موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

متى تقدر من عدوك على مثل حالهم التي هم عليها ، وأن تسير إلى عدوّك أعزّ لك من أن يسيروا إليك ، واعلم أنّه والله لو لا تفرّق الناس عن صاحبك (علي) لكان قد نهض إليك!

فقال لنا : إنّ هؤلاء الذين تذكرون اختلاف أهوائهم وتفرّقهم على صاحبهم (علي) لم يبلغ بهم ذلك عندي إلى أن أسير إليهم مخاطرا بجندي لا أدري عليّ تكون الدائرة أم لي ، وأن أطمع في استئصالهم واجتياحهم. فإيّاكم واستبطائي! فإنّي آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم وأبلغ في هلاكهم ، فقد شننت عليهم «الغارات» في كلّ جانب : فخيلي مرّة بالجزيرة ومرّة بالحجاز ، وقد فتح الله لنا مصر ، فأعزّ بفتحها وليّنا وأذلّ به عدوّنا! فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا يأتوننا على قلائصهم في كلّ يوم ، وهذا ممّا يزيدكم الله به وينقصهم! ويقوّيكم ويضعّفهم ، ويعزّكم ويذلّهم! فاصبروا ولا تعجلوا ، فإنّي لو رأيت فرصتي لاهتبلتها (١)!

تحرّك العثمانيين باليمن :

ودفع معاوية إلى أن يسرّح بسرا إلى الحجاز واليمن : أنّ قوما في صنعاء اليمن كانوا من شيعة عثمان وقد أعظموا قتله ... فلمّا قتل محمد بن أبي بكر وغلب معاوية على مصر ، وكثرت غاراته ، أخذوا يدعون إلى الطلب بدم عثمان! هذا وعامل علي عليه‌السلام يومئذ على صنعاء : عبيد الله بن العباس ، وعامله على الجند : سعيد بن نمران الهمداني ، فلمّا بلغت مقالتهم إلى عبيد الله أرسل إلى ناس من وجوههم فقال لهم : ما هذا الذي بلغني عنكم؟! قالوا : إنّا لم نزل ننكر قتل عثمان ونرى مجاهدة من سعى عليه! فحبسهم. لكنّهم كتبوا إلى أصحابهم بالجند وخرج إليهم من كان منهم

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٩٩ ـ ٦٠٠.

٣٨١

في صنعاء وانضمّ إليهم من كان على رأيهم ولحق بهم من كان يريد منع الصدقة وإن لم يكن على رأيهم ، فثاروا وأظهروا أمرهم حتى أخرجوا ابن نمران من الجند!

فالتقى ابن نمران بابن العباس ، فقال ابن العباس : والله لقد اجتمع هؤلاء وهم قريبون منّا ، ولئن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة! فهلمّ فلنكتب إلى أمير المؤمنين بخبرهم وعددهم وبمنزلهم الذي هم به. فكتب :

«أمّا بعد ، فإنّا نخبر أمير المؤمنين : أنّ شيعة عثمان وثبوا بنا وأظهروا أنّ معاوية قد تشيّد أمره واتّسق له أكثر الناس ، وإنّا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين ومن كان على طاعته ، ولكن ذلك أحمشهم وألبهم فتعبّئوا لنا وتداعوا إلينا من كلّ أوب ، ونصرهم من لم يكن له رأيهم إرادة أن يمنع حقّ الله المفروض عليه ... فاستحوذ عليهم الشيطان ، فنحن في حيّز وهم في قفزة عنّا ، وليس يمنعنا من مناجزتهم إلّا انتظار الأمر من مولانا أمير المؤمنين أدام الله عزّه وأيّده ، وقضى بالأقدار الصالحة في جميع أموره ، والسلام».

وأجابهما الإمام عليه‌السلام : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران ، سلام عليكما ، فإنّي أحمد إليكما الله الذي لا إله إلّا هو ، أمّا بعد ، فإنّه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة ، وتعظّمان من شأنهما صغيرا وتكثران من عددها قليلا! وقد علمت أن نخب (ضعف) أفئدتكما وصغر أنفسكما ، وشتات رأيكما وسوء تدبيركما ، هو الذي أفسد عليكما من لم يكن نائما عنكما ، وجرّأ عليكما من كان جبانا عن لقائكما! فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرأ عليهم كتابي إليهم ، وتدعواهم إلى حظّهم وتقوى ربّهم ، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلنا منهم ، وإن حاربوا استعنّا عليهم بالله ونبذناهم على سواء ، إنّ الله لا يحبّ الخائنين ، والسلام عليكما.

وكان كتابه إليهم : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاقّ وغدر من أهل الجند وصنعاء ، أمّا بعد ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو الذي

٣٨٢

لا يعقّب له حكم ، ولا يردّ له قضاء ، ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين! وقد بلغني تحزّبكم وشقاقكم ، وإعراضكم عن دينكم ، وتوثّبكم بعد الطاعة وإعطاء البيعة والألفة! فسألت أهل الحجى والدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به وما أحمشكم له ، فحدّثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء منه عذرا مبيّنا ولا مقالا جميلا ولا حجّة ظاهرة.

فإذا أتاكم رسولي فتفرّقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم ، واتقوا الله وارجعوا إلى الطاعة أصفح عن جاهلكم واحفظ عن قاصيكم ، وأقوم فيكم بالقسط وأعمل فيكم بكتاب الله.

وإن أبيتم ولم تفعلوا فاستعدّوا لقدوم جيش جمّ الفرسان عريض الأركان ، يقصد لمن عصى وطغى ، فتطحنوا طحنا كطحن الرحى! فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلّام للعبيد ، ألا فلا يحمد حامد إلّا ربّه ، ولا يلم لائم إلّا نفسه ، والسلام عليكم.

ووجّه الكتاب مع رجل من همدان ، وقدم رسوله بالكتاب فلم يجيبوه ، فقال لهم : إنّي تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجّه إليكم يزيد بن قيس (الأرحبي الهمداني) في جيش كثيف ، ولم يمنعه إلّا انتظار ما يبلغه عنكم! فقالوا : نحن سامعون مطيعون إن عزل عنّا عبيد الله وسعيدا! فرجع الرسول بذلك إلى الإمام فأخبره خبرهم (١).

بسر إلى المدينة :

ولكنّهم كتبوا كتابا إلى معاوية يخبرونه بخبرهم وخبر توجيه الإمام إليهم بيزيد بن قيس الأرحبي وقالوا :

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٩٢ ـ ٥٩٧ عن أبي روث الهمداني.

٣٨٣

معاوي إن لا تسرع السير نحونا

نتابع عليّا أو يزيد اليمانيا!

وكأنّه قدم هذا الكتاب عليه مع خروج من حثّه على اغتنام الفرصة مع الوليد من عنده ، فدعا ببسر بن أبي أرطاة العامري (الصحابي)! وكان قسيّ القلب سفّاكا للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة (١)! فعقد له على ثلاثة آلاف فارس! وقال له : سر نحو المدينة فاطرد الناس وأخف من تمرّ به ، وانهب أموال كلّ من أصبت له مالا ممّن لا يدخل في طاعتنا! فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم ، وأخبرهم أنّه لا براءة لهم عندك ولا عذر! حتّى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم فاكفف عنهم. ثمّ سر نحو مكة ، فأرهب الناس فيما بين المدينة ومكة واجعلهم شرادات حتّى تدخل مكة فلا تعرض لأحد فيها. ثمّ سر إلى صنعاء والجند فإنّ لنا بهما شيعة وقد جاءني كتابهم (٢)! ولا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلّا بسطت عليهم لسانك حتّى يروا أنّه لا نجاة لهم منك وأنك محيط بهم ثمّ اكفف عنهم وادعهم إلى بيعتي ، فمن أبى فاقتله! واقتل «شيعة» عليّ حيث كانوا (٣).

وخرج بسر بذلك الجيش إلى دير مرّان فاستعرضهم فأسقط منهم أربعمائة ومشى بألفين وستّمائة. فلمّا وردوا أوّل المياه في طريقهم أخذوا إبلهم وقادوا خيولهم حتّى الماء اللاحق ، فيردّون إبل اولئك ويأخذون إبل هؤلاء ، فلم يزالوا كذلك حتى دنوا من المدينة.

وكان عامل الإمام عليه‌السلام على المدينة يومئذ أبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري ، وسمع بهم فخرج منها خائفا يترقّب ، ودخل بسر فخطب الناس وبدأ بالآية الكريمة : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ

__________________

(١) الغارات ٢ : ٥٩٧ ـ ٥٩٨.

(٢) الغارات ٢ : ٦٠٠.

(٣) الغارات ٢ : ٥٩٨.

٣٨٤

فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(١) ثمّ قال : وقد أوقع الله ذلك المثل بكم وجعلكم أهله! فإنّ بلدكم كان مهاجر النبيّ ومنزله وفيه قبره ، ومنازل الخلفاء بعده ، فلم تشكروا نعمة ربّكم ، ولم ترعوا حقّ أئمّتكم ، وقتل «خليفة الله» بين أظهركم ، فكنتم بين قاتل وخاذل وشامت ومتربّص! فإن كانت للمؤمنين قلتم : ألم نكن معكم! وإن كان للكافرين نصيب قلتم : الم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟! ثمّ قال :

يا أبناء اليهود العبيد : بني زريق وبني النجار وبني سالم ، وبني عبد الأشهل ، أما والله لأوقعنّ بكم وقعة تشفي غليل صدور آل عثمان والمؤمنين! أما والله لأدعنّكم أحاديث كالأمم السالفة (٢)!

وكان حويطب بن عبد العزّى العامري زوج أمّه فصعد إليه إلى المنبر وقال له : أنصار رسول الله وعلي عليه‌السلام ليسوا بقتلة عثمان ، ولم يزل به حتّى سكن ، ثمّ دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوا.

ونزل بسر فأحرق دار زرارة بن جرول ورفاعة بن رافع الزرقي وأبي أيوب الأنصاري ، وعاذ جابر بن عبد الله الأنصاري بأم سلمة! فأرسلت إلى بسر تسأله فيه فقال : لا اؤمّنه حتّى يبايع فأمرت ابنها عمر بن أبي سلمة أن يذهب مع جابر فيبايعا لمعاوية! فذهبا فبايعا! وقالت : وإنّي لأعلم أنّها بيعة ضلالة (٣)!

__________________

(١) النحل : ١١٢.

(٢) الغارات ٢ : ٦٠٠ ـ ٦٠٣ وفي : ٦٠٨ زيادة : يا أهل المدينة ، أخضبتم لحاكم وقتلتم عثمان مخضوبا! ثمّ قال لجنده : خذوا بأبواب المسجد وقال : والله لا أدع في المسجد مخضوبا إلّا قتلته! فقام إليه عبد الله بن الزبير ومعه رجل من بني عامر وطلبا إليه حتّى كفّ عنهم!

(٣) زاد هنا اليعقوبي ٢ : ١٩٨ عن جابر قال : هذه بيعة ضلال ولكنّي أخشى أن أقتل! فقالت : إذن فبايع ، فإنّ «التقيّة» حملت أصحاب الكهف على أن يلبسوا الصلب ويحضروا ـ أعياد قومهم! وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٢ ، الحديث ٥٢٢ : وهدم منزل من هرب ولم يبايع لمعاوية!

٣٨٥

ثمّ أقام بسر أيّاما ثمّ استخلف عليهم أبا هريرة الدوسي وقال لهم : إنّ قوما قتل إمامهم بين ظهرانيّهم ليسوا بأهل أن يكفّ عنهم العذاب ، وإنّي قد عفوت عنكم وإن لم تكونوا أهلا لذلك! ولئن نالكم العفو منّي في الدنيا فإنّي لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله في الآخرة ؛ وقد استخلفت عليكم أبا هريرة فإيّاكم وخلافه! وخرج إلى مكة (١).

بسر القرشي العامري في مكة :

ولمّا خرج بسر من المدينة إلى مكة قتل في طريقه رجالا وأخذ أموالا ، وبلغ خبره إلى أهل مكة فلمّا قرب منها هرب عامل علي عليه‌السلام عليها : قثم بن العباس ، وتنحّى عنها عامّة أهلها.

واجتمع قوم من قريش فخرجوا يتلقّون بسرا ، فشتمهم ثمّ قال لهم : أما والله لو تركت ورأيي فيكم لما خلّيت فيكم روحا تمشي على الأرض! فقالوا له : ننشدك الله في أهلك وعشيرتك! فسكت.

ثمّ دخل وطاف بالبيت ثمّ صلّى ركعتي الطواف بالمقام ثمّ قام فخطبهم فقال لهم : الحمد لله الذي أعزّ دعوتنا وجمع الفتنا ، وأذلّ عدوّنا بالقتل والتشريد! هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك وضيق! قد ابتلاه الله بخطيئته وأسلمه بجريريته ، فتفرّق عنه أصحابه ناقمين عليه ، وولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان. فبايعوا ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا! فبايعوا.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٠٣ ـ ٦٠٨. وانظر أنساب الأشراف ٢ : ٣٥١ متنا وحاشية.

٣٨٦

وكان سعيد بن العاص الأموي والي عثمان على الكوفة قعد عن علي ومعاوية ولم يشترك في الطلب بدم عثمان ، ولذلك كان بسر يطلبه فلم يجده ، فأقام أيّاما وكان أهل مكة لمّا خرج منها قثم بن العباس قد تراضوا بشيبة بن عثمان العبدري صاحب مفاتيح الكعبة ، فأقرّه بسر على ذلك ، ثمّ خطبهم فقال لهم : إنّي قد صفحت عنكم! فإيّاكم والخلاف! فو الله لئن فعلتم لأقصدنّ منكم إلى التي تبير الأصل! وتحرب المال! وتخرّب الديار! ثمّ خرج نحو الطائف (١) فلمّا جاوز مكة رجع قثم بن العباس إلى مكة فغلب عليها (٢).

بسر في الطائف :

مرّ في الخبر أنّ المغيرة بن شعبة الثقفي كان في أوائل قوافل مكة إلى البصرة لحرب الجمل ، ولكنّه بدا له فعاد عنهم ، ولم يحضر مع معاوية في صفين وإنّما ذكر حضوره في تحكّم الحكمين في دومة الجندل ، ويبدو أنّه عاد من دومة الجندل إلى جنادل قومه في الطائف. حتّى بلغه أنّ بسرا توجّه نحوهم فأراد أن يسجّل اسمه مع المؤيّدين له فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز ونزولك مكة ، وشدّتك على المريب وعفوك عن المسيء ، وإكرامك لأولي النهى! فحمدت رأيك في ذلك! فدم على صالح ما أنت عليه ، فإنّ الله لن يزيد بالخير أهله إلّا خيرا ، جعلنا الله وإيّاك من الآمرين بالمعروف والقاصدين إلى الحقّ والذاكرين الله كثيرا!

وخرج بسر إلى الطائف فاستقبله المغيرة فقال له بسر : يا مغيرة! إنّي اريد أن استعرض قومك! أي للقتل! فقال المغيرة : أعيذك بالله من ذلك ، إنّه لم يزل يبلغنا منذ خرجت شدّتك على عدوّ أمير المؤمنين عثمان! فكنت بذلك محمود الرأي ،

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٠٨ ـ ٦٠٩ عن عوانة عن الكلبي.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢١.

٣٨٧

فإذا كنت على عدوّك ووليّك سواء فقد أثمت بربّك وأغريت بك عدوّك (١)! فقال له بسر : نصحتني وصدقت! وبات فيها.

فلمّا خرج منها إلى اليمن خرج معه المغيرة وشايعه ساعة ثمّ ودّعه وانصرف عنه (٢).

بسر في نجران ثمّ في أرحب همدان :

وخرج بسر من الطائف فأتى نجران ، وكان بها عبد الله بن عبد المدان قد صاهر عبيد الله بن العباس ، فأخذه ومعه ابنه مالكا ، فقتلهما! ثمّ جمع أهل نجران وقام فيهم يتهدّدهم ويقول لهم : يا معاشر النصارى وإخوان القرود! أما والله لو بلغني عنكم ما أكره لأعودنّ عليكم بالتي تقطع النسل! وتهلك الحرث! وتخرّب الديار! فمهلا مهلا!

ثمّ سار إلى أرحب همدان على ساحل البحر وكان بها الأرحب من همدان البادية وكان سيّدهم يسمّى أبا كرب الأرحبي الهمداني يتشيّع لعلي عليه‌السلام ، فأخذه وقتله قتلا ذريعا (٣)!

وكان بسر قبل أن يصل إلى أيّ منزل في طريقه يقدّم رجلا من أصحابه ليتقدّم إلى أهل ذلك الماء فيسلّم عليهم ويسألهم : ما قولكم في هذا المقتول بالأمس عثمان؟ فإن قالوا : كان يستحقّ ذلك ، أمر بسر بوضع السلاح فيهم ، إلّا أن يقولوا : قتل مظلوما! فلا يعرض لهم (٤) ، فلعلّه جرّب أبا كرب كذلك.

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٠٩ ـ ٦١٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦١٤.

(٣) الغارات ٢ : ٦١٦ ـ ٦١٨.

(٤) الغارات ٢ : ٦٢١.

٣٨٨

بسر في صنعاء وجيشان :

مرّ الخبر عن ثورة العثمانيين من صنعاء إلى الجند ومعهم على عاملها سعيد بن نمران الهمداني وأنّهم أخرجوه منها فعاد إلى عبيد الله بن العباس في صنعاء! وكتبا إلى الإمام عليه‌السلام بذلك وانتظر الأمر ، فدنا منه ابن نمران الهمداني وقال له : إنّ ابن عمّك لا يرضى منّي ولا منك إلّا بالجدّ في قتالهم ، وما تعذر!

فقال ابن عباس : لا والله ما لنا يدان عليهم ولا طاقة! فقام الهمداني في الناس وقال لهم : يا أهل اليمن ، من كان في طاعتنا وعلى بيعة أميرنا فإليّ إليّ! فأجابه عصابة منهم. وزحف إليهم بسر بجنوده ، فاستقبلهم سعيد بن نمران ، فحملوا عليه ، فقاتلهم قليلا ، وتفرّق عنه الناس وإنّما بقي في قليل من أصحابه ، فانصرف هو وأصحابه إلى عبيد الله ، ووجّه إليه فحذّره موجدة الإمام عليه ، وأشار عليه أن يتمسّك بالحصن ، ويبعث إلى الإمام يسأله المدد فإنّه أجمل وأعذر! فقال ابن عباس : لا طاقة لنا بمن جاءنا ، وأخاف من ذلك (١).

وكان معه منهم رجل من ثقيف من الصحابة يدعى عمرو بن أراكة ، فدعاه واستخلفه على عمله.

وكان لعبيد الله ابنان صغيران من زوجته الكنانية ، وكان في صنعاء كثير من الأبناء أبناء الفرس في اليمن وكانوا موالين لعليّ عليه‌السلام ومنهم امرأة تدعى أم نعمان بنت بزرج (الكبير) فاستودعهم وإيّاها ابنيه : عبد الرحمن وقثم (٢) باسم عمّه.

وكان بسر قد حاصر صنعاء ولعلّه بلغه أنّ أهل مخلاف جيشان بجوار صنعاء «شيعة» لعلي عليه‌السلام ، فعرّج من صنعاء على جيشان ، وقاومه جمع منهم

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦١٩ ـ ٦٢٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢١.

٣٨٩

فقاتلهم وهزمهم ، ثمّ قتل فيهم قتلا ذريعا حتّى تحصّن منه بقيّتهم ، فرجع عنهم إلى صنعاء (١). وكأنّه في أثناء ذلك هرب ابن عباس وسعيد.

فخرج إليه عمرو بن أراكة محاولا أن يمنع بسرا وجنوده من دخول البلد وقاتله (٢) ، فأخذه بسر وضرب عنقه (٣). ودخل صنعاء فقتل فيها قوما (٤).

ولمّا توجّه بسر نحو صنعاء تجمّع جمع من شيعة عثمان وأقبلوا إليه في صنعاء ، وتوجّه إليه وفد من مأرب ، فارتاب منهم أن يكونوا من شيعة أبي تراب عليه‌السلام فاستعرضهم وأمر بقتلهم ، فلم ينج منهم إلّا واحد (٤)!

وقيل : إنّ ابني عبيد الله : سليمان وداود كانا مع أمّهما في مكة ، فلمّا بلغهم قدوم بسر إلى مكة خافوا وهربوا منها ، وخرج منها هذان وهما غلامان مع أهل مكة ، فأضلّوهما (كذا) عند بئر ميمون بن الحضرمي أخ العلاء الحضرمي ، وهجم عليهما بسر فأخذهما وذبحهما ، فكانت أمّهما ترثيهما شعرا :

ها من أحسّ بابنيّ الذين هما

كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف

ها من أحسّ بابنيّ الذين هما

سمعي وقلبي ، فقلبي اليوم مختطف

ها من أحسّ بابنيّ الذين هما

مخّ العظام ، فمخّي اليوم مزدهف

نبئت بسرا ـ وما صدّقت ما زعموا

من قتلهم ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابنيّ مرهفة

مشحوذة ، وكذاك الإثم يقترف

من دلّ والدة ثكلى مسلّبة

على صبيّين ضلّا ، إذ مضى السلف (٦)

__________________

(١) الغارات ٣ : ٦٣٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦١٨ ـ ٦١٩.

(٣) الغارات ٢ : ٦٢١.

(٤) الغارات ٢ : ٦١٩.

(٤) الغارات ٢ : ٦١٩.

(٦) الغارات ٢ : ٦١١ ـ ٦١٣ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٤ : وكان بسر غيّب الغلامين أيّاما طمعا في تسليم أبيهما نفسه ، فلمّا علم بهربه ذبحهما ذبحا!

٣٩٠

والمعتمد أن بسرا اكتشف الغلامين في منزل أمّ النعمان بنت بزرج امرأة من أبناء الفرس باليمن ، فأخذهما إلى مدخل صنعاء وذبحهما هناك ، وغضب على أولئك الأبناء فجمع مائة شيخ منهم وذبحهم (١)!

انقلاب وائل الحضرمي :

كان وائل بن حجر الحضرمي من أقيالهم وعظمائهم ، وكان يرى رأي عثمان ولكنّه كان بالكوفة واستمرّ مع الإمام عليه‌السلام حتّى سنة الأربعين كما يبدو ، ثمّ عزم على مفارقته من دون أن يلحق بمعاوية بالشام رأسا ، فقال للإمام عليه‌السلام : إن رأيت أن تأذن لي بالخروج إلى بلادي في حضرموت اليمن ألبث فيه قليلا لأصلح مالي

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢١ عن الوليد بن هشام ، ولعلّهم كانوا أنصار عمرو بن أراكة الثقفي خليفة ابن عباس في محاولة منع بسر وجنوده عن دخول البلد.

وإنّما روى الثقفي في الغارات ٢ : ٦١٩ عن (الكلبي عن أبي مخنف ، عن نمير بن وعلة الهمداني) عن أبي الودّاك جبر بن نوف الهمداني أيضا ، قال : كنت عند علي عليه‌السلام حين قدم عليه سعيد بن نمران الهمداني في الكوفة ، فعتب عليه عدم قتاله بسرا ، فقال سعيد : إنّ ابن عباس أبى أن يقاتل معي وخذلني. إلى آخر ما نقلناه متنا.

وفي : ٦٣٥ نقل عن القاسم بن الوليد أنّه كان مع سعيد عبيد الله بن العباس قدما معا إلى علي عليه‌السلام. واختصر الطبري هذه الأخبار في حوادث عام الأربعين للهجرة ، وأكثر منه ابن الأثير الجزري الموصلي في الكامل في السنة نفسها وختمها بقوله : فلمّا سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام بقتلهما جزع جزعا شديدا ودعا على بسر. وسنذكر خبر دعائه عليه واستجابته وأثره.

واختصر الطبري أخباره ، عن عوانة بن الحكم ٥ : ١٣٩ ـ ١٤٠ في سنة (٤٠ ه‍) وليس بعنوان : الغارة!

٣٩١

ثمّ ارجع إليك إن شاء الله. وظنّ الإمام عليه‌السلام أنّ ذلك كما يقول فأذن له ، فترك ولديه بالكوفة ورحل منها إلى حضرموت اليمن.

وكان الناس في حضرموت اليمن أحزابا وشيعا : فشيعة لعثمان وأخرى لعلي عليه‌السلام ، ومكث وائل هناك حتى دخل بسر بن أبي أرطاة صنعاء ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّ شيعة عثمان في بلادنا شطر أهلها ، فأقدم علينا ، فإنّه ليس بحضرموت أحد يردّك عنها ولا ينصب لك فيها!

فأقبل بسر من صنعاء إلى حضرموت بمن معه ، فاستقبله وائل في مخلاف شنوءة الأزد فاعطاه عشرة آلاف ، وكلّمه بشأن حضرموت فقال له : ما تريد؟ قال : اريد أن أقتل ربع حضرموت!

وكان وائل يعادي رجلا من أقيالهم يدعى عبد الله بن ثوابة ، فقال وائل لبسر : إن كنت تريد قتلا فاقتل عبد الله بن ثوابة فهو من رجالهم ، وكان عبد الله قد استولى على حصن كان الأحباش قد بنوه من قبل وكان بناء معجبا لم ير في ذلك الزمان مثله. فجاءه بسر حتّى أحاط بحصنه فدعاه إليه ، فنزل إليه وأتاه فقال لأصحابه : اضربوا عنقه! قال : أتريد قتلي؟! قال : نعم ، قال : فدعني أصلّي ركعتين ، فأذن له فصلّاهما ودعا ، ثمّ قدّمه فضرب عنقه وصادر أمواله ، وكانت مائة وخمسين عينا!

وبلغ الإمام عليه‌السلام مكاتبة وائل لبسر فأمر بارتهان ولديه فحبسهما عنده (١).

خبر بسر عند الأمير عليه‌السلام :

وقدم زرارة بن قيس الشاذي الهمداني (٢) على الإمام عليه‌السلام فأخبره خبر غارة

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٣٠ ـ ٦٣١.

(٢) وفي أنساب الأشراف ٢ : ٣٥٣ ، الحديث ٥٢٢ : أنّه قيس بن زرارة وأنّه كان عينا للإمام بالشام وقدم عليه بخبر بسر ، أو قدم كتابه به.

٣٩٢

بسر على مختلف مخاليف اليمن والعدّة التي معه. فصعد الإمام المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّ أوّل فرقتكم وبدء نقصكم : ذهاب اولي النهى وأهل الرأي منكم ، الذين كانوا يلقون فيصدقون ، ويقولون فيعدلون ، ويدعون فيجيبون ، وأنا ـ والله ـ قد دعوتكم عودا وبدءا ، وسرّا وجهارا ، وليلا ونهارا ، وبالغدوّ والآصال ، فما يزيدكم دعائي إلّا فرارا وإدبارا! أما تنفعكم العظة ، والدعاء إلى الهدى والحكمة.

وإنّي لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ، ولكنّي ـ والله ـ لا اصلحكم بإفساد نفسي ، ولكن أمهلوني قليلا فكأنّكم ـ والله ـ بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذّبكم! فيعذّبه الله كما يعذّبكم به.

إنّ من ذلّ المسلمين وهلاك الدين : أنّ ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب ، وأدعوكم ـ وأنتم الأفضلون الأخيار ـ فتراوغون وتدافعون! ما هذا بفعل المتّقين.

إنّ بسر بن أبي أرطاة وجّه إلى الحجاز ، وما بسر؟! لعنه الله! لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردّوه عن شنّته (غارته) فإنّما خرج في (ألف) وستّمائة أو ما يزيدون ، ثمّ سكت. وسكتوا! فقال : ما لكم أمخرسون أنتم لا تتكلّمون؟!

فقام من الأزد أبو بردة بن عوف فقال له : يا أمير المؤمنين ، إن سرت سرنا معك!

فقال : اللهم! ما لكم! لا سدّدتم لمقال الرشد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟! إنّما يخرج في مثل هذا رجل ترضون به من فرسانكم وشجعانكم ، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض ، والقضاء بين المسلمين ، والنظر في حقوق الناس ، ثمّ أخرج في كتيبة أتبع اخرى في الفلوات وشعب الجبال! هذا ـ والله ـ الرأي السوء!

٣٩٣

والله لو لا رجائي عند لقائهم ـ لو قد حمّ لقاؤهم ـ لقرّبت ركابي ثمّ لشخصت عنكم فلا أطلبكم ، ما اختلف جنوب وشمال ، فو الله إنّ فراقكم لراحة للنفس والبدن!

فلمّا سمع بذلك جارية بن قدامة السعدي التميمي قام فقال له : يا أمير المؤمنين ، لا أعدمنا الله نفسك! ولا أرانا فراقك! أنّا لهؤلاء القوم ، فسيّرني إليهم.

فقال له الإمام : فتجهّز ، فإنّك ـ ما علمت ـ ميمون النقيبة (حسن النية صالح العشيرة)!

وقام إليه : وهب بن مسعود الخثعمي (وكان لا يبارزه أحد في الجاهلية إلّا قتله) فقال :

يا أمير المؤمنين ، وأنا أنتدب إليهم ، فقال له : فانتدب ، بارك الله فيك! ثمّ نزل (١).

ابن قدامة لابن أبي أرطاة :

ثمّ دعا الإمام عليه‌السلام جارية بن قدامة وانتدب معه ألف أو ألفان ، فأمره أن يسير إلى البصرة فيضمّ إليه مثلهم (فلعلّه كان من الكوفة في ألف وانضمّ إليه ألف من البصرة فكانوا ألفين) فشخص جارية ، وخرج الإمام معه يشايعه ، فلمّا ودّعه قال له : اتّق الله الذي إليه نصير ، ولا تحتقر مسلما ولا معاهدا ، ولا تغصبنّ مالا ولا ولدا ، ولا دابّة وإن حفيت وترجّلت! وصلّ الصلاة لوقتها (٢).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢٤ ـ ٦٢٧ ، ونحوه في اليعقوبي ٢ : ١٩٨ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٨.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢٣ ـ ٦٢٤ عن الكلبي عن أبي مخنف. وخطبة الإمام في الإرشاد ١ : ٢٧٢.

٣٩٤

وانتدب مع الخثعمي ألفان ، فقال له الإمام وكأنّه يخاطبهما : اخرجا في طلب بسر بن أبي أرطاة حتى تلحقاه ، فأينما لحقتماه فناجزاه ، فإذا التقيتما فجارية بن قدامة على الناس.

ثمّ أملى على كاتبه كتابا إلى جارية السعدي ، ودعا بعبد الرحمن بن أبي الكنود وبعثه به إليه وفيه : أمّا بعد ، فإنّي بعثتك في وجهك الذي وجّهتك له وقد أوصيتك بتقوى الله ، وتقوى الله جماع كلّ خير ورأس كلّ أمر ، وتركت أنّ اسمّي لك الأشياء (التي تتّقيها) بأعيانها ، وإنّي افسّرها لك حتّى تعرفها ، سر على بركة الله حتّى تلقى عدوّك ، ولا تحتقرنّ من خلق الله أحدا ، ولا تسخّرن بعيرا ولا حمارا وإن ترجّلت وحفيت! ولا تستأثرنّ على أهل المياه بمياههم ، بل ولا تشربنّ من مياههم إلّا بطيب أنفسهم ، ولا تسبّ مسلما ولا مسلمة ، ولا تظلم معاهدا ولا معاهدة.

وصلّ الصلاة لوقتها ، واذكر الله بالليل والنهار ، واحملوا راجلكم ، وتآسوا على ذات أيديكم وأغذّ السير حتّى تلحق بعدوّك فتجليهم عن بلاد اليمن وردّهم صاغرين إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (١).

وقدم جارية البصرة فضمّ إليه مثل من معه ، ثمّ أخذ طريق الحجاز إلى اليمن ، لم يغصب أحدا ولم يقتل (٢) والتقى بوهب بن مسعود في أرض الحجاز ، فذهبا في طلب بسر (٣).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢٧ ـ ٦٢٨ ، وقريب منه في اليعقوبي ٢ : ٢٠٠ عن فطر بن خليفة عن الحارث الوالبي.

(٢) الغارات ٢ : ٦٢٤.

(٣) الغارات ٢ : ٦٢٧.

٣٩٥

وبلغ بسرا مسير جارية وأنّه أخذ طريق الحجاز ، فخرج بسر من اليمن إلى اليمامة (١) وأغذّ (أسرع) السير جارية في طلب بسر ما يلتفت إلى مدينة يمرّ بها ولا أهل حصن ، ولا يعرّج على شيء ، حتّى إذا أرمل بعض أصحابه من الزاد كان يأمر أصحابه بمواساته ، وإذا تحفى دابّته أو سقط بعيره يأمر أصحابه فيعقّبونه! ومضى هكذا حتّى انتهى إلى بلاد اليمن ، وسمع بذلك شيعة عثمان فهربوا في شعب الجبال! ومضى جارية نحو بسر.

وحين بلغ بسرا إقبال الجيش مضى من حضرموت عن طريق الجوف لا الذي أقبل منه.

وبلغ ذلك جارية فاتّبعه حتى أخرجه من اليمن كلّها ، ثمّ رجع إلى جرش فأراح واستراح شهرا (٢) وهو شهر رمضان.

ابن عباس وابن نمران في الكوفة :

خرج عبيد الله بن العباس ومعه سعيد بن نمران الهمداني هاربين من بسر إلى العراق حتّى قدما الكوفة على الإمام عليه‌السلام (٣) فعتب عليهما لم لم يقاتلا بسرا؟! واعتذرا إليه بتعذّر ذلك عليهما (٤) وكان الإمام عليه‌السلام في كلّ يوم بعد صلاة الغداة في المسجد

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٢٩ ـ ٦٣٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦٣٢ ـ ٦٣٣.

(٣) الغارات ٢ : ٦٣٥.

(٤) الغارات ٢ : ٦١٩ ، ولم يذكر أي خبر عن تسلية الإمام لعبيد الله وتعزيته عن ابنيه الصغيرين ولكن نقل الثقفي ، عن المدائني وغيره : أنّه عليه‌السلام دعا عليه فقال : «اللهم إن بسرا باع دينه بدنياه ، وانتهك محارمك ، وكانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده ممّا عندك! اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله»! «اللهم العن معاوية وعمرا وبسرا! أما يخاف هؤلاء المعاد»! «اللهم العن بسرا وعمرا ومعاوية! اللهم ليحلّ عليهم غضبك ولتنزل بهم نقمتك ، وليصبهم

٣٩٦

الأعظم يجلس في موضع منه يسبّح ربّه حتّى طلوع الشمس ، ففي صبيحة الليلة التي قدم فيها الهاربان لمّا طلعت الشمس نهض إلى المنبر إلى أن نادى :

أيّها الناس ، ألا إنّ بسرا قد اطّلع إلى اليمن ، وهذا عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران قدما عليّ هاربين! ولا أرى هؤلاء القوم إلّا ظاهرين (غالبين) عليكم ، لاجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقّكم ، وطاعتهم لإمامهم ومعصيتكم لإمامكم ، وبأداء أمانتهم إلى صاحبكم وخيانتكم إيّاي! فقد ولّيت فلانا فخان وغدر واحتمل فيء المسلمين إلى معاوية! وولّيت فلانا فخان وغدر وفعل مثله ، فصرت لا ائتمنكم على علاقة (قبضة) سوط!

إن ندبتكم إلى عدوّكم في الصيف قلتم : أمهلنا ينسلخ الحرّ عنّا ، وإن ندبتكم في الشتاء قلتم : أمهلنا ينسلخ القرّ عنا.

ثمّ دعا عليهم فقال : اللهم إنّي قد مللتهم وملّوني! وسئمتهم وسئموني! فأبدلني بهم من هو خير لي منهم ، وأبدلهم بي من هو شرّ لهم منّي (١)! اللهم مث قلوبهم ميث (ذوب) الملح في الماء! ثمّ نزل.

__________________

بأسك ورجزك الذي لا يردّ عن القوم المجرمين» قال : فما لبث بعد وفاة عليّ وصلح الحسن عليهما‌السلام إلّا قليلا حتّى اختلط فكان يهذي ويدعو بالسيف ، فاتّخذ له سيف من خشب أو عيدان ، فإذا دعا بالسيف أعطى ذلك ، وكانوا يدنون إليه المرفقة فلا يزال يضربها حتّى يغشى عليه ، فما زال كذلك حتّى مات لعنه الله ، الغارات ٢ : ٦٤٠ ـ ٦٤٢ ، وفي إرشاد المفيد ١ : ٣٢١.

وفي مروج الذهب ٣ : ١٦٣ نقل المسعودي ذلك وزاد : أنّه كان ربّما يلعب بخرئه وربّما كان يتناول منه ، فشدّوا يديه ، فأهوى بفيه يتناول منه فبادروا يمنعونه فيقول : أنتم تمنعونني وهذان الغلامان ابنا عبيد الله : عبد الرحمن وقثم يطعمانني ، حتّى مات سنة ست وثمانين في أيّام الوليد بن عبد الملك.

(١) والمسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٤٢ نقل خبر هذه الخطبة عن المنقري مسندا

٣٩٧

وحيث ذكر الإمام عليه‌السلام في أوائل مقاله بسرا حسب أشراف الكوفة أنّه عليه‌السلام يريد البعث إليه ، فلقى بعضهم بعضا ومشى بعضهم إلى بعض وتلاقوا وتلاوموا ، ثمّ دخلوا عليه عليه‌السلام فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، اختر منّا رجلا وابعث به جندا إلى هذا الرجل (بسر) حتّى يكفيك أمره ، وفيما سوى ذلك أيضا مرنا بأمرك فإنّك لن ترى منّا ما صحبتنا شيئا تكرهه!

فأجابهم عليه‌السلام : أمّا هذا الرجل فإنّي قد بعثت إليه رجلا لا يرجع أبدا حتى يقتل أحدهما صاحبه أو ينفيه! ولكن استقيموا لي في ما أدعوكم إليه وآمركم به من غزو أهل الشام.

وكان منهم سعيد بن قيس الهمداني فقام وقال له : يا أمير المؤمنين ، والله لو أمرتنا بالمسير إلى قسطنطينيّة ورومية مشاة حفاة ، على غير عطاء ولا قوة ، ما خالفتك أنا ولا رجل من قومي! فقال عليه‌السلام : صدقتم ، جزاكم الله خيرا.

ثمّ قام زياد بن خصفة التميمي ، وو علة بن مخدوج الذهلي فقالا له : يا أمير المؤمنين ، نحن شيعتك التي لا نعصيك ولا نخالفك! فقال لهما : أجل ، أنتم كذلك ، فتجهّزوا إلى غزو الشام ، فقالوا : سمعا وطاعة! فقال لهم : فأشيروا عليّ برجل يحشر الناس من محشرهم في القرى والسواد.

فقال سعيد الهمداني : أما والله أشير عليك بفارس العرب الناصح لك والشديد على عدوّك! قال : ومن هو؟ قال : معقل بن قيس الرياحي التميمي ، قال عليه‌السلام : أجل.

ثمّ دعاه فسرّحه لحشر الناس من السواد إلى الكوفة (١).

__________________

وزاد هنا : «اللهم عجّل عليهم بالغلام الثقفي الذيّال الميّال ، يأكل خضرتها ويلبس فروتها ، ويحكم فيها بحكم الجاهلية ، لا يقبل من محسنها ولا يتجاوز عن مسيئها» هذا والحجّاج لم يولد بعد.

(١) الغارات ٢ : ٦٣٣ ـ ٦٣٨ ، وانظر وقارن أنساب الأشراف ٢ : ٣٧٥ ، الحديث ٥٣٩.

٣٩٨

ضرب الدراهم الإسلامية :

ننتقل فيما يلي إلى أواخر أخبار أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، فأرى هذه آخر فرصة لنقل ما يلي :

نقل المحدث القمي في «هدية الأحباب» قال : كتب لي بخطّه صديقنا الأكرم الفاضل اللوذعي الألمعي سردار خان الكابلي عن كتابه «غاية التعديل في الموازين والمكاييل» : أن في المجلد السابع عشر من «دائرة المعارف البريطانية» (١) عند الكلام على المسكوكات القديمة ما تعريبه ملخصا :

إن أول من أمر بضرب السكة الإسلامية على الفضة هو الخليفة علي عليه‌السلام بالبصرة سنة أربعين للهجرة (على عهد ابن عباس) موافقة لسنة (٦٦٠ م) (٢).

وعن جودت باشا الوزير العثماني قال : رأيت عند صديقي صبحي بك أفندي (بالقاهرة) بين المسكوكات القديمة سكة فضية عربية مكتوب على أحد وجهيها بالخطّ الكوفي : (اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وعلى دورتها : محمد رسول الله (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وعلى الوجه الآخر : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وعلى دورتها : ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة (٤٠) (٣).

__________________

(١) دائرة المعارف البريطانية ١٧ : ٩٠٤ ، ط. ١٣.

(٢) هدية الأحباب : ١٢٧ في ترجمة البيهقي.

(٣) العقد المنير ١ : ٤٤ وفي : ١٩٤ نقل صورة الدرهم الفضّي الكسروي المضروب في دارابجرد من فارس (شيراز) سنة (٤١) بأمر معاوية : على أحد وجهيه : تصوير خسرو پرويز وداخل الدائرة على يمين الصورة بالخطّ البهلوي : معاوية أمير روش نيكان! وعلى اليسار بالخط البهلوي : أفزوتو (؟!) وفي حاشية خارج الدائرة بالخطّ الكوفي : بسم الله!

٣٩٩

واستعدّ الإمام لغزو الشام :

وكأنّما كان حشر الناس في سواد العراق إلى الكوفة لغزو الشام في شهر رمضان لعام (٤٠ ه‍) وفي يوم جمعة قبل الجمعة التي ضربه فيها ابن ملجم خرج الإمام عليه‌السلام وعليه مدرعة من صوف ، وحمائل سيفه من ليف ، وفي رجليه نعلان من ليف ، وفي جبينه ثفنة من أثر السجود ، ولم يرقع المنبر على ما روي عن حاجبه نوف بن فضالة أو عبد الله البكالي الحميري وإنّما خطبهم وهو قائم على حجارة نصبها له ابن اخته جعدة بن هبيرة المخزومي ، فقال :

الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر ، نحمده على عظيم إحسانه ونيّر برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمدا يكون لحقّه قضاء ولشكره أداء ، وإلى ثوابه مقرّبا ولحسن مزيده موجبا ، ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه واثق بدفعه ، معترف له بالطّول مذعن له بالعمل والقول. ونؤمن به إيمان من رجاه موقنا وأناب إليه مؤمنا وخنع له مذعنا ، وأخلص له موحّدا وعظّمه ممجّدا ولاذ به راغبا مجتهدا. لم يولد فيكون في العزّ مشاركا ، ولم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يتقدّمه وقت ولا زمان ، ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم.

__________________

ـ وعلى الوجه الآخر : تصوير لبيت نار وفي طرفيه رجلان محافظان ، وفي داخل الدائرة يمينا بالخطّ البهلوي : دان ، كناية عن دارابجرد ، وعلى الأيسر بالفارسية القديمة : يه چهل ، أي إحدى وأربعين للهجرة سنة الضرب. وهكذا في تاريخ التمدن الإسلامي ١ : ١٣٥. فمعاوية عاود إلى الدرهم البهلوي الفارسي المجوسي واكتفى ببسم الله ، واسمه وتاريخ الضرب بالهجري. وانظر مقال أخينا السيد المرتضى في كتابه : دراسات وبحوث : ١٢٧ ـ ١٣٧.

٤٠٠