موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٠

فأخذ الناس يبكون. ثمّ تحمّلوا إلى المدينة (١).

وقال البلاذري : شخص الحسن عليه‌السلام إلى المدينة ، وشيّعه معاوية إلى قنطرة الحيرة.

وخرج خوارج على معاوية مع ابن الحوساء الطائي ، فبعث معاوية بكتاب إلى الحسن يأمره فيه أن يرجع فيقاتل الخوارج عليه. فلحقه الرسول بالكتاب في القادسية ، فلما قرأ الكتاب أبلغه : تركت قتالك ـ وهو لي حلال ـ لصلاح الأمة والفتهم ، أفتراني اقاتل معك (٢)؟!

وفي اليعقوبي : أن فروة بن نوفل الأشجعي كان قد اعتزل من خوارج (النهروان) سنة (٤٠) إلى شهرزور في جمع منهم حتّى صار في ألف وخمسمائة! فلما بلغه قتل علي عليه‌السلام وغلبة معاوية أقبل فيهم إلى النخيلة ، فوجّه معاوية إليه خيلا من أهل الشام ، فهزمهم! فألزم معاوية أهل الكوفة بالخروج إليهم فخرجوا إليه خوفا وقاتلوه حتّى قتلوه (٣).

وروى الخبر الطبري ، عن عوانة وفيه : أنه خرج إليه قومه من أشجع ، ومن طيّئ واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحرّ الطائي ، حتّى أخذ الأشجع صاحبهم فروة وقتل (٤).

وأكمل الخبرين المبرّد في «الكامل» فجمع بينهما قال : كان حوثرة الأسدي بمن معه من الخوارج في بندنجين ، وحابس الطائي بجمعه في موضع آخر ، فلما حلّ معاوية بنخيلة الكوفة كتب حوثرة إلى حابس يسأله أن يتولّى أمر الخوارج حتى

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٥ ولا يخفى ما في الخبر من دلالة على معنى أهل البيت في الآية.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٨ ـ ٤٩ ، الحديث ٥٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

٤٨١

يسير إليه بجمعه فيتعاضدا على جهاد معاوية ، فأجابه ، فرجعا إلى نخيلة الكوفة. فوجّه معاوية إلى الحسن في طريقه إلى المدينة أن يرجع إليه فيتولى حرب الخوارج فأجابه الحسن عليه‌السلام : والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين ... أفأقاتل عنك قوما أنت أولى بالقتال منهم (١)!

ولما صار بدير هند نظر إلى الكوفة فتمثل بقول القائل :

ولا عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري (٢)

ولا نعثر في خلال أخبار صلح الحسن عليه‌السلام على أي خبر عن عبد الله بن العباس بالبصرة ، حتّى نرى الطبري يروى عن أبي عبيدة : أنه لما تمّ الصلح حمل مالا قليلا من بيت المال وقال : هي أرزاقي (٣). وعنه في تعبير آخر : أنه حمل معه مقدار ما اجتمع عنده من الأرزاق. ثمّ دعا أخواله بني هلال ومعهم سائر قيس ، فحمل ثقله إلى مكة ، فلحقه جمع من أخماس البصرة بموضع الطفّ ، يريدون استرداد المال وهو قليل ، فلما تواقفوا للقتال تراجع صبرة الحداني الأزدي بقومه لعلمه بقلة المال ، فتبعهم بكر وعبد القيس ، وتراجع عنه الأحنف بن قيس التميمي بجمع منهم ، وأصرّ آخرون منهم فتقاتلوا وكثر الجراح بينهم بلا قتيل ، ورجع عليهم جمع من الأخماس فردّوهم عنهم ، فمضى ابن عباس ومعه عشرون رجلا من بني هلال حتّى قدم مكة (٤).

__________________

(١) الكامل للمبرّد ٣ : ١٣٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٦ عن المدائني ، وعليه فهو يحنّ إلى الكوفة ولا يدينها بالمرّة.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٣.

(٤) المصدر السابق ٥ : ١٤٢ ، ولم يذكر شيء عن بيعته لمعاوية. وهذا هو الأصل في اتهامه باختلاس بيت مال البصرة!

٤٨٢

عاملا الشام على العراقين :

وكان مع معاوية عمرو بن العاص وابنه عبد الله وقدم عليه المغيرة بن شعبة بعد وصول معاوية باثنتي عشرة ليلة (١) ، فاستعمل معاوية على الكوفة عبد الله بن عمرو ، فأتاه المغيرة وقال له : استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة وأبوه على مصر ، فتكون بين لحيي الأسد! فعزل عبد الله واستعمل المغيرة. وبلغ مقالة المغيرة لمعاوية إلى ابن العاص ، فدخل على معاوية وقال له : استعملت المغيرة على الكوفة؟ قال : نعم ، قال : أجعلته على الخراج والصلاة؟ قال : نعم ، قال : تستعمل المغيرة على الخراج فيغتال المال ويذهب فلا تستطيع أن تأخذ منه شيئا؟! استعمل على الخراج من يتّقيك ويخافك ويهابك! فحصر معاوية أمارة المغيرة في الكوفة في الصلاة فلقى المغيرة عمروا فسأله : أنت المشير على أمير المؤمنين! بما أشرت به في عبد الله؟ قال : نعم ، فقال : هذه بتلك (٢)!

ولما ولى معاوية المغيرة الكوفة دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال له : أما بعد .. فقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة ، وتركتها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ويسدّد سلطاني ويصلح رعيتي ، ولكني لست أترك إيصاءك بخصلة : لا تحجم عن الترحّم على عثمان والاستغفار له وعن الإطراء على شيعة عثمان وإدنائهم والاستماع منهم. وعن شتم علي عليه‌السلام وذمّه وعيب أصحابه وترك الاستماع منهم بل وإقصائهم!

فقال المغيرة : قد عملت قبلك لغيرك فلم يدمّ فيّ دفعا ولا رفعا ولا وضعا ، وستبلو فتحمد أو تذم. فقال معاوية : بل نحمد إن شاء الله!

فكانت مقالته (المكرّرة في خطبه) : اللهم ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه ، واجزه ، بأحسن عمله ، فإنه عمل بكتابك واتّبع سنّة نبيك! وجمع كلمتنا

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٥.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٦ عن عوانة بن الحكم ، ولو كان ذلك فإنما لفترة لا دائما.

٤٨٣

وحقن دماءنا وقتل مظلوما! اللهمّ فارحم أنصاره وأولياءه ومحبّيه والطالبين بدمه! فلا يدع الدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه ، وذمّ علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم (١).

أما البصرة : فإنها لما غادرها ابن عباس ، كان بها من موالي عثمان : حمران بن أبان ، وحيث كان مولى عثمان وقد تغلّب العثمانيون ، تغلّب هذا على البصرة فضولا (٢).

وعزم معاوية أن يبعث على البصرة أخاه عتبة بن أبي سفيان ، وكان عبد الله ابن عامر بن كريز الفهري ابن خالة عثمان عامله على البصرة حين مقتله ، وعلم بعزم معاوية ، فقام إليه وقال له : يا أمير المؤمنين! إنّ عثمان هلك وأنا عامل البصرة ، وعزلني علي عليه‌السلام فجعلت أموالي ودائع عند الناس ، فإن أنت لم تولّني البصرة ذهب مالي الذي في أيدي الناس! فولّاه البصرة ولكنّه سرّح معه بسر بن أبي أرطاة في جيشه (٣) وكان يهمّ معاوية أمر زياد بن عبيد الثقفي وهو في اصطخر فارس ، فأمر معاوية بسرا بقتل أبناء زياد (٤).

الأشعري وأبو هريرة في الكوفة :

قال الثقفي : لما قدم معاوية النخيلة اجتمع إليه فيها أشياعه ومن كان يهوى هواه ، فأتاه المغيرة بن شعبة من الطائف ـ بعد اثنتي عشرة ليلة! ـ وعبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري من مكة ، فلما جاءه قال له : السلام عليك يا أمير المؤمنين! قال : وعليك السلام ، وعلم معاوية أنه جاءه يطمع في ولاية ، فلما تولّى قال معاوية : والله لا يلي هذا على اثنين حتى يموت!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٥٤ عن الكلبي ، عن أبي مخنف ، عن الشعبي وهو يمدح المغيرة.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٧ عن النميري البصري.

(٣) الغارات ٢ : ٦٤٥ ـ ٦٤٦.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٧ عن النميري البصري.

٤٨٤

ودخل أبو هريرة المسجد وأخذ يحدثهم يقول : قال رسول الله ، وقال أبو القاسم ، وقال خليلي!

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد ناشد جمعا من الصحابة برحبة المسجد الجامع بالكوفة عن حديث الغدير ، وكان هناك شاب من أبناء الأنصار في الكوفة ، فقام إلى أبي هريرة وتخطّى الناس حتّى دنا منه فقال له : يا أبا هريرة! حديث أسألك عنه ، فإن كنت سمعته من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فحدّثنيه ، أنشدك بالله! سمعت النبيّ يقول لعلي : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»؟ قال أبو هريرة : نعم والله الذي لا إله إلّا هو لسمعته من النبيّ يقول لعلي : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»! فقال له الفتى : لقد والله واليت عدوّه وعاديت وليّه!

فتناول بعض الناس الشاب بالحصى! وقام أبو هريرة فخرج من المسجد ولم يعد إليه (١).

بسر في البصرة في رجب (٤١ ه‍) (٢) وأبناء زياد :

وأقبل بسر إلى البصرة فصعد المنبر في جامعها وقال : الحمد لله الذي أصلح أمر الأمة! وجمع الكلمة (٣) وأدرك لنا بثأرنا! وكفانا مئونة عدوّنا! ألا إن الناس آمنون ، ليس في صدورنا على أحد ضغينة ولا نأخذ أحدا بأخيه ...

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٥٦ ـ ٦٥٩. ونقل المعتزلي في شرح النهج ٤ : ٦٧ عن الإسكافي ، عن الأعمش ، عن أبي هريرة حديثا في لعن علي عليه‌السلام وفي آخره فأجازه معاوية وولّاه إمارة المدينة!

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٨ عن المدائني البصري.

(٣) وهكذا دعوا ذلك العام : عام الجماعة!

٤٨٥

ألا إنّ الله طلب بدم عثمان فقتل قاتليه! وردّ الأمر إلى أهله! ثمّ نادى بأعلى صوته : ألا إن ذمّة الله بريئة ممّن لم يبايع! فأقبلوا يبايعونه (١).

ثم ذكر عليّا عليه‌السلام فقال : أنشدكم الله ، أتعلمون أن عليّا كان كافرا منافقا؟! فسكت الناس ، فردّ عليهم قوله وقال : ألا ترون أناشدكم؟!

وكان فيهم أبو بكرة بن عبيد الثقفي أخو زياد ، ممّن رأى رسول الله وسمع حديثه ، وممّن شهد على المغيرة الثقفي بالزنا فضربه عمر ، فقام إلى بسر وقال له : أما إذ ناشدتنا فلا نعلم أنه كان كافرا ولا منافقا! فأمر بسر جلاوزته بضربه فضربوه حتّى كادوا أن يقتلوه! فوثب بنو السيد من ضبّة فاستنقذوه من أيديهم (٢).

وكان معاوية على عهد علي عليه‌السلام قد كتب إلى زياد يدعوه إليه ويعده ويوعده ، فكتب زياد في جوابه : أما بعد ، فقد بلغني كتابك يا ابن بقية الأحزاب! وابن عمود النفاق! وابن آكلة الأكباد! أتهدّدني وبيني وبينك ابن عمّ رسول الله في سبعين ألفا ، سيوفهم قواطع! وايم الله لئن رمت ذلك منّي لتجدني أحمر (أي مولى) ضرّابا بالسيف!

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٦.

(٢) الغارات ٢ : ٦٥٠ ـ ٦٥١ ، وروى الطبري ٥ : ١٦٧ ـ ١٦٨ عن المدائني البصري : أن بسرا شتم عليا عليه‌السلام ثمّ قال : نشدت الله رجلا علم أني صادق إلّا صدّقني! أو كاذب إلّا كذّبني! فقام أبو بكرة وقال له : اللهم إنا لا نعلمك إلّا كاذبا! فأمر به جلاوزته فخنقوه ، فقام أبو لؤلؤة الضبّي فرمى بنفسه عليه فأنقذه ، فأقطعه أبو بكرة مائة جريب! ونقل ابن الأعثم كلام أبي بكرة أنه قال له : كذبت يا عدوّ الله ، قد كان علي بن أبي طالب خيرا منك ومن صاحبك الذي ولّاك علينا! ونسب الشتم إلى عمرو بن أبي أرطاة أخي بسر ، وأنه أمر جلاوزته به فخلّصه رجل من بني ضبّة ثمّ غيّبه الناس فلم يقدروا عليه. الفتوح ٤ : ١٦٨ وعليه فهذا المقام والكلام لم يكن أول دخوله البصرة ، بل بعد ذلك بفترة ، لما يأتي.

٤٨٦

فأجابه معاوية : أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وايم الله لئن بقيت لأكافئنّك!

وكان زياد عاملا لعلي عليه‌السلام على فارس ... فلما بلغه قدوم عبد الله بن عامر أميرا على البصرة دخل قلعة بفارس فنزلها وتحصّن بها حتى سمّيت باسمه قلعة زياد (١).

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٦ ـ ٦٤٨ ، وقد مرّ خبر الكتاب عن ابن مزاحم في وقعة صفين : ٣٦٦ ـ ٣٦٧ بلا تاريخ ، وبلا ذكر سبب أو مناسبة. ورواه الطبري ٥ : ١٧٠ عن النميري البصري عن المدائني البصري عن الشعبي : أن ذلك كان بعد عهد علي عليه‌السلام ، وكذلك نقله اليعقوبي مرسلا ٢ : ٢١٨ : لما صار الأمر إلى معاوية. وليس فيه ما نقله عنه الارموي في هامش الغارات ٢ : ٦٤٧ ، واختلف مضمون الكتاب والخطاب باختلاف الأخبار بين عهد عليّ وعهد الحسن عليهما‌السلام ، وأكثرها على الأخير وهو الأقرب والأنسب ، وعليه فلا يرجّح ما جاء أعلاه وفي نهج البلاغة ك : ٤٤ من كتاب علي عليه‌السلام إليه في ذلك. وفي تفسير الأحمر بالمولى ـ كما نصّ نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ٣٦٧ ـ جاء عن ابن خلّكان في وفيات الأعيان في ترجمة يزيد بن المفرّغ الحميري : أن أبا الجبر يزيد بن عمر بن شراحبيل كان من ملوك كندة في اليمن فتغلّب عليه قومه (وكانت اليمن في حكم الفرس الساسانيين) فخرج إلى كسرى في بلاد فارس يستنصره عليهم بجيش معه. فبعث معه جيشا من الأساورة فأقبلوا معه على طريق أهواز فالبصرة (القديمة) فقرية الكاظمة على ثغر الصحراء فاستوحشوا من بلاد العرب وقلة خيرها ، فتواعدوا مع طبّاخه ودسّوا إليه سمّا فتوجّعت بطنه شديدا ، فطلب الأساورة منه أن يكتب لهم إلى كسرى بتسريحهم عنه ، فكتب لهم ذلك ورجعوا عنه.

وكان كسرى قد وهب له عبدا وجارية سمّاهما عبيدا وسميّة ، فاحتمل معهما إلى طبيب العرب في الطائف : الحارث بن كلدة الثقفي ، فعالجه وأحسّ بتحسّن فوهبهما له ، وكان عقيما فزوّجهما فولدت منه أربع بنين : نافعا ونفيعا وهو أبو بكرة وزيادا ونسبوا إلى الحارث! وشبلا ونسب إلى معبد الثقفي ، وارتاد إليها أبو سفيان فنسب زياد إليه. وزياد قبل أن ينتسب إليه كان ينتسب إلى عبيد ، وكأنّه كان يراه فارسيا ، وكان العرب يكنّون

٤٨٧

ووثب بسر على بني زياد : عبيد الله وسالم ومحمد فأوقفهم (١) وكتب بسر إلى زياد : أن أقدم عليّ وإلّا قتلت ولدك!

فكتب زياد إليه : والله لا امكّنك من نفسي ولو قتلت ولدي صبية لا ذنب لهم ، فأبعد لا والله.

فخرج عمّهم أبو بكرة الثقفي من البصرة إلى الكوفة إلى معاوية على برذون له في ثلاثة أيام ، حتّى قدم على معاوية فدخل عليه (٢) وقال له :

السلام عليك يا أمير الفاسقين ولا رحمة الله ولا بركاته! اتّق الله يا معاوية ، واعلم أنك في كلّ يوم يزول عنك وليلة تأتي عليك ، لا تزداد من الدنيا إلّا بعدا ومن الآخرة إلّا قربا ، وعلى إثرك طالب لا تفوته قد نصب لك علما لا تجوزه ، فما أسرع ما تبلغ العلم ، وما أوشك ما يلحقك الطالب ، إنّ ما نحن وأنت فيه زائل ، وإن الذي نحن إليه صائرون باق ، إن خير وإن شرّ ، فنسأل الله الخير ونعوذ به من الشرّ ، سكت وجلس لا يتكلم.

فقال له معاوية : يا أبا بكرة ، أزيارتنا أشخصتك أم حاجة حدثت لك؟

قال : لا والله لا أقول باطلا ، ولكنّها حاجة بدت لي قبلك.

__________________

ـ عن الفرس بالحمر فقال عن نفسه : أحمر. وكأنّه خفي هذا الخبر عن بعضهم فقرءوه : أحمز وفسروه بالأشدّ! كما في الطبري (٥ : ١٧٠) خلافا لنصّ نصر بن مزاحم وكان الحارث كاتبا فلعل زيادا استزادها منه ، وكان في ثقيف ولعلّه لمعرفته بشيء من أمور العجم استكتبه المغيرة الثقفي في البصرة ، فلم يشهد عليه بالزنا حتّى ضرب إخوته الثلاثة حدّ القذف!

(١) الغارات ٢ : ٦٤٨.

(٢) الغارات ٢ : ٦٥١ ـ ٦٥٢.

٤٨٨

قال : فهات حاجتك ، فما أحبّ إلينا ما يسرّك! قال : أريد أن تؤمّن أخي زيادا. قال : هو آمن على نفسه (١) فقال له أبو بكرة : فهل بايعناك على أن تقتل الأطفال؟! قال : فما ذلك يا أبا بكرة؟ قال : هذا بسر يريد أن يقتل بني زياد (٢)! قال معاوية : ولكن في يده مال فارس! قال أبو بكرة : إنه يزعم أنه يدفع ما كان في يده من حقوق المسلمين وإنه ليطلب صلحك. قال : وكم هذا المال؟ قال : خمسة آلاف ، قال : فقد أمّنته ورضيت منه بهذا المال. قال : فاكتب إلى بسر فليخلّ سبيل بني أخي فإنه قد حبسهم (يريد قتلهم) فكتب إليه : أما بعد ، فإن أبا بكرة أتاني والتمس لأخيه الأمان على ما أحدث! والصلح على ما في يديه ، فخلّ سبيل بني أخيه حين يقدم عليك ، والسلام (٣).

فرجع أبو بكرة بكتاب معاوية إلى بسر ، في ثلاثة أيام ، فلما وصل إلى مربد البصرة مات برذونه من الإرهاق ، وكان بسر قد أمر بخشب الصلب فنصبت لأبناء زياد ليصلبهم عند الغروب فرفع أبو بكرة كتاب معاوية إلى بسر بيده يلوّح به حتّى بلغ بسرا قبل الغروب ، فخلّى سبيلهم (٤) وأخذ يتتبّع كلّ من كان له بلاء مع علي عليه‌السلام أو كان من أصحابه ، وكلّ من أبطأ عن بيعة معاوية ، فينهب أموالهم ويخرب دورهم ويحرقها (٥) ثمّ عاد بعد ستة أشهر إلى معاوية (٦). وقد مرّ أن بعثه إلى البصرة كان في رجب سنة إحدى وأربعين فبعد ستة أشهر يعني إلى آخر تلك السنة ، ولذلك

__________________

(١) الغارات ٢ : ٦٤٩ ـ ٦٥٠.

(٢) الغارات ٢ : ٦٥٢.

(٣) الغارات ٢ : ٦٥٠.

(٤) الغارات ٢ : ٦٥٢ ، وانظر الطبري ٥ : ١٦٧ ـ ١٦٩.

(٥) الغارات ٢ : ٦٥٣.

(٦) الطبري : ١٦٨.

٤٨٩

قال في ابن عامر أنه قدمها في آخر سنة إحدى وأربعين ، وإليه خراسان وسجستان ، فولّى حبيب بن شهاب الشامي شرطته ، واستقضى عميرة بن يثربي الضبّي. وحجّ بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان أو أخوه عنبسة وجعل على مكة خالد بن العاص المخزومي ، وعلى المدينة مروان بن الحكم (١).

معاوية والروم :

وكأنّ الروم راموا اغتنام غياب أصحاب معاوية عن ثغر الشام فجمعوا جموعا كثيرة وأعدّوا منهم خلقا عظيما لذلك ، وعاد معاوية إلى الشام قبل نهاية العام فبلغه ذلك ، وخاف أن يشغله أمرهم عمّا كان يحتاج إليه من إحكام وإبرام وتدبير للأمور ، فوجّه إلى الروم فصالحهم على أن يقدّم لهم مائة ألف دينار! وذلك في أوّل سنة (٤٢ ه‍) (٢).

والشام أرض مقدّسة وهو كاتب الوحي :

روى الواقدي قال : لما عاد معاوية من العراق خطب فقال : أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (كذا) قال لي : «إنك ستلي الخلافة من بعدي! فاختر الأرض المقدّسة! فإن فيها «الأبدال» وقد اخترتكم! فالعنوا «أبا تراب» فلعنوه!

وفي غده كتب كتابا ثمّ جمعهم فقرأه عليهم وفيه : «هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله (كذا) فكان الوحي ينزل على محمّد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب! فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه!» فقال من حضره : صدقت يا أمير المؤمنين!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧ ، وانظر تاريخ خليفة : ١٢٥.

٤٩٠

وبذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم ليروي : أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(١) وأن الآية التالية نزلت في ابن ملجم وهي قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢) فلم يقبل فضاعفها مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فضاعفها ثلاثمائة فلم يقبل ، فضاعفها أربعمائة فقبل وفعل ما أراد (٣).

وأمر زياد ومعاوية :

روى الطبري ، عن النميري البصري ، عن المدائني البصري : أن زيادا أقام في قلعته أكثر من سنة (بعد الصلح) ولم يقدم على معاوية ، فكتب إليه : أن أقدم عليّ فأعلمني علم ما صار إليك مما اجتبيت من الأموال وما خرج من يدك وما بقي عندك ، فإن أحببت المقام عندنا أقمت ، وإن أحببت أن ترجع إلى مقامك أو مأمنك رجعت وأنت آمن.

وعن المدائني عن أبي مخنف : أن زيادا خرج من فارس إلى معاوية مع المنجاب بن راشد الضبّي ، وحارثة بن بدر الغدّاني ، وبلغ ذلك معاوية ، فسرّح عبد الله بن خازم السلمي من البصرة في جماعة إلى فارس وقال له :

__________________

(١) البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) البقرة : ٢٠٧.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٧٢ ـ ٧٣ عن الإسكافي ، عن الواقدي ، وسيأتي لاحقا ما في خبر وفاته من عبرة بعد ولايته البصرة.

٤٩١

لعلّك تلقى زيادا في طريقك فتأخذه ، فلقيهم في أرّجان أو سوق الأهواز ، فكانت بينهم منازعة ، فقال زياد : قد أتاني أمان معاوية وهذا كتابه إليّ فأنا أريده. فقال ابن خازم : إن كنت تريده فلا سبيل عليك (١) وتركه.

وكان أخوه لأمّه أبو بكرة الثقفي منذ استشهد زيادا على زنا المغيرة بن شعبة في البصرة ، وحضر زياد مع الشهود عند عمر ولكنه لما رأى كراهة عمر لتلك الشهادة لم يتمّها ، فحدّ عمر أبا بكرة حدّ القذف ، كان أبو بكرة قد أقسم على نفسه أن لا يكلّم أخاه زيادا أبدا فكان مقاطعا له (٢) ، ولكنه لم يمنع أبو بكرة ابنه عبد الرحمن أن يلي أموال عمّه زياد بالبصرة فكان يتولّاها ، وبلغ ذلك إلى معاوية ، وكان يرى ابن عامر ضعيفا غير شديد ، فبعث معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى البصرة فيعذّب عبد الرحمن ليسلّم إليهم أموال زياد ، فقدم المغيرة البصرة وأخذ عبد الرحمن فألقى على وجهه حريرة مبلّلة فكانت تلتزق بوجهه فتخنقه ويغشى عليه ، فعل ذلك ثلاث مرّات! ثمّ خلّاه وقال له : لئن كان أساء إليّ أبوك فلقد أحسن لي زياد! فاحتفظ بما أمرك به عمّك! وكتب إلى معاوية : إني لم اصب في يد عبد الرحمن شيئا يحلّ لي أخذه ، وعذّبته فلم أجد عنده شيئا! وبذلك حفظ لزياد منّته عليه (٣)!

واليوم أمر زياد ابن أخيه عبد الرحمن أن يتقدمه إلى معاوية فيخبره بقدوم زياد إليه ، ففعل. ثمّ قدم زياد الشام ، فسأله معاوية عمّا صار إليه من أموال فارس فأخبره فصدّقه (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ١٨٨ عن الجاحظ.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٦ ـ ١٧٧ عن المدائني البصري.

(٤) الطبري ٥ : ١٧٨ عن المدائني.

٤٩٢

زياد وابن عباس في الشام :

نفتقد ابن عباس بعد عودته من البصرة إلى مكة حتّى نجده في خبر المعتزلي عن المدائني : أنه وفد على معاوية فجمع له معاوية المغيرة بن شعبة وزياد بن سمية فذلك بعد لحوقه بالشام هذا العام (٤٢ ه‍) وعمرو بن العاص فذلك قبل هلاكه سنة (٤٣ ه‍) وابنه يزيد ، وأخاه عتبة بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن أم الحكم وقال لهم : إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمّه (علي عليه‌السلام) ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه. فحرّكوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ونقف على كنه معرفته ، ونعرف شبا حدّه ودهاء رأيه ، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه.

ثمّ أرسل إلى ابن عباس ، فلما استقرّ به المجلس ابتدأه معاوية فقال : يا ابن عباس ، ما منع عليّا أن يوجّه بك حكما؟ وكان ابن العاص حاضرا فقال ابن عباس : أما والله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل ، ولأذهلت عقله وقدحت في سويداء قلبه ، فلم يبرم أمرا إلّا كنت منه بمرأى ومسمع ، بأصالة رأي كمتاح الأجل أصدع به أديمه وأفلّ به شبا حدّه ، وأزيح به شبه الشاكين.

فالتفت ابن العاص إلى معاوية وقال له : يا أمير المؤمنين! هذا والله نجوم أول الشر! وفي حسمه قطع مادته ، فبادره بالحملة وانتهز منه الفرصة ، واردع بالتنكيل به غيره وشرّد به من خلفه!

فأجابه ابن عباس : يا ابن النابغة! ضلّ والله عقلك وسفه حلمك ونطق الشيطان على لسانك! هلّا تولّيت ذلك يوم صفّين حين دعيت إلى النزال وتكافح الأبطال ، وكثرت الجراح وتقصّفت الرماح ، وبرزت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مصاولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا ، فلما رأيت الكواشر من الموت أعددت حيلة السلامة

٤٩٣

قبل لقائه ، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه ، فمنحته رجاء النجاة عورتك! وكشفت له خوف بأسه سوأتك! ثمّ أشرت على معاوية بمبارزته ، رجاء أن تكفى مئونته وتعدم صورته ، فعلم غلّ صدرك وما انحنت عليه من النفاق أضلعك.

فانبرى مروان مدافعا عن ابن العاص فقال لابن عباس : يا ابن عباس ، إنّك لتصرف أنيابك وتورى نارك ، كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العافية! ولو لا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره ، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذنّ بعض حقّه منكم! ولئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك.

فالتفت إليه ابن عباس وقال له : وإنّك لتقول ذلك يا عدوّ الله وطريد رسول الله! والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيّته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه! أما والله لو طلب معاوية (كذا) ثاره لأخذك به ، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوّله وآخره! (إلى قوله له) : فاربع على ضلعك ، ولا تتعرّض لما ليس لك ، فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقى بيد!

فقال زياد : «يا ابن عباس ، إنّي لا أعلم ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين! إلّا ما سوّلت لهما أنفسهما وغرّهما به من هو عند البأساء سلّمهما (ولعلّه يعنيه) وايم الله لو ولّيتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ، ولقل لبثهما بمكانهما» يعرّض بهذا لمعاوية أن يولّيه المدينة. ويعلم منه أنهما عليهما‌السلام ما وفدا قبل هذا إلى الشام.

فقال ابن عباس : إذن والله يقصر دونهما باعك ، ويضيق بهما ذراعك ، ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقا صبرا على البلاء ولا يخافون عند اللقاء ، فلعركوك بكلا كلهم ووطئوك بمناسمهم ، وشفار سيوفهم ووخز أسنتهم ، حتّى تشهد بسوء ما أتيت وتبيّن ضياع الحزم فيما جنيت! فحذار حذار من سوء النيّة فتكافأ بردّ الأمنية ، وتكون سببا لفساد ذين الحيّين (هاشم وأمية) بعد صلاحهما ، وساعيا في اختلافهما بعد ائتلافهما! (ولم يكن بعد مستلحقا فلم يعيّره به).

٤٩٤

فقال ابن أم الحكم : لله درّ ابن ملجم! فقد أمن الوجل حتّى بلغ الأمل! وأدرك الثار ونفى العار! وفاز بالمنزلة العليا ورقى الدرجة القصوى! هذا ومعاوية يرى ويسمع وهو ساكت راض!

فقال ابن عباس : أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده وعجّل الله إلى النار بروحه ، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه ذلك الفحل القحم والسيف الخذم ، ولألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة (أخي معاوية) وكلّهم كانوا أشد منه شكيمة وأمضى عزيمة ، ففرى بالسيف هامهم ورمّلهم بدمائهم ، وقرى الذئاب! أشلاءهم وفرّق بينهم وبين أحبّائهم! ولا وصمة إن قتل (عليّ) ولا غرو إن ختل.

فقال المغيرة بن شعبة : أما والله لقد أشرت على عليّ بالنصيحة (بإبقاء معاوية) فآثر رأيه ومضى على غلوائه! فكانت العاقبة عليه لا له ، وإنّي لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه.

فقال ابن عباس : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام والله أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنّف عليه فقال سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...)(١) ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوّة قوله تعالى : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(٢) وهل كان يسوغ له أن يحكّم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه؟! هيهات هيهات! هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلّا «للتقيّة» ولات حين «تقية» مع وضوح الحقّ وكثرة الأنصار وثبوت الجنان؟! فهو يمضي كالسيف المصلت في أمر الله مؤثرا لطاعة ربّه والتقوى على آراء أهل الدنيا (٣).

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) الكهف : ٥١.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩٨ ـ ٣٠٢ ، وللخبر تتمة بين ابن عباس ويزيد وأبيه معاوية.

٤٩٥

زياد مع المغيرة في الكوفة :

لو كان معاوية بعد استسلام زياد يردّه إلى عمله في اصطخر فارس لما كان يعرّض له في الخبر السابق بتولية المدينة على الحسنين عليهما‌السلام والهاشميين ، ولم يرجّحه معاوية على مروان للمدينة ، وكان المغيرة بن شعبة حاضرا ولعلّه استحضر معه زيادا إلى الكوفة ، فسأل زياد معاوية أن يأذن له بنزول الكوفة فأذن له فشخص إليها. ثمّ كتب معاوية إلى المغيرة : خذ زيادا وسليمان بن صرد الخزاعي وحجر بن عديّ الكندي وشبث بن ربعي اليربوعي التميمي وعبد الله بن الكوّاء اليشكري الهمداني وعمرو بن الحمق الخزاعي بالصلاة معك في الجماعة ، فاستحضرهم المغيرة فكانوا يحضرونه (١).

ومرّ في أخبار صفين أن عمارة بن عقبة بن أبي معيط الأموي كان قد مكث في الكوفة يتجسّس لمعاوية ، وتزوّج المغيرة ابنته أم أيّوب ، فكان يدخل معه زيادا إليها وتريد أن تستتر منه فيقول المغيرة لها : لا تستتري من أبي المغيرة ، يريد زيادا (٢)!

معاوية وعمرو وابن جعفر :

واستمرّ عمرو عند معاوية ، فروى المعتزلي عن الشعبي : أن عمرا كان قد وفد على معاوية يسأله حاجة عظيمة ، فتشاغل عنه ثمّ قال له : يا عمرو ، بما ذا تستحق منّا قضاء الحوائج العظام؟

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ١٧٩ عن النميري البصري عن المدائني البصري عن أبي مخنف الكوفي.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٨٠ عن النميري البصري عن المدائني ، وتمامه : فلما مات المغيرة ودخل زياد الكوفة أميرا تزوّجها وأحضر لها فيلا لتنظر إليه ، وأوقفه عند باب من أبواب المسجد فسمّى باب الفيل.

٤٩٦

فغضب عمرو وقال له : بأعظم حقّ وأوجبه! إذ كنت في بحر عجّاج ، فلولا عمرو لغرقت في أقلّ مائه وأرقّه ، ولكنّي دفعتك فيه دفعة فصرت في وسطه ثمّ دفعتك اخرى فصرت في الأعلى! فمضى حكمك ونفذ أمرك وانطلق لسانك بعد تلجلجه! وأضاء وجهك بعد ظلمته! وطمست لك الشمس (عليّا عليه‌السلام) بالعهن المنفوش ، وأظلمت لك القمر (عليا عليه‌السلام) بالليلة المدلهمّة!

فما كان من معاوية إلّا أن أطبق جفنيه وتناوم مليا حتّى خرج عمرو! فاستوى وقال لمن حوله : أرأيتم ما خرج من فم الرجل! ما عليه لو عرّض وفيه ما يكفي! لكنّه جبّهني بكلامه وسموم سهامه!

فقال له بعض جلسائه : قد يكون السائل لئيما فيصون الشريف نفسه عن لسانه فيقضي حاجته!

فبعث معاوية على عمرو وقضى حاجته بصلة جليلة وانصرف فتلا معاوية : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)(١) وسمعها عمرو فالتفت إليه مغضبا وقال : والله يا معاوية! لا أزال آخذ منك قهرا ولا اطيع لك أمرا! وأحفر لك بئرا تقع فيه فلا تدرك إلّا رميما! فضحك معاوية وقال : إنما هي آية من كتاب الله عرضت بقلبي فتلوتها يا أبا عبد الله وما أردتك بالكلمة (٢)!

وتبع عبد الله بن العباس : عبد الله بن جعفر الطيار إلى معاوية في الشام ، ومعه عمرو.

فروى المعتزلي عن المدائني قال : بينا عمرو بن العاص عند معاوية إذ أخبر الآذن بدخول عبد الله بن جعفر ، فقال عمرو : والله لأسوءنّه اليوم!

__________________

(١) التوبة : ٥٨.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ عن الشعبي الكوفي.

٤٩٧

وقال له معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله! فإنك لا تنصف منه! ولعلك تظهر لنا ما هو خفيّ عنا من منقبته.

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

ودخل ابن جعفر فأدناه معاوية وقرّبه إليه. فمال عمرو إلى بعض جلسائه فنال من عليّ عليه‌السلام جهارا وثلبه ثلبا قبيحا! فالتمع لون ابن جعفر وارعد وقام كالجمل الفحل من السرير والتفت إلى معاوية وحسر عن ذراعيه وقال له : يا معاوية (كذا) حتّام نتجرّع غيظك؟! وإلى كم الصبر على مكروه قولك؟! وسيّئ أدبك! وذميم أخلاقك! هبلتك الهبول (فقدتك الثاكل) فإذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عمّا لا يجوز (من شتم عليّ) أما يزجرك زمام المجالسة عن القذع لجليسك؟! أما والله لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت عن سهمك في الإسلام ما أرعيت بني الإماء (ابن العاص) أعراض قومك! وما يجهل موضع الصفوة إلّا أهل الجفوة! فلا يدعونّك تصويب ما فرط من خطائك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي في ما قد وضح لك الصواب في خلافه! فاقصد لمنهج الحقّ فقد طال عمهك عن سبيل الرشد! وخبطك في بحور ظلمة الغيّ! فإن أبيت أن تتابعنا بقبح اختيارك لنفسك ، فأعفنا من سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإياك النادي وشأنك وما تريد إذا خلوت ، والله حسيبك!

ثم قال له : فو الله لو لا أنّ ما جعل الله لنا هو في يديك لما أتيناك!

فقال معاوية : يا بن جعفر! أقسمت عليك لتجلسنّ ، فلعن الله من أخرج ضبّ صدرك من وجاره! محمول لك ما قلت ، ولك عندنا ما أمّلت! وإن خلقك وخلقك شافعان لنا إليك ، وأنت ابن ذي الجناحين! وسيد بني هاشم!

فقال عبد الله : كلّا بل سيد بني هاشم حسن وحسين لا ينازعهما أحد في ذلك ... ثمّ انصرف.

٤٩٨

فالتفت معاوية إلى عمرو وقال له : يا أبا عبد الله أتراه ما منعه من الكلام معك؟ أظنّك تقول : إنه هاب جوابك! لا والله! ولكنّه ازدراك واستحقرك ولم يرك للكلام أهلا! أما رأيت إقباله عليّ دونك! ونهض معاوية وتفرق القوم (١).

وابن درّاج على الخراج والصفايا وهدايا النوروز والمهرجان :

مرّ الخبر عن المغيرة أنّه غيّر رأي معاوية في استعماله عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فصرفها عنه إلى المغيرة ، وظنّ به ابن العاص ذلك فحذّر معاوية أن يولّي المغيرة غير الصلاة على الأموال. وكان من موالي معاوية رجل يدعى عبد الله بن درّاج وتدرّج هذا لديه حتّى ولّاه خراج العراق وأمره أن يحمل إليه أموالها ، فاستدرج ابن درّاج بعض الدهاقين حتّى أعلموه أنه : كان لآل كسرى سوى ما كان يجري مجرى الخراج : صوافي يجتبون أموالها لأنفسهم ، فكتب بذلك إلى معاوية ، فكتب إليه : أن أحص تلك الصوافي واستصفها لي واضرب عليها المسنيّات. فسأل الدهاقين عن ديوان ذلك فأخبروه أنه كان في حلوان ، فبعث من يأتيه به واتي به ، فاستخرج منه كل ما كان لآل كسرى وضرب عليها المسنيّات واستصفاها لمعاوية ، فبلغت جبايته من أرض الكوفة وسوادها : خمسين ألف ألف (مليون) درهما! وأمره أن يحمل إليه هداياهم في عيدي النوروز والمهرجان (٢) فكانت عشرة آلاف ألف.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩٥ ـ ٢٩٧ عن المدائني البصري.

(٢) النوروز : أي اليوم الجديد في رأس السنة الفارسية ، والمهرجان معرّب : مهرگان : اليوم الأول من شهر مهر في منتصف السنة الفارسية ، ثمّ أطلقت الكلمة على الاحتفالات الكبرى.

٤٩٩

وكأنه حسن حال عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي البصري ابن أخي زياد عند معاوية ، واستضعف ابن عامر في ذلك ، فكتب إليه بمثل ذلك في أرض البصرة (١) فتلك من أوّليات معاوية : أن استعمل في الإسلام النوروز والمهرجان من أعياد الفرس طمعا في أموالهم! فكرهوه وحكمه.

أجل ، جمع كل ذلك ، ومنع ما اشترط عليه الحسن عليه‌السلام من خراج فسا ودارابجرد لأبناء شهداء الجمل وصفين كما مرّ.

فقد روى البلاذري : أن معاوية قد أمر ابن عامر أن يغري أهل البصرة ليقولوا : ما جعله معاوية للحسن (كذا) أنقص أعطياتنا ، وهذا المال مالنا فكيف يصرف إلى غيرنا؟! فضجّ أهل البصرة بذلك! وكان الحسن عليه‌السلام قد أرسل رسله إلى الكورتين فطردوهم ، فأبدله معاوية عن ذلك بألف ألف (مليون) درهم ، أو ألفي ألفي (مليونين) درهم من خراج أصفهان (٢).

واختصر الخبر ابن سعد في «الطبقات» وعنه ابن كثير في «تاريخ دمشق» عن الشعبي وغيره : أن معاوية دسّ إلى أهل البصرة فقالوا لوكيل الحسن عليه‌السلام : لا تحمل فيئنا إلى غيرنا! يعنون خراج فسا ودارابجرد ، وطردوه! فأجرى معاوية له كل سنة ألف ألف (مليون) درهم (٣).

واكتفى الطبري عن عوانة بقوله : حال أهل البصرة بينه وبين خراج دارابجرد وقالوا : هو فيئنا (٤)! فأكمله ابن الأثير في كامله بقوله : وكان منعهم بأمر معاوية (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٥١ ـ ٥٢ ، الحديث ٥٦.

(٣) تاريخ دمشق لابن عساكر ، الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٧٦ بتحقيق المحمودي.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٥.

(٥) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٢.

٥٠٠