موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ثمّ سرت مع ذي الكلاع حتى دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص وابنه عبد الله وأبو الأعور السلمي وغيرهم ، فقال ذو الكلاع لعمرو : يا أبا عبد الله ؛ هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمّار بن ياسر ولا يكذبك؟ وهو ابن عمّي هذا من أهل الكوفة.

فقال لي عمرو : إني لأرى عليك سيماء أبي تراب (١).

فقلت له : عليّ سيماء محمد وأصحابه ، وعليك سيماء أبي جهل وفرعون!

وكان أبو الأعور السّلمي حاضرا فسلّ سيفه وقال : لا أرى هذا الكذّاب الأليم يشاتمنا بين أظهرنا وعليه سيماء أبي تراب!

فنهره ذو الكلاع وقال له : أقسم بالله لئن بسطت إليه يدك لأحطمنّ أنفك بالسيف! ابن عمّي وقد عقدت له بذمّتي وجئت به إليكما ليخبركما عما تماريتما فيه.

فقال لي عمرو : يا أبا نوح اذكّرك بالله إلّا ما صدّقتنا أفيكم عمّار بن ياسر؟!

فقلت له : إنّ معنا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيره عدّة ، وكلّهم جادّ على قتالكم ، فما أنا بمخبرك عنه حتّى تخبرني لم تسألني عنه؟

فقال عمرو : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّ عمارا تقتله الفئة الباغية ، وإنه ليس ينبغي لعمّار أن يفارق الحقّ وأن تأكل النار منه شيئا».

فقلت : لا إله إلّا الله والله أكبر ، والله إنه لفينا جادّ على قتالكم! ولقد حدّثني يوم الجمل : أنا سنظهر عليهم ، ولقد حدثني أمس أن : لو ضربتمونا حتّى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحقّ وأنهم على الباطل ، ولكانت قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!

فقال لي عمرو : فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قلت : نعم.

__________________

(١) هذه أول بادرة في أخبار أهل الشام بنبز الإمام عليه‌السلام بلقب أبي تراب خلافا للآداب.

١٢١

فركب عمرو وابناه ، وعتبة بن أبي سفيان ، والوليد بن عقبة ، وأبو الأعور السّلمي وحوشب.

وسار معي ذو الكلاع حتّى انتهيت إلى أصحابي ، فذهبت إلى عمّار فوجدته قاعدا مع أصحاب له منهم عبد الله بن العباس والأشتر وهاشم المرقال الزهريّ وابنا بديل الخزاعي ، وجارية بن المثنى ، وخالد بن المعمّر ، وعبد الله بن حجل ، اثنا عشر رجلا. فقصصت على عمّار القصة وقلت له عن عمرو بن العاص : أنه يريد أن يلقاك. فقال عمّار لأصحابه : اركبوا فركبوا ، وبعثوا إليهم عوف بن بشر العبدي لينادي ابن العاص ، فذهب فناداه فقالوا له : هو هاهنا. فأخبره بمكان عمّار وأصحابه ... فقال عمرو لأصحابه : فأيّكم يسير إليه؟ فسار إليه أبو الأعور السّلمي ... إلى أن قال له :

ويحك أدع أصحابك حتّى يقفوا فإذا علمت كم هم جئت من أصحابي بعددهم ، فإن شاء أصحابك فليقلّوا وإن شاءوا فليكثروا. فسار عوف بن بشر (في مائة من فرسان خيله) وسار أبو الأعور أيضا في مائة فارس حتى إذا كانوا في منتصف الصفوف وقفوا ، وسار أبو الأعور بعمرو العاص في عشرة منهم ، ورجع خيله ، وسار عمّار في اثني عشر فارسا ، ورجع عوف بن بشر بخيله. ونزل عمرو والذين معه ، ونزل عمّار والذين معه واحتبوا بحمائل سيوفهم.

فتشهّد عمرو بن العاص ... وقال لعمّار : يا أبا ليقظان ؛ إنما جئت لأنّي رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم ، اذكّرك الله إلّا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم ، وحرّضت على ذلك ، فعلام تقاتلنا؟! أو لسنا نعبد إلها واحدا ، ونصلّي إلى قبلتكم وندعو دعوتكم ونقرأ كتابكم ونؤمن برسولكم؟!

فقال عمّار : الحمد لله الذي أخرجها من فيك أنها لي ولأصحابي الدين والكتاب والقبلة وعبادة الرحمن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون أصحابك ، وجعلك ضالا مضلا

١٢٢

وجعلك أعمى لا تعلم هاد أنت أم ضالّ ، وسأخبرك علام اقاتلك وأصحابك : لقد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن اقاتل الناكثين وقد فعلت ، وأمرني أن اقاتل القاسطين فأنتم هم ، وأما المارقون فما أدري أدركهم أم لا؟

أيها الأبتر! ألست تعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ : «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وأنا مولى الله ورسوله وعليّ بعده ، وليس لك مولى ....

فقطع عمرو كلام عمّار وقال له : يا أبا اليقظان لم تشتمني ولست أشتمك؟

فقال عمّار : وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول : إني عصيت الله ورسوله يوما قط؟!

فقال عمرو لعمّار : إنّ فيك لمسبّات سوى ذلك!

فقال عمّار : إنّ الكريم من أكرمه الله (نعم) كنت وضيعا فرفعني الله ، ومملوكا فأعتقني الله ، وضعيفا فقوّاني الله ، وفقيرا فأغناني الله! (وكان عمرو يكنّي له عن ذلك!).

فقال عمرو : فما ترى في قتل عثمان؟ قال : فتح لكم باب كلّ سوء! قال عمرو : فعليّ قتله؟ قال عمّار : بل الله قتله وعليّ معه! قال عمرو : أكنت فيمن قتله؟ قال : كنت «مع» من قتله وأنا اليوم اقاتل معهم! قال عمرو : فلم قتلتموه؟ قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه! فالتفت عمرو إلى أصحابه وقال لهم : ألا تسمعون؟ قد اعترف بقتل عثمان! (هذا ولم يقل : أنا ممّن قتله ، وإنما : مع من قتله).

فقال عمّار : وقد قالها قبلك فرعون : (أَلا تَسْتَمِعُونَ)(١).

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٥.

١٢٣

وقام الشاميون ولهم زجل وركبوا خيولهم ورجعوا ، وأبلغوا معاوية ما كان بينهم فقال : هلكت العرب! إن حرّكتهم خفّة (هذا) العبد الأسود! يعني عمّارا (١).

وقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك فما هذا (الحديث)؟! فقال عمرو : إنه سيفارق أبا تراب ويرجع إلينا (٢) ويقنع بذلك ذو الكلاع ويقلع حتّى قتل عمّار رضى الله عنه.

ومن حمير اليمن أهل جرش ، وكان سيّدهم عبد الله بن سويد قد بلغه خبر جمع ذي الكلاع بين الرجلين عمرو وعمّار ، فمشى إلى ذي الكلاع وسأله : لم جمع بين الرجلين؟ قال : لحديث سمعه من عمرو ذكر أنه سمعه من رسول الله يقول لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» وأخبره الخبر ، فحدّث به ، فسمعه عبد الله بن عمر العنسي (من عشيرة عمار) وكان من عبّاد أهل زمانه ، فخرج ليلا حتى أصبح في عسكر علي عليه‌السلام وحدّثهم بالحديث.

فلما سمع معاوية بذلك بعث إلى عمرو فقال له : أفسدت عليّ أهل الشام! أكلّ ما سمعته من رسول الله تقوله؟! فقال عمرو : لقد رويت أنت فيه مثل الذي رويت فيه (وإلّا) فاسأل أهل الشام! قلتها وعمّار يومئذ (على عهد عمر) لي ولك ، قلتها ولست والله أعلم الغيب أن ستكون صفين (٣).

لواء عمرو وموقف علي عليه‌السلام وعمار :

وكأنّ ابن العاص رأى أنّ الموقف بخلاف راية الهدى عمّار ، بحاجة إلى تشبّث من قبلهم بشيء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان بعد إسلامه بعد الحديبية في غزوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٣٢ ـ ٣٣٩.

(٢) وقعة صفين : ٣٤١.

(٣) وقعة صفين : ٣٤٣ ـ ٣٤٥.

١٢٤

إذ أخرج شقّة سوداء وقال لمن حضره : من يأخذها بما فيها؟ فانبرى ابن العاص وقال : يا رسول الله وما فيها؟ قال : فيها : أن لا تقابل بها مسلما! ولا تقرّ بها من كافر! فأخذها ولعلّه كان في غزوة ذات السلاسل. وهنا أخرج هذه الشقّة ، وعلّقها برأس رمحه ورفعها وقال للناس : هذا لواء عقده لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فتداولوها حتّى بلغ ذلك عليا عليه‌السلام ، فقال لهم : هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إنّ عدوّ الله عمرو بن العاص أخرج رسول الله له هذه الشقّة ... وحدّثهم بالحديث ثمّ قال عليه‌السلام : فقد والله قرّبها من المشركين! وقاتل بها اليوم المسلمين! والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر ، فلما وجدوا أعوانا رجعوا إلى عداوتهم منّا ، إلّا أنهم لم يدعوا الصلاة.

وتمسّك عمّار بهذا الكلام عن الإمام عليه‌السلام واحتجّ بها لمّا قال له رجل : يا أبا اليقظان ؛ ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قاتلوا الناس حتّى يسلموا ، فإذا أسلموا عصموا منّي دماءهم وأموالهم؟».

فأجابه عمّار بكلام الإمام عليه‌السلام قال : بلى ، ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر حتّى وجدوا عليه أعوانا (١).

فروى نصر عن الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى علي عليه‌السلام فقال :

يا أمير المؤمنين ، هؤلاء القوم الذين (جئنا) نقاتلهم ، الدعوة واحدة ، والرسول واحد ، والصلاة واحدة ، والحجّ واحد فبم نسمّيهم؟ قال : نسمّيهم بما سمّاهم الله في كتابه. قال : ما كلّ ما في الكتاب أعلمه. قال : أما سمعت الله قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ

__________________

(١) وقعة صفّين : ٢١٥.

١٢٥

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)(١) فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبيّ وبالحقّ ، فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا ، وشاء الله قتالهم فقاتلناهم (٢).

وتقدّم إليه آخر فقال : إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحقّ الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل ، ولم أزل مستبصرا على ذلك حتّى كان صباح يومنا هذا فتقدم منادينا ونادى للصلاة فشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله ، فنادى مناديهم بمثل ذلك. ثمّ اقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحدا ودعونا دعوة واحدة ورسولنا واحد ، فأدركني الشك!

فقال عليه‌السلام : هل لقيت عمّار بن ياسر؟ قال : لا ، قال : فالقه وانظر ما يقول لك فاتّبعه.

فذهب يستقري الصفوف حتّى انتهى إليه ضحى وقد استظل هو وأصحابه ببرد أحمر فقال : أيكم عمّار بن ياسر؟ فقال عمار : هذا عمار ، قال : أبو اليقظان؟ قال : نعم ، فذكر له ذلك. فقال له عمّار : هل تعرف صاحب هذه الراية السوداء المقابلتي؟ إنّها راية عمرو بن العاص. أشهدت بدرا أو احدا أو حنينا (٣) أو شهدها من يخبرك عنها؟ قال : لا. قال : فإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب ، ومراكزنا على مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم احد ويوم حنين (كذا) ، ولقد قاتلت هذه الراية مع رسول الله الثلاث مرات وهذه الرابعة وهي شرّهن وأفجرهن! افترى دم عصفور حراما؟ قال : بل حلال! قال : فإنهم كذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٣.

(٢) وقعة صفين : ٣٢٢ ، ٣٢٣.

(٣) كذا جاء ذكر حنين هنا ، وقد أسلم ابن العاص بعد الحديبية ، فلعلها زيادة من الرواة.

١٢٦

حلال دماؤهم أتراني بيّنت لك؟ قال : قد بيّنت لي ، قال : فاختر أنّى ذلك أحببت ... أما إنّهم سيضربوننا بأسيافهم حتّى يرتاب المبطلون منكم فيقولون : لو لم يكونوا على حقّ ما ظهروا علينا! والله ما هم من الحقّ على ما يقذي عين ذباب! والله لو ضربونا بأسيافهم حتّى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أنا على حقّ وهم على باطل. وايم الله لا يكون سلما سالما أبدا. ولا تنصرم أيام الدنيا حتّى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين. وحتّى يشهدوا على الفريق الآخر : بأنّهم على الحقّ وأنّ موتاهم وقتلاهم في الجنة ، وأن موتى أعدائهم (أعداء الفريق الآخر) وقتلاهم في النار (١).

أمراء العراق والشام :

روى نصر ، عن جابر الجعفي ، عن الباقر عليه‌السلام قال : إن عليا عليه‌السلام ومعاوية عقدا الألوية وأمّرا الأمراء وكتّبا الكتائب ... فدفع عليّ اللواء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص الزّهري ، واستعمل على الخيل عمّار بن ياسر ، وعلى الرجّالة عبد الله بن بديل الخزاعي ، وجعل مضر الكوفة والبصرة في القلب ، وجعل ربيعة في الميسرة ، وعليهم عبد الله بن العباس ، وعلى رجّالتهم الحارث بن مرّة العبدي ، واليمن في الميمنة وعليهم الأشعث بن قيس (كما وعده) وعلى رجّالتهم سليمان بن صرد الخزاعي.

وعقد ألوية القبائل ، فجعل على قريش وكنانة وأسد قريش : عبد الله بن العباس ، وعلى كندة اليمن حجر بن عدي ، وعلى خزاعة عمرو بن الحمق ، وعلى بكر البصرة حصين بن المنذر ، وعلى تميمها الأحنف بن قيس ، وعلى سعد وربابها

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٢١ ، ٣٢٢ ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٣١٧ ، الحديث ٣٨٦.

١٢٧

جارية بن قدامة السعدي ، وعلى حنظلة وعمرو البصرة أعين بن ضبيعة ، وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمّر السّدوسي ، وعلى لهازم البصرة حريث بن جابر الحنفي ، وعلى عبد قيس البصرة عمرو بن حنظلة ، وعلى قيس البصرة قبيصة بن شدّاد الهلالي ، وعلى قريشها الحارث بن نوفل الهاشمي.

وعلى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة ، وعلى بجيلة بها رفاعة بن شدّاد ، وعلى ذهلها يزيد بن رويم الشيباني ، وعلى طيّئ ومعها قضاعة عدي بن حاتم الطائي ، وعلى لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي ، وعلى تميم بها عمير بن عطارد ، وعلى الأزد واليمن بها جندب بن زهير الأزدي ، وعلى حنظلة وعمرو الكوفة شبث بن ربعي ، وعلى همدان سعيد بن قيس ، وعلى سعد ورباب الكوفة الطفيل أبو صريمة ، وعلى مذحج الأشتر بن الحارث النخعي ، وعلى عبد القيس بها صعصعة بن صوحان العبدي ، وعلى قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكّائي العامري (١) فكان مع الإمام بالعمدة جند العراقين البصرة والكوفة وكان قرّاء أهل الكوفة مع عمّار بن ياسر ، وقرّاء أهل البصرة مع مسعر بن فدكي التميمي (٢).

وكان مع معاوية غير جنده بدمشق أربعة أجناد من الأردن وفلسطين ، وحمص وقنّسرين وأعطى لواءه إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي ، وجعل على خيله عبيد الله بن عمر العدوي ، وعلى القلب وهم جند دمشق الضحّاك بن قيس الفهري ولهم رجالتان من قيس وعليهم همّام بن قبيصة ومن قضاعة وعليهم حسّان بن بجدل الكلبي (خال يزيد بن معاوية) ، وعلى الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي ، وهم جند حمص وعليهم ذو الكلاع الحميري ، ومعهم جند قنسرين وعليهم زفر بن الحارث. وعلى رجالة الميمنة حابس بن سعد الطائي.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٢) وقعة صفين : ٢٠٨.

١٢٨

وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة الفهري (ابن عمّ الضحاك) ومعه في الميسرة جند الأردن وعليهم أبو الأعور سفيان بن عمرو السّلمي ، وعلى رجّالتهم عبد الرحمن بن قيس القيني ، ومعهم قبائل الاردن : قضاعة وعليهم حبيش بن دلجة القيني (ابن عم عبد الرحمن) وعلى مذحج الاردن المخارق بن حارث الزبيدي ، وعلى همدان الاردن حمزة بن مالك الهمداني ، وعلى غسّان الاردن يزيد بن الحارث الغسّاني ، وعلى متفرّقتهم القعقاع بن أبرهة الكلاعي الحميري. وكان معهم في الميسرة أهل فلسطين وعليهم مسلمة بن مخلّد ، وعلى رجّالتهم الحارث بن خالد الأزدي ، ومعهم قبائل فلسطين : كنانة وعليهم شريك الكناني ، وعلى جذام واللخم بها ناتل بن قيس الجذامي ، ومعهم خثعم اليمن وعليهم حمل بن عبد الله الخثعمي (١).

ولم يكن كل هؤلاء يصطفّون للقتال ، وإنما كان يصطفّ من كلّ من العراق والشام أحد عشر صفا (٢).

أوّل القتال في أوّل صفر :

وكان أول القتال مع أول صفر يوم الأربعاء ، وكان بدء القتال مع مسيرة أهل الشام وعليهم حبيب بن مسلمة الفهري ، وخرج إليه من العراق الأشتر النخعي مع قومه من مذحج ، فتقاتلوا جلّ النهار منتصفين ، وتراجعوا.

وفي يوم الخميس الثاني من صفر خرج من أهل العراق صاحب لوائهم هاشم المرقال بن عتبة الزهري ، وخرج إليه من أهل الشام من مسيرتهم أيضا من أهل الأردن وعليهم أبو الأعور سفيان بن عمرو السّلمي ، فصبر بعضهم لبعض ثمّ انصرفوا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٠٦ ، ٢٠٧.

(٢) وقعة صفين : ٢١٣ ، ٢١٤.

١٢٩

وفي يوم الجمعة لم يوقفوا القتال في الثالث من صفر ، وخرج إليهم عمّار بن ياسر في قبيل من خيل العراق ، وخرج إليه عمرو بن العاص (١) وهو على كل خيول أهل الشام (٢) أو كان عمّار على الرجّالة (٣) وخرج معه على الخيل زياد بن النضر الحارثي الهمداني.

فلمّا دنا عمّار منهم ناداهم : يا أهل الشام! أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين ، فلما أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلم ، وهو والله فيما يرى راهب غير راغب! وقبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودّة المجرم؟ ألا وإنه معاوية فالعنوه وقاتلوه ، فإنّه ممّن يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله!

ثمّ أمر زياد الحارثيّ أن يحمل بخيله على خيل ابن العاص فحمل عليهم ، وشدّ عمّار في الرجّالة معه عليه فأزال ابن العاص عن موقفه ، ثمّ تصابروا ، ثمّ تراجعوا (٤).

وفي يوم السبت الرابع من صفر خرج محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية) في جمع عظيم ، وخرج إليه عبيد الله بن عمر في جمع عظيم من خيل معاوية ، فتقاتلوا قتالا شديدا. وأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية : أن اخرج إليّ أبارزك. فخرج إليه ماشيا ، وكان الإمام عليه‌السلام يبصر الموقف فبصر به فسأل عنه فاخبر به ، فأدركه ودعاه ونزل عن فرسه وطلب منه أن يمسك الفرس ، ثمّ مشى إلى عبيد الله وقال له : أنا أبارزك فهلمّ إليّ! فقال : ليس لي حاجة في مبارزتك! ورجع عنه ، فرجع عنه علي عليه‌السلام.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢١٤.

(٢) وقعة صفين : ٢١٣.

(٣) وقعة صفين : ٢٠٨.

(٤) وقعة صفين : ٢١٤ ، ٢١٥.

١٣٠

فقال محمد لأبيه : يا أبه! أتبرز بنفسك إلى هذا الفاسق اللئيم عدوّ الله؟! والله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه! والله لو تركتني لرجوت أن أقتله!

فقال عليه‌السلام : يا بنيّ ؛ لو بارزته أنا لقتلته ، ولو بارزته أنت لرجوت أن تقتله ، وما كنت آمن من أن يقتلك. ثمّ تحاجز الناس وتراجعوا (١).

وفي يوم الأحد الخامس من صفر خرج عبد الله بن العباس بميسرة الإمام ، وخرج إليه الوليد بن عقبة الأموي (٢) أو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي وكان معاوية يعدّه من ولده! فقوّاه بالسلاح والخيل (٣) وكان صاحب لوائه ، فلما دنا ابن عباس من الوليد (أو ابن الوليد) ناداه الوليد : يا ابن عباس ، قطعتم أرحامكم وقتلتم إمامكم! فكيف رأيتم صنع الله بكم! لم تعطوا ما طلبتم ولم تدركوا ما أمّلتم! والله مهلككم وناصرنا عليكم! فدعاه ابن عباس للبراز فأبى (٤)!

فبرز عبد الرحمن بن خالد أمام الخيل وارتجز وأخذ يطعن الناس ، فبرز إليه عديّ بن حاتم الطائي في حماة مذحج وقضاعة وقصد عبد الرحمن برمحه وارتجز له ، فلما كاد أن يطعنه اختلط القوم وارتفع العجاج وتوارى عبد الرحمن وانكسر ورجع إلى معاوية مقهورا (٥).

واقتتل الناس قتالا شديدا حتّى الظهر ثمّ انصرفوا.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢١.

(٢) وقعة صفين : ٢٢١.

(٣) وقعة صفين : ٤٣٠.

(٤) وقعة صفين : ٢٢١ ، ٢٢٢.

(٥) وقعة صفين : ٤٣٠ ، ٤٣١.

١٣١

وكأنّما هذه المواجهة الفارقة بين ابن عبّاس المفسّر وبين الوليد الفاسق نبّه بعض قرّاء الشام ، فلحق ناس منهم بالإمام عليه‌السلام ، يقدمهم شمر بن أبرهة الحميري ، ففتّ ذلك في أهل الشام ، فقال ابن العاص لمعاوية :

يا معاوية ، إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا له من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة قريبة ورحم ماسّة. وقدم في الإسلام لا يعتدّ أحد بمثله ، ونجدة في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد. وإنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين ، وفرسانهم وقرّائهم وأشرافهم وقدمائهم في الإسلام ، ولهم في النفوس مهابة. فبادر بأهل الشام ... واتهم من باب الطمع ... ومهما نسيت فلا تنس أنك على باطل! واقترح له أن يخطب الناس. فأمر معاوية فأحضر له المنبر وخرج فخطبهم (١).

خطاب الإمام عليه‌السلام :

فلما بلغ ذلك الإمام عليه‌السلام أمر فنودي في الناس بالاجتماع فاجتمعوا ، وجمع صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حوله ، وكأنّه أحبّ أن يعلم أنّ أصحاب رسول الله متوافرون عنده ، ثمّ قام للكلام متوكئا على قوسه ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم :

أيها الناس ، اسمعوا مقالتي وعوا كلامي! إنّ الخيلاء من التجبّر ، وإنّ النخوة من التكبّر ، وإن الشيطان عدو حاضر ، يعدكم الباطل. ألا إن المسلم أخو المسلم ، فلا تنابذوا ولا تخاذلوا. وإن شرائع الدين واحدة وسبله قاصدة ، من أخذ بها لحق ومن تركها مرق ، ومن فارقها محق. ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن ، ولا بالمخلف إذا وعد ، ولا بالكذّاب إذا نطق.

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٢ ، ٢٢٣.

١٣٢

نحن أهل بيت الرحمة ، وقولنا الصدق ، ومن فعالنا القصد ، ومنّا خاتم النبيّين وفينا قادة الإسلام ، ومنّا قرّاء الكتاب. ندعوكم إلى الله ورسوله ، وإلى جهاد عدوّه والشدّة في أمره ، وابتغاء رضوانه ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصيام شهر رمضان ، وتوفير الفيء لأهله.

ألا وإن من أعجب العجائب : أنّ معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص السّهمي أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما! وقد علمتم أني لم اخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قطّ ولم أعصه قطّ ، أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال ، وترعد فيها الفرائص! نجدة أكرمني الله بها فله الحمد.

ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ رأسه لفي حجري ، ولقد وليت غسله بيدي وحدي ، تقلّبه الملائكة المقرّبون معي.

وايم الله ما اختلفت أمّة قطّ بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها ، إلّا ما شاء الله».

فتفرق الناس وقد نفذت بصائرهم في قتال عدوّهم (١).

وكان معه عليه‌السلام في صفّين من أهل بدر سبعون رجلا ، وممّن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان سبعمائة رجل ، ومن سائر الأنصار والمهاجرين أربعمائة رجل ، ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلّا النعمان بن بشير ، ومسلمة بن مخلّد (٢) أو كان من أهل البيعة ثمانمائة مع عمّار بن ياسر (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، ونهج البلاغة خ ١٩٧ بنقيصة في الأخير وزيادة فيما قبله.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٨ ، ولابن أبي رافع كتاب في تسمية من قتل مع علي عليه‌السلام من الصحابة في الجمل وصفّين ، وجمعه ونشره الشيخ قوام الدين القمي الوشنوي.

(٣) تاريخ خليفة : ١١٨.

١٣٣

وفي يوم الاثنين السادس من صفر ، كان القتال بين قيس بن سعد الأنصاري ، أو سعيد بن قيس الهمداني ، وبين ذي الكلاع الحميري.

وفي يوم الثلاثاء السابع من صفر. كان بين الأشتر أيضا وبين حبيب بن مسلمة الفهري (١) وكانت الحرب بينهم سجالا وتواقفوا للموت وصبر الفريقان وتكافئوا ، واسفرت عن قتلى منهما ، والجراح أعم في أهل الشام ، ثمّ انصرف الفريقان (٢).

وفي عشية هذا اليوم قال الإمام عليه‌السلام : حتّى متى لا نناهض القوم بأجمعنا؟ ثمّ قام في الناس عصر يوم الثلاثاء عشية الأربعاء وخطبهم فقال :

«الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض ولا ينقض ما أبرم ، ولو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة ولا من خلقه ، ولا تنازع البشر في شيء من أمره ، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله.

وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار حتى لفّت بيننا في هذا المكان ، فنحن من ربّنا بمرأى ومسمع ، فلو شاء لعجّل النقمة ولكان منه التغيير حتى يكذّب الله الظالم ويعلم الحقّ أين مصيره ، ولكنّه جعل الدنيا دار الأعمال ، وجعل الآخرة عنده دار القرار (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)(٣).

ألا إنّكم لاقوا العدوّ غدا إن شاء الله ، فأطيلوا الليلة القيام ، وأكثروا تلاوة القرآن ، واسألوا الله الصبر والنصر ، والقوهم بالجدّ والحزم وكونوا صادقين». ثمّ انصرف.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٧٩.

(٣) سورة النجم : ٣١.

١٣٤

ووثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم يصلحونها (١).

وكان رئيس قبيلة ذهل بن ربيعة البصرة خالد بن المعمّر السّدوسي ، فأتى ناس عليا عليه‌السلام وقالوا له : إنا نرى خالد بن المعمّر السّدوسي قد كاتب معاوية وقد خشينا أن يتابعه! فبعث علي عليه‌السلام إليه وإلى رجال من أشرافهم ، فلما اجتمعوا قام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أما بعد ـ يا معشر ربيعة ـ فأنتم أنصاري ومجيبوا دعوتي ، ومن أوثق حيّ في العرب في نفسي ، ولقد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم خالد بن المعمّر! وقد أتيت به وجمعتكم لأشهدكم عليه وتسمعوا منه ومنّي! ثمّ أقبل عليه فقال له : يا خالد بن المعمّر ، إن كان ما بلغني عنك حقّا فإنّي اشهد الله ومن حضرني من المسلمين أنك آمن حتّى ترجع إلى أرض دون سلطان معاوية! وإن كنت مكذوبا عليك فأبّر صدورنا بأيمان نطمئن إليها.

فتنادى كثير منهم : والله لو نعلم أنه فعل لقتلناه! وقال شقيق بن ثور : لا وفّق الله خالد بن المعمّر حين ينصر معاوية وأهل الشام على علي وربيعة! وقال زياد بن خصفة : يا أمير المؤمنين ، استوثق من ابن المعمّر بالأيمان لا يغدر! فحلف بالله ما فعل ، واستوثق منه وتركه بحاله (٢).

وخرج الإمام بنفسه :

وخرج الإمام عليه‌السلام بنفسه في يوم الأربعاء الثامن من صفر وعبّأ الناس على ما رتّبهم عليه وكان يقول لكل قبيلة من أهل الكوفة : اكفوني قبيلتكم من أهل الشام ،

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٥.

(٢) وقعة صفين : ٢٨٧ ، ٢٨٨ وقال : قبل الوقعة في هذا اليوم. يعني الأربعاء الثامن من شهر صفر.

١٣٥

وعبّأ معاوية أهل الشام (١) وخرج الإمام عليه‌السلام بنفسه في الصحابة من البدريين وغيرهم من المهاجرين والأنصار ، وهمدان وربيعة.

وتقدم عليه‌السلام على البغلة الشهباء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه عمامة بيضاء ، وهو يقف على مراتب الناس يحثهم ويحرّضهم. فروى المسعودي ، عن ابن عباس قال : انتهى إليّ فوقف وقال :

«يا معشر المسلمين ؛ غمّوا الأصوات ، وأكملوا اللأمة ، واستشعروا الخشية ، وأقلقوا السيوف في الأجفان قبل السلّة ، والحظوا الشزر ، واطعنوا الهبر ، ونافحوا بالظّبا ، وصلوا السيوف بالخطاء ، والنبال بالرماح. وطيبوا نفسا عن أنفسكم ، فإنكم بعين الله ومع ابن عمّ رسول الله! عاودوا الكرّ واستقبحوا الفرّ ، فإنه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب. ودونكم هذا السواد الأعظم والرواق المطنّب فاضربوا نهجه ، فإن الشيطان راكب صعيده مفترش ذراعيه ، قد قدّم للوثبة يدا وأخّر للنكوص رجلا ، فصبرا جميلا حتى تنجلي عن وجه الحق (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)» (٢).

ثمّ استقدم معاوية أهل حمص وعليهم ذو الكلاع الحميري ، ثمّ أهل الأردن وعليهم أبو الأعور السلمي ، ثمّ أهل قنّسرين وعليهم زفر بن الحارث ، ثمّ جند دمشق وهم القلب وعليهم الضحّاك بن قيس الفهري فأطافوا بمعاوية ، فكان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف ذلك اليوم ، فلما نظر عمرو بن العاص إلى أهل العراق استقلّهم وطمع فيهم فرجع إلى معاوية وقال له : اعصب هذا الأمر برأسي.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٣٠٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٧٩ ، ٣٨٠. والآية ٣٥ من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٣٦

ثمّ تقدم وقال لابنيه محمد وعبد الله : أخّروا الحاسرين وقدّموا الدّارعين ، ثمّ قدّم قيسا وكلبا وكنانة على الخيول ، وقرب حوله أهل اليمن ، وقعد هو على منبر وقال لهم : لا يقربنّ هذا المنبر أحد إلّا قتلتموه كائنا من كان!

وجعل معاوية بإزاء مذحج من العراق قبيلة عكّ ، وكانوا يقلبون الجيم كافا فطرحوا حجرا بين أيديهم وقالوا : لا نفرّ حتى يفرّ هذا الحكر (بالكاف).

وأمر الإمام كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه مثلها من أهل الشام.

فلما حضرت الحرب أتوه بفرسه فركبه وذكر أذكارا ودعا بدعوات كان منها : اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبيّنا ، وقلّة عددنا ، وكثرة عدوّنا ، وتشتّت أهوائنا ، وشدة الزمان بنا ، وظهور الفتن بيننا ، فأعنّا (على ذلك) بفتح تعجّله (وبضرّ تكشفه) ونصر تعزّه ، وسلطان حقّ تظهره ، ثمّ قال : سيروا على بركة الله (١).

بعض المبارزات :

وخرج رجل من أهل الشام إلى ما بين الصفّين فنادى : من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أهل العراق فتقاتلا حتى تعانقا فوقعا بين قوائم فرسيهما ، وغلب العراقي فجلس على صدر الشامي وكشف مغفره يريد ذبحه وتوقّف! فناداه أصحابه : أجهز عليه فنادى : هو أخي! فقالوا له : فاتركه فقال : لا إلّا أن يأذن لي أمير المؤمنين ، فاخبر به فأذن له فتركه ، ولكنّه عاد إلى معاوية (٢).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٢٦ ـ ٢٣١.

(٢) وقعة صفين : ٢٧٢ وليس كلّهم هكذا ، ففيه : أن ذا نواس العبدي ـ وكان من أهل الكوفة فلحق بمعاوية ـ خرج يسأل المبارزة! فخرج إليه ابن عمه الحارث العبدي فلما انتميا إلى عشائرهما من عبد قيس فعرف كلّ منهما صاحبه تتاركا : ٢٧٠ و : خرج

١٣٧

وكان الإمام عليه‌السلام يباشر بنفسه القتال ولم يكن معاوية يشارك في ذلك ، ولكن كان له مولى ذا بأس شديد يلبس سلاح معاوية ويتشبّه به فإذا قاتل قال الناس :

ذاك معاوية! وكان معاوية قد أمره أن يتّقي الإمام عليه‌السلام ثمّ يبارز من شاء أو يحارب كيفما شاء. فقال له عمرو بن العاص : إنما كره معاوية أن يكون لك حظّ قتل عليّ! لأنّك لست من قريش ، ولو كنت قرشيّا لأحبّ ذلك منك ، فإن رأيت فرصة فاقتحم!

وخرج علي عليه‌السلام هذا اليوم أمام الخيل ، فناداه حريث : يا علي : هل لك في المبارزة؟

فأقبل عليه علي عليه‌السلام وهو يرتجز له ، ثمّ ما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين! فلما بلغ ذلك معاوية جزع عليه جزعا شديدا وعاتب عمرا لإغرائه إياه.

__________________

ـ سويد بن قيس الأرحبي الهمداني من عسكر معاوية يسأل المبارزة ، فخرج إليه من عسكر العراق أبو العمرّطة قيس بن عمرو وهو ابن عمّ سويد ، فلما تقاربا تعارفا وتواقفا وتساءلا ودعا كل منهما صاحبه إلى ما هو عليه! ثمّ انصرف كل منهما إلى أصحابه : ٢٦٨. وكرّر خبره في : ٢٨٥ فقال : خرج قيس بن يزيد الكندي ـ وليس الأرحبي الهمداني ـ وهو ممن فرّ من علي عليه‌السلام إلى معاوية (وسأل البراز) فخرج إليه من أصحاب علي عليه‌السلام : أبو العمرّطة قيس بن عمرو ، فلما دنا منه عرفه فانصرف كل منهما عن صاحبه! وبرز أثال بن حجل بن عامر بدعوة الأشتر ، ودعا للمبارزة وكان أبوه حجل بن عامر عامرا لديار الشام وعرفهما معاوية فدعا حجلا وقال له : دونك الرجل! ولم يعرّفه به ، فبرز إليه وبادره بطعنة رمحه وطعنه ابنه ، وانتميا فإذا هو ابنه! فنزلا واعتنقا وبكيا ، وقال الأب لابنه : أي أثال ؛ هلمّ إلى الدنيا؟ فأجابه ابنه : وا سوأتاه! فما أقول لعليّ وللمؤمنين الصالحين؟! ولو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن تنهاني! فأنا أكون على ما أنا عليه وكن على ما أنت عليه. وانصرفا : ٤٤٣.

١٣٨

وبرز عمرو بن حصين السكسكي فنادى : يا أبا الحسن هلمّ إلى المبارزة؟ ثمّ حمل على علي ليضربه فبادره سعيد بن قيس الهمداني ففلق صلبه.

ثمّ قام علي عليه‌السلام بين الصفّين ونادى مكرّرا : يا معاوية! وبلغ ذلك معاوية فقال : اسألوه ما يريد؟ فسألوه ذلك فقال : احبّ أن يظهر لي فاكلّمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلما قارباه قال لمعاوية : ويحك! علام يقتتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم بعضا؟ ابرز إليّ فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له!

فالتفت معاوية إلى عمرو وقال له : ما ترى يا أبا عبد الله؟ قال : لقد أنصفك الرجل ، واعلم أنّه إن نكلت عنه لم تزل سبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي! فقال معاوية : يا عمرو بن العاص ، ليس مثلي يخدع عن نفسه ، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلّا سقى الأرض من دمه! ثمّ انصرف ومعه عمرو ، فضحك علي عليه‌السلام وعاد إلى موقفه. وقال معاوية لعمرو : ما أظنك يا عمرو إلّا مازحا! ويحك يا عمرو ما أحمقك! أتراني أبرز إليه ودوني الأشعريون وجذام وعكّ؟ وحقدها معاوية على عمرو (١).

ثمّ قاتلت النخع قتالا شديدا فأصيب يومئذ من معاريفهم : بكر بن هوذة ، وحنان بن هوذة ، وشعيب بن نعيم ، وربيعة بن مالك ، وابي بن قيس (٢) وقطعت رجل أخيه الفقيه علقمة بن قيس (٣).

__________________

(١) وقعة صفين : ٢٧٣ ـ ٢٧٥.

(٢) وله قبر قرب قبر عمار بن ياسر في بقعته في صفّين.

(٣) وقعة صفين : ٢٨٧ وتمام الخبر : وكان يقول : ما أحبّ أن رجلي أصحّ مما كانت لما أرجو بها من حسن الثواب من ربّي ، ولقد كنت أحبّ أن أبصر أخي في نومي ، فرأيته فقلت له : يا أخي ، ما ذا قدمتم عليه؟ قال : التقينا نحن والقوم عند الله عزوجل فاحتججنا فحججناهم ـ أي غلبت حجّتنا حجّتهم ـ فما سررت بشيء مذ عقلت كسروري بتلك الرؤيا.

١٣٩

وخطب سعيد بن قيس أصحابه ليلا فقال : «الحمد لله الذي هدانا لدينه وأروثنا كتابه ، وامتنّ علينا بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعله رحمة للعالمين وسيّدا للمسلمين ، وقائدا للمؤمنين وخاتم النبيين ، وحجّة الله العظيم على الماضين والغابرين ، فصلوات الله عليه ورحمته وبركاته.

ثمّ قد كان مما قضى الله وقدّره ، والحمد لله على ما أحببنا وكرهنا : أن ضمّنا وعدوّنا بقناصرين (من صفين) فلا يجمل بنا اليوم الحياص (أن نحوص) وليس هذا بأوان انصراف ولات حين مناص. وقد اختصّنا الله منه نعمة لا نستطيع أداء شكرها ولا أن نقدر قدرها : أنّ أصحاب محمد المصطفين الأخيار معنا وفي حيّزنا. فو الله الذي هو بالعباد بصير : أن لو كان قائدنا حبشيا مجدّعا إلّا أنّ معنا من البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا وتطيب أنفسنا ، فكيف وإنما رئيسنا ابن عمّ نبيّنا. بدريّ صدق ، صلّى صغيرا ، وجاهد مع نبيّكم كبيرا.

ومعاوية طليق من وثاق الإسار وابن طليق! ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار وأورثهم العار ، والله محلّ بهم الذلّ والصّغار.

ألا إنكم ستلقون عدوّكم غدا ، فعليكم بتقوى الله والجدّ والحزم والصدق والصبر فإن الله مع الصابرين. ألا إنكم تفوزون بقتلهم ويشقون بقتلكم ؛ والله لا يقتل رجل منكم رجلا منهم إلّا أدخل الله القاتل جنات عدن وأدخل المقتول نارا تلظّى (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(١) ، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه ، وجعلنا وإياكم ممّن أطاعه واتّقاه ، واستغفر الله لنا ولكم وللمؤمنين» (٢).

__________________

(١) الزخرف : ٧٥.

(٢) وقعة صفين : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

١٤٠