موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ويوم الخميس ٩ صفر وبعض الخطب :

لما طلع الفجر ليوم الخميس التاسع من صفر بادر الإمام بصلاة الفجر ، ثمّ خرج بالناس فزحف بهم ودعا بدعاء طويل نسبيّا وقال في آخره : إن أظهرتنا على عدوّنا فجنّبنا البغي وسدّدنا للحقّ وإن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة ، واعصم بقيّة أصحابي من الفتنة.

فلما رأوه أقبل خرجوا إليه بزحوفهم ، وكان يومئذ على ميمنته عبد الله بن بديل الخزاعي ، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس ، وهو في القلب في أهل المدينة والكوفة والبصرة ، وأكثرهم من أهل المدينة من الأنصار ومن خزاعة وكنانة. وكان القرّاء مع عمار بن ياسر وقيس بن سعد وابن بديل (١).

وخطب الإمام فقال : «إنّ الله عزوجل قد دلّكم على تجارة تنجيكم من العذاب ، وتشفي بكم على الخير : إيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيله ، وجعل ثوابه مغفرة الذنوب ، ومساكن طيّبة في جنات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، وأخبركم بالذي يحبّ فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٢) فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص ، وقدّموا الدارع وأخّروا الحاسر ، وعضّوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن إلهام وأربط للجأش وأسكن للقلب. وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار. والتووا في أطراف الرماح ، فإنه أمور للأسنّة ، وراياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها ، ولا تجعلوها إلّا في أيدي شجعانكم المانعي الذّمار ، والصّبر عند نزول الحقائق ، أهل الحفاظ الذين يحفّون براياتكم ويكتنفونها ، يضربون خلفها وأمامها ولا يضيّعونها. أجزأ كلّ امرئ منكم ـ رحمه‌الله ـ وقد قرنه ، وواسى أخاه بنفسه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٣٢.

(٢) الصف : ٤.

١٤١

فيجتمع عليه قرنه وقرن أخيه فيكتسب بذلك لائمة ويأتي به دناءة! وأنّى هذا وكيف يكون هكذا؟! هذا يقاتل اثنين وهذا ممسك يده قد خلّى قرنه على أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه! ومن يفعل هذا يمقته الله فلا تعرّضوا لمقت الله فإنما مردّكم إلى الله. (وقد) قال الله لقوم : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(١) وايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة فلا تسلمون من سيف الآخرة! استعينوا بالصدق والصبر ، فإنه بعد الصبر ينزل النصر» (٢) ، اللهم إليك نقلت الأقدام ، وإليك أفضت القلوب ورفعت الأيدي ومدّت الأعناق وطلبت الحوائج وشخصت الأبصار ، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. وكانوا يدقّون الطبول ويقولون : عليّ المنصور (٣).

وخطب عبد الله بن بديل الخزاعي أصحابه فقال لهم : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحق ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة ، ولبّس عليهم الأمر. قاتلوا الطّغام الجفاة ولا تخشوهم ، وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربّكم ظاهر مبرز : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(٤) وقد قاتلناهم مع النبيّ مرّة وهذه ثانية ، فو الله ما هم بأزكى ولا أتقى ولا أبرّ! قوموا إلى عدوّ الله وعدوّكم (٥).

__________________

(١) الأحزاب : ١٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، والكافي ٥ : ٣٩ ، والإرشاد للمفيد ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢١٠ مرسلا.

(٤) التوبة : ١٣ ـ ١٤.

(٥) وقعة صفين : ٢٣٤.

١٤٢

وخطب الأشتر الناس وهو على فرس أدهم أسود فقال :

«الحمد لله الذي خلق السماوات العلى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى * لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى)(١) أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء ، حمدا كثيرا بكرة وأصيلا ، من يهد الله فقد اهتدى ومن يظلل الله فقد غوى. أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالصواب والهدى ، وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

ثمّ قد كان مما قضى الله وقدّر أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض ، ولفّ بيننا وبين عدوّنا ، فنحن بحمد الله ونعمته وفضله قريرة أعيننا وطيبة أنفسنا ، نرجو في قتالهم حسن الثواب والأمن من العقاب ، معنا ابن عمّ نبينا وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب ، صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسبقه بالصلاة ذكر حتى كان شيخا. لم تكن له صبوة ولا نبوة ولا هفوة ، فقيه في دين الله عالم بحدود الله ، ذو رأي أصيل وصبر جميل ، وعفاف قديم. فاتقوا الله وعليكم بالحزم والجدّ ، واعلموا أنكم على الحقّ وأن القوم يقاتلون مع معاوية على الباطل ، وأنتم مع قريب من مائة بدريّ ومن سوى ذلك من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما يشك في قتال هؤلاء إلّا ميّت القلب! وإنما أنتم في قتالهم على إحدى الحسنيين : إمّا الفتح وإمّا الشهادة. عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتّقاه ، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه ، وأستغفر الله لي ولكم» (٢).

وخطب يزيد بن قيس الأرحبي الهمداني فقال : والله إنّ هؤلاء القوم ما يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا إحياء عدل رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا

__________________

(١) طه : ٥ ـ ٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

١٤٣

إلّا على إقامة الدنيا ليكونوا فيها ملوكا جبابرة ، فلو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهورا ولا سرورا ـ إذا ألزموكم مثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه ، يحدّث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت ، ويأخذ مال الله ويقول : هذا لي ولا إثم عليّ فيه! كأنما أعطي تراثه من أبيه! وإنما هو مال الله أفاءه الله علينا بأسيافنا ورماحنا.

عباد الله ، قاتلوا القوم الظالمين ، الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم في جهادهم لومة لائم ، إنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا دينكم ودنياكم ، فهم من قد عرفتم وجرّبتم ، والله ما أرادوا بهذا إلّا شرّا. وأستغفر الله العظيم لي ولكم (١).

وكان اليوم التاسع من صفر من الأيام العظيمة ذي الأهوال الشديدة في صفّين (٢).

وأخرج الإمام عليه‌السلام مصحفا ورفعه ونادى : من يذهب بهذا المصحف إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه؟ فأقبل فتى اسمه سعيد بن قيس فقال : أنا صاحبه! فأعادها علي عليه‌السلام فسكت الناس وأقبل الفتى فقال : أنا صاحبه! فناوله الإمام إياه فقبضه بيده وذهب به إلى معاوية فدعاهم إلى ما فيه ، فقتلوه (٣).

حجر الخير وحجر الشر :

مرّ أن الحجر بن عديّ الكندي كان على كندة الكوفة ، وكان له ابن عم يدعى حجر بن يزيد وكان مع الإمام عليه‌السلام في الجمل ، ولكنّه انفصل عنه عليه‌السلام واتّصل بمعاوية في صفين فسمّى حجر الشرّ.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) وقعة صفين : ٢٤٣ وطبع : السابع ، تصحيف.

(٣) وقعة صفين : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

١٤٤

وبرز أوّل الفرسان في هذا اليوم الحكم بن أزهر الكندي فبرز إليه حجر الشر وقتل الحكم ، ثمّ دعا حجر الخير لمبارزته ، فأجابه وأخذا يتطاعنان برمحيهما ، فبرز رجل أسدي من الشام برمحه لنصر حجر الشر فطعن حجر الخير ، فحمل أصحاب الإمام عليه فقتلوه وأفلت حجر الشر ... ثمّ حمل عليه رفاعة بن ظالم الحميري فقتله ، فقال علي عليه‌السلام : الحمد لله الذي قتل حجرا بالحكم بن أزهر (١).

مقتل ابن بديل الخزاعي :

وكان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة الإمام عليه‌السلام ، وعليه درعان وسيفان ، وكان أخوه عثمان قد قتل ، فجعل يضرب الناس بسيفه قدما ، ولم يزل يحمل حتى اختلط الناس واضطرم الفريقان : ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام ، ولم يزل يضرب الناس بسيفه قدما حتّى انتهى إلى معاوية ومعه مبايعوه على الموت دونه ، فأمرهم معاوية أن يصمدوا له ، وأرسل إلى أمير ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري أن يحمل دونه بجميع من معه ، وأزال ابن بديل معاوية ومن معه عن موقفهم ، وتراجعوا عن مكانهم القهقرى كثيرا ، وأشفق على نفسه ، وأرسل إلى حبيب ثانية وثالثة يستصرخه ، وحمل حبيب بمسيرة الشام على ميمنة العراق حملة شديدة حتى انكشفوا عنه ولم يبق منهم مع ابن بديل إلّا نحو مائة من القرّاء ، ومع ذلك لجّ ابن بديل مصمّما على قتل معاوية ، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتّى انتهى إليه ، واستند القرّاء المائة معه بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ، ونادى معاوية بأصحابه : ويلكم الصخر والحجارة ، فأخذوا يرضخونه بالحجارة حتّى أثخنوه جراحا وحتّى قتل شهيدا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

١٤٥

وكان عبد الله بن عامر بن كريز واقفا مع معاوية ، وكان من قبل صديقا لابن بديل ، وخاف أن يمثّل به معاوية فألقى عمامته عليه ، فأعطاه معاوية عهدا أن لا يمثّل به فرفع عمامته عن وجه ابن بديل ، فنظر إليه معاوية وقال : هذا كبش القوم وربّ الكعبة ... مع أن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني لفعلت فضلا عن رجالها (١).

ولما استلحم ابن بديل وأصحابه القرّاء المائة من الميمنة ، تقدّم زياد بن النضر الحارثي الهمداني فرفع رايته لأهل الميمنة واجتمع إليه جمع منهم فقاتل بهم حتّى صرع وحمل ، فلما صرع زياد رفع يزيد بن قيس الهمداني رايته لهم واجتمع إليه جمع منهم فقاتل بهم حتى صرع وحمل (٢).

وكأنّه لإنقاذ أولئك القرّاء مع الخزاعي أمر الإمام سهل بن حنيف الأنصاري بمن معه من أهل المدينة أن يستقدموا لإنقاذهم ، فاستقدموا ، ولكن استقبلتهم من أهل الشام جموع في خيل عظيم حملوا عليهم فألحقوهم بميمنة الإمام المنكشفة (٣).

وكان من الميمنة ثمانمائة من شباب همدان ، وكانت رايتهم مع أبناء شريح الستة ، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر ، حتى قتل هؤلاء الإخوة الستة جميعا ، ثمّ أخذ الراية الإخوة الثلاثة أبناء زيد فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعا ، ثمّ أخذ الراية ابنا بشر فقتلا ، ثمّ أخذ الراية أبو القلوص فأراد أن يستقبل أو يستقتل فقال له بعضهم : لقد قتل أشراف قومك حولها فلا تقتل نفسك ولا من بقي ممّن معك ، فانصرفوا آخر الناس وقد صبروا حتى أصيب مائة وثمانون رجلا منهم ، وانصرفوا وهم يقولون : ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا ثمّ نستقدم فلا ننصرف حتّى نقتل أو نظهر (٤).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٤٥ ـ ٢٤٧ ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٢) وقعة صفين : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٣) وقعة صفين : ٢٤٨.

(٤) وقعة صفين : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

١٤٦

فرّ الميمنة وكرّها :

كان موقف الإمام عليه‌السلام مع أهل اليمن في قلب العسكر ، وكانت الميمنة متصلة إلى موقفه عليه‌السلام ، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ، فانصرف علي يمشي إلى الميسرة يمرّ ومعه بنوه ، والنبال تمر بين عاتقه ومنكبيه ، وبنوه يقونه بأنفسهم فيتقدم عليهم ويحول بينه وبين أهل الشام أو يأخذ بيده فيلقيه بين يديه أو ورائه ، وكان معه مولاه كيسان (فارسي).

ورآه أحمر من موالي بني أمية : عثمان أو أبي سفيان ، فأقبل نحوه ويقول : هذا عليّ وربّ الكعبة ، قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني! فخرج إليه كيسان فقتله المولى الشامي وتوجّه بسيفه إلى الإمام عليه‌السلام فمدّ علي يده على جيب درعه فجذبه وحمله على عاتقه ثمّ ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضده ، وعطف عليه ابناه الحسين ومحمد فضرباه بسيفهما فقتلاه ، وبقي الحسن قائما مع أبيه وقال له : ما ضرّك لو سعيت حتّى تنتهي إلى هؤلاء من أصحابك الذين صبروا لعدوّك؟ يعني ربيعة الميسرة.

فقال عليه‌السلام : يا بني ، إنّ لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجّل به إليه المشي ، إنّ أباك والله لا يبالي وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

وقال عليه‌السلام : إنه ليس من أحد إلّا عليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردّى في قليب ، أو يخرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفة ، فإذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه.

ثمّ أقبل علي عليه‌السلام يركض نحو ميسرته حتى مرّ بالأشتر فناداه : يا مالك! قال : لبّيك يا أمير المؤمنين. قال : ائت هؤلاء القوم وقل لهم : أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟!

فمضى الأشتر حتى استقبل الناس منهزمين فناداهم : أيها الناس إليّ أنا الأشتر. فذهب بعضهم وأقبلت عليه طائفة منهم ... ثمّ قال لهم : أخلصوا لي مذحجا ، فاجتمع إليه قومه مذحج فناداهم : عضضتم بصمّ الجندل! والله ما أرضيتم اليوم ربّكم

١٤٧

ولا نصحتم له في عدوّه ، فكيف بذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفتيان الصباح (الغارة) وفرسان الطّراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان ، الذين لم يكونوا يسبقون بثارهم ولا تطلّ دماؤهم ، ولا يعرفون في موطن من المواطن بخسف ، وأنتم أحدّ أهل مصركم وأعدّ حيّ في قومكم ، وما تفعلوا في هذا اليوم فإنه مأثور بعد اليوم ، فاتّقوا مأثور الحديث في غد ، وأصدقوا في عدوّكم اللقاء ، فإن الله مع الصابرين. والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء (أهل الشام) رجل على جناح بعوضة من دين الله ، والله ما أحسنتم اليوم القراح. أجلوا سواد وجهي يرجع دمي في وجهي. عليكم بهذا السواد الأعظم ، فإنّ الله لو فضّه تبعه من بجانبه كما يتبع السيل مقدّمه.

فتنادوا : خذ بنا حيث أحببت. فصمد بهم نحو الميمنة يزحف إليهم ويردّهم ، حتّى استقبله الثمانمئة من شباب همدان فوقفوا معه وزحف بهم الأشتر نحو الميمنة ، وثاب إليه ناس من أهل البصيرة والحياء والوفاء تراجعوا إليه ، فبدأ لا يعمد لكتيبة إلّا كشفها ولا لجمع إلّا حازه وردّه (١).

وكانت بيده صفيحة يمانية إذا طأطأها تخال فيها ماء منصبّا ، وإذا رفعها فلها شعاع يكاد يغشي البصر (٢) وكان هو طويلا عظيما غير ضخم في لحمه.

فلما اجتمع إليه أكثر المنهزمين من الميمنة قال لهم : استقبلوا القوم بهاماتكم وعضّوا على النواجذ والأضراس ، وإن الفرار من الزحف فيه سلب العزّ والغلبة على الفيء ، وذلّ المحيا والممات ، وعار الدنيا والآخرة!

ثمّ حمل بهم على ميسرة الشام بعد صلاة العصر حتى كشفهم وألحقهم بمضرب معاوية (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

(٢) وقعة صفين : ٢٥٥.

(٣) وقعة صفين : ٢٥٥.

١٤٨

وخطبة الإمام لهم :

فلما رأى الإمام عليه‌السلام ميمنته قد عادت إلى موقفها ومصافّها ، وكشفوا من بإزائهم بل ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم ، عاد حتّى انتهى إليهم وخطبهم فقال لهم :

إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم يحوزكم الجفاة الطّغام وأعراب أهل الشام! وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم ، وعمّار الليل بتلاوة القرآن! وأهل دعوة الحق إذ ضلّ الخاطئون. فلولا إقبالكم بعد إدباركم ، وكرّكم بعد انحيازكم ، وجب عليكم ما وجب على المولّي دبره يوم الزحف ، وكنتم فيما أرى من الهالكين! ولقد هوّن عليّ بعض وجدي وشفى بعض أحاح (غيظ) نفسي : أنّي رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم ، وأزلتموهم عن مصافّهم كما أزالوكم ، تحوزونهم بالسيوف ليركب أوّلهم آخرهم كالإبل المطّردة إليهم ، فالآن فاصبروا ، انزلت عليكم السكينة ، وثبّتكم الله باليقين. وليعلم المنهزم أنه مسخط لربّه وموبق نفسه ، وفي الفرار موجدة الله عليه والذلّ اللازم والعار الباقي ، واعتصار الفيء من يده وفساد العيش ، وأن الفار لا يزيد الفرار في عمره ولا يرضي ربّه. فموت الرجل محقّا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بها والإقرار عليها (١).

وإلى معاوية ثانية :

وكان معاوية أمر فاقيمت له قبة كرباس (قماش) عظيمة جلس تحتها (٢) وقد أوقف على رأسه رجلا قائما رافعا على رأسه ترسا مذهّبا يستره به عن الشمس : وكان في خيل عظيمة من أصحابه عليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ، وكان يعدّه ولدا له!

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٥٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، والكرباس معرّب عن الفارسية : كارباش : قماش الأعمال.

١٤٩

وقبل أن يتحاجزوا اليوم مع المغرب قال بنو بجيلة لأبي شداد قيس بن مكشوح الأحمسي : خذ رايتنا فقال لهم : غيري خير لكم مني. قالوا : ما نريد غيرك. قال : لئن أعطيتمونيها فو الله لا أنتهي بكم دون صاحب التّرس المذهّب يعني معاوية! قالوا : فاصنع ما شئت! فأخذها وزحف بها وهو يرتجز لهم ، ولم يتوقف حتى انتهى إلى معاوية ، فهناك حول معاوية اقتتل الناس قتالا شديدا ، وشدّ أبو شداد نحو صاحب التّرس ، وكان لمعاوية مولى روميّ قوي فتعرّض لأبي شداد فضرب رجله فقطعها ، وضربه أبو شداد فقتله ، وأخذت الأسنة أبا شداد فقتل ، وأخذ رايته عبد الله بن قلع الأحمسي فقاتل حتى قتل ، فأخذ رايته أخوه عبد الرحمن فقاتل حتّى قتل ، فأخذها عفيف بن إياس الأحمسي فقاتل حتّى دنا الغروب فتحاجزوا.

وكان من قتلاهم هناك نعيم بن صهيب البجلي ، وكان ابن عمّه نعيم بن الحارث مع معاوية ، وكان معاوية لا يواري غير قتلاه ولا يأذن بدفنهم! فاستأذنه نعيم لدفن ابن عمّه فأبى لأنّ عثمان لم يدفن إلّا سرّا! فهدّده إن لم يأذن له أن يلحق بأهل العراق! فأذن فدفنه (١).

وحين القتال قبل وقفه أرسل رأس خثعم الشام إلى رأس خثعم العراق : أن لا تقاتلونا فإن ظهر صاحبنا كنتم معنا ، ولا نقاتلكم فإن ظهر صاحبكم كنا معكم! فأبى أبو كعب رأس خثعم العراق ، والتقوا فتقاتلوا ، وحمل أحدهم على أبي كعب فطعنه وقتله ورجع يبكي ويقول : رحمك الله يا أبا كعب! لا أرى قريشا إلّا قد لعبت بنا! أنت أمسّ بي رحما وأحبّ نفسا فما أدري ما أقول! وصرع حول رايتهم منهم ثمانون رجلا واصيب من خثعم الشام نحو منهم (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

(٢) وقعة صفين : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

١٥٠

فهذا من نماذج الأخبار التي تكشف عن مستوى إيمان الفريقين بعدالة قضيّتهم يوم لقائهم ، وأنّ ضعف إيمان فريق منهم لم يفت في أعضادهم ولا في إقدامهم على أن يقتلوا أو يقتلوا ويخسروا الدارين!

وقارن هذا بمقال جندب بن زهير الأزدي لما ندب أزد العراق إلى أزد الشام فقال : والله لو كنّا آباءهم ولدناهم أو كنّا أبناءهم ولدونا ، ثمّ خرجوا من جماعتنا وطعنوا على إمامنا ، وآزروا الظالمين والحاكمين بغير الحق ، على أهل ملّتنا وديننا ، ما افترقنا بعد أن اجتمعنا حتى يرجعوا عمّا هم عليه ، ويدخلوا فيما ندعوهم إليه ، أو تكثر القتلى بيننا وبينهم!

قاله جوابا لأمير رايتهم مخنف بن سليم لما قال : إنّ من الخطب الجليل والبلاء العظيم : أنا صرفنا إلى قومنا وصرفوا إلينا ، فو الله ما هي إلّا أيدينا نقطعها بأيدينا! وما هي إلّا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا! فإن نحن لم نفعل لم نناصح صاحبنا ولم نواس جماعتنا (أمّا ديننا!) وإن نحن فعلنا فعزّنا أبحنا ونارنا أخمدنا (١)!

وأمر الميسرة في ذلك اليوم :

كان ذلك شأن ميمنة الإمام عليه‌السلام يوم الخميس التاسع من شهر صفر القتال. وأما خبر الميسرة في ذلك اليوم : فقد كان ذو الكلاع الحميري على حمير ومن لفّ لفّها في ميمنة أهل الشام ، ومعها عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قرّاء أهل الشام! قد بايعوا على الموت وثيابهم خضر أو عمائمهم! وكانت ربيعة في ميسرة العراق وعليهم عبد الله بن العباس ، ولم يكن للعراق قبائل أكثر عددا منها ومن همدان ومذحج. وضرب معاوية لحمير بسهم القرعة على القبائل الثلاث ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٦٢.

١٥١

فخرج سهم حمير على ربيعة ، فكرهه ذو الكلاع وقبل به ، ثمّ أقبل ومعه ابن عمر وحمل على ربيعة بخيله ورجاله حملة شديدة ، فتضعضعت رايات ربيعة ثمّ ثبتوا إلّا قليلا. وانصرف الشاميون ثمّ كرّوا ثانية فشدّوا على ربيعة حملة شديدة فثبتوا إلّا قليلا (١).

وكان الإمام عليه‌السلام قد أعطى راية الميسرة السوداء أو الحمراء إلى حضين بن المنذر الرقاشي الذهلي وكان شابا وقال له : سر على اسم الله يا حضين ، واعلم أنه لا يخفق على رأسك راية مثلها أبدا ، إنها راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

فتقدم إليه أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي وهو شيخ منهم فقال له : أعرني رايتك ساعة ، فما أسرع ما ترجع إليك! فعلم أنه يشير إلى الشهادة فأعطاه إيّاها فأخذها وخاطبهم فقال لهم :

يا أهل هذه الراية ، إنّ عمل الجنة كره كلّه وثقيل ، وإنّ عمل النار حبّ كلّه وخفيف ، وإنّ الجنة لا يدخلها إلّا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على أمر الله وفرائضه ، وليس شيء مما افترض الله على العباد أشدّ من الجهاد ... ويحكم (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(٣) أما تشتاقون إلى الجنّة؟ فإذا رأيتموني قد شددت فشدّوا. ثمّ شدّ على القوم فشدّوا معه فقاتل وقاتلوا معه قتالا شديدا حتّى قتل ، فشدّت ربيعة بعده شدة عظيمة على صفوف أهل الشام فنقضوها (٤).

واشتدّ قتال ربيعة وحمير حتّى كثرت القتلى فيما بينهم. ثمّ خرج نحو من خمس مائة فارس أو أكثر من أصحاب علي عليه‌السلام وهم غائصون في الحديد وعلى رءوسهم

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٩١.

(٢) وقعة صفين : ٣٠٠ ، وانظر وقارن : أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٩ ، الحديث ٣٤٨ والهامش.

(٣) النور : ٢٢.

(٤) وقعة صفين : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

١٥٢

البيض لا يرى منهم إلّا الحدق. وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدد فاقتتلوا بين الصفين حتّى قتلوا جميعا! وكان في صفّين تلّ تلقى عليه جماجم الرجال فكان يدعى تلّ الجماجم (١).

وكانت ربيعة من بكر بن وائل ، ومنها عبد القيس ، فلما خاف أمير عبد القيس : زياد بن خصفة العبدي الهلاك على ربيعة ، قال لقومه : إن ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة فانهضوا لهم وإلّا هلكوا ولا بكر بعد اليوم! فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء فشدّت إزاء الميسرة وعظم القتال (٢).

فقابل أهل الشام هذه النجدة البكرية بأن شدّ الأشعريون وجذام وعكّ ولخم على بكر بن وائل ومذحج معهم ، فنادى منادي مذحج : يا آل مذحج عليكم بسوقهم! فأغراهم بسوق القوم فكان بوارهم (٣).

وكان من ذوي البصائر مع علي عليه‌السلام من حمير رجل يدعى أبا شجاع ، فنادى ذا الكلاع : يا ذا الكلاع! إن كنا نرى أن لك نيّة في الدين! يا معشر حمير! أترون معاوية خيرا من علي! أضلّ الله سعيكم وتربت أيديكم! وعرفه ذو الكلاع فأجابه : إيها أبا شجاع ، والله فاعلمن : ما معاوية بأفضل من علي! ولكن إنما اقاتل على دم عثمان! فشدّ عليه خندف بن بكر البكري في المعركة فقتله ، ثمّ حمله إلى

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٩٠ و ٢٩٣ وفيه هنا : كان المنادي الشامي ينادي : ألا إنّ معنا الطيّب ابن الطيّب ، يعني عبيد الله بن عمر ، والمنادي العراقي ينادي : ألا إن معنا الطيّب ابن الطيّب ، يعني محمد بن أبي بكر! وقد مرّ خبر إرسال الإمام له من الكوفة إلى مصر وعزل قيس بن سعد الأنصاري ، اللهمّ إلّا أن يقال : معنا أي في الرأي والهوى ، وهو بعيد.

(٢) وقعة صفين : ٢٩٧.

(٣) وقعة صفين : ٣٠١.

١٥٣

جانب فسطاطه في الميسرة فربط رجله بطنب خبائه! حتّى جاء ابنه فاستوهبه منه فوهبه له (١) وتضعضعت لقتله أركان حمير ولكنها ثبتت بعده مع ابن عمر.

وبعث ابن عمر إلى الحسن بن علي عليه‌السلام : أن القني فلي إليك حاجة! فلقيه فقال له :

يا أبا محمد إن أباك (عليا) قد وتر قريشا أوّلا وآخرا فشنئوه! فهل لك أن تخلعه ونولّيك هذا الأمر!

فقال له الحسن عليه‌السلام : كلّا والله لا يكون ذلك ، وكأنّي أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك (٢)!

ثمّ نادى عمار بن ياسر : يا ابن عمر ، صرعك الله ، بعت دينك بالدنيا من عدوّ الله وعدوّ الإسلام!

قال : كلّا ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم! قال عمّار : كلّا ، أشهد على علمي فيك أنّك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله! وإنك إن لم تقتل اليوم فستموت غدا ، فانظر إذا أعطى الله العباد على نيّاتهم ما نيّتك (٣)!

وشدّ عليه رجل من بكر البصرة يقال له : محرز بن الصّحصح ، فركز رمحه في عينه آخر القتال ، وتحاجزوا ، فربطه برجل فرسه وبات عليه حتّى أصبح ثمّ سلبه وأخذ سيفه المعروف ذا الوشاح (٤).

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٢) وقعة صفين : ٢٩٧.

(٣) وقعة صفين : ٣٢٠.

(٤) وقعة صفين : ٢٩٨ ، وتمام الخبر : أن معاوية حين بويع عام الجماعة طالب بسيفه من بكر الكوفة! فقالوا له : إنما قتله رجل من بكر البصرة ، فبعث إليه إلى البصرة فأخذ السيف منه! وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٢٤ عن أبي مخنف : أن السيف كان لعمر بن الخطاب فردّه على آله.

١٥٤

وتمادى الناس في القتال قبل وقفه فتضاربوا بالسيوف حتّى تعطّفت كالمناجل ، وتطاعنوا بالرماح حتّى تناثرت أسنّتها وتكسّرت ، ثمّ تراموا بالصخر والحجارة ، ثمّ تحاثّوا بالتراب في الوجوه ، ثمّ تعانقوا وتكادموا بالأفواه! ثمّ تحاجزوا وتمايزوا يخرج الشاميّ إليهم ويخرج العراقي منهم (١)!

وكان حريث بن جابر الحنفي نازلا في قبة حمراء بين العسكرين ، قد أعد اللحم والثريد والسويق طعاما واللبن والماء شرابا للمقاتلين (٢).

وكان أبو سماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء وشفرة من حديد ، فإذا رأى رجلا جريحا وبه رمق يقعده ويسأله : من أمير المؤمنين؟ فإن سكت وجأه بالسكين حتّى يموت ، وإن قال : عليّ ، غسل عنه الدم وسقاه الماء (٣).

وأما أخبار عمّار :

وأمّا أخبار عمار في هذا اليوم الخميس التاسع من صفر القتال ، فإنه خطب فقال :

عباد الله ، امضوا معي إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون ـ بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله! إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون ـ إذا سلمت لهم دنياهم ـ لو درس هذا الدين : لم قتلتموه؟ فقلنا لأحداثه. فقالوا : إنه ما أحدث شيئا! وذلك لأنه مكّنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال. والله ما أظنّهم يطلبون دمه ، إنهم ليعلمون أنه لظالم! ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبّوها

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٠٤.

(٢) وقعة صفين : ٣٠١.

(٣) وقعة صفين : ٣٣٧.

١٥٥

واستمرّوها ، وعلموا لو أنّ صاحب الحقّ لزمهم لحال بينهم وبين ما يرعون فيه منها ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الولاية والطاعة ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما! ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا ، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ولو لا هي ما بايعهم من الناس رجلان!

اللهمّ إن تنصرنا فطالما نصرت ، وإن تجعل لهم الأمر فادّخر لهم ـ بما أحدثوا لعبادك ـ العذاب الأليم (١).

اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أن رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر (شط الفرات) لفعلت ، اللهمّ إنّك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ضبة سيفي في بطني ثمّ انحني عليها حتّى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهم وإني أعلم أني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته (٢).

ثمّ لما رأى الحرب لا تزداد إلّا شدة ، والقتل لا يزداد إلّا كثرة ، ترك صفّه ورجع إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين : هو هو؟ قال له : ارجع إلى صفّك! فعل ذلك ثلاث مرات ، ففي مرّتين قال له : ارجع إلى صفّك! ولما كانت المرة الثالثة قال له : نعم. فرجع وهو يقول :

اليوم ألقى الأحبه

محمّدا وحزبه (٣)

ثمّ برز إلى ساحة القتال ، وهو رجل طويل شديد الأدمة ، بعيد ما بين المنكبين ، أشهل العينين (٤) لا يغيّر شيبه وعليه درع وعلى رأسه مغفر ، وقد تجاوز

__________________

(١) وقعة صفين : ٣١٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٢٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٩ ، الحديث ٥٦ عن الباقر عليه‌السلام.

(٤) المعارف لابن قتيبة : ٢٥٨ ، والشهل : سواد بزرقة.

١٥٦

عمره التسعين ، وإن الحربة لترعد في يده (١) ، ومع ذلك قاتل قتالا شديدا ، ثمّ رجع يستريح ساعة ، فاتي بلبن فضحك وقال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : آخر شراب تشربه من الدنيا مذقة (أو : ضياح (٢)) من لبن ثمّ تموت (٣) ثمّ قال لمن حوله : ادفنوني في ثيابي فإنّي مخاصم (٤).

وكان لواء الحرب مع هاشم بن عتبة الزهريّ المرقال ، وكان عالما بفنون الحرب ، فكان يتقدّم لمراكز الراية حسب علمه وخبرته ، ولكن عمارا كان يستعجل به ويعجّل عليه ويقول له : احمل فداك أبي وأمي! حتّى قال له هاشم : يا أبا اليقظان ، رحمك الله ، إنك رجل تأخذك خفّة في الحرب ، وإنّما زحفت باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وإني إن خففت (أسرعت) لم آمن الهلكة! ومع ذلك ما زال عمار يستعجل به ويعجّل عليه حتّى قتل هاشم شهيدا (٥).

وحمل عمّار على صفوف أهل الشام وهو يرتجز ويقول :

كلّا وربّ البيت لا أبرح أجي

حتّى أموت أو أرى ما أشتهي

أنا مع الحقّ أحامي عن عليّ

صهر النبيّ ذي الأمانات الوفي

نقتل أعداه وينصرنا العلي

ونقطع إلهام بحدّ المشرفي

والله ينصرنا على من يبتغي

ظلما علينا جاهدا ما يأتلي

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣١٧ ، الحديث ٣٨٦.

(٢) الضياح : اللبن الواضح اللون لكثرة مائه.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٣ ، الحديث ٦٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال ٣٣ ، الحديث ٦٣.

(٥) وقعة صفين : ٣٤٠ عن الشعبي ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣١٨ ، الحديث ٣٨٨ عن الواقدي.

١٥٧

فضرب هو ومن معه أهل الشام حتّى اضطرّوهم إلى الفرار (١) ثمّ ارتجز فقال :

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل إلهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

 أو يرجع الحقّ إلى سبيله (٢)

وكان في مقدّمة كتيبته ، فطعنه رجل (من السّكون أو السكاسك) على ركبته برمحه ، فانكشف مغفره عن رأسه. فروى ابن قتيبة بسنده عن أبي الغادية يسار بن سبع الجهني العاملي (٣) قال : لما انكشف رأسه ضربت عنقه فندر رأسه (٤).

فروى ابن سعد بسنده قال : لما بلغ عليا عليه‌السلام قتل عمّار قال : إنّ امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمّار ، ولم يدخل عليه بقتله مصيبة موجعة لغير رشيد! قال : رحم الله عمّارا يوم أسلم ، ورحم الله عمّارا يوم قتل ، ورحم الله عمارا يوم يبعث حيا (٥) فو الله لقد رأيت عمارا وما يذكر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة إلّا كان رابعا ، ولا أربعة إلّا كان خامسا! إنّ عمارا قد وجبت له الجنة

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٤٣.

(٢) وقعة صفين : ٣٤١.

(٣) كما عن الإصابة والاستيعاب ، أو المرّي كما في أنساب الأشراف ٢ : ٣١١ ، وانظر تحقيق المحقق في الحاشية.

(٤) المعارف لابن قتيبة : ٢٥٧ بتحقيق ثروة عكاشة ، وفي الخبر : أن قاتل عمّار هذا كان يقول : سمعت رسول الله يقول : ألا لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإنّ الحقّ يومئذ مع عمار! ثمّ هو يحكي للناس كيف ارتكب جريمة قتل عمار! فكان الراوي عنه : كلثوم بن جبر يروي عنه هذا ثمّ يقول : والله ما رأيت شيخا أضلّ منه! يروي أنه سمع النبيّ يقول ما قال ثمّ يروي كيف قتل هو عمّارا! وانظر أنساب الأشراف ٢ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٥) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٦٢.

١٥٨

في غير موطن أو موطنين ولا ثلاث! فهنيئا له الجنة ، فقد قتل مع الحقّ والحقّ معه ، يدور الحقّ معه حيثما دار ، فقاتل عمار وسالبه في النار (١).

ثمّ تقدّم الإمام عليه‌السلام فجمع عمار بن ياسر إلى هاشم المرقال أمامه فصلّى عليهما كبّر خمسا أو ستّا أو سبعا (٢) ثمّ دفنه عند المساء (٣) ثمّ أنشأ الحجّاج بن غزيّة الأنصاري يقول :

يا للرجال لعظم الهول أرّقني

وهاج حزني أبو اليقظان عمار

أهوى له ابن حوىّ في فوارسه

من السّكون ، وللهيجاء إعصار

فاختلّ صدر أبي اليقظان معترضا

بالرمح ، قد أوجبت فيه له النار

كانت علامة بغي القوم مقتله

ما فيه شكّ ، ولا ما فيه إنكار (٤)

آثار مقتل عمّار :

لما اصيب عمّار مع علي عليه‌السلام ، اصيب ذو الكلاع الحميري مع معاوية : فلما بلغ قتلهما إلى عمرو بن العاص قال لمعاوية : يا معاوية ، والله ما أدري أنا بقتل أيّهما أشدّ فرحا : بقتل ذي الكلاع أو عمّار! فو الله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمّار لكان يميل بكلّ قبيله إلى علي! ولكان بذلك يفسد علينا جندنا.

وتنازع الرجال في قتل عمّار : فكان لا يزال يجيء رجل فيقول لعمرو عند معاوية : أنا قتلت عمّارا! فيسأله عمرو : فما كان يقول عند قتله؟

__________________

(١) عن الفتوح الكبرى لأحمد بن الأعثم الكوفي ٣ : ٢٦٨.

(٢) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٦٢ عن الأشعث بن قيس ، والشك في عدد التكبير منه! وانظر أنساب الأشراف ٢ : ٣١٨.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٨١.

(٤) عن المصدرين السابقين : الطبقات والفتوح ، ومروج الذهب ٢ : ٣٨٢.

١٥٩

فكانوا يخلطون في الجواب ، حتّى أقبل ابن حويّ (السكوني أو السكسكي) فقال : أنا قتلت عمّارا! فسأله عمرو : فما كان آخر ما نطق به؟ قال : قال :

اليوم ألقى الأحبّه

محمّدا وحزبه!

فقال له عمرو : أنت صاحبه! أما والله ما ظفرت يداك ولكن أسخطت ربّك!

فصدّقه ابن العاص وإنما كان قد ضرب عمّارا على ركبته فسقط المغفر عن رأسه فقتله أبو الغادية ، فكأنه لذلك تخاصما إلى ابنه عبد الله بن عمرو ، فقال لهما : اخرجا عني ، فإن قريشا لما ولعت بعمّار تعذّبه قال رسول الله : «ما لهم ولعمّار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وقاتله وسالبه في النار» (١).

وقال ابن قتيبة : قتله رجلان ترافعا إلى معاوية ورأسه معهما (كذا!) كلّ يقول : أنا قتلته! وكان عمرو حاضرا فقال : سمعت رسول الله يقول : «عمّار تقتله الفئة الباغية» فسمعه معاوية فقال له : قبّحك الله من شيخ! ما تزال تزلق في قولك! أنحن قتلناه! إنّما قتله الذين جاءوا به! ثمّ التفت إلى الحاضرين وقال لهم : إنما نحن الفئة الباغية يعني نبغي دم عثمان (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٤١ ـ ٣٤٣ وفي خبر آخر : أن اختصامهما كان عند معاوية وابن العاص ، فقال ابن العاص لهما : إن تختصمان إلّا في النار! فلما عاتبه معاوية قال له : هو والله ذلك! وإنك لتعلمه! ولوددت أني كنت متّ قبل ذا بعشرين سنة! كما في الطبقات الكبرى ٣ : ٢٥٩ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣١٤ ، ومستدرك الحاكم ٣ : ٣٨٦ ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ١٢٦.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٣٦ ، ونحوه في أنساب الأشراف ٢ : ٣١٧ ، الحديث ٣٨٥. ومع رفع رأس عمار الشهيد إلى أبي يزيد فلا أساس من الصحّة لما روى : أن الإمام عليه‌السلام وقف على عمّار ثمّ جلس إليه ووضع رأسه في حجره وأنشد يقول :

١٦٠