موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

«من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمّال : أمّا بعد ، فإنّ رجالا لنا عليهم بيعة قد خرجوا هاربين ، ونظنّهم توجّهوا نحو بلاد البصرة (حيث كانوا من قبل) فاسأل أهل بلادك عنهم واجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك ، ثمّ اكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم ، والسلام».

وجمع زياد بن خصفة قومه من بكر بن وائل فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : أمّا بعد ، يا معشر بكر بن وائل ، فإنّ أمير المؤمنين ندبني لأمر من اموره مهمّ له ، وأمرني بالانكماش فيه بالعشيرة حتّى آتي أمره ، وأنتم شيعته وأنصاره وأوثق حيّ من أحياء العرب في نفسه ، فانتدبوا معي الساعة وعجّلوا! فاجتمع له منهم مائة وثلاثون رجلا فقال : كفى لا نريد أكثر من هؤلاء.

وخرج بهم حتّى قطع جسر الكوفة حتّى بلغ دير أبي موسى بعد النخيلة فنزل وأقام به بقية يومه ينتظر أمر أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

وفعلوا كفعل أهل النهروان :

كان عمر حين ولى عمّار بن ياسر على الكوفة وجّه معه عشرة من الأنصار أحدهم قرظة بن كعب ، فلمّا توجّه عمّار إلى فتح شوشتر جعل قرظة على خيله ، وفتح قرظة الريّ في أواخر عهد عمر سنة (٢٣ ه‍) ولمّا سار الإمام عليه‌السلام لحرب الجمل عزل عن الكوفة الأشعري وولّاها قرظة ، ولمّا خرج إلى صفين دفع إليه راية الأنصار مع عمّار بن ياسر أيضا ، فلمّا عاد من صفين جعله على الخراج بناحية عين تمر (٢).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٣٥ ـ ٣٣٨ عن المدائني ، عن عبد الله بن قعين ، وفي الطبري ، عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن عبد الله بن فقيم ٥ : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) انظر قاموس الرجال ٨ : ٥٢٠ برقم ٦٠٦٠.

٣٤١

وكان عمله قريبا من قرية نفّر على نهر نرسي من الفرات الأسفل ، وجاءه يهوديّ ذميّ سواديّ فأخبره : أنّه كان مع سواديّ آخر من دهاقين أسفل الفرات قرب قرية نفّر قد أسلم وصلّى يدعى : زادان فرّخ (فارسي) قد زار إخوانا له بناحية نفّر ، فمرّت بها خيل من قبل الكوفة متوجّهة نحو نفّر ، فأخذوهما وقالوا لهذا اليهودي : ما دينك؟ فقال : يهودي ، فقالوا فيما بينهم : خلّوا سبيله فلا سبيل لكم عليه ، وقالوا لزادان فرّخ : أكافر أنت أم مسلم؟ فقال : بل مسلم ، فقالوا له : فما قولك في عليّ بن أبي طالب؟ فقال لهم :

أقول : إنّه أمير المؤمنين ووصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد البشر!

فقالوا له : كفرت يا عدوّ الله! وحملت عليه عصابة منهم فقطّعوه بسيوفهم!

فلمّا أخبر هذا اليهودي الذميّ قرظة بن كعب بذلك كتب به إلى الإمام يقول : لعبد الله علي أمير المؤمنين ، من قرظة بن كعب ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّي اخبر أمير المؤمنين أنّ خيلا مرّت بنا من قبل الكوفة متوجّهة نحو نفّر (إلى أن قال) : وقد سألت عنهم فلم يخبرني أحد بشيء ، فيكتب إليّ أمير المؤمنين برأيه فيهم انتهي إليه ، والسلام.

فكتب إليه الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فقد فهمت كتابك وما ذكرت من أمر العصابة التي مرّت بك فقتلت المرء المسلم وأمن عندهم المخالف الكافر. إنّ اولئك قوم استهواهم الشيطان فضلّوا ، وكانوا كالذين حسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصمّوا ، فأسمع بهم وأبصر يوم تخبر عن أحوالهم ، والزم عملك واقبل على خراجك ، فأنت كما ذكرت في طاعتك ونصحك ، والسلام.

وكتب إلى زياد بن خصفة التيمي البكري : أمّا بعد ، فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتّى يأتيك أمري ، ذلك أنّي لم أكن أعلم أين توجّه القوم. وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد يقال لها : نفّر ، فاتّبع آثارهم وسل عنهم ، فإنّهم قد قتلوا رجلا مسلما مصلّيا من أهل السواد ، فإذا أنت لحقتهم فارددهم إليّ ،

٣٤٢

فإن أبوا فناجزهم واستعن بالله عليهم فإنّهم قد فارقوا الحقّ وسفكوا الدم الحرام وأخافوا السبيل ، والسلام. وناول الكتاب لعبد الله بن وال التيمي فقال له : يا أمير المؤمنين ، ألا أمضي مع زياد بن خصفة إذا دفعت إليه الكتاب؟ فقال له : افعل يا ابن أخي فو الله إنّي لأرجو أن تكون من أعواني على الحقّ وأنصاري على القوم الظالمين. فقال : أنا والله من اولئك وكذلك حيث تحب (١).

وواقفوهم عند المذار :

مضى عبد الله بن وال التيمي البكري بكتاب الإمام عليه‌السلام إلى ابن عمّه زياد بن خصفة التيمي البكري ، وهو على فرس له رائع كريم ـ كما قال ـ وعليه السلاح ، حتّى التقى به وسلّمه الكتاب ، فقال له زياد : يا ابن أخي إنّي لأحبّ أن تكون معي في وجهي هذا فمالي عنك غنى ، فقال له : وقد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك فأذن لي.

ثمّ خرج زياد من دير أبي موسى إلى نفّر فسأل عنهم فقيل له : إنّهم أخذوا نحو جرجرايا (٢) فاتبعناهم فقيل لنا : إنّهم أخذوا نحو المذار (٣) فلحقناهم بالمذار وقد سبقونا إليها قبلنا بيوم وليلة فقد استراحوا وأعلفوا دوابّهم ، ونحن قد تعبنا ونصبنا ولغبنا وانقطعنا ، فلمّا رأونا وثبوا إلى خيولهم فواقفونا ونادانا الخرّيت : أمع الله أنتم ومع كتابه وسنّة نبيّه أم مع القوم الظالمين؟! أخبروني ما ذا تريدون؟

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٣٩ ـ ٣٤٢ وصار الرجل بعد هذا من زعماء التوابين من خذلان الحسين عليه‌السلام.

(٢) في الغارات : نحو المدائن ، ورجّحنا الجرجرايا عن الطبري ٥ : ١١٨ لأنّها في مسيرهم إلى البصرة.

(٣) في الغارات : المدائن ، ورجّحنا المذار عن الطبري ، لأنّها في طريق البصرة قبلها بأربعة أيّام.

٣٤٣

وكان زياد رجلا رفيقا مجرّبا فقال له : قد ترى ما بنا من النصب واللغوب ، والذي جئنا به لا يصلح له الكلام علانية على رءوس أصحابك ، ولكن انزلوا وننزل ثمّ نخلو فنتذاكر أمرنا وننظر فيه ، فإن رأيت فيما جئنا له حظّا لنفسك ، قبلته ، وإن رأيت فيما أسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا ولك لم أردده عليك.

فقبل بذلك الخرّيت ، فأقبل زياد على أصحابه وقال لهم : انزلوا على الماء ، فأقبل من معه على الماء حتّى انتهو إليه فنزلوا به وتفرّقوا وتحلّقوا سبعة وثمانية وتسعة وعشرة يصنعون طعامهم فيأكلون ، ثمّ علّفوا خيولهم ، ثمّ أتوا أميرهم زيادا فقال لهم :

يا هؤلاء إنّا قد لقينا العدوّ وإن القوم لفي عدّتكم ، ولقد حرزتكم وإيّاهم فما أظنّ أحد الفريقين يزيد على الآخر خمسة نفر ، وو الله ما أرى أمركم وأمرهم إلّا أنّه يصير إلى القتال ، فإن كان كذلك فلا تكونوا أعجز الفريقين ، وليأخذ كلّ رجل منكم بعنان فرسه حتى ادنوا منهم وادعوا إليّ صاحبهم فاكلّمه ، فإن تابعني على ما اريد ، وإلّا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيولكم ثمّ أقبلوا إليّ معا.

ثمّ استقدم زياد أمامهم ودعا صاحبهم الخرّيت بن راشد فقال له : اعتزل فلننظر في أمرنا. فأقبل في خمسة نفر ، وخرج مع زياد خمسة ، فقال له زياد : ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا إذ فارقتنا؟

فقال الخرّيت : لم أرض بصاحبكم إماما ولا بسيرتكم سيرة ، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس ، فإذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمة رضا كنت مع الناس!

فقال له زياد : ويحك! وهل يجتمع الناس على رجل منهم يداني عليّا صاحبك الذي فارقته ، علما بالله وبكتابه وسنّة رسوله ، مع قرابته منه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسابقته في الإسلام؟!

٣٤٤

فقال الخرّيت : هو ما أقول لك. فقال زياد : ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ فقال الخرّيت : إنّما قتلته طائفة من أصحابي. فقال له زياد : فادفعهم إليّ. قال الخرّيت : ما إلى ذلك سبيل. فقال زياد : وهكذا تفعل؟ قال : هو ما سمعت.

فدعا زياد أصحابه ودعا الخرّيت أصحابه ، ثمّ تطاعنوا بالرماح حتّى تكسّرت ، ثمّ اضطربوا بالسيوف حتّى انحنت وكثر الجراح في الفريقين وصرع منهم خمسة وقتل من أصحاب زياد رجلان من الموالي : سويد مولى زياد وحامل رايته ، ورجل آخر من أبناء الفرس في العرب يدعى : واقد بن بكر ، وجرح زياد ، وقرب المساء فحال الليل بينهم فتنحّوا ومكثوا ساعة ثمّ مضوا على وجوههم نحو البصرة ثمّ الأهواز.

وأصبح زياد فوجدهم قد ذهبوا ، فمضى بأصحابه خلفهم حتّى بلغوا البصرة فبلغهم أنّهم ذهبوا إلى الأهواز ، ولحق بهم مائتان آخرون من الكوفة من قومهم.

فكتب زياد إلى الإمام ، أمّا بعد ، فإنّا لقينا عدوّ الله الناجي وأصحابه بالمذار ، فدعوناهم إلى الهدى والحقّ وكلمة السواء ، فتولّوا عن الحقّ وأخذتهم العزّة بالإثم ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل ، فقصدونا وصمدنا لهم فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهيرة إلى أن دلكت الشمس ، واستشهد منّا رجلان صالحان ، واصيب منهم خمسة نفر ، وخلّوا المعركة وقد فشت فينا وفيهم الجراحات ، ثمّ إنّ القوم لمّا غشيهم الليل خرجوا تحته متنكرين إلى أرض الأهواز ، وقد بلغني أنّهم نزلوا جانبا منها. ونحن بالبصرة نداوي جراحنا وننتظر أمرك يرحمك الله ، والسلام. وحمل الكتاب إلى الإمام رسوله عبد الله بن وال ، وهو جريح.

وأمر الإمام عليه‌السلام فقرئ الكتاب على الناس ، فقام إليه معقل بن قيس الرياحي التميمي فقال له :

٣٤٥

يا أمير المؤمنين أصلحك الله ، إنّما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين ، فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم وقطعوا دابرهم ، فأمّا أن يلقاهم أعدادهم فلعمري ليصبرنّ لهم ، فإنّهم قوم عرب ، والعدّة منهم تصبر للعدّة وتنتصف منها فيقاتلون كلّ القتال!

فقال له أمير المؤمنين : يا معقل فجهّز أنت لهم ، فانتدب معه من أهل الكوفة ألفان وكتب إلى زياد بن خصفة :

أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت به الناجي وأصحابه الذين طبع الله على قلوبهم ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ، فهم حيارى عمون ، يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، ووصفت ما بلغ بك وبهم الأمر ، فأمّا أنت وأصحابك فلله سعيكم وعليه جزاؤكم ، فأيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها ، فما عندكم ينفد وما عند الله باق ، ولنجزينّ الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وأمّا عدوكم الذين لقيتموهم فحسبهم بخروجهم من الهدى وارتكاسهم في الضلال وردّهم الحقّ وجماحهم في التّيه ، فذرهم وما يفترون ودعهم في طغيانهم يعمهون ، فأسمع بهم وأبصر ، فكأنّك بهم عن قليل بين أسير وقتيل. فأقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين ، فقد أطعتم وسمعتم وأحسنتم البلاء ، والسلام (١).

قتال خوارج بني ناجية في رامهرمز :

فلمّا أراد معقل بن قيس الرياحي التميمي الخروج بالألفين معه لقتال الخرّيت بن راشد الناجي أتى إلى الإمام عليه‌السلام ليودّعه فقال له الإمام : يا معقل ،

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٤٢ ـ ٣٥٠ عن عبد الله بن وال ، وعنه في الطبري ٥ : ١١٨ ـ ١٢١.

٣٤٦

اتّق الله ما استطعت فإنّها وصيّة الله للمؤمنين ، لا تبغ على أهل القبلة ، ولا تظلم أهل الذمّة ، ولا تتكبّر فإنّ الله لا يحب المتكبرين. فقال معقل : الله المستعان. فقال علي عليه‌السلام : خير مستعان. ثمّ قام فخرج.

وكتب الإمام إلى عبد الله بن العباس بالبصرة : أمّا بعد فابعث من قبلك رجلا صلبا شجاعا معروفا بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة فليتّبع معقل بن قيس فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين فليسمع منه وليطيعه ولا يخالفه ، ومر زياد بن خصفة فليقبل إلينا ، فنعم المرء زياد ونعم القبيل قبيله ، والسلام.

وخرج معقل بالألفين معه حتّى نزل الأهواز وأقام ينتظر أهل البصرة فأبطئوا عليهم فقام معقل فقال :

يا أيّها الناس ، إنّا قد انتظرنا أهل البصرة وقد أبطئوا علينا ، وليس بنا بحمد الله قلة ولا وحشة إلى الناس ، فسيروا بنا إلى هذا العدوّ القليل الذليل ، فإنّي أرجو أن ينصركم الله وأن يهلكهم.

وكان الناجي حين نزل الأهواز اجتمع إليه كثير من أهلها من اللصوص ومن أراد كسر الخراج ، وطائفة أخرى من الأعراب ممّن كان يرى رأيه في الشورى.

وسار معقل يتعقّبه يوما وإذا بفيج (معرّب پيك : ساعي البريد) يشتدّ نحوهم بصحيفة في يده من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس وفيه : أمّا بعد ، فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيما به أو أدركك وقد شخصت منه فلا تبرحنّ من المكان الذي ينتهي رسولي إليك فيه ، حتّى يقدم عليك بعثنا الذي وجّهناه إليك ، وقد وجّهنا إليك خالد بن معدان الطائي ، وهو من أهل الدين والصلاح والبأس والنجدة ، فاسمع منه واعرف له ذلك إن شاء الله ، والسلام.

وكان قد هال أصحاب معقل هذا الوجه فلمّا قرأ معقل الكتاب عليهم حمدوا الله وسرّوا به ، وأقاموا حتّى قدم عليهم الطائي ودخل على معقل فسلّم عليه

٣٤٧

بالإمرة ، ثمّ خرجوا يتعقّبون الناجي وأصحابه ، وأخذ أولئك يرتفعون نحو جبال رامهرمز ، وخرج هؤلاء يتتبّعونهم حتّى لحقوهم بسفح جبل فتصافّوا.

فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المغفّل الأزدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبيّ من بني ضبّة من أهل البصرة (المتفانين دون الجمل). وجعل الخرّيت جماعة من معه من الأكراد ومن أراد كسر الخراج من أهل البلاد ميسرة ، ووقف هو في من معه من العرب ميمنته.

وسار معقل في أصحابه يحرّضهم ويقول لهم : أبشروا في قتالهم بالأجر العظيم ، فإنّما تقاتلون ما رقة مرقت من الدين ، وعلوجا منعوا الخراج ولصوصا وأكرادا ، انظروني فإذا حملت فشدّوا شدّة رجل واحد. ثمّ عاد فوقف في وسط الصف في القلب ثمّ حرّك رايته تحريكتين وفي الثالثة حمل عليهم فحملوا معه جميعا. فصبروا ساعة حتّى قتل من الأكراد والعلوج ثلاثمائة ومن العرب سبعون ثمّ انهزموا مع الخرّيت إلى أسياف البحر وبها كثير من قومه بني ناجية (١).

وخبر الفتح لدى الإمام عليه‌السلام :

وأقام معقل في أرض الأهواز إلى رامهرمز وكتب إلى الإمام عليه‌السلام : لعبد الله عليّ أمير المؤمنين من معقل بن قيس ، سلام عليك ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد فإنّا لقينا المارقين وقد استظهروا علينا بالمشركين ، فقتلنا منهم ناسا كثيرا ، ولم نتعدّ فيهم سيرتك ، فلم نقتل منهم مدبرا ولا أسيرا ، ولم ندفّف على جريح ، وقد نصرك الله والمسلمين والحمد لله ربّ العالمين والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥٤ عن عبد الله بن قعين أو فقيم ، كما في الطبري ٥ : ١٢١ ـ ١٢٤ عن الكلبي ، عن أبي مخنف بسنده.

٣٤٨

وحمل الكتاب عبد الله بن قعين أو فقيم الأزدي فلمّا قدم على الإمام قرأه أمير المؤمنين على أصحابه ثمّ استشارهم فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس أن يتّبع آثارهم ولا يزال في طلبهم حتّى يقتلهم أو ينفيهم فإنّا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إليه :

أمّا بعد ، فالحمد لله على تأييده أولياءه وخذلانه أعداءه ، جزاك الله والمسلمين معك خيرا ، فقد أحسنتم البلاء وقضيتم ما عليكم ، وسل عن أخي بني ناجية فإن بلغك أنّه استقرّ ببلد من بلاد المسلمين فسر إليه حتّى تقتله أو تنفيه ، فإنّه لن يزال للمسلمين عدوّا و «للقاسطين» وليّا ما بقي ، والسلام. وحمل الكتاب عبد الله بن فقيم.

فلمّا قدم بالكتاب على معقل ، سأل عن مسير الخرّيت ومنتهاه ، فنبّئ أنّه بأسياف البحر من فارس ، وأنّه ورد على قومه من بني ناجية هناك فردّهم عن طاعة الإمام ومن والاهم من العرب ومن عبد القيس خاصّة ، وكانوا قد امتنعوا عن صدقاتهم منذ حرب صفين سنة (٣٧ ه‍) وهذا العام (٣٨ ه‍).

وكان رأي الخرّيت حين خرج من الكوفة : أنّ عليّا قد حكّم حكما ورضي به فخلعه حكمه الذي ارتضاه لنفسه! فقد رضيت أنا من قضائه وحكمه ما ارتضاه هو لنفسه ولكنّه كان يقول لمن يرى رأي عثمان : أنا والله على رأيكم فقد قتل عثمان مظلوما! ويقول لمن معه ممّن يرى رأي الخوارج : إنّي أرى رأيكم ، فإنّ عليّا لم يكن ينبغي أن يحكّم الرجال في أمر الله! ويقول لمن منع صدقته : شدّوا أيديكم على صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم وعودوا بها إن شئتم على فقرائكم! وهكذا أرضى كلّ صنف منهم بضرب من القول يريهم أنّه على رأيهم.

وكان كثير منهم نصارى وقد أسلموا ، فلمّا رأوا هذا الاختلاف وسفك الدماء قالوا : والله لديننا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذين لا ينهاهم

٣٤٩

دينهم عن إخافة السبل وسفك الدماء! وارتدّوا إلى نصرانيتهم السابقة. فلقي الخرّيت اولئك وقال لهم : أتدرون ما حكم عليّ في من أسلم من النصارى ثمّ رجع إلى النصرانية؟ إنّه والله لا يسمع له قولا ولا يرى له عذرا ولا يدعوه إلى توبة ولا يقبل منه ذلك ، وإنّما حكمه فيه ساعة يستمكن منه ضرب عنقه! فلا ينجّيكم من القتل إلّا قتال هؤلاء والصبر عليه لهم! فما زال بهم بهذا ومثله حتّى خدعهم وجمعهم ، وهم كثير في تلك النواحي فاجتمع منهم إليه ناس كثير من كلّ هؤلاء! جمعهم بالخديعة والمكر ، وكان داهية منكرا (١)!

آخر وقعة مع بني ناجية :

فلمّا وصل كتاب الإمام عليه‌السلام إلى معقل بتعقّب الخرّيت ، سار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة ، فأخذوا من رامهرمز إلى أرض فارس (شيراز) يمنة حتى انتهوا إلى أسياف البحر ، وهناك أخرج كتابا من الإمام عليه‌السلام وقرأه عليهم وفيه :

من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المسلمين والمؤمنين ، والمارقين والنصارى والمرتدّين ، سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت ، وافيا بعهد الله ولم يكن من الخائنين.

أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وأن أعمل فيكم بالحقّ وبما أمر الله تعالى به في كتابه ، فمن رجع منكم إلى رحله وكفّ يده واعتزل هذا المارق الهالك المحارب الذي حارب الله ورسوله والمسلمين وسعى في الأرض فسادا ، فله الأمان على ماله ودمه ، ومن تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا استعنّا بالله عليه وجعلنا الله بيننا وبينه ، وكفى بالله وليّا ، والسلام.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٥٤ ـ ٣٥٧ عن عبد الله بن قعين أو فقيم ، كما في الطبري ٥ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٣٥٠

وأخرج بعد ذلك راية أمان فنصبها وقال : من أتاها من الناس فهو آمن ، إلّا الخرّيت وأصحابه الذين نابذوا أوّل مرّة! فلم يبق مع الخرّيت إلّا قومه بني ناجية مسلمهم ونصرانيهم ومانعوا صدقاتهم.

ثمّ عبّأ معقل بن قيس أصحابه فجعل على ميمنته يزيد بن المغفّل الأزدي ، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبيّ البصري.

وجعل الخرّيت مسلميهم ميمنة ومانعي الصدقة والنصارى ميسرة ، وجعل يقول لهم : والله لئن ظهروا عليكم ليقتلنّكم وليسبينّكم! فقاتلوا اليوم عن أولادكم ونسائكم وامنعوا اليوم حريمكم!

وجعل معقل يجول بين ميمنته وميسرته يحرّضهم ويقول : إنّ الله ساقكم إلى قوم ارتدّوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلما وعدوانا وقوم منعوا الصدقة ، فإنّي شهيد لمن قتل منكم بالجنّة ، ولمن عاش بأنّ الله يقرّ عينه بالفتح والغنيمة! حتّى مرّ بهم جميعا ، ثمّ عاد فوقف برايته في القلب ، ثمّ بعث إلى ميمنته أن يحملوا عليهم ، فحملوا عليهم ، فثبتوا له وقاتلوا قتالا شديدا ، ثمّ عادوا إلى مواقفهم. ثمّ بعث إلى الميسرة أن يحملوا عليهم ، فحملوا عليهم ، فقاتلوا قتالا شديدا ، ثمّ عادوا إلى مواقفهم ، ثمّ بعث إليهما أنه سيحمل عليهم فاحملوا معي جميعا ، ثمّ حرّك دابّته وضربها وحمل فحمل كلهم فصبروا ساعة.

وبصر النعمان بن صهبان الراسبي الأزدي بالخرّيت بن راشد فحمل عليه فأثخنه بالجراح حتّى صرعه ونزل إليه واختلفا بضربات حتّى قتل النعمان الخرّيت ، وقد قتل من قومه مائة وسبعون رجلا ، وانهزم الباقون منهم في الأرض يمينا وشمالا.

وحمل معقل بجيشه على رحالهم فسبى رجالا منهم ونساء وصبيانا منهم ، فالمسلم أخذ بيعته وخلّى عنه وعن عياله له ، والمرتدّ عرض عليه الإسلام أو القتل فاسلموا فخلّى سبيلهم وسبيل عيالاتهم ، وأبى شيخ منهم العود إلى الإسلام فقتله.

٣٥١

وجمع الممتنعين عن صدقاتهم فأخذ صدقاتهم للعامين وخلّاهم! ولم يبق إلّا النصارى منهم وعيالاتهم فأسّرهم وسباهم واحتملهم معه وهم خمسمائة إنسان.

وكتب إلى الإمام عليه‌السلام : أمّا بعد ، فإنّي أخبر أمير المؤمنين عن جنده وعن عدوّه : أنّا دفعنا إلى عدونا بأسياف البحر ، فوجدنا بها قبائل ذات عدّة وحدّة وجدّ! وقد جمعوا لنا ، فدعوناهم إلى الطاعة والجماعة ، وإلى حكم الكتاب والسنّة ، وقرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين ، ثمّ رفعنا لهم راية أمان ، فمالت إلينا طائفة منهم وثبتت أخرى ، فقبلنا من التي أقبلت ، وصمدنا للتي أدبرت ، فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم ، فأمّا من كان مسلما فإنّا مننّا عليه وأخذنا بيعته لأمير المؤمنين ، وأخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم. وأمّا من ارتدّ : فإنّا عرضنا عليهم الرجوع إلى الإسلام وإلّا قتلناهم ، فرجعوا إلى الإسلام غير رجل واحد فقتلناه. وأمّا النصارى : فإنّا سبيناهم وأقبلنا بهم ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمّة لكي لا يمنعوا الجزية ، ولئلّا يجترئوا على قتال أهل القبلة ، وإنّهم أهل للصّغار والذلّة ورحمك الله يا أمير المؤمنين وأوجب لك جنّات النعيم والسلام (١).

قصة مصقلة الشيباني :

وسار معقل بالأسارى حتّى مرّ على أردشيرخرّة (من أكبر كور فارس شيراز) وكان بنو ناجية من بني شيبان ، وكان عامل الإمام على أردشيرخرّة : مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وعلم بذلك أسارى بني ناجية فصاح به الرجال : يا أبا الفضل ، يا حامل الثقل ، ومأوى الضيف ، وفكّاك العناة ، امنن علينا واشترنا وأعتقنا! وبلغ ذلك مصقلة.

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٥٧ ـ ٣٦٢ عن المدائني بسنده ، والطبري ٥ : ١٢٦ ـ ١٢٩ عن أبي مخنف بسنده.

٣٥٢

فبعث ذهل الذهلي إلى معقل يقول له : بعنا هؤلاء النصارى ، فقال : نعم بألف ألف (مليون) درهم ، فلم يزل يراوده حتّى توافقوا على خمسمائة ألف درهم (نصف المليون). وكان العمّال في كور فارس (شيراز) يحملون أموالهم إلى البصرة إلى ابن عباس فيبعثها إلى الإمام عليه‌السلام ، وقال مصقلة : سأحمل المال إليه نجوما حتّى لا يبقى شيء منه إن شاء الله ، فقبل منه معقل.

وعمد مصقلة إلى نصارى قومه بني ناجية فأنجاهم من الأسر والسبي وخلّى سبيلهم من دون أن يسألهم أن يعينوه بشيء في فكاك أنفسهم!

وعاد معقل إلى الكوفة بجيشه ، وعاد جيش البصرة إليها ، وأخبر معقل الإمام عليه‌السلام بما كان منه في ذلك فقال له الإمام : أحسنت وأصبت ووفّقت.

ولمّا بلغه أنّ مصقلة اعتق قومه ولم يسألهم المعونة قال : ما أرى مصقلة إلّا أنّه قد حمل حمالة سترونه عن قريب مبلدحا (منبطحا الأرض ـ عاجزا منها)!

ودعا أبا حرّة الحنفي (من بني حنيفة من تميم) وكتب معه إلى مصقلة : أمّا بعد فإنّ من أعظم الخيانة خيانة الأمّة ، وأعظم الغش غش الأئمّة. وعندك من حقّ المسلمين : خمسمائة ألف درهم ، فابعث بها حين يأتيك رسولي ، وإلّا فأقبل إليّ حين تنظر في كتابي ، فإني تقدّمت إلى رسولي (أبي حرّة الحنفي) أن لا يدعك ساعة واحدة تقيم بعد قدومه عليك ، إلّا أن تبعث بالمال ، والسلام. وأبلغه الكتاب أبو حرّة الحنفي.

فلمّا أبلغه أبو حرّة الكتاب قال له : إن بعثت بالمال الساعة وإلّا فاشخص معي ؛ فأقبل معه حتّى نزل بالبصرة على ابن عباس فطلب إليه أن ينظره أيّاما فأنظره فأقبل من البصرة إلى الكوفة فأقرّه الإمام أيّاما ثمّ سأله فأدّى إليه مائتي ألف درهم معه! وكان ذهل بن الحارث الذهلي الوسيط بينه وبين معقل بن قيس لشراء الأسرى قد قدم الكوفة ، فلمّا أمسى دعاهم إلى رحله ، فقدّم عشاء ثمّ قال لذهل : إنّ أمير المؤمنين يسألني هذا المال ، والله لا أقدر عليه! فقال له ذهل الذهلي : لو شئت لجمعته في جمعة (اسبوع واحد) من قومك! فقال : والله ما كنت لأطلب فيها إلى أحد ولا احمّلها

٣٥٣

على قومي! أما والله لو أنّ ابن هند أو ابن عفّان كانا يطالبانني بها لتركاها لي! ألم تر إلى ابن عفّان حيث أطعم الأشعث في كلّ سنة من خراج آذربايجان : مائة ألف درهم!

فقال له ذهل الذهلي : إنّ هذا (الإمام) لا يرى ذلك الرأي ، وما هو بتارك لك شيئا! فسكت وسكت ذهل حتّى خرج من رحله ، وكأنّه طلب منه الوساطة لدى الإمام عليه‌السلام فردّه.

ومكث مصقلة بعد هذا ليلة واحدة ثمّ فرّ إلى معاوية ، وبلغ ذلك الإمام عليه‌السلام فقال فيه :

«ماله ترّحه الله! فعل فعل السيّد وفرّ فرار العبد وخان خيانة الفاجر! أمّا إنّه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه ، فإن وجدنا له شيئا أخذناه ، وإن لم نقدر له على مال تركناه» ثمّ أمر فهدموا داره.

وكان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعيّا مناصحا لعلي عليه‌السلام ، فلمّا استقرّ مصقلة لدى معاوية كلّمه في أخيه فوعده الكرامة ومنّاه الإمارة ، فكتب مصقلة بذلك إلى أخيه وحمله إليه مع نصراني من بني تغلب يدعى حلوان. فلمّا قدم بالكتاب إلى العراق أخذه مالك بن كعب وبعث به إلى الإمام فأمر به فقطعت يده فنزف دما حتّى مات ، فلمّا بلغ ذلك أهله من بني تغلب طلبوا ديته من مصقلة فودّاه لهم.

وقيل للإمام عليه‌السلام : اردد الذين سبوا ولم تستوف أثمانهم ، ارددهم في الرّق! فقال :

ليس ذلك بحقّ في القضاء ، فإنّهم قد اعتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم ، وصار المال دينا عليه (١).

__________________

(١) الغارات ١ : ٣٦٢ ـ ٣٧٠ عن المدائني بأسناده ، والطبري ٥ : ١٢٨ ـ ١٣٠ عن أبي مخنف بأسناده. وقال اليعقوبي كان ذلك في سيف عمان ٢ : ١٩٥ والمسعودي : ساحل البحرين وقصة مصقلة في كور الأهواز ٢ : ٤٠٨ ولا يصح شيء منهما.

٣٥٤

أرزاق عام (٣٨ ه‍) وعطاؤه :

انفرد المسعودي بقوله : قبض أصحاب علي عليه‌السلام في سنة (٣٨ ه‍) أرزاقهم ثلاث مرات ، حسب ما كان يحمل إليه من عمّاله من المال ، ثمّ ورد عليه مال من أصفهان ، فخطب الناس وقال لهم : اغدوا إلى عطاء رابع ، فو الله ما أنا بخازن لكم ، ثمّ قال : وكان في عطائه اسوة للناس : يأخذكما يأخذ الواحد منهم (١).

ولعل الأصل فيه ما نقله الثقفي بسنده قال : أعطى عليّ الناس في عام واحد (بلا تعيين) ثلاثة اعطيات ، ثمّ قدم عليه خراج أصفهان فقال للناس :

أيّها الناس ، اغدوا فخذوا ، فو الله ما أنا بخازن لكم! فغدوا وأخذوا ، ثمّ أمر فكنس بيت المال ونضح ، فصلّى فيه ركعتين ثمّ قال : يا دنيا غرّي غيري (٢)!

وفصّل في نقل آخر قال : أتى عليّا عليه‌السلام مال من أصفهان فقسّمه ، فوجد فيه رغيفا ، وكانت الكوفة يومئذ سبعة أسباع ، فكسر الرغيف سبع كسر فجعل على كلّ جزء كسرة ، ثمّ دعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم أيّهم يعطيه أوّلا :

وفصّل أكثر في نقل آخر قال الراوي : ازدحم الناس على الأموال ، فأخذ عليّ عليه‌السلام حبالا فعقد بعضها إلى بعض بيده فوصلها ثمّ أدارها حول المتاع ثمّ قال : لا احلّ لأحد أن يجاوز هذا الحبل! فقعدنا وراء الحبال ، ودخل علي عليه‌السلام فنادى رؤساء الأسباع ، فقاموا ودخلوا عليه فأخذوا يحملون الجوالق إلى الجوالق وهذا إلى هذا حتّى تقسّم المال سبعة أجزاء ، ثمّ وجد مع المتاع رغيفا فكسره سبع كسر ووضع على كلّ جزء كسرة ، ثمّ قال :

هذا جناي وخياره فيه

إذ كل جان يده إلى فيه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٤١٠.

(٢) الغارات ١ : ٨٣.

٣٥٥

ثمّ أقرع بينهم ، فجعل كل رجل يدعو قومه فيحملون الجواليق (١).

تلك أخبار عن القسم بالسويّة بين أسباع القبائل ، وهناك أخبار عن القسم بالسويّة بين الأفراد : منها : أنّ امرأتين أتتا عليّا عليه‌السلام عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي ، فأعطى كلّ واحدة خمسة وعشرين درهما وكرّا من الطعام.

فلمّا رأت العربية ذلك قالت : يا أمير المؤمنين إنّي امرأة من العرب وهذه من العجم!

فقال علي عليه‌السلام : والله إنّي لا أجد لبني إسماعيل فضلا في هذا الفيء على بني إسحاق (٢).

ولعلّ هذه التسوية استهوت بعض دهاقين الفرس (في العراق) إلى أن بعث إلى علي عليه‌السلام بثوب مخطّط بالذهب ، فعرضه للبيع فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم (٣) ويبدو أنّه ردّ الدراهم إلى العطاء.

ومن أخبار التقسيم بغير التسبيع ما نقله الثقفي بسنده عن الشعبي قال : كنت غلاما في الرحبة إذ رأيت أمير المؤمنين قائما على صبرة من الذهب وصبرة من فضّة يقسّمهما بين الناس حتّى لم يبق منه شيء! ولم يحمل منه إلى بيته شيئا! فرجعت إلى أبي (شراحيل الحميري) فقصصت عليه الذي رأيته ، فبكى وقال : يا بني لقد رأيت خير الناس (٤)!

وروى عنه علّة تسويته قال عليه‌السلام : كان خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحبس شيئا لغد ، ولقد كان أبو بكر يفعل ذلك ، ثمّ رأى عمر أن يدوّن الدواوين وأخّر المال

__________________

(١) الغارات ١ : ٥٢ ، ٥٣ والجواليق جمع الجوالق وهو معرّف جوال بالفارسية أي عدل الجمل.

(٢) الغارات ١ : ٧٠ باعتبار أن بني إسماعيل استعربوا وبقي بنو إسحاق عبريين غير عرب.

(٣) الغارات ١ : ٦٢.

(٤) الغارات ١ : ٥٤ ـ ٥٥.

٣٥٦

من سنة إلى سنة! فأنا أصنع كما صنع خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فكان يعطيهم من الجمعة إلى الجمعة ، ثمّ ينضح بيت المال ويتنفّل فيه ويخاطبه يقول : اشهد لي يوم القيامة أنّي لم أحبس المال على المسلمين فيك (١) وفي آخر : أنّ ذلك كان في عشيّة كلّ خميس (٢).

وأخوه عقيل عنده ثمّ عند عدوّه :

ويبدو لي أنّ عقيل بن أبي طالب طلب عطاء أخيه الإمام في هذا العام فقدم الكوفة ودخل عليه بالمسجد الجامع حتّى وقف عليه وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله. فقال الإمام : وعليك السلام يا أبا يزيد ، ثمّ التفت إلى ابنه الحسن عليه‌السلام فقال له : قم وأنزل عمّك.

فقام الحسن إلى عمّه عقيل وذهب به حتّى أنزله وعاد إلى أبيه ، فقال له : اشتر له نعلا جديدا وإزارا وقميصا جديدا ورداء جديدا ، فذهب الحسن عليه‌السلام واشترى لعمّه ذلك وقدّمها إليه.

فلما حضر العشاء فإذا هو خبز وملح! فقال عقيل : ليس إلّا ما أرى (أي أجد)؟! فقال عليّ : أو ليس هذا من نعمة الله؟ فله الحمد كثيرا.

ثمّ قال له عقيل : أعطني ما أقضى به ديني وعجّل سراحي أرحل عنك! قال : فكم دينك يا أبا يزيد؟ قال : مائة ألف درهم! قال : والله ما هي عندي وما أملكها! ولكن اصبر حتّى يخرج عطائي فأواسيكه ، ولو لا أنّه لا بدّ للعيال من شيء لأعطيتك كلّه. فقال له عقيل : وكم عطاؤك وما عسى يكون لو أعطيتنيه كله؟! أتسوّفني إلى عطائك وبيت المال في يدك؟! فقال : ما أنت فيه وأنا إلّا بمنزلة رجل من المسلمين!

__________________

(١) الغارات ١ : ٤٧ ـ ٥٠ بأسناده ، ولم نجد جمعا بين توزيعه كلّ جمعة وبين أربع مرات في العام.

(٢) الغارات ١ : ٦٩.

٣٥٧

وكانا يتحادثان ذلك وهما فوق الدار مشرفين على صناديق السوق ، فقال له علي عليه‌السلام :

يا أبا يزيد ، إن أبيت ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله وخذ ما فيه! فقال : وما فيها؟ قال : فيها أموال التجّار! قال : أفتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد جعلوا فيها أموالهم ثمّ توكّلوا على الله! فقال له الإمام : أفتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك من أموالهم وقد أقفلوا عليها وتوكّلوا على الله! فإن شئت أخذت سيفك (كذا) وأخذت سيفي وخرجنا جميعا إلى الحيرة ، فإنّ بها تجّارا مياسير ، فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله! فقال : أو سارقا جئت؟! قال : فتسرق من واحد خير من أن نسرق من المسلمين جميعا!

فقال له عقيل : أفتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟ قال : قد أذنت لك (١) قال : فأعنّي على سفري هذا! قال : يا حسن ، أعط عمك أربعمائة درهم (٢).

__________________

(١) الخبر عن البلاذري في أنساب الأشراف كما في مناقب الحلبي ٢ : ١٢٥ ويتلوه عن أمالي الطوسي بسنده عن الصادق عليه‌السلام مثله ، وأحلّ له ذلك لعذره عن الجهاد بعماه وبشرط عدم التأييد ، وكان كذلك بل مع جهاد البيان واللسان والكلمة الجارحة ، ولم يكن إلّا لفترة قصيرة ، كما سيأتي لاحقا.

(٢) مناقب الحلبي ٢ : ١٢٥ عن جمل أنساب الأشراف للبلاذري ، وذكر طريقه إليه في أوّل الكتاب وكان عقيل بالمدينة ولم يذكر أنّه حمل معه عياله وأطفاله وصبيانه كما جاء في نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤ وانفرد به قبله الصدوق في أماليه : ٧١٨ ، الحديث ٩٨٨ ، م ٩٠ بسنده عن المفضّل بن عمر (الضعيف) عن الصادق ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبيه قال : قال علي عليه‌السلام ... بلا ذكر خطبة ، ولكن فيه خطاب : معاشر شيعتي! وتمنّي تنفيذ حدّ المرتد على مرتدّ بالمدائن! وأنّ عقيل ألوى هو وأطفاله ثلاثة أيام جياعا! وأن الزكاة والصدقة والنذر محرّم عليهم! فمع كلّ هذا أنا لا أحتمل صحّة نسبة صدور مثله عنه عليه‌السلام.

٣٥٨

هذا ما نقله الحلبي ، عن البلاذري ، وروى نحوه الطوسي بسنده عن الصادق عليه‌السلام وفيه :

فقال عقيل : يا أمير المؤمنين ، أفتأذن لي أن (أرحل) إلى معاوية؟! قال له : (أنت) في حلّ محلّل فانطلق نحوه ، وبلغ معاوية قدومه فأمر أصحابه أن يلبسوا من أحسن ثيابهم ثمّ يركبوا إليه أفره دوابّهم! وأبرز معاوية له سريره.

فلما انتهى عقيل إليه قال له معاوية : مرحبا بك يا أبا يزيد! ثمّ قال له : ما نزع بك؟ فقال مصرّحا : طلب الدنيا من مظانّها! ولم ينكر معاوية ذلك بل أقرّ به وقال : أصبت ووفّقت! وقد أمرنا لك بمائة ألف ، فجيء بها إليه فأعطاها إياه ثمّ قال له : أخبرني عن من مررت به من العساكر؟ قال : اخبرك في الجماعة أو في الوحدة؟ قال : بل في الجماعة. فقال عقيل : كان أوّل من استقبلني من عسكرك أبو الأعور السّلمي ومعه طائفة من المنافقين والمنفّرين برسول الله ناقته! إلّا أنّ أبا سفيان لم يكن فيهم! فأسكت معاوية وكفّ عنه حتّى ذهب الناس.

فلما ذهب الناس قال له : يا أبا يزيد ؛ أيش (أي شيء) صنعت بي؟!

قال : ألم أقل لك : في الجماعة أو في الوحدة ، فأبيت عليّ؟!

قال : فالآن فاشفني من عدوّي؟ قال : فذلك عند الرحيل. فلما شدّ غرائره ورواحله أقبل نحو معاوية ، وقد جمع حوله معاوية أصحابه وكان عقيل من أنسب الناس ، فلما انتهى إليه وقعد قال له : يا معاوية من ذا عن يمينك؟ قال : هو عمرو بن العاص ، فتضاحك عقيل وقال : لقد علمت قريش أنه لم يكن أخصى لتيوسها من أبيه!

ثمّ قال له : فمن هذا (عن يسارك) قال : هذا أبو موسى الأشعري! فتضاحك ثمّ قال : لقد علمت قريش المدينة أنه لم يكن بها امرأة أطيب ريحا من قبّ أمّه المراغة (١).

__________________

(١) القبّ : ما بين الوركين والأليتين ، والمراغة : التي يتمرّغ عليها وفيها الرجال!

٣٥٩

فأراد معاوية أن يخفّف عنهم فقال له : أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد! فقال له : تعرف حمامة؟! ثمّ قام ورحل. فدعا معاوية بنسّابين من عرب الشام وسألهم عن حمامة فأقسما عليه أن لا يسألهما عنها! فأبى وأصرّ وهدّدهما وآمنهما فقالا : هي الجدة السابعة لأبي سفيان ، وكان لها بيت تؤتى فيه (١)!

والظاهر أنّ حضور عقيل في الشام كان بعد رحيل ابن العاص منها إلى مصر ، ولعلّه كان زائرا لمعاوية يوما بعد ورود عقيل ، فلمّا دخل عليهما عقيل قال معاوية لابن العاص : لأضحكنّك من عقيل ، فلمّا سلّم عقيل أجابه معاوية : مرحبا برجل عمّه أبو لهب! فقال عقيل : أهلا برجل عمته حمّالة الحطب. وهي أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب عمّة معاوية ـ فقال معاوية : يا أبا يزيد ، ما ظنّك بأبي لهب؟ قال : يا معاوية ، إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمّتك حمّالة الحطب! أفناكح في النار خير أم منكوح؟ قال : والله كلاهما شرّ سواء.

وقال له الوليد بن عقبة : يا أبا يزيد غلبك أخوك على الثروة؟! قال : نعم وسبقني وإيّاك إلى الجنّة! فغضب الوليد وقال : والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتل عثمان لارهقوا صعودا! وإنّ أخاك لأشدّ هذه الأمّة عذابا! أما والله إنّ شدقيه لمضمومان من دم عثمان! فقال له عقيل : صه! والله إنّا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط! وما أنت وقريش؟! والله ما أنت فينا إلّا كنطيح التيس (٢)!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧٢٣ ، الحديث ١٥٢٥ م ٤٣ بسنده عن الصادق عليه‌السلام ، ومرّ مثله في عدم منع الإمام له عن السفر إلى الشام عن مناقب الحلبي عن جمل أنساب الأشراف ، وكذا في ترجمته في أسد الغابة ، كما في ترجمته في قاموس الرجال ٧ : ٢٢٦ برقم ٤٩٢٨. ونقل الثقفي مثل ذيل الخبر بسند آخر.

(٢) الغارات ٢ : ٥٥١ ـ ٥٥٣.

٣٦٠