موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

ممّا هو أكثر منها. فقال بعضهم : والله لو جئتنا بدماغه في صرّة لعلمنا أنّه لا يموت حتّى يسوق العرب بعصاه! فتركتهم ودخلت المدائن (١)! فلما انتهيت إلى الحسين عليه‌السلام قال لي : أي زحر! ما لي أرى وجهك متغيرا!

فقلت له : تركت أمير المؤمنين في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة ، وهذا كتاب الحسن إليك. وذكرت له مصاب علي عليه‌السلام فقال : ويحك ومن قتله؟ قلت : رجل فاسق مارق من مراد يقال له : عبد الرحمن بن ملجم.

فقال : الله أكبر ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين ، ما أعظمك من مصيبة! مع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليتذكر مصابه بي فإنّه لن يصاب بمثلها أبدا» وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أصبت بعد رسول الله بمثلها ولن أصاب بمثلها في بقيّة عمري! ثمّ قال : إن البلاء إلينا أهل البيت سريع ، والله المستعان.

فقلت له : إن هاهنا من لا يرى أنّه يموت حتّى يظهر (ويظفر) وأنا أخافهم عليك ، فاجمعهم إليّ حتّى أقرأ كتاب الحسن عليهم (فأمر) فنودي في الناس بالاجتماع فاجتمعوا ، وحضر حسين عليه‌السلام ، فقمت وقرأت الكتاب على الناس ، فضجّ من حضر بالاسترجاع والبكاء ، والاستغفار لعلي ، والتعزية للحسين. ثمّ انصرف راجعا إلى الكوفة بمن كان معه (٢) فكنّا كأغنام فقدت راعيها ، كما في خبر نوف البكالي (٣).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩١ ، الحديث ٨٤ ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٤٠٣ ، الحديث ٥٨٣ ، ونقل قبله عن ابن الأصم قال : قيل للحسن عليه‌السلام بعد ذلك : أن ناسا من «شيعة» أبي الحسن زعموا أنّه مات ولكنه سيبعث قبل يوم القيامة ، وتأوّلوا عليه قوله : «أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلّمهم» فقال : كذبوا ، ليس أولئك من «شيعته» ولكنهم أعداؤه ، ولو علمنا ذلك ما قسمنا ميراثه! وهذا الجواب لا يناسب قولهم بموته ثمّ رجعته!

(٢) المصدر السابق : ٩٦ ـ ٩٧ ، الحديث ٩١.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ١٨١.

٤٢١

وصاياه بلفظه عليه‌السلام :

وكأنّ الحاضرين حول الإمام عليه‌السلام لما سمعوا مقال الطبيب قالوا له : يا أمير المؤمنين ، أوص. فقال عليه‌السلام : اثنوا لي وسادة ، فأثنوا له وسادته وأسندوه إليها فقال :

الحمد لله حقّ قدره متّبعين أمره ، وأحمده كما أحبّ ، ولا إله إلّا الله الواحد الأحد الصمد كما انتسب.

وكأنّه عليه‌السلام أراد دفع دخل مقدّر عندهم بأنّه لم لم يهرب من العطب فقال عليه‌السلام :

أيها الناس ، كل امرئ في فراره يلقى ما يفرّ منه ، ومساق النفس إلى أجلها ، والهرب منه موافاته. كم اطّردت الأيام ابحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله عزّ ذكره إلّا إخفاءه! هيهات! علم مكنون (١).

أما وصيّتي : فأن لا تشركوا بالله جلّ ثناؤه شيئا ، ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا تضيّعوا سنّته. أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين ، وخلاكم ذمّ ما لم تشردوا ، حمّل كلّ امرئ مجهوده ، وخفّف عن الجهلة ربّ رحيم ودين قويم.

أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغدا مفارقكم ، إن تثبت الوطأة في هذه المزلّة فذلك المراد (٢) وإن تدحض القدم فإنّا كنّا في أفياء أغصان وذرى رياح وبظلّ غمامة ، اضمحلّ في الجوّ متلفّقها (متراكمها) وعفا في الأرض مخطّها! وإنّما كنت جارا لكم ، جاوركم بدني أياما ، وستعقبون منّي جثة خلاء ساكنة بعد تحركها ، وكاظمة بعد نطقها ، ليعظكم هدوّي وخفوت إطراقي وسكون أطرافي ، فإنّه أوعظ لكم من الناطق البليغ.

__________________

(١) وهذا يؤيد ما قاله المفيد من قصور الأدلة عن كون علمه بأجله تفصيليا لا إجماليا. كقوله له : «وأنت تصلي لربك في هذا الشهر» ولم يذكر اليوم والعام.

(٢) كناية عن البراءة من الجراحة وحصول السلامة ، فلعلّه لم ييأس بقول الطبيب ، أو كان قبله.

٤٢٢

ودّعتكم وداع مرصد للتلاقي! غدا ترون أيامي ، ويكشف الله عن سرائري ، وتعرفوني بعد خلوّ مكاني وقيام غيري مقامي!

إن أبق فأنا وليّ دمي ، وإن أفن فالفناء ميعادي ، فإن أعف فالعفو لي قربة ، ولكم حسنة ، فاعفوا واصفحوا (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)(١)؟

فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة : أن يكون عمره عليه حجّة ، أو تؤدّيه أيامه إلى شقوة!

جعلنا الله وإياكم ممن لا يقصّر به عن طاعة الله رغبة ، أو تحلّ به بعد الموت نقمة! فإنما نحن له وبه ، ثمّ أقبل على الحسن عليه‌السلام فقال له : يا بني ، ضربة مكان ضربة ، ولا تأثم!

يا بني ، إذا أنا متّ فاقتل ابن ملجم ، ثمّ احفر له في الكناسة ثمّ ارم به فيه ، فإنّه من أودية جهنم (٢)!

ولعلّه لم يحضر هذا المحضر صاحبه صعصعة بن صوحان العبدي ثمّ منع من الدخول إليه إلّا بإذن ، فحضر صعصعة واستأذن فلم يؤذن له ، فقال للآذن عليه : قل له : يا أمير المؤمنين ، يرحمك الله حيّا وميّتا فو الله لقد كنت بذات الله عليما ، فكان الله في صدرك عظيما ، فدخل الآذن إلى الإمام وأبلغه مقال صعصعة فقال له الإمام : قل له : وأنت يرحمك الله ، فلقد كنت خفيف المئونة كثير المعونة (٣).

__________________

(١) النور : ٢٢.

(٢) أصول الكافي ١ : ٢٩٩ الحديث ٦ و ٧ عن العقيلي ووصف هذا موضع قبر ابن ملجم على باب طاق المحامل موضع بائعي رءوس الأغنام وأصحاب الشّواء كما في الكافي. وذكر الخبر في نهج البلاغة الخطبة ١٤٩ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٨ والكتاب ٢٣ ، ومصادرها في : ١٣٩٥ وهما واحد.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٢ ـ ٢٣ عن أبي مخنف. هذا وقد روى الكشيّ بسنده عن

٤٢٣

وروى المفيد بسنده عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي قال : لمّا ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين عليه‌السلام غدونا عليه في نفر من أصحابنا : أنا والحارث بن عبد الله الهمداني الأعور وسويد بن غفلة ومعنا جماعة آخرون ، وكان الباب مغلقا (فيبدو أنّه كان اليوم الثاني) فقعدنا على الباب ، فسمعنا البكاء من الدار فبكينا ، فخرج إلينا الحسن بن علي عليهما‌السلام فقال لنا : يقول لكم أمير المؤمنين : انصرفوا إلى منازلكم. فانصرف القوم غيري.

واشتدّ البكاء في منزله فبكيت ، فخرج الحسن عليه‌السلام فقال : ألم أقل لكم : انصرفوا! فقلت : لا والله يا ابن رسول الله ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلاي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين ، وبكيت. فدخل الدار ولم يلبث أن خرج فقال لي : ادخل.

فدخلت على أمير المؤمنين فإذا هو مستند معصوب الرأس بعصابة صفراء قد نزف دمه واصفرّ وجهه ، فما أدري وجهه أشدّ صفرة أم العصابة؟ فأكببت عليه فقبّلته وبكيت. فقال لي : لا تبك يا أصبغ فإنها والله الجنة! فقلت له : جعلت فداك ، إني أعلم والله إنك تصير إلى الجنة ، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين (١).

كتاب وصيّته عليه‌السلام :

روى الهلاليّ العامري في كتابه أنّه شهد الإمام عليه‌السلام حين أوصى إلى ابنه الحسن وأشهد عليه أهل بيته وجميع ولده ومنهم الحسين ومحمد ، ورؤساء شيعته ، فدفع إليه سلاحه وكتبه وقال له :

__________________

ـ الرضا عليه‌السلام : أنّ عليا عليه‌السلام عاد صعصعة في مرضه فقال له ذلك ، وأجابه صعصعة بمقاله هذا! فهل تكرّر مثله؟! وفي الكافي ٧ : ٤٩ أنّ الإمام أشهده على وصيّته.

(١) أمالي المفيد : ٣٥١ ، الحديث ٣ م ٤٢ ، وعنه الطوسي في أماليه : ١٢٢ ، الحديث ١٩١ م ٥ ، وللخبر تتمّة في الفضائل.

٤٢٤

يا بنيّ ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه أمرني أن أوصي إليك وأدفع كتبي وسلاحي إليك ، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين.

وكان ممن حضر مع الحسين ابنه علي بن الحسين صغيرا فأقبل علي عليه‌السلام على الحسين وقال له : وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك هذا وأخذ بيد ابنه علي بن الحسين ، وقال له : وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك محمد ، فاقرأه من رسول الله ومني السلام. ثمّ عاد إلى ابنه الحسن وقال له : يا بنيّ ، أنت «وليّ الأمر» ووليّ الدم بعدي ، فإن عفوت فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ، ولا تمثّل به ، ثمّ قال له : اكتب :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا ما أوصى به عليّ بن أبي طالب : أوصى : أنّه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(١) ثمّ (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(٢).

ثمّ أوصيك ـ يا حسن ، وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين ـ بتقوى الله ربكم (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(٣) ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(٤) فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصوم ، وإن البغضة حالقة الدين وفساد ذات البين» ولا قوة إلّا بالله.

__________________

(١) التوبة : ٣٣ ، والصف : ٩.

(٢) الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٣) البقرة : ١٣٢.

(٤) آل عمران : ١٠٣.

٤٢٥

انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن الله عليكم الحساب.

والله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ، ولا تضيعوا من بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «من عال يتيما حتّى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة ، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار».

والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم.

والله الله في جيرانكم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى بهم.

والله الله في بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم ما بقيتم ، فإنّه إن يترك لم تناظروا ، وإنّ أدنى ما يرجع به من أمه أن يغفر له ما قد سلف.

والله الله في الصلاة فإنها خير العمل ، وإنها عمود دينكم.

والله الله في الزكاة فإنها تطفي غضب ربكم.

والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنّة من النار.

والله الله في الفقراء والمساكين فشاركوهم في معيشتكم.

والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان : إمام هدى ومطيع له مقتد بهداه.

والله الله في ذريّة نبيّكم ، فلا يظلمنّ بين أظهركم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم (١)!

والله الله في أصحاب نبيّكم الذين لم يحدثوا حدثا ولم يؤوا محدثا! فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى بهم ، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم والمؤوي للمحدث!

__________________

(١) وكأنّه عليه‌السلام كنّى بذلك عن كون إمام الهدى بعده من ذريّة نبيّهم ولكن لا أمل في حكمه! بل غاية ما يتوقع منهم أن يدافعوا عنهم فلا يظلموا بمحضرهم وبين أظهرهم! وأنّهم قد لا يقدرون حتّى على الدفع عنهم.

٤٢٦

والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم! ولا تخافنّ في الله لومة لائم فيكفيكم الله وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله. ولا تتركنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّي الله الأمر أشراركم فتدعون فلا يستجاب لكم (١)!

يا بنيّ ، عليكم بالتواصل والتباذل والتبارّ ، وإياكم والنفاق والتقاطع ، والتدابر والتفرّق ، و (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢).

حفظكم الله من «أهل بيت» وحفظ فيكم نبيّكم. أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام» (٣).

أملاها الإمام وكتبها كاتبه عبيد الله بن أبي رافع (٤).

وقد مرّ في صدر هذا الخبر أنّه عليه‌السلام دفع إلى الحسن عليه‌السلام سلاحه وكتبه ، وروى الكليني بنسختين عن الصادق عليه‌السلام : أنّه عليه‌السلام لمّا أراد الخروج من المدينة إلى العراق (البصرة) استودع وصيّته وكتبه عند أم سلمة ، فكانت عندها حتى رجع الحسن عليه‌السلام إلى المدينة فدفعتها إليه. فلعلها وصية وكتب أخرى.

__________________

(١) وكأنّه عليه‌السلام يكنّي بذلك عن أن الذي يدفع إمام الهدى من ذريّة نبيّهم (الحسن عليه‌السلام) هو من يدّعي صحبة النبيّ ولكنه ملعون على لسانه : لأنّه محدث ويؤوي المحدثين منهم ، وهم لا ينكرون منكراته فيستولي عليهم.

(٢) المائدة : ٢.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٩٢٤ ـ ٩٢٧ ، الحديث ٦٩ ، وتخريجه في ٣ : ١٠١٣ وفي نهج البلاغة ك ٤٧ ، ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٧ ، وفي فروع الكافي ٧ : ٥١ عن الإمام الكاظم عليه‌السلام كما عنه في بحار الأنوار ٤٢ : ٢٤٨.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٤٨ ، الحديث ٣١ عن الكلبي عن الباقر عليه‌السلام.

٤٢٧

وروى عن الباقر عليه‌السلام أنه قال لابنه الحسن : ادن منّي حتى اسرّ إليك ما أسرّ رسول الله إليّ ، وائتمنك على ما ائتمنني عليه ، فدنا منه فأسرّ إليه (١).

وخبر الهلالي العامري كان يتضمّن حضوره في الوصية الأخيرة للإمام عليه‌السلام ، وفي خبر آخر عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي ما يفيد أنّه كان حاضرا في الوصية الأخيرة ليلة الوفاة ، قال : دعا الحسن والحسين عليهما‌السلام وقال لهما : إنّي مقبوض في ليلتي هذه ولاحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاسمعا قولي وعياه : يا حسن أنت وصيّي والقائم بالأمر بعدي ، وأنت يا حسين شريكه في الوصية (ولكن) انصت ما نطق وكن لأمره تابعا ما بقي ، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالأمر.

ثمّ قال للحسن : إنك وليّ الأمر بعدي ، فإن عفوت عن قاتلي فذاك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ، وإياك والمثلة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنها ولو بكلب عقور! واعلم أنّ الحسين معك وليّ الدم يجري فيه مجراك ، وقد جعل الله تبارك وتعالى له سلطانا على قاتلي كما جعل لك. وإن ابن ملجم ضربني ضربة فلم تعمل فثنّاها فعملت ، فإن عملت فيه ضربتك فذاك ، وإن لم تعمل فمر أخاك الحسين فليضربه اخرى بحقّ ولايته فإنها ستعمل فيه. وإن الإمامة له بعدك وجارية في ولده إلى يوم القيامة.

وإياك أن تقتل بي غير قاتلي فإن الله عزوجل يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٢).

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٢٩٨ الحديث ٢ و ٣ و ٤.

(٢) الدر النظيم في الأئمة اللهاميم للشيخ يوسف الشامي العاملي تلميذ المحقّق الحلي (ق ٨ ه‍).

وفي الخرائج والجرائح ١ : ١٨٣ : عن الباقر عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حال احتضاره جمع أهل بيته (بنيه ظ) وهم اثنا عشر ذكرا وقال : إنّ الله أحبّ أن يجعل فيّ سنة من نبيّه يعقوب ، إذ جمع بنيه وهم اثنا عشر فقال : إني اوصي إلى يوسف فاستمعوا له وأطيعوا أمره. وإني اوصي إلى الحسن والحسين ، فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما.

٤٢٨

وروى المفيد بسنده عن مولى الإمام عليه‌السلام قال : لمّا حضرته الوفاة قال للحسن والحسين : إذا أنا متّ (فضعاني) على سريري واحملا مؤخّر السرير فإنكما تكفيان مقدّمه (حتّى تبلغا) بي الغريّين (١) فتريان صخرة بيضاء تلمع نورا! فاحتفرا فيها ، فإنكما تجدان فيها (خشبة) ساجة ، فادفناني فيها (٢) وقال : وكان الحسن وصيّ أبيه على أهله وأصحابه ووصّاه بالنظر في وقوفه وصدقاته (٣).

وفاته وغسله ودفنه :

قال اليعقوبي : أقام الإمام عليه‌السلام بعد ضربته يومين ، وتوفى في أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان سنة أربعين ، ومن شهور العجم في كانون الثاني (اليوناني) وهو ابن ثلاث وستين سنة. وغسله الحسن عليه‌السلام بيده ، وصلّى عليه وكبّر سبعا وقال : أما إنّه لا يكبّر (سبعا) على أحد بعده ، ودفن (بظهر) الكوفة في موضع يقال له الغريّ (٤).

__________________

(١) الغريّان تثنية الغريّ وهو فعيل بمعنى المفعول من الغري أي الطلاء والصبغ ، وهما قبران قائمان لنديمي المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة في النجف بظهر الكوفة. معجم البلدان ٤ : ١٩٨. والنسبة إليها : الغروي ، واصطلح بها على أهل العلم منها.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) الإرشاد ٢ : ٧ وكتابه بوصيته هذه في مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٥١ ـ ٥٦ ، الحديث ٣٥ ـ ٣٨ لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين في مسكن! ولكن في نهج البلاغة ك ٢٤ عن فروع الكافي ٧ : ٤٩ : في منصرفه من صفين ، فهو في سنة سبع وثلاثين وليس سنة تسع وثلاثين.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، ولتحقيق تاريخ الوفاة انظر قاموس الرجال : ١٢ : الرسالة : ٢٨ ـ ٣١ وإذا كان المقتل في كانون الثاني فهو في الشتاء.

٤٢٩

وقال ابن قتيبة : وغسله الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر ، وكفّن في ثلاثة أثواب بلا قميص ، وصلّى عليه ابنه الحسن. وعمّى قبره مخافة أن تنبشه الخوارج (١).

وروى الاصفهاني بسنده عن أبي مخنف : أنّه عليه‌السلام توفى في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان ، وولي غسله ابنه الحسن وعبد الله بن العباس (فيظهر أنه قد حضر) (٢) وكفّن في ثلاثة أثواب بلا قميص ، وصلّى عليه ابنه الحسن وكبّر خمس تكبيرات ، ودفن ... عند صلاة الصبح (٣).

ولكن روى ابن أبي الدنيا بسنده عن الباقر عليه‌السلام : أنّ الحسن عليه‌السلام غسل عليا بيده ، وكفّنه في قميص ولفّافتين. ونقل قبله عن الشعبي : أنّ عليّا أوصى الحسن أن يغسّله وأن لا يغالي في الكفن قال : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا» وامشوا بي بين المشيتين : لا تسرعوا بي ولا تبطئوا بي (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦١.

(٢) ولقد تعقّبنا ابن عباس حتى هذا المحضر فلم نجد فترة لفتور روابطه بالإمام عليه‌السلام.

فلم نجد مصداقا لاتّهامه باختلاس مال البصرة وانظر للتفصيل : عبد الله بن العباس للعلّامة الفاني ، وعبد الله بن العباس للسيد محمد تقي الحكيم ، وابن عباس وأموال البصرة للسيد جعفر مرتضى العاملي. وسيأتي الصحيح فيه بعد صلح الحسن عليه‌السلام.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٧٣ ، الحديث ٦٥ و ٦٦. وهنا أي في وفاة الإمام عليه‌السلام روى الكليني في الكافي بسنده عن عمر بن إبراهيم الهاشمي (كذا) عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، دهش الناس كيوم قبض فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وارتجّ الموضع بالبكاء ، وجاء رجل مسرعا باكيا مسترجعا حتّى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : رحمك الله يا أبا الحسن! إلى آخر الخبر. ونقله الصدوق في أماليه وكماله.

٤٣٠

فخرجوا به جوف الليل من منزله ومرّوا به على مسجد الأشعث حتّى خرجوا إلى ظهر الكوفة (١) وجعلوا يحملون مؤخّر سريره ويكفون مقدّمه وهم يسمعون دويّا وحفيفا لغيرهم حتّى حضروا موضع القبرين الغريّين لنديمي المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة المقتولين بأمره سكرانا ، قبل الإسلام ، فإذا صخرة بيضاء تلمع نورا كما وصف الإمام في وصيته إليهم ، فاحتفروا الموضع فإذا بخشبة ساجة مكتوب عليها : هذا ما ادّخره نوح لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢).

ودخل القبر الحسنان عليهما‌السلام وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ، ودفنوه قبل طلوع الفجر (٣) وألحدوه في ناحية القبلة وأسنده بسبع لبنات (٤)! ثمّ عادوا إلى الكوفة حين الفجر (٥).

__________________

ـ وفي ترجمة أسيد بن صفوان الصحابي في قاموس الرجال ٢ : ١٤٣ برقم ٩٢١ نقل عن الاستيعاب عن عمر بن إبراهيم بن خالد (الكردي لا الهاشمي) عن عبد الملك عن اسيد بن صفوان : أنه لما قبض أبو بكر ارتجّت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل عليّ بن أبي طالب مسرعا باكيا مسترجعا حتّى وقف على باب البيت فقال : رحمك الله يا أبا بكر ، إلى آخر الخبر بطوله!

واعترف الدار قطني والخطيب والذهبي بكذب الراوي الكردي عمر بن إبراهيم وهو أصل الخبر. وأرى الخبر لا يلائم الخبر المعتبر في وفاة الإمام عليه‌السلام بين أهله في أوائل الليل ، فلذا تركته.

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٦ ، وعنه في الإرشاد ١ : ٢٥.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٣ باسناده إلى مولاه عليه‌السلام ، ولعلهم قرءوا المكتوب بنور الصخرة ، ولعلّه كان بخطّ عربي.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٤ ـ ٢٥ بإسناده عن الباقر عليه‌السلام وهو الذي كشف للناس موضع قبره.

(٤) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٧٣ ، الحديث ٦٦ عن الباقر عليه‌السلام أيضا.

(٥) المصدر السابق : ٨١ ، الحديث ٧٢ عن الكلبي.

٤٣١

خطبة الحسن عليه‌السلام في وفاة أبيه :

روى ابن أبي الدنيا عن الشعبي : أن صلاة الفجر يوم وفاة الإمام عليه‌السلام صلّاها الحسن عليه‌السلام (١) ورقى المنبر بعد الصلاة في ثياب سود (٢) فقام وقال :

الحمد لله حمدا كثيرا على ما أحببنا وكرهنا ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، وإني أحتسب عند الله مصابي بأفضل الآباء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ اعلمنّ ـ يا معشر من حضر ـ : أنّه قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه أحد كان قبله ، ولم يخلّف بعده مثله ، وهو علي حبيب رسول الله وأخوه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنحتسب عند الله ما دخل علينا «أهل البيت» خاصّة ، وما دخل على جميع أمّة محمّد عامّة ، فو الله لا أقول اليوم إلّا حقّا : لقد دخلت مصيبته على جميع العباد والبلاد ، والشجر والدوابّ! فنسأل الله البرّ الرحيم أن يرحم وجهه ، وأن يعذّب قاتله ، وأن يحسن علينا الخلافة من بعده (٣).

أما والله لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة نزل فيها القرآن ، ورفع فيها عيسى بن مريم ، وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى عليهم‌السلام (٤).

لقد فارقكم بالأمس رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون (ولقد) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليدفع الراية إليه فيمضي وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فما يبرح حتّى يفتح الله عزوجل عليه ، وما ترك صفراء ولا بيضاء

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩٣ ، الحديث ٨٧.

(٢) المصدر السابق : ٩٥ ، الحديث ٨٩ عن عاصم بن أبي النجود الكوفي الاصفهاني ، القارئ المعروف. وفي عمامة سوداء ، بلا ذكر الثياب عن مسند أحمد ١ : ١٩٩ ، وكشف الأستار للبزّار : ٢٥٠ في حاشية مقتل الإمام : ٩٤ ، الحديث ٨٨ ، وخصائص النسائي : ٦.

(٣) المصدر السابق : ٩٣ ـ ٩٤ ، الحديث ٨٧ عن الشعبي.

(٤) المصدر السابق : ٩٤ ـ ٩٥ ، الحديث ٨٨.

٤٣٢

غير سبعمائة درهم كان أرصدها في خادم (١) يشتريه لأهله (٢) ثمّ خنقته العبرة فبكى ، وبكى معه الناس.

ثمّ قال : أيّها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنا ابن البشير ، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله عزوجل بإذنه ، وأنا ابن السراج المنير ، وأنا من «أهل البيت» الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، والذين افترض الله مودّتهم في كتابه إذ يقول : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً)(٣) فاقتراف الحسنة : مودّتنا «أهل البيت» (٤) ثمّ جلس.

وزاد أبو مخنف بسنده : أن عبد الله بن العباس كان حاضرا فقام بين يدي الحسن عليه‌السلام (٥) والتفت إلى الناس وناداهم : معاشر الناس ، هذا ابن بنت نبيّكم ، و (وصيّ) إمامكم فبايعوه.

فاستجاب له الناس وقالوا : ما أحبّه إلينا وأوجب حقّه علينا ، وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة (٦).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٩٥ ـ ٩٦ ، الحديث ٩٠.

(٢) المصدر السابق : ٩٢ ـ ٩٣ ، الحديث ٨٦. ونقلها (اليعقوبي) في تاريخه ٢ : ٢١٣ ، وبعضها ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ١٦٢ ، والمسعودي في مروج الذهب ٢ : ٤١٤ وقال : وكان كما قال الحسن عليه‌السلام. والخادم أعم من الذكر والأنثى.

(٣) الشورى : ٢٣.

(٤) المستدرك للحسكاني ٣ : ١٧٢ عن الإمام السجاد عليه‌السلام ، وقبله في الذرية الطاهرة : ١١٠ عن زيد بن الحسن ، وفي تفسير فرات : ١٩٧ و ١٩٨ ، وفي أمالي الطوسي : ٢٦٩ ، الحديث ٣٩ م ١٠.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٣٢ ـ ٣٣ بخمسة طرق ومنها عن بني الحسن عليه‌السلام.

(٦) الإرشاد ٢ : ٨. واختلفت رواية البلاذري عنه قال : خرج عبيد الله بن العباس للناس

٤٣٣

وخطبتاه قبل البيعة له وبعدها :

وروى الصدوق ، عن ابن عقدة ، عن عوانة بن الحكم بسنده قال : لما قام الناس ليبايعوا الحسن عليه‌السلام قام فخطبهم فقال : «الحمد لله على ما قضى من أمر ، وخصّ من فضل وعمّ من أمر ، وجلّل من عافية ، حمدا يتمّ به علينا نعمه ، ونستوجب به رضوانه. إن الدنيا دار بلاء وفتنة ، وكل ما فيها إلى زوال ، وقد نبّأنا الله عنها كيما نعتبر ، فقدّم إلينا الوعيد كي لا تكون لنا حجة بعد الإنذار ، فازهدوا فيما يفنى وارغبوا فيما يبقى ، وخافوا الله في السرّ والعلانية.

إنّ عليّا عليه‌السلام في المحيا والممات والمبعث عاش بقدر ومات بأجل.

وإني أبايعكم على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت» فبايعوه على ذلك (١).

وكان أول من بايعه قيس بن سعد الأنصاري قام إليه وقال له : ابسط يدك ابايعك على كتاب الله وسنة نبيّه وقتال المحلّين! فقال الحسن عليه‌السلام : على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإن ذلك يأتي على كلّ شرط. فسكت قيس وبايعه (٢).

__________________

ـ فقال لهم : توفّى أمير المؤمنين برّا تقيا وعدلا مرضيا أحيا سنة ابن عمه ونبيّه وقضى بالحقّ في أمّته ، وقد ترك خلفا رضيا مباركا حليما ، فإن كرهتم فليس أحد على أحد! وإن أحببتم خرج إليكم (؟) فتبايعوه. فقالوا : يخرج عزيزا مطاعا! فخرج الحسن وخطبهم فبايعوه!

ونرى هذا موضوعا على مذهب الإمامة بالاختيار ، في مقابل الخبر السابق عنه بالوصاية.

(١) التوحيد : ٣٨٧.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٥٨ مرسلا. وأسند البلاذري عن عوانة بن الحكم والكلبي عن أبي مخنف بسنده قال : قام قيس فخطب فوصف فضل علي وسابقته وقرابته ، والذي

٤٣٤

وبعد بيعة الناس له خطبهم فقال : نحن حزب الله الغالبون وعترة رسوله الأقربون ، وأهل بيته الطيّبون الطاهرون ، وأحد الثقلين الذين خلّفهما رسول الله في أمّته ، التالي كتاب الله ... فالمعوّل علينا في تفسيره ، لا نتظنّى تأويله بل نتيقّن حقائقه ، فاطيعونا ، فإنّ طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة ، قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(١) وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(٢).

وأحذّركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدو مبين ، فتكونوا أولياءه الذين قال لهم : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ)(٣) فتلقون للرماح ورزا وللسيوف جزرا ، وللعمد حطما وللسهام غرضا (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً)(٤) ثمّ سكت ونزل (٥) ثمّ زاد أجورهم مائة مائة (٦).

__________________

ـ كان عليه في هديه وعدله وزهده. ثمّ قرض الحسن ووصف حاله ومكانه من رسول الله ، والذي هو أهله في هديه وحلمه واستحقاقه الأمر بعد أبيه ، ورغّبهم في بيعته ودعاهم إلى طاعته ، ثمّ كان أول من بايعه.

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النساء : ٨٣.

(٣) الأنفال : ٤٨.

(٤) الأنعام : ١٥٨.

(٥) أمالي المفيد : ٣٤٨ ، الحديث ٤ م ٤١ ، وعنه في أمالي الطوسي ، الحديث ١٨٨ و ١٤٦٩.

(٦) مقاتل الطالبيين : ٣٢ ، ولم يكن قبله وإنما تبعه من بعده.

٤٣٥

ثمّ أقدم على ابن ملجم :

روى ابن أبي الدنيا : أن ابن ملجم جعل عند عبد الله بن جعفر (١) وعن الباقر عليه‌السلام قال : أمر الحسن عليه‌السلام بابن ملجم فأتى به ، فضربه ضربة فأندر أصابعه ، فثنّاها فقتله (٢) ثمّ ادرج في بورياء فأحرق (٣) فرأوه مسودّ الوجه (٤).

وروى أبو الفرج ، عن أبي مخنف : أنّ امرأة من النخع من همدان تدعى أم الهيثم بنت الأسود استوهبت جيفته بعد ضرب عنقه ، فوهبها لها ، فأحرقت جثته بالنار (٥) وسوّدت وجهه.

وقال البلاذري : لما اخرج ابن ملجم للقتل اجتمع الناس وجاءوا معهم ببواري ونفط ونار وجعلوه في البواري أو في قوصرة كبيرة للتمر من سعف النخيل فأحرقوه (٦).

__________________

(١) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٨٣ ، الحديث ٧٤.

(٢) المصدر السابق : ٩٠ ، الحديث ٨٣ ولها تتمّة غير تامّة تشعر بشعور الحسن بالذنب من الضربتين. ومثل صدره في اليعقوبي ٢ : ٢١٤.

(٣) مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٨٦ ، الحديث ٧٧.

(٤) المصدر السابق : ٨٨ ، الحديث ٧٨.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٦ ، ويبدو عنه في الإرشاد ١ : ٢٢.

(٦) أنساب الأشراف ٢ : ٤٠٥ ، الحديث ٥٨٩ ، وهي أول بادرة لذكر النفط في الكوفة ، ولعلّ عنه في مروج الذهب ٢ : ٤١٥ : ثمّ أخذه الناس وأدرجوه في بواري وطلّوها بالنفط وأشعلوها بالنار. وراجع تحقيق المحقّق المحمودي في تحريق ابن ملجم والتمثيل به وعدمه في حواشيه على هذا الخبر في أنساب الأشراف ، ومقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ٨٤ ـ ٨٨.

٤٣٦

نعي الإمام إلى المدينة والشام :

وذهب بنعي الإمام عليه‌السلام إلى الحجاز ابن أخي سعد بن أبي وقاص : سفيان بن عبد شمس الزهري ، فلما بلغ نعيه عائشة تمثّلت :

فألقت عصاها واستقرّ بها النوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثمّ سألت عن قاتله فقيل لها : رجل من مراد ، فقالت :

فإن يك نائيا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

وكانت زينب بنت أم سلمة حاضرة فقالت لها : ألعليّ تقولين هذا؟ فقالت : إذا نسيت فذكّروني. ثمّ تمثّلت :

ما زال إهداء القصائد بيننا

باسم الصّديق وكثرة الألقاب

حتّى تركت ، كأنّ قولك فيهم

في كل مجتمع طنين ذباب (١)

وأمّا نعيه عليه‌السلام في الشام فقد بلغ نعيه معاوية وهو متّكئ في مجلسه ولعلّه لما به من علاج أليته ، فاستوى جالسا والتفت إلى مغنيته وقال لها : يا جارية غنّيني فاليوم قرّت عيني (٢).

ولعلّ هذا أثار أبا الأسود الدؤلي البصري فقال معرّضا به :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فلا قرّت عيون الشامتينا

قتلتم خير من ركب المطايا

وأكرمهم ومن ركب السفينا

__________________

(١) ذكر بعضه أو كله في الطبقات الكبرى ٣ : ٤٠ ، والموفّقيات : ١٣١ مسندا وأنساب الأشراف ٢ : ٤٠٧ ، ذيل الحديث ٥٩٩ وتاريخ الطبري ٥ : ١٥٠ ، ومقاتل الطالبيين : ٢٦.

(٢) تشييد المطاعن ٢ : ٤٠٩ ، وقد مرّ عن اليعقوبي أن قتله عليه‌السلام كان في كانون الثاني أي في الشتاء ، وخلافا لذلك نقل ابن أبي الدنيا : أن معاوية جاءه نعي الإمام وهو مع امرأته في نوم قيلولة في ضحى يوم صائف! فاسترجع وقال : ما ذا فقدوا من الخير والعلم والفضل والفقه! وما فقدوا من سوابقه وعلمه وفضله ١ : ١٠٥ ، الحديث ٩٤.

٤٣٧

ومن لبس النعال ومن حذاها

ومن قرأ المثاني والمئينا

وقد علمت قريش أين حلّت

بأنّك خيرها حسبا ودينا (١)

أفي شهر الصيام فجعتمونا

بخير الناس طرّا أجمعينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

رأيت البدر راع الناظرينا (٢)

ودعا معاوية الناس إلى بيعته فبايعوه لخمس خلون من شوال سنة أربعين (٣).

بيعة الحسن عليه‌السلام بالحرمين :

مرّ في الأخبار السابقة : أنّ الإمام عليه‌السلام كان قد سرّح معقل بن قيس الرياحي التميمي في حشر الناس من السواد إلى الكوفة ليتجهّزوا لغزو الشام ، وأصيب الإمام عليه‌السلام فعاد إليها.

وكان قد أرسل جارية بن قدامة السعدي التميمي لتعقيب بسر بن أبي أرطاة العامري ، ووصل جارية إلى جرش في اليمن فخرج بسر منها إلى مكة ، فأقبل جارية حتّى دخل مكة وخرج بسر منها إلى اليمامة ، ويظهر أن وصول جارية إلى مكة كان بعد شهر رمضان ولعلّه في أوائل شهر شوال ، وغريب أن كان قد بلغهم مقتل الإمام علي عليه‌السلام ولم يبلغهم بيعة الناس بعده.

فقام جارية على منبر مكة وقال لهم : يا أهل مكة! مع من أنتم؟ قالوا : كانت بيعتنا لكم ورأينا معكم ، فجاء هؤلاء القوم ودخلوا علينا فلم نقم لهم وقهرونا على البيعة لهم وبيعتكم قبلهم.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٤٠٩ ، الحديث ٥٩٢.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٥٠ ـ ١٥١ ، وفي ديوانه : ٣٢.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦٢.

٤٣٨

فقال لهم : إنّما مثلكم مثل الذين (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)(١) قوموا فبايعوا. قالوا : أليس قد هلك أمير المؤمنين رحمة الله عليه فلمن نبايع رحمك الله! ولا ندري ما صنع الناس بعده. قال : وما عسى أن يصنعوا إلّا أن يبايعوا الحسن بن علي ، قوموا فبايعوا. فبايعوه للحسن عليه‌السلام.

فخرج منها إلى المدينة ، وكان أهل المدينة بعد خروج أبي أيوب الأنصاري منها قد اصطلحوا على أبي هريرة الدوسي للصلاة بهم ، ولكنه لما بلغه توجّه جارية إلى المدينة توارى خوفا منه! ودخل جارية ولعلّه بلغته شماتة عائشة بقتل الإمام عليه‌السلام فصعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر رسول الله فصلّى عليه ثمّ قال لهم :

أيّها الناس ، إنّ عليا رحمه‌الله ـ يوم ولد ويوم توفّاه الله ويوم يبعث حيا ـ كان عبدا من عباد الله الصالحين ، عاش بقدر ومات بأجل ، فلا يهنأ الشامتين هلاك سيد المسلمين وأفضل المهاجرين ، وابن عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. أما والذي لا إله إلّا هو لو أعلم الشامت منكم لتقرّبت إلى الله عزوجل بسفك دمه وتعجيله إلى النار! ثمّ قال لهم : قوموا فبايعوا للحسن بن علي. ثمّ أقام يومه ذلك يبايعه الناس. ثمّ غدا منها منصرفا إلى الكوفة ، وإذ لم يعيّن لهم أحدا عاد أبو هريرة يصلّي بهم!

وأخذ بسر من اليمامة طريق السماوة ومنها إلى الشام وقد قتل في غارته هذه ثلاثين ألفا (٢).

وأقبل جارية إلى الكوفة حتّى دخل على الحسن عليه‌السلام فعزّاه بأبيه وبايعه ثمّ قال له : يرحمك الله سر بنا إلى عدوّك قبل أن يسار إليك! فقال له : لو كان الناس كلّهم مثلك سرت بهم (٣).

__________________

(١) البقرة : ١٤.

(٢) الغارات ٢ : ٦٣٨ ـ ٦٤٠.

(٣) المصدر السابق ٢ : ٦٤٣.

٤٣٩
٤٤٠