم من عالمهم وعلّم جاهلهم ، واحلم عن سفيههم فإنّك إنما تدرك الخير بالحلم وكفّ الأذى والجهل.

فقال زياد : يا أمير المؤمنين ، أوصيت حافظا لوصيّتك مؤدّبا بأدبك ، يرى الرشد في نفاذ أمرك ، والغيّ في تضييع عهدك!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢٦ ، والآيتان من الأعراف : ٨٥ والقصص : ٧٧. ثم روى نصر بسنده عن الأصبغ بن نباتة أنّه كان في معسكر النخيلة يهود وفيه لهم قبر كبير يدفنون موتاهم حوله فسأل الإمام عنهم فقالوا : هذا قبر هود النبي عصاه قومه فجاء إلى هنا فمات فقال عليه‌السلام بل قبره في اليمن عند الجبل الأحمر على شاطئ البحر وهذا قبر يهوذا بن يعقوب ثم قال عليه‌السلام : «يحشر من ظهر الكوفة (النجف) سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب».

٨٢

وكأنّ شريحا بن هانئ لم يهنأ له ذلك بل رأى من زياد زيادة في كبره وخيلائه وعجبه بنفسه وزهوه قولا وفعلا ، فأخذ يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة ولا يقرب من زياد. فكتب زياد بذلك إلى علي عليه‌السلام :

لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنك ولّيتني أمر الناس ، وإنّ شريحا لا يرى لي عليه حقا ولا طاعة ، وذلك استخفاف بأمرك وترك لعهدك ، والسلام.

وبعث به مع مولى له يقال له شوذب. وكأنّ شريحا عرف ذلك فكتب إليه عليه‌السلام :

سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإنّ زياد بن النضر حين أشركته في أمرك وولّيته جندا من جنودك ، تنكّر واستكبر ومال به العجب والخيلاء والزّهو ، إلى ما لا يرضاه الربّ تبارك وتعالى من القول والفعل ، فإنّ رأى أمير المؤمنين أن يعزله عنّا ويبعث مكانه من يحبّ فليفعل ، فإنّا له كارهون! والسلام.

فكتب علي عليه‌السلام إليهما كتابا واحدا فيه بعد البسملة : «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ ، سلام عليكما ، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإني قد ولّيت مقدّمتي زياد بن النضر وأمّرته عليها ، وشريح أمير على طائفة منها ، فإن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة التي ولّيناه أمرها ، وإن جمعكما بأس (حرب) فعلى الناس زياد بن النضر.

واعلما أن مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم ، فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع ، ومن نفض الشعاب والشجر والخمر من كل جانب ، كي لا يغترّكما عدوّ أو يكون لكم كمين ، ولا تسيّرن الكتائب من لدن الصباح إلى المساء إلّا على تعبئة ، فإن دهمكم داهم أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدّمتم في التعبئة.

٨٣

وإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم قبال الأشراف (المرتفعة) أو سفوح الجبال أو أثناء الأنهار ، كي ما يكون ذلك لكم ردءا وتكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين.

واجعلوا رقباءكم في صياصي الجبال وبأعالي الأشراف ومناكب الهضاب ، يرون لكم ، لئلّا يأتيكم عدوّ من مكان مخافة أو أمن.

وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعا وإذا رحلتم فارحلوا جميعا ، وإذا غشيكم ليل فنزلتم فحفّوا عسكركم بالرماح والأترسة ، ورماتكم يتلون ترستكم ورماحكم ، وما أقمتم فكذلك فافعلوا ، كي لا تصاب لكم غفلة ، ولا تلقى منكم غرّة ، فما قوم حفوا عسكرهم برماحهم وترستهم في ليل أو نهار إلّا كانوا كأنهم في حصون.

واحرسا عسكركما بأنفسكما ، وإياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا ، إلّا غرارا أو مضمضة! ثمّ ليكن ذلك شأنكما ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوّكما.

وليكن كل يوم عندي خبركما ورسول من قبلكما ، فإني ـ ولا شيء إلّا ما شاء الله ـ حثيث السير في آثاركما. وعليكما بالتوئدة وإياكم والعجلة ، إلّا أن تمكنكم فرصة ، وذلك بعد الإعذار والحجّة ، وإيّاكما أن تقاتلا حتّى أقدم عليكما ، إلّا أن تبدءا أو يأتيكما أمري إن شاء الله ، والسلام» (١).

وخبر الإمام في الشام :

ولما انتهى الإمام عليه‌السلام إلى النخيلة ، بلغ خبر معسكره بها إلى معاوية بالشام ، فخطبهم وقال لهم : يا أهل الشام ، قد كنتم تكذّبوني في عليّ! وقد استبان لكم أمره ، والله ما قتل خليفتكم غيره هو ألبّ الناس عليه وأمر بقتله ثمّ آوى قتلته ، وهم اليوم

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢١ ـ ١٢٥.

٨٤

جنده وأنصاره وأعوانه ، وقد خرج بهم قاصدا بلادكم ـ يا أهل الشام ـ لإبادتكم! وأنا وليّ عثمان وأحقّ من طلب بدمه! وقد جعل الله لوليّ المظلوم سلطانا ، فانصروا خليفتكم المظلوم! فقد صنع به القوم ما تعلمون! قتلوه ظلما وبغيا! وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله! ثمّ نزل.

وكان على مصر يومئذ محمد بن أبي بكر وقد اعتزله ناس لا يطيقون مقابلته ، ومنهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن خديج الكندي وكانا يكاتبان معاوية ويكاتبهم ، وكان يخاف أن يأمر أمير المؤمنين عامله فيغير على معاوية من خلفه ، فكتب معاوية إلى أولئك : إن تحرك محمد أن يثبتوا له ، واستعمل على فلسطين ثلاثة رهط جعلهم بإزاء ثغر مصر لئلّا يغيروا عليه من خلفه ، وأمر عليهم : حباب بن الأسمر ، وسمير بن كعب ، وهيلة بن سحمة. واستعمل على أهل قنّسرين : صيفي بن عليّة ، وعلى أهل حمص : محول بن عمرو ، واستخلف على دمشق : عمار بن السّعر ، وخرج إلى صفّين في ناحية الرقّة (١).

وعند الخروج من النخيلة :

لم يذكر متى خرج الإمام من الكوفة وكم بقي في النخيلة ، ويبدو أنه خرج من الكوفة بعد عيد الفطر ، وأقام في النخيلة حتى يوم الأربعاء الخامس من شهر شوال (٢) ، وقبيل الزوال عزم على الرحيل فخطبهم وقال :

أما بعد ، فإني قد بعثت مقدماتي وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط (شاطئ الفرات) حتّى يأتيهم أمري. وقد أردت أن أقطع هذه النطفة (ماء الفرات) إلى شرذمة منكم موطنين بأكناف دجلة (بالمدائن) فأنهضهم معكم إلى أعداء الله إن شاء الله.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٢٧ ، ١٢٨.

(٢) وفي مروج الذهب ٢ : ٣٧٤ جعله تاريخ خروجه من الكوفة.

٨٥

وقد أمّرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري ، ولم آلكم ولا نفسي ، فإياكم والتخلّف والتربّص ، فإني قد خلّفت مالك بن حبيب اليربوعي وأمرته ألّا يترك متخلّفا إلّا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله.

فقام إليه معقل بن قيس الرياحي التميمي وقال له : يا أمير المؤمنين ، والله لا يتخلّف عنك إلّا ظنين (متهم) ولا يتربّص بك إلّا منافق! فأمر مالك بن حبيب أن يضرب أعناق المتخلّفين!

فقال علي عليه‌السلام : لقد أمرته بأمري وليس مقصّرا فيه إن شاء الله.

ثمّ دعا بدابّته فجيء إليه بها ، فلما وضع رجله في ركابها قال : بسم الله ، ولما جلس على ظهرها قرأ : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١) ثمّ قرأ دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحيرة بعد اليقين ، وسوء المنظر في الأهل والمال والولد. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل». ثمّ قال : ولا يجمعهما غيرك فإن المستخلف لا يكون مستصحبا والمستصحب لا يكون مستخلفا.

فتقدم إليه مالك بن حبيب وأخذ بعنان دابّته وقال له : يا أمير المؤمنين ، أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد والقتال وتخلّفني في حشر الرجال؟

فقال عليه‌السلام : أنت هاهنا أعظم غناء منك عنهم عمّا لو كنت معهم ، وهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلّا كنت شريكهم فيه! فقال : سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين.

ثمّ خرج حتّى قطع النهر (وزالت الشمس) فأمر مناديه فنادى بالصلاة ، فتقدم فصلى الظهر ركعتين ، ثمّ أقبل على الناس وقال لهم : أيها الناس ، ألا من كان مقيما أو مشيّعا فليتمّ الصلاة ، فإنا قوم على سفر ، ومن صحبنا فلا يصم المفروض ، والصلاة المفروضة ركعتان.

__________________

(١) سورة الزخرف : ١٣ ـ ١٤.

٨٦

ثمّ خرج حتى بلغ دير أبي موسى على فرسخين من الكوفة فصلّى بها العصر.

ثمّ خرج حتى بلغ شاطئ نرسى بن بهرام بين حمّامي أبي بردة وعمر فصلّى بهم المغرب (ثمّ العشاء) ثمّ أقام هناك حتّى صلّى الفجر ثمّ شخص حتّى بلغ قبّين وفيها بيعة للنصارى فنزلها (وصلّى الظهر).

وكان الصحابي مخنف بن سليم الأزدي يساير عليا عليه‌السلام إذ مرّوا بأرض بابل ، فقال عليه‌السلام : إنّ ببابل أرضا قد خسف بهم فحرّك دابّتك لعلنا أن نصلّي العصر خارجا منها. فحرّك دابّته وحرّك الناس في أثره ... وكادت أن تغيب الشمس ، فنزل علي عليه‌السلام ودعا الله أن يردّ الشمس حتّى يصلوا ، فردّت الشمس حتّى صلّوا العصر ثمّ غابت (١).

ومن حديثه في كربلاء :

ولما وصل إلى كربلاء ، توقف فيها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين هذه كربلاء. فقال : ذات كرب وبلاء! ثمّ أومأ بيده إلى مكان فقال : هاهنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم. وأومأ إلى موضع آخر وقال : وهاهنا مهراق دمائهم! ويقول : هاهنا هاهنا!

فقال له رجل : وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : ثقل لآل محمد ينزل هاهنا ، فويل لهم منكم : وويل لكم منهم! فقال الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال : ويل لهم منكم : تقتلونهم! وويل لكم منهم : لأنّ الله يدخلكم بقتلهم إلى النار! أو قال : ترونهم يقتلون فلا تستطيعون نصرهم (٢)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٣١ ـ ١٣٦ ، وللمزيد راجع كتاب كشف الرمس للمحمودي.

(٢) وقعة صفين : ١٤١ ـ ١٤٢.

٨٧

ثمّ نزل فصلّى صلاة فلما سلّم رفع من تربتها إليه فشمّها ثمّ قال : واها لك أيّتها التربة ، يحشرنّ منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب (١).

واستخرج ماء في الصحراء :

ثمّ سار بهم في البرّ وترك طريق الفرات ، فانقطعوا من الماء وعطشوا ، فشكوا ذلك إليه وعتبوا عليه أنه أخذ بهم في طريق لا ماء فيه من البرّ وترك طريق الفرات. فسار حتّى انتهى إلى دير راهب أو صومعته فهتف به فأشرف إليه فسأله عن الماء فقال : ليس قربنا ماء!

فسار إلى رمل هنالك ونزل فيه وأمرهم بحفره فحفروه حتّى كشفوا

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٠ والخبر عن هرثمة بن سليم ، قال : فلما رجعت من صفّين قلت لامرأتي جرداء بنت سمير ـ وكانت من شيعة علي ـ : ألا أعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ ونقلت لها الخبر وقلت : فما علمه بالغيب؟ فقالت : إنّ أمير المؤمنين لا يقول إلّا حقّا! فلما بعث ابن زياد لقتل الحسين كنت في الخيل ، فلما انتهيت إليهم عرفت المنزل والبقعة وذكرت القول الذي قاله علي ، فذهبت إلى الحسين فسلّمت عليه وحدّثته بالحديث ، فقال : فأنت معنا أو علينا؟ فقلت له : يا ابن رسول الله أخاف على أهلي من ابن زياد ، فقال : والذي نفس محمّد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلّا أدخله الله النار! فولّ هربا حتّى لا ترى لنا مقتلا! قال : فهربت حتّى خفي عليّ مقتله! يا له من بؤس وتعاسة! ونقله الصدوق في الأمالي : ١١٧ ، الحديث ٢٨٢ بسنده عن هرثمة بن أبي مسلم و ٤٧٨ ، الحديث ٥ م ٨٧ بسنده عن مجاهد عن ابن عباس ، وفي شرح الأخبار ٣ : ١٤١ ، وكامل الزيارات : ٤٥٣ ، والإرشاد للمفيد ١ : ٣٣٢. وخصائص الأئمة : ٤٧ عن قرب الإسناد : ٣٠ الحديث ٨٢ بسنده عن الصادق عليه‌السلام مختصرا. وانظر سائر مصادره في ترتيب الأمالي ٥ : ١٧٣ ، ٢ ه‍.

٨٨

عن صخرة بيضاء بمقدار سخلة جاثمة ، فاجتمع عليها ثلاثة رجال فلم يحرّكوها ، فقال عليه‌السلام : تنحّوا عنها فأنا صاحبها! ثمّ أدخل يده اليمنى تحتها فقلعها ورفعها ووضعها ناحية ، وإذا تحتها عين ماء أرقّ من الزلال وأعذب من الفرات ، فشربوا وتزوّدوا ، ثمّ ردّ الصخرة والرمل كما كان.

وعلم الراهب بالخبر فجاء إلى الإمام وقال له : إنّ أبي أخبرني عن أبيه عن آبائه عن جدّه وكان من حواريّ عيسى عليه‌السلام : أنّ تحت هذا الرمل عين ماء لا يستنبطها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ (ولما عرف الإمام أنّه وصيّ النبيّ الخاتم) أسلم واستأذن أن يصحب الإمام فأذن له فكان معه حتّى قتل بصفّين ليلة الهرير (١).

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٢٢٢ الحديث ٦٧ عن أبي سعد عقيصا مولى بني تميم. وعنه عبد العزيز بن سياه مولى بني أسد ، كما في وقعة صفين : ١٤٤ ، ١٤٥ وفيه : وساروا قليلا ثمّ قال لهم : أفيكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا : نعم ، يا أمير المؤمنين. قال : فانطلقوا إليه ، فانطلق إليه رجال منهم مشاة وركبانا على الطريق حتى انتهوا إلى المكان الذي كانوا فيه فطلبوه فلم يقدروا عليه. وهنا في هذا الخبر : أنهم سألوا الراهب في ديره بقربه عنه فأنكره ، فقالوا : نحن شربنا منه! قال : أنتم شربتم منه؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : هذا ما استخرجه إلّا نبيّ أو وصيّ نبي.

ولرواية عبد العزيز هذا الخبر ذكره ابن حجر في تقريبه وتهذيبه ووصفه بالتشيّع ، ولكنّه صدّقه.

وأشار إلى الخبر السيد الحميري في قصيدته البائية لما قال :

ولقد سرى فيما يسير بليلة

بعد العشاء بكربلاء في موكب

فلعلّ الإمام عليه‌السلام إنما كان هنا في موكب من جيشه وليس العسكر كلّه.

٨٩

وفي مدائن طيسفون :

ثم مضى علي عليه‌السلام حتّى انتهى إلى ساباط (١) ثمّ مدينة بهرشير وفيها آثار قصور الأكاسرة الساسانيين ، وإذا رجل من أصحابه ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل شعرا :

جرت الرياح على مكان ديارهم

فكأنّما كانوا على ميعاد

فقال الإمام عليه‌السلام : أفلا قرأت : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ* فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ)(٢) ثمّ قال : إنّ هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين ، إنهم لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية ، فإياكم وكفر النعم لا تحلّ بكم النقم ، ثمّ قال : انزلوا بهذه النجوة المرتفعة ، وصلّى الظهر (٣).

__________________

(١) معرّب شاه آباد أي معمورة الملك.

(٢) سورة الدخان : ٢٥ ـ ٢٩.

(٣) وقعة صفين : ١٤٢ ، ١٤٣ أو صلّى الجمعة ، فروى الصدوق في الخصال ٢ : ٦٤٤ بسنده عن الأصبغ بن نباتة : أنه عليه‌السلام كان يخطب الجمعة إذ نزل بباب المسجد سبعة من المتخلّفين مع عمرو بن حريث المخزومي ودخلوا ، فلما رآهم قال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ إليّ ألف حديث في كل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح. وإني سمعت الله جل جلاله يقول : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) وإني أقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر بإمامهم وهو ضبّ! ولو شئت أن اسميهم لفعلت! قال الأصبغ : فرأيت عمرو بن حريث سقط كما تسقط السعفة (يرتجف) وكانوا قد خرجوا إلى الخورنق من الحيرة يتنزّهون ، فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضبّ فصادوه ، فأخذه عمرو بن حريث ونصب كفّه وقال : هذا أمير المؤمنين فبايعوه! فبايعه هو والسبعة معه! ثمّ ارتحلوا فالتحقوا بنا في المدائن يوم الجمعة. ورواه الصفار في بصائر الدرجات.

٩٠

وكأنّ مسح الرأس في الوضوء على عهد الخلفاء السابقين كان قد تحرّف إلى غسل الرأس ، ورأى الجنود الإمام عليه‌السلام إنما يمسح رأسه مسحة واحدة ، فتقدّم إليه أحدهم وسأله عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فدعا بقدر من حجر فيه ماء إلى نصفه ثم نادى : من السائل عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقدم إليه الرجل ، فتوضأ علي عليه‌السلام وإنما مسح برأسه واحدة ثمّ قال تأكيدا : هكذا رأيت رسول الله يتوضّأ (١).

ثمّ أمر الحارث الأعور الهمداني أن ينادي في أهل المدائن : من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين لصلاة العصر ، فوافوا فيها ، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لهم :

أما بعد ، فإني قد تعجّبت من تخلّفكم عن دعوتكم ، وانقطاعكم عن مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها ، والهالك أكثر سكّانها ، لا معروفا تأمرون به ولا منكرا تنهون عنه!

فقالوا : يا أمير المؤمنين ؛ إنّا كنّا ننتظر رأيك وأمرك فمرنا بما أحببت.

فأقام فيهم عديّ بن حاتم الطائي لثلاثة أيام ، وسار هو عليه‌السلام ، فأقام عديّ ومعه ابنه يزيد ثمّ خرج عديّ في ثمانمائة منهم ، وخلّف فيهم ابنه يزيد فلحقه في أربعمائة منهم (٢).

فبعث الإمام عليه‌السلام من المدائن معقل بن قيس الرياحي التميمي في ثلاثة آلاف رجل وقال له : خذ على الحديثة (٣) ثمّ نصيبين ثمّ الرقة فتلقاني بها ، وسكّن الناس

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٦ وفيه : أنه توضّأ ثلاثا ثلاثا. وهذا على خلاف مذهبهم عليهم‌السلام ولذا جعله العلّامة الشوشتري شارة على ردّ تشيع ابن مزاحم ، كما في قاموس الرجال ١٠ : ٣٦٠ برقم ٧٩٦٦.

(٢) وقعة صفين : ١٤٣.

(٣) جاء في الخبر : أن الحديثة كانت إذ ذاك منزل الناس ، وأما الموصل فقد بناها محمد بن مروان الأموي بعد ذلك ، ومع ذلك ذكر في الخبر : خذ على الموصل ، مسامحة.

٩١

وأمّنهم. ولا تقاتل إلّا من قاتلك ، وسر البردين (فلعلّه كان صيفا) ورفّه في السير وأقم في الليل ولا تسر فيه فإنّ الله جعله سكنا ، أرح فيه بدنك وجندك وظهرك (مركوبك) فإذا كان السحر أو حين ينبطح الفجر فسر.

فخرج حتّى حلّ في الحديثة فإذا هم بكبشين ينتطحان وجاء رجلان عليهما فأخذاهما وانصرافا. فقال شدّاد بن أبي ربيعة لمعقل : إنكم لا تغلبون ولا تغلبون. قال : من أين علمت ذلك؟ أما أبصرت الكبشين التقيا وانتطحا فلم يزالا منتصفين حتّى أخذا (١).

ومن أخبار الأنبار (٢) :

وكان في مدينة الأنبار دهاقين من الفرس يدعون بنو «خوش نوشك» أي الشراب الطيّب ، فاستقبلوه ببراذينهم (بغالهم) فلما واجهوه نزلوا عنها وأخذوا يشتدّون مشيا إلى جانبيه. فسألهم : ما تريدون بهذا الذي تصنعونه؟ وما هذه الدوابّ معكم؟

قالوا : أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منّا نعظّم به الأمراء ، وهذه براذين هدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما ، وهيّأنا لدوابكم علفا كثيرا.

فقال لهم : أمّا هذا الذي زعمتم أنه خلق منكم تعظّمون به الأمراء ، فو الله إنّ هذا لا ينفع الأمراء ، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم وأبدانكم فلا تعودوا له. وأما دوابّكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنّا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا إلّا بثمن ثمّ سار عنهم وتركهم (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٨ ، ١٤٩.

(٢) الأنبار بالفارسية : المخزن ، وكانت مخازن الحبوب للساسانيين.

(٣) وقعة صفين : ١٤٤.

٩٢

وصولهم إلى الجزيرة :

ثمّ مضى أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى وصل إلى الجزيرة ، وكان فيها بنو تغلب وبنو النّمر بن قاسط من ربيعة ، وكان وفد من بني تغلب قد أتى إلى علي عليه‌السلام فصالحوه على أن يقرّهم على دينهم شريطة أن لا ينصّروا أبناءهم. وكان قد بلغه أنهم قد نقضوا هذا الشرط ، فقال عليه‌السلام : قد بلغني أنهم قد تركوا ذلك ، فايم الله لئن ظهرت عليهم لأقتلنّ مقاتلتهم ولأسبينّ ذراريهم! ولكنّه لما دخل بلادهم استقبله منهم جماعة مسلمة كثيرة ، فسر بما رأى وتركهم (١).

وكان زياد بن النضر وشريح بن هانئ الحارثيان الهمدانيان اللذان سرّحهما الإمام عليه‌السلام مقدّمة أمامه قد أخذا على شاطئ الفرات حتّى بلغا عانات (العانة) فبلغهما أن الإمام سلك سبيل الجزيرة وأن معاوية أقبل في جنود الشام ، وكان أهل عانة عثمانية مع معاوية فلما أراد أن يعبر منها حبسوا سفنهم وتحصنوا منهم! وكان الإمام قد نهاهم أن يبدءوا بقتال ، فرجعوا إلى هيت حتّى عبروا منها ، ثمّ لحقوا بالإمام بقرية دون قرقيسيا ، فقال عليه‌السلام : مقدمتي تأتي ورائي؟! فشرح له شريح والنضر ما عرض لهما فقال لهما : قد أصبتم رشدكما (٢).

وبلغوا الرّقة :

ثمّ سار أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى وصل إلى الرّقة ، وكان سماك بن مخرمة الأسدي قد فارق الكوفة بمائة رجل من بني أسد ، ثمّ أخذ يكاتب قومه بني أسد حتّى لحق به منهم سبعمائة رجل كانوا عثمانية ففرّوا من الكوفة بآرائهم وأهوائهم إلى جانب معاوية (٣)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٦.

(٢) وقعة صفين : ١٥٢ ، ١٥٣.

(٣) وقعة صفين : ١٤٦.

٩٣

فلما قاربهم جند الإمام ضمّوا سفنهم من الفرات إلى حصنهم وتحصّنوا وغلقوا أبوابه!

فنزل الإمام عليه‌السلام بجانب الفرات بمكان كان يقال له : البليخ. وكانت فيه صومعة لراهب هناك ، فنزل الراهب من صومعته إليه ومعه كتاب قديم قال : إنه توارثه من آبائه عن أصحاب عيسى عليه‌السلام فعرضه على الإمام عليه‌السلام وفيه : «إن الله سطّر فيما سطّر أنه باعث في الاميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ... فإذا توافاه الله اختلفت امته ... فيمرّ رجل من امته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحقّ ولا يرتشي في الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظّماء! يخاف الله في السرّ وينصح له في العلانية ولا يخاف فيه لومة لائم! فمن أدرك ذلك النبيّ من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة! ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة».

فبكى علي عليه‌السلام وقال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسيّا ، والحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار. وصدّق به الراهب وأسلم وآمن وقال له : فأنا مصاحبك حتّى يصيبني ما يصيبك! فكان طعامه مع علي عليه‌السلام (١).

ولما أبى أهل الرّقة أن يجسروا لعلي عليه‌السلام ليعبر إلى الشام ناداهم الأشتر :

__________________

(١) وقعة صفين : ١٤٧ ، ١٤٨ بسنده عن حبّة بن جوين العرني الكوفي ، ولروايته هذا الخبر قال فيه ابن حجر : كان غاليا في التشيع ، كما في تقريب التهذيب. وتمام الخبر : إنه كان مع علي عليه‌السلام حتى قتل في صفّين فطلبه حتّى وجده فصلّى عليه واستغفر له ودفنه وقال : هو منا أهل البيت! ونحوه في شرح الأخبار ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٩ ، ومناقب الحلبي ٢ : ٢٨٩ عن أمالي الشيباني وأعلام النبوة للماوردي.

٩٤

يا أهل هذا الحصن! إني أقسم بالله لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم حتّى يعبر منها ، لاجردنّ فيكم السيف فلأقتلنّ مقاتلتكم ولاخربنّ أرضكم ولآخذنّ أموالكم!

فلقي بعضهم بعضا وقالوا : إن الأشتر يفي بما يقول! فبعثوا إليه : إنا ناصبون لكم جسرا. ونصبوا الجسر ، ثمّ أمر الإمام الأشتر أن يقف في ثلاثة آلاف فارس حتّى يعبر كلّهم ، ثمّ عبر هو آخر الناس (١).

وقدّم المقدّمة أيضا :

ولما عبر الإمام الفرات دعا مقدمته السابقة شريحا وزيادا فسرّحهما أيضا أمامه نحو معاوية في حالهما السابقة (باثني عشر ألفا). ولما بلغ ذلك معاوية بعث أبا الأعور سفيان بن عمرو السلمي بمقدمته ، فالتقى الجمعان في قرية بعد الرّقة تدعى سور الروم ، فبعث زياد الحارثي إلى علي عليه‌السلام : أنّا قد لقينا أبا الأعور السّلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبوا علينا فمرنا بأمرك. حيث لم يأمرهم بقتال. فأرسل الإمام إلى الأشتر قال : «يا مالك ، إن زيادا وشريحا أرسلا إليّ يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام ، ونبّأني الرسول (الحارث بن جهمان الجعفي) أنه تركهم متواقفين ، فالنجاء النّجاء إلى أصحابك ، فإذا أتيتهم فأنت عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك ، حتّى تلقاهم وتسمع منهم ، ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرّة بعد مرّة. واجعل على ميمنتك زيادا وعلى ميسرتك شريحا وقف في وسط أصحابك ، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تتباعد منهم تباعد من يهاب البأس. حتّى أقدم عليك ، فإني حثيث السير إليك إن شاء الله».

__________________

(١) وقعة صفين : ١٥١ ، ١٥٢.

٩٥

وكتب مع الرسول إليهما : «أما بعد ، فإني قد أمّرت عليكما مالكا فاسمعا له وأطيعا أمره ، فإنّه ممّن لا يخاف رهقه ولا سقاطه (في الكلام) ولا بطؤه عن ما الإسراع إليه أحزم ، ولا الإسراع إلى ما البطء عنه أمثل ، وقد أمرته بمثل الذي أمرتكما : أن لا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم إن شاء الله».

فخرج الأشتر (بأربعة آلاف) حتّى قدم على القوم (فكانوا ستة عشر ألفا) وتواقفوا حتّى كان قرب المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي فاضطربوا ساعة ثم انصرف أهل الشام. ثمّ خرج هاشم بن عتبة المرقال الزهري في عدد ذوي عدّة حسنة ، فخرج إليهم السلمي فتحاملوا وقاوموا ثمّ انصرفوا ، وباتوا ليلتهم تلك.

ثمّ بكّر عليهم الأشتر وهو ينادي : ويحكم أروني أبا الأعور ، ولم يتقدم أبو الأعور إليه ، وتقدم فارس منهم هو عبد الله بن المنذر التنوخي ، فقاتله فتى حديث السنّ هو ظبيان بن عمارة التميمي فقتل الفارس التنوخي.

ثمّ إنّ أبا الأعور صعد بأصحابه إلى تلّ من وراء مكانهم أمس ، فأرسل الأشتر إليه سنان بن مالك النخعي ليدعوه إلى مبارزته ، فناداهم : أمّنوني فإني رسول. فأمّنوه حتّى انتهى إلى أبي الأعور وقال له : إن الأشتر يدعوك إلى مبارزته! فسكت طويلا ثمّ أبى. ثمّ تواقفوا حتّى الليل وباتوا متحارسين ، فما أصبحوا إلّا والشاميون قد انصرفوا إلى سهولة من الأرض وسعة المنزل وشريعة الماء ، وصبّحهم الإمام عليه‌السلام في الصباح الباكر (١) ، وكان في مائة ألف أو يزيدون (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ١٥٤ ـ ١٥٦. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٩٩ : كان نزوله بها لليال بقين من ذي الحجة ، ولا يستقيم هذا ، بل لأكثر من عشرة بقين من ذي القعدة ، حيث تناوشوا القتال بالمبارزات لأربعين يوما قبل المحرم ، كما في اليعقوبي ٢ : ١١٨ والخلفاء لابن قتيبة : ١٠٦.

(٢) وقعة صفين : ١٥٧ ، وفي : ١٥٦ : مائة وخمسين ألفا.

٩٦

فلما بلغ معاوية مسيره إليه سار إليه وقد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري.

وطلب الإمام عليه‌السلام موضعا لعسكره وأمرهم أن يضعوا أثقالهم (١).

فلما نزلوا وجدوا الشاميين قد اختاروا منزلا مستويا واسعا ، وقد استولوا على شريعة الفرات فهي في أيديهم ، وقد صفّ أبو الأعور عليها الخيل والرجالة ، وقدّم الرماة ومعهم أصحاب الرماح والدّرق ، وعلى رءوسهم البيض ، ويمنعون غيرهم الماء ، ففزعوا إلى الإمام عليه‌السلام فأخبروه (٢) فتسرّع فوارس منهم إلى أهل الشام فناوشوهم القتال ، فأمر الإمام عليه‌السلام أن يردوهم عن القتال ويأخذوا مصافّهم ، فردّوهم (٣).

احتجاج على معاوية للماء :

ثمّ دعا الإمام عليه‌السلام صعصعة بن صوحان العبدي وقال له : ائت معاوية فقل له : إنّا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك وبدأتنا القتال ، ونحن من رأينا الكفّ حتى ندعوك ونحتجّ عليك وهذه اخرى قد فعلتموها حين حلتم بين الناس وبين الماء ، فخلّ بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له وقدمتم ، وإن كانت أحبّ إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.

__________________

(١) وقعة صفين : ١٥٧.

(٢) وقعة صفين : ١٦٠ ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٧٥ : لم يكن على الفرات في ذلك الموضع أسهل منها للوارد إلى الماء ، وما عداها أخراق عالية ومواضع وعرة.

(٣) وقعة صفين : ١٥٧ و ١٥٨.

٩٧

فذهب صعصعة إلى معاوية وأبلغه الرسالة.

فالتفت معاوية إلى أصحابه وقال لهم : ما ترون؟

فقال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفّان ، حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء ولين الطعام! اقتلهم عطشا! قتلهم الله!

فقال ابن العاص : خلّ بين القوم وبين الماء ، فإنهم لن يعطشوا وأنت ريّان ، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم.

وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (١) : امنعهم الماء إلى الليل ، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم! امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة!

فقال له صعصعة : إنما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق. وأشار إلى الوليد.

فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه. فقال معاوية : كفّوا عن الرجل فإنه رسول.

فقال له صعصعة : فما تردّ عليّ؟ قال : سيأتيكم رأيي!

ثم أرسل إلى أبي الأعور : امنعهم الماء (٢). وخرج وقال لأهل الشام : يا أهل الشام ، هذا والله أول الظّفر ؛ لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه أبدا! حتّى يقتلوا عليه بأجمعهم! ففرحوا وتباشروا.

وكان هناك رجل ناسك من همدان وكان له لسان يدعى المعرّى بن الأقبل ، وكانت له صداقة قديمة مع عمرو بن العاص ، ولعله علم برأيه ، فقام إلى معاوية وقال له :

__________________

(١) غابت أخباره بعد مقتل عثمان ، وهذا أول ذكر له هنا عند معاوية ، وهو الأخ الرضاعي لعثمان.

(٢) وقعة صفين : ١٦٠ ـ ١٦٢.

٩٨

يا معاوية! سبحان الله ألأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه ، تمنعونهم عنه؟ أما والله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه! أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات فينزلوا على فرضة اخرى فيجازوكم بما صنعتم؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة (١) والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أوّل الجور! لقد شجّعت الجبان وبصّرت المرتاب ، وحملت من لا يريد قتالك على كتفيك!

وكان معاوية يعلم بصداقة عمرو له فقال له : اكفني صديقك! فأغلظ له ابن العاص!

وأمسى ذلك اليوم ، فلما كان الليل سار هذا الهمداني فلحق بقومه مع الإمام عليه‌السلام (٢).

الأشعث والأشتر يستردّان الماء :

وكان الأشعث على ميمنة الإمام عليه‌السلام فأتاه ليلا وقال له :

يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ خلّ عنّا وعن القوم ، فو الله لا نرجع حتى نرده أو نرد الموت! ومر الأشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره (٣) وكان معه أربعة آلاف من اولي البصائر ، فلم يتجاوزوا أمر الأمير عليه‌السلام (٤).

__________________

(١) كذا ، ويأتي أنّ عمار بن ياسر جاءته امرأة طويلة اليدين بقدح من لبن ، فيعلم من ذلك حضور بعض النساء ولا سيما الإماء مع العبيد في صفين ، ولعلّ هذا من أسباب الخلاف في أعدادهم.

(٢) وقعة صفين : ١٦٣ ، ١٦٤.

(٣) وقعة صفين : ١٦٦.

(٤) وقعة صفين : ١٥٧.

٩٩

وقال للأشعث : ذاك إليكم. وأرسل بذلك إلى الأشتر ، فسمع وأطاع.

ورجع الأشتر فنادى في قومه : من كان يريد الموت أو الماء فميعاده الصبح فإني ناهض إلى الماء. فاجتمع إليه اثنا عشر ألف رجل (١).

فلما أصبحوا وصلّوا سلّوا سيوفهم على عواتقهم ، وشدّ الأشعث عليه سلاحه ، وأخذ رمحه وتقدمهم فجعل يرميه ويقول : بأبي أنتم وأمّي تقدّموا قاب رمحي هذا ، فلم يزل كذلك حتى خالط خيل السّلمي على الماء فحسر عن رأسه ونادى : أنا الأشعث بن قيس خلّوا عن الماء.

فنادى السّلمي : أما والله لا حتى تأخذنا وإياكم السيوف (٢)!

وكان ابن العاص عاصيا على معاوية في أمر الماء ولكنه قهره عليه (٣) فلما يئس الأشعث من السّلمي طلب عمرا فناداه : ويحك يا ابن العاص خلّ بيننا وبين الماء ، فو الله لئن لم تفعل ليأخذنا وإياكم السيوف! فقال عمرو : والله لا نخلّي عنه حتى تأخذنا وإياكم السيوف فيعلم ربّنا أينا اليوم أصبر (٤)!

__________________

(١) وقعة صفين : ١٦٦ وهنا زاد المعتزلي الشافعي في شرح نهج البلاغة ٣ : ٣٢٥ عن ابن مزاحم ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر (الجعفي) قال : خطب علي عليه‌السلام فقال : «أما بعد ، فإن القوم قد بدءوكم بالظلم وفاتحوكم بالبغي واستقبلوكم بالعدوان ، وقد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء ، فأقرّوا على مذلّة وتأخير محلّة ؛ أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء! فالموت في حياتكم مقهورين ، والحياة في موتكم قاهرين. ألا وإنّ معاوية قاد لمّة من الغواة وعمّى عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية». ونقله الرضي في نهج البلاغة خ ٥١ بحذف سطر من صدره ، ولم يذكر له مصدر سوى ابن مزاحم ، وليس في المنشور منه!

(٢) وقعة صفين : ١٦٧.

(٣) وقعة صفين : ١٧٠.

(٤) وقعة صفين : ١٦٧.

١٠٠